شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (062)
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
إخوتنا وأخواتنا السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً بكم إلى حلقة جديدة، نستكمل فيها ما ابتدأناه في حلقة ماضية حول شرح ألفاظ حديث: «من صام رمضان» و«من قام رمضان» و«من يقم ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا» حديث أبي هريرة، والذي نقرأه من كتاب: التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح، حيث يتفضل بشرحه صاحب الفضيلة الشيخ الدكتور: عبد الكريم بن عبد الله الخضير، عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، فأهلاً ومرحبًا بكم شيخ عبد الكريم.
حياكم الله وبارك فيكم.
المقدم: لعلنا نستكمل ما ابتدأناه في حلقة ماضية حول ألفاظ هذا الحديث -أحسن الله إليكم-.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
سبق الكلام عن قيام ليلة القدر، وهي الجملة الأولى من الحديث، والحديث بجمله الثلاث هو حديث واحد «من يقم ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه» «من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه» «من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه» هذه الجمل الثلاث هي عبارة عن حديث واحد، وجرت عادة الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- أنه يقطِّع الحديث، ويجعلها في مواضع متعددة، يترجم على كل جملة بما يناسبها من حكم، ونظرًا لارتباط بعضها ببعض نقدم حديث قيام رمضان وحديث صيام رمضان على حديث الجهاد وأنه من الإيمان.
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: وعنه أيضًا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه» قيام رمضان ذكر النووي أن المراد بقيام رمضان صلاة التراويح، يريد أنه يحصل بها المطلوب من القيام، لا أن قيام رمضان لا يكون إلا بها، ذكر النووي أن المراد بقيام رمضان صلاة التراويح، يريد أنه يحصل بها المطلوب من القيام لا أن قيام رمضان لا يكون إلا بها، ولذا يقول: المراد بقيام رمضان صلاة التراويح، ومراده بذلك أنه يحصل بها المطلوب من القيام، لا أن قيام رمضان لا يكون إلا بها، فمن صلى التراويح مع المسلمين يقال: قام رمضان، ومن صلى بمفرده ورأى أن صلاته بمفرده أجمع لقلبه، وأنفع له يصدق عليه أنه قام رمضان، والمراد بالقيام قيام لياليه مصليًا تاليًا ذاكرًا، وسميت الصلاة بالجماعة في ليالي رمضان التراويح؛ لأنهم أول ما اجتمعوا عليها كانوا يستريحون بين كل تسليمتين، والسبب في ذلك طول القيام.
روى الإمام البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه» وروى أيضًا عن عروة أن عائشة أخبرته أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خرج ليلة من جوف الليل فصلى في المسجد وصلى رجال بصلاته، فأصبح الناس فتحدثوا، فاجتمع أكثر منهم فصلى فصلوا معه، فأصبح الناس فتحدثوا، فاجتمع أكثر منهم فصلى فصلوا معه فأصبح الناس فتحدثوا، فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة، فخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فصلي بصلاته، فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله، حتى خرج لصلاة الصبح، فلما قضى الفجر أقبل على الناس فتشهَّد، ثم قال: «أما بعد: فإنه لَمْ يخفَ علَيَّ مكانكم، ولكني خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها» فتوفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والأمر على ذلك.
قال ابن شهاب: فتوفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والناس على ذلك، ثم كان الأمر على ذلك في خلافة أبي بكر وصدرًا من خلافة عمر -رضي الله عنهما-.
وعن عبد الرحمن بن عبد القاري أنه قال: خرجت مع عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ليلة في رمضان إلى المسجد، فإذا الناس أوزاع متفرقون، يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط، فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل، ثم عزم فجمعهم على أُبَيِّ بن كعب، ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم قال عمر -رضي الله عنه-: نِعْمَ البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون يريد صلاة آخر الليل، وكان الناس يقومون أوله.
ومعنى قوله -عليه الصلاة والسلام-: «إيمانًا» أي تصديقا بوعد الله بالثواب عليه، واحتسابًا، أي طلبًا للأجر لا لقصد آخر من رياء أو نحوه.
و«غفر له» ظاهره يتناول الصغائر والكبائر على ما تقدم ذكره، وبهذا جزم ابن المنذر، وإن قال النووي: المعروف أنه يختص بالصغائر، لكن إن جاء على الصغائر كلها يجوز أن يخفف من الكبائر، وإلا فالكبائر لا بد فيها من التوبة.
