شرح كتاب العلم لأبي خيثمة (3)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

نعم.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا وإمامنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فيقول المصنف -رحمه الله تعالى-:

حدثنا أبو خيثمة قال: حدثنا ابن فضيل عن ابن شبرمة عن الشعبي قال: "ما كتبت سوداء في بيضاء ولا سمعت من رجل حديثًا فأردت أن يعيده عليَّ".

نعم، هذا الشعبي عامر بن شراحيل المعروف بالحفظ والضبط والإتقان، نقل عنه المؤلف أنه ما كتب سوداء على بيضاء، وذكر عنه في كتب التواريخ والأدب أنه إذا دخل الأسواق وضع أصبعيه في أذنيه؛ يسجل، أي شيء يمر ما يفوت شيئًا، {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء} [(4) سورة الجمعة]، وما كتب سوداء في بيضاء، الناس تعرفون الآن حتى فيما بين الإخوان والأقران والشيوخ والتلاميذ وغيرهم، هذه هبة من الله -جل وعلا- يتفاوتون، اثنان من الأقران يقرءان كتابًا واحدًا في مدة واحدة، مجلد في أسبوع، تسأل هذا ماذا أدرك من هذا الكتاب، تجد مثلًا هذا أدرك عشرة بالمائة، وهذا لا يذكر شيئًا ألبتة، وهذا أدرك سبعين ثمانين بالمائة، وبعض الناس يحفظ من أول مرة فيكون مسحه مسحًا ضوئيًا في آن واحد، كله مسح، انتهى، الشعبي ما كتب سوداء على بيضاء، لكن مع أن الحفظ ملكة غريزة ثابتة قوتها وضعفها في البداية من الله -جل وعلا- نعم، ثم بعد ذلك يكون القدر الزائد على ذلك مكتسبًا كغيرها من الغرائز، فهناك من الغرائز ما هو جبلي، ومنها ما هو مكتسب، يزيد مع التمرين والتدريج، والأساس والمدار على النية الخالصة الصالحة مع التقوى، {وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ} [(282) سورة البقرة].

يقول الشافعي -رحمه الله-:

شكوت إلى وكيع سوء حفظي
وقال اعلم بأن العلم نور

 

فأرشدني إلى ترك المعاصي
ونور الله لا يؤتاه عاص

قد يقول قائل: إننا نشاهد بعض العصاة يحفظون كثيرًا، عندهم حوافظ قوية جدًّا، وبعض الأخيار الصالحين *(كلمة غير مفهومة) يدخل مع هذا يطلع مع هذا ما يثبت شيئًا، نقول: نعم، هذه أمور مقدرة من الله -جل وعلا-، والله -جل وعلا- هو المعطي، ما هي المسألة أخذًا باليد، لكن الإنسان يبذل السبب، فعليه بذل السبب لا أكثر ولا أقل، ويغتنم وقت الفراغ، وراحة البال، وعدم المشاغل، وقبل السيادة، يغتنم هذه في الحفظ والفهم وتعلم العلم بجميع فنونه، وما يحتاج إليه طالب العلم، أما إذا انشغل بالأسرة، وانشغل بالمعيشة، وانشغل ببناء البيت وتأمين السيارة، وتربية الأولاد، والروابط والعلاقات الاجتماعية، لا شك أن هذا له أثر كبير على الحفظ بل وعلى الفهم، وإن كان الماوردي يقرر أن الحافظة ما تزيد ولا تنقص عند الكبير والصغير سواء، يعني إنسان عمره عشر سنوات، خمس عشرة سنة، عشرون، ثلاثون، خمسون، سبعون، واحد، وهذا خلاف ما عليه عامة أهل العلم.