والنبي -عليه الصلاة والسلام- صلى بالناس جماعة في ثلاث ليال، ثم ترك التجميع بهم خشية أن تفرض على الأمة وهذا من شفقته -عليه الصلاة والسلام- ورأفته بأمته، ثم استمر الأمر على الترغيب في قيام رمضان في غير جماعة بقية عمره -عليه الصلاة والسلام-، وفي خلافة أبي بكر -رضي الله عنه-، وفي صدر خلافة عمر -رضي الله عنه-، ثم إن عمر -رضي الله عنه- وهو الخليفة الراشد الذي أُمِرْنا بالاقتداء به في قوله -عليه الصلاة والسلام-: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين» «اقتدوا باللذَين من بعدي أبي بكر وعمر» الخليفة الراشد عمر -رضي الله عنه- اجتهد بعد أن زالت الخشية، يعني خشية أن تفرض على الأمة، فيعجز عنها الناس، فجمع الناس على أبي بن كعب، أي: جعله لهم إمامًا، وكأنه اختاره عملاً بقول النبي -عليه الصلاة والسلام-: «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله» وأبي بن كعب -رضي الله عنه- أقرؤهم كما ثبت.
ثم إن عمر -رضي الله عنه- خرج ليلة والناس يصلون بصلاة قارئهم، فإنه أعجبه ذلك، وخشي أن يقال له: ابتدعت يا عمر، فقال -رضي الله عنه-: نِعْمَ البدعة، أو نِعْمَتِ البدعة هذه.
والبدعة ما عُمِل على غير مثال سابق، هذا أصلها، وهي في الشرع: ما تُعُبِّد به مما لا دليل عليه، وزعم بعضهم أن المراد بالبدعة هنا هي البدعة اللغوية، وقال بعضهم: إنه من قبيل المجاز، وهي في الحقيقة ليست ببدعة لغوية؛ لماذا؟ لأنها عملت على مثال سبق، فقد صلاها النبي -عليه الصلاة والسلام- ثلاث ليالي، ثم ترك ذلك لا نسخًا لها وإنما خشية أن تفرض، وهي أيضًا ليست ببدعة شرعية؛ لأن لها أصلاً شرعيًا فقد صلاها النبي -عليه الصلاة والسلام- كما سبق.
والقول بأنها مجاز ليس بصحيح إذ لا مجاز في لغة العرب أصلاً، كما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وغيرهما من المحققين، والصواب أن ذلك من باب المشاكلة في اللفظ، فكأن قائلاً قال: ابتدعت يا عمر، فقال: نِعْمَ البدعة، وما اختاره العز بن عبد السلام والنووي وابن حجر من تقسيم البدع إلى حسنة وقبيحة، وأن ما يندرج تحت مستحسن في الشرع فهو حسن، وما يندرج تحت مستقبح في الشرع فهو قبيح، وإلا فهو من قبيل المباح كما ذكر ذلك ابن حجر في فتح الباري، أو أنها تنقسم إلى أقسام خمسة، وأن من البدع ما هو واجب، ومنها ما هو مستحب، ومنها ما هو مباح ومكروه ومحظور، فهو تقسيمٌ مخترَع مبتدَع لم يدل عليه دليل لا من الكتاب ولا من السنة، بل صرَّح النبي -عليه الصلاة والسلام- بخلافه، حيث قال: «وكل بدعة ضلالة» فكيف يقول النبي -عليه الصلاة والسلام-: «كل بدعة ضلالة» «وشر الأمور محدثاتها» ونقول: إن من البدع ما هو واجب أو مستحب؟
إذا عرفنا هذا فقيام رمضان من أفضل القربات؛ لأن القيام عمومًا في غير رمضان من أفضل الأعمال وهو دأب الصالحين، لاسيما في مثل هذه الأوقات التي ترجى فيها ليلة القدر كليالي العشر من رمضان، فقد صح عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه قال: «من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر» على ما تقدم.
وأما الجملة الأخيرة من جمل الحديث، وهي: «من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه» فيه فضل الصيام، وصيام رمضان ركن من أركان الإسلام الخمسة على خلاف بين أهل العلم في ترتيبه، هل هو الرابع أو الخامس، والجمهور على أنه الرابع، وإن قدَّم البخاري الحج عليه، لكن هو ركن بالإجماع، وقد اختلف العلماء فيمن ترك أحد الأركان، فجزم بعضهم بكفره، وإن كان غير الصلاة، الصلاة قول أكثر الصحابة بل إجماع الصحابة على أن تركها كفر، لكن بقية الأركان جزم بكفر تاركها جمع من أهل العلم، وإن كان جمهور أهل العلم لا يكفر من ترك غير الصلاة إلا إذا لم يعتقد وجوبها، أو جحد وجوبها.