هو يقول: الغريزة واحدة، لكن المؤثرات، الموانع، الأسباب تختلف من وقت إلى وقت، لكن هذا الواقع يرده؛ لأن الإنسان يجد من نفسه أحيانًا الظروف واحدة، اليوم هذا وغدًا أو بعد سنة أو سنتين يجد الإنسان في أول الأمر سهلًا أن يحفظ ورقة في مجلس، لكن قد يصعب عليه فيما بعد حفظ آية، لا سيما إذا ترك الحفظ مدة طويلة ثم عاد إليه هذا يصعب عليه، يحتاج يبدأ من جديد، والإنسان -مما يرد كلام الماوردي- أن الإنسان يذكر ما حفظه في الصغر، لكن بعد ذلك، بعد مدة خمس، عشر سنوات، وإن حفظ وأتقن في وقت إلا أنه إن لم يتابع المراجعة والمذاكرة يفوته، يتلفت، الآن الذين درسوا في العلم الشرعي في المعاهد العلمية، والكليات الشرعية، ثم بعد ذلك جاءت ما بعد ذلك من المراحل، يذكر ما قرأه وحفظه في المعهد أكثر مما حفظه في الجامعة، وإن كان هذا أقرب عهد، هذا يتفق عليه، وأنا أعرف كثيرًا من طلاب العلم والعلماء من هو عائش الآن على ما درسه في المعهد، نعم العلم ينمو، التصور يكون أوضح، لكن مع ذلكم العبارة وحفظها يذكر ما حفظه في الصبا أكثر مما حفظه في الكبر، والحفظ في الصغر كالنقش في الحجر كما يقرر أهل العلم، وفي الكبر كالخط على الماء أو على التراب، يذهب بسرعة، والله المستعان.

يقول: ولا سمعت من رجل حديثًا فأردت أن يعيده عليَّ": فأردت أن يعيده عليَّ، ما يعيد مرة مرتين عشر عشرين، وتراجع الكتاب تحفظ قبل الحضور، وتنتبه وقت الحضور، وتذاكر بعد الانصراف، وتراجع من الغد و و...، تثبت، عسى العلم يبقى، لكن فضل الله يعطيه من يشاء، فعلى الإنسان أن يحرص ويبذل الأسباب لحفظ العلم وتثبيته، ولا ييأس إذا كانت حافظته ضعيفة، لا ييأس؛ لأن الأجر مرتب على سلوك الطريق، على ما تقدم، ابذل السبب وأنت مأجور على بذل السبب والنتائج بيد الله -جل وعلا-، وكم من شخص برز في حفظه وفي فهمه ثم في النهاية لا شيء، ودونه بمراحل بعض الناس من صار ممن يذكر على مستوى الأمة وهو من دون الأول، لكن هذا تابع، وذاك ضيع، نعم.

حدثنا أبو خيثمة قال: حدثنا بن عيينة عن بن أبي نجيح عن مجاهد: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [(74) سورة الفرقان] قال: "نأتم بهم ونقتدي بهم حتى يقتدي بنا من بعدنا".

نعم، هذا من تفسير مجاهد في قول الله -جل وعلا-: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [(74) سورة الفرقان]، يعني يقتدى بهم في الخير، بعد أن يقتدوا بمن قبلهم، هم يقتدون بمن قبلهم، ويقتدي بهم من بعدهم ليسنوا السنن الحسنة بالقول والفعل، ويكونوا قدوات يقتدى بهم، ومن دل على هدى كان له مثل أجر فاعله، والدلالة كما تكون بالقول تكون بالفعل، والتأثير بالفعل أكثر من التأثير بالقول، كثير من الناس يقتدي بهدي الإنسان وسمته وطريقته وتعامله وعبادته، أكثر مما يقتدي بأقواله؛ لأن المعول على العمل، والعمل لا يتصور فيه الكذب بخلاف الكلام، قد يقول كلامًا وهو من أبعد الناس عنه، يوجه الناس وينصح الناس ويعظ الناس وهو بعيد كل البعد عنه، مثل هذا لا يؤثر ولا يفيد بخلاف العمل، القدوة الصالحة الحسنة هي المؤثرة، ومن أمر الناس ونهاهم ولم يفعل هذا لا يكاد يكون له من الأثر شيئًا؛ ولذا في حجة الوداع لما حذر النبي -عليه الصلاة والسلام- بل حرم الدماء والأموال والأعراض، قال: ((أول دم يهدر دم ربيعة)) ابن عمه، قدوة، ((وأول ربا يوضع ربا العباس)) ما تقول لي: والله أمنع الناس من الربا، وأنت الله أعلم بمعاملاتك، لا، كن قدوة للناس، والأب الذي ينهى أبناءه عن التدخين وهو يدخن ما له أثر، أو ينهاهم عن الإسبال أو غيره من المحرمات وهو يفعلها ويزاولها ما له أثر، لكن إذا أردت أن تطاع بادر، والأثر بالفعل أكثر من الأثر بالقول؛ ولذا لما أمر النبي -عليه الصلاة والسلام- الصحابة في الحديبية أن يحلقوا ترددوا، لكن لما حلق كادوا أن يقتتلوا على الحلق، فعلى الإنسان أن يكون قدوة يقتدى به في أفعاله قبل أقواله، والله المستعان، نعم.