إذا عرفنا هذا فالصوم فضله عظيم، وثوابه جسيم، جاءت به الأحاديث الكثيرة المخرَّجة في الصحيحين وغيرهما من دواوين الإسلام من السنن والجوامع والسنن والمصنفات وغيرها، ويكفي من ذلك أن الله -سبحانه وتعالى- خصه بالإضافة إليه، كما ثبت عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «قال الله -عز وجل-: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي، وأنا أجزي به، والصيام جنة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم، والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، للصائم فرحتان يفرحهما، إذا أفطر فرح، وإذا لقي ربه فرح بصومه» متفق عليه.
يقول القرطبي في تفسيره: وإنما خص الله -سبحانه وتعالى- الصوم بأنه له وإن كانت العبادات كلها له لأمرين بايَن الصوم بهما سائر العبادات، أحدهما: أن الصوم يمنع من ملاذِّ النفس وشهواتها ما لا يمنع منه سائر العبادات.
الثاني: أن الصوم سر بين العبد وبين ربه لا يظهر إلا له، فلذلك صار مختصًّا به، وما سواه من العبادات ظاهر، ربما فعله تصنُّعًا ورياءً، فلهذا صار أخص بالصوم من غيره.
قال ابن عبد البر: كفى بقوله: «الصوم لي» فضلاً للصيام على سائر العبادات، لكن قال ابن حجر في فتح الباري: اتفقوا على أن المراد بالصيام هنا صيام من سلِم صيامه من المعاصي قولاً وفعلاً، وأخرج الشيخان وغيرهما من حديث أبي سعيد -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «من صام يومًا في سبيل الله بعَّد الله وجهه عن النار سبعين خريفًا».
وأخرجا من حديث سهل بن سعد -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن في الجنة بابًا يقال له الريان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحد غيرهم، يقال: أين الصائمون؟ فيقومون لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد».
السائل: أحسن الله إليك قول النبي -عليه الصلاة والسلام-: «من صام يومًا في سبيل الله بعَّد الله بينه وبين النار سبعين خريفًا» أو كما قال -عليه الصلاة والسلام-، المقصود «في سبيل الله» هل المقصود ابتغاء وجه الله والأجر ونوال الأجر من الله -عز وجل-، أو المقصود به الصيام في سبيل الله يعني في الجهاد في سبيل الله؟
المسألة فيها كلام لأهل العلم، منهم من رجح هذا، ومنهم من رجح ذاك، والإمام البخاري -رحمه الله تعالى- كأنه يميل إلى أن المراد في سبيل الله الجهاد، بدليل أن الحديث خرَّجه في كتاب الجهاد، باب الصيام في سبيل الله، وهو في الجهاد، باب الصيام في الجهاد، فكأنه فهم أن المراد في سبيل الله الجهاد، لكن اللفظ محتمل في سبيل الله يعني ابتغاء وجه الله، مخلصًا لله في ذلك.
السائل: أحسن الله إليكم يا شيخ في مسألة مغفرة ما تقدم من الذنب وما تأخر ألا يمكن أن يُستدَل بدعاء النبي -عليه الصلاة والسلام- الثابت عنه في الصحيحين: «اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت» فيقال: إن هذا يعني عام لجميع الأمة؟
بلى، هذا فيه دليل على أن طلب مغفرة الذنوب ما تقدم منها وما تأخر مطلوب من المسلم عمومًا؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- إذا فعل فعلاً أو قال قولاً ولم يدل الدليل على اختصاصه به دل على أن أمته في حكمه؛ لأن الأصل الاقتداء والائتساء، ولم يدل دليل على اختصاصه -عليه الصلاة والسلام- بهذا الدعاء، فيشرع لأمته أن يقول كل واحد منهم: اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت.
المقدم: أحسن الله إليك الذين قالوا بأنه ربما يدخل في غفران الذنوب حتى الكبائر، كيف يصرفون حديث «ما لم تغش كبيرة» «ما لم يأتِ الكبائر»؟
المقصود في هذه الأبواب، خصوصًا في هذه الأبواب، وهذا الشهر وهذه الليالي وليلة القدر على وجه الخصوص يعظم فيها فضل الله -عز وجل-، وتكثر فيها نفحاته، وتجاوزه ومغفرته لذنوب عباده صغيرها وكبيرها، ولا شك أن هذا قول معتبَر عند أهل العلم؛ لأنه لم يرد القيد هنا، وإن ورد في نصوص أخرى، لكنها في غير هذه الأبواب في الصيام والقيام قيام ليلة القدر.
السائل: قول النبي -عليه الصلاة والسلام-: «من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما قام الليل كله» لو قال قائل: سأصلي العشاء في جماعة والفجر في جماعة في رمضان، فهل يُحسَب لي قيام ليلة؟
أقول: التشبيه من بعض الوجوه (كأنما)، أقول: التشبيه من بعض الوجوه الوارد هنا (كأنما) كغيره من التشبيه، قد يكون التشبيه من وجه دون وجه، من قرأ سورة الإخلاص، كأنما قرأ ثلث القرآن فهل معنى هذا أن ثواب من قرأ القرآن كاملاً وثبت له أجره على الوجه المأمور به وكل حرف بعشر حسنات، وفي القرآن أكثر من ثلاثة ملايين حسنة هل معنى هذا أنه يتساوى مع من قرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ثلاث مرات؟ لا يستويان، وإن شبه قارئ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} بمن قرأ القرآن كاملاً، فكأنما قرأ القرآن، المقصود أن التشبيه قد يكون من وجه دون وجوه، وهذا سبق في حلقات سابقة، وذكرنا من أمثلة ذلك تمثيل الرؤية، رؤية الباري -عز وجل- يوم القيامة «كما ترون القمر ليلة البدر» لكن هل يقتضي هذا أن التشبيه من جميع الوجوه؟ لا يقتضي ذلك أبدًا، بوجه من الوجوه، والله المستعان.
على كل حال على الإنسان أن يغتنم هذه الفرصة وهذه الأوقات، وتنزل الرحمات من الله -عز وجل- في هذا الوقت، والله المستعان.
الإمام البخاري خرَّج الحديث في سبعة مواضع من صحيحه منها هذه الثلاثة التي ذكرنها، فقال في الموضع الأول: هنا في كتاب الإيمان، بابٌ قيام ليلة القدر من الإيمان.
قال -رحمه الله-: حدثنا أبو اليمان قال: أخبرنا شعيب، قال: حدثنا أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال فذكره، واقتصر هنا على ما يختص بليلة القدر، وتقدم ذكر المناسبة.
الموضع الثاني: في كتاب الإيمان أيضًا، بابٌ تطوع قيام رمضان من الإيمان، قال: حدثنا إسماعيل قال: حدثني مالك عن ابن شهاب عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه» والمناسبة سبقت الإشارة إليها، وهي ظاهرة.
والموضع الثالث: في الموضع الذي يلي السابق من كتاب الإيمان، باب صوم رمضان احتسابًا من الإيمان.
قال -رحمه الله-: حدثنا بن سلاَّم قال: أخبرنا محمد بن فضيل قال: حدثنا يحيى بن سعيد عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه» والجمل الثلاث عرفنا أنها حديث واحد فرَّقه الإمام البخاري في المواضع السبعة.
الموضع الرابع: في كتاب الصيام، بابٌ من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا ونيَّة.
قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم قال: حدثنا هشام، قال: حدثنا يحيى عن أبي سلمة عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: «من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه» والمناسبة بين الباب والكتاب ظاهرة باب من صام رمضان لكتاب الصيام ظاهرة، وأيضًا مناسبة الحديث للباب المطابَقَة التامة.
الموضع الخامس: كتاب صلاة التراويح، بابُ فضل من قام رمضان.
قال: حدثنا يحيى بن بكير قال: حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب قال: أخبرني أبو سلمة أن أبا هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول لرمضان: «من قامه إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه» وقيام رمضان هو التراويح، كتاب صلاة التراويح باب فضل من قام رمضان، المناسبة ظاهرة، وقوله: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول لرمضان، أي لفضل رمضان، أو لأجل رمضان، ويحتمل أن تكون اللام بمعنى (عن)، أي يقول عن رمضان.
الموضع السادس: في الباب المذكور نفسه، قال: حدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال... فذكره،
والمناسبة ظاهرة.
الموضع السابع: في كتاب فضل ليلة القدر، باب فضل ليلة القدر.
قال: حدثنا علي بن عبد الله قال: حدثنا سفيان قال: حفظناه وأيَّما حفظ من الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا...» إلى آخره و«من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا...» إلى آخره، والمناسبة ظاهرة.
قال سفيان حفظناه أيما حفظ من الزهري، يؤكِّد سفيان أنه ضبط الحديث وأتقنه، وأنه على ذكر منه بجمله، وهو من الأئمة الكبار الحفاظ، ولا يحتاج إلى أن يقول مثل هذا الكلام، لكنه يؤكِّد ذلك -رحمه الله-، والحديث أيضًا مخرَّج في صحيح مسلم، فالحديث متفق عليه.
المقدم: أحسن الله إليكم هل كان تسميتهم لها بصلاة التراويح كأنها تسمية قديمة أيضًا مادام ذكرها البخاري فالتسمية قديمة؟
نعم التسمية قديمة؛ لأنها أُخِذَت من صنيعهم بعد كل تسليمتين يستريحون ويرتاحون، فهي من هذا الباب تسمى تراويح.
المقدم: لكن لها صفة معيَّنة -أحسن الله إليك- يحصل خلاف بين بعض المسلمين -مع الأسف- سواء بعضهم ربما يطالب الإمام بألا يتجاوز إحدى عشرة ركعة، ومع التخفيف، وبعضهم إذا زاد في عدد الركعات مع التخفيف غضب، كأن هناك ضابط لهذه المسألة، والتوقف عن مثل هذه النزاعات التي تحصل في بعض المساجد -مع الأسف-.
ثبت عن النبي -عليه الصلاة والسلام- من حديث عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: ما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعًا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعًا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثًا هذا مخرَّج في الصحيح، وثبت عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه كان يصلي ثلاث عشرة ركعة، وفي صحيح مسلم أنه كان يفتتح صلاته بركعتين خفيفتين، وصح عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه قال: «صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى» وروى البخاري من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قام مع النبي -عليه الصلاة والسلام- ليلة فصلى، ثم صلى ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم أوتر، فهذه تزيد على الثلاث عشرة، خمس عشرة، وفي حديث عائشة التحديد بإحدى عشرة، وصح عنه الثلاث عشرة، وصح عنه أكثر من ذلك، كما في حديث ابن عباس، وجاء عنه الإطلاق في صلاة الليل، وأنها مثنى مثنى، وكل ذلك يدل على أن العدد غير مراد، ولذا اختلف العلماء في عدد صلاة التراويح، قال الترمذي: أكثر ما قيل إنها تصلى إحدى وأربعين ركعة، يعني بالوتر، وعن مالك: ست وأربعين، وثلاث الوتر، وهذا هو المشهور عنه، وقال بعضهم: ثلاث وعشرون، وقيل: غير ذلك استدلالاً بحديث مطلق: «صلاة الليل مثنى مثنى» فلا تحديد، لكن من تقيد بفعله -عليه الصلاة والسلام- صفة وعددًا فهو أولى، ومما جاء في صفة صلاته -عليه الصلاة والسلام-، وتطويله الصلاة، حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: صليت مع الرسول -عليه الصلاة والسلام- فلم يزل قائمًا حتى هممت بأمر سوء، قلنا: وما هممت؟ قال: هممت أن أقعد وأذر النبي -عليه الصلاة والسلام- رواه البخاري.
وعن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يصلي إحدى عشرة ركعة، كانت تلك صلاته، يسجد السجدة من ذلك قدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية، قبل أن يرفع رأسه، ويركع ركعتين قبل صلاة الفجر. وثبت عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه قام بسورة البقرة والنساء وآل عمران في ركعة، وثبت عنه أنه أوتر بخمس وسبع وتسع وغير ذلك، فالظاهر أنه ليس هناك حد معيَّن لصلاة الليل، لكن من قلل عدد الركعات أطال القراءة والسجود، ومن أكثر العدد في الركعات خفف ذلك على خلاف بين أهل العلم في المفاضلة بين طول القيام والقراءة والسجود وكثرة عدد الركعات، ولكل أدلته، والله المستعان.
على كل حال الأمر فيه سعة، من قلَّل العدد وأراد الاقتصار على العدد الذي لزمه النبي -عليه الصلاة والسلام- وطوَّل مثل تطويل النبي -عليه الصلاة والسلام- فهو أفضل، لكن من قال: أنا لا أستطيع أن أقوم مثل قيامه -عليه الصلاة والسلام- بالبقرة والنساء وآل عمران، أريد أن أخفف يقال له: زد، وصلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشيت الصبح فأوتر، والله المستعان.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
المقدم: أحسن الله إليكم ونفع بعلمكم.
مستمعي الكرام، بهذا نصل وإياكم إلى ختام حلقتنا من برنامجكم: شرح كتاب التجريد الصريح. نلقاكم -بإذن الله تعالى- في حلقة الأسبوع القادم وأنتم على خير.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.