حدثنا أبو خيثمة قال: حدثنا جرير عن رجل عن ليث عن مجاهد {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ} [(31) سورة مريم] قال: "معلمًا للخير".

نعم، وهذا أيضًا من تفسير مجاهد في قول الله -جل وعلا-: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ} [(31) سورة مريم] قال: "معلمًا للخير". في أي مكان يحل فيه يعلم الناس الخير، وإذا علم الناس الخير فالبركة تتبع، البركة من نتاجها الخير، فإذا علم الناس الخير في أي مكان يحل فيه -أينما كان- إذا علم الناس في أي مكان يصل إليه، صار مباركًا أينما كان، وأينما حل، والله المستعان، نعم.

حدثنا أبو خيثمة قال: حدثنا جرير عن مغيرة قال: قيل لسعيد بن جبير: تعلم أحدًا أعلم منك؟ قال: "نعم، عكرمة"، فلما قتل سعيد بن جبير قال إبراهيم: ما خلف بعده مثله قال: وقال الشعبي لما بلغه موت إبراهيم: أهلك الرجل؟ قال: فقيل له: نعم. قال: لو قلت: أنعي العلم ما خلف بعده مثله، والعجب أنه يفضل ابن جبير على نفسه، وسأخبركم عن ذلك، إنه نشأ في أهل بيت فقه فأخذ فقههم، ثم جالسنا فأخذ صفوة حديثنا إلى فقه أهل بيته، فمن كان مثله؟".

نعم على حامل العلم وطالب العلم أن يتواضع، ويعرف قدر نفسه، ويعرف لغيره أقدارهم، ويحط من قدره ويرفع الآخرين، هذه طريقة السلف، فهنا سعيد بن جبير يقول: إن عكرمة أعلم منه، ثم إبراهيم يقول: قال إبراهيم: ما خلف بعده مثله.

لما قتل سعيد بن جبير قال إبراهيم: ما خلف بعده مثله قال: وقال الشعبي لما بلغه موت إبراهيم النخعي: أهلك الرجل؟ يعني مات، ودلالتها اللغوية والعرفية على هذا، دلالتها اللغوية والشرعية على هذا؛ {حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولًا} [(34) سورة غافر]، هلك، لكن الاستعمال العرفي عند أهل العلم إنما يستعملون هلك فيمن لا تحمد سيرته، وجاء إطلاقها في القرآن في حق نبي من الأنبياء، وفي الفرائض هلك هالك، ولو كان من خير الناس، لكن استعمالها العرفي عند أهل العلم في التواريخ والسير الغالب أنهم إذا قالوا: "هلك" في حق من لا ترضى سيرته، وهنا يقول على الاستعمال اللغوي والشرعي: أهلك الرجل، يعني مثلما نقول: هلك الجهم سنة كذا، هنا يقول: أهلك الرجل: وهو من خيار الناس، قال: فقيل له: نعم قال: لو قلت: أنعي العلم، العلم خلاص انتهى، مات العلم، ما خلف بعده مثله والعجب أنه يفضل ابن جبير على نفسه: هذه عادة، ما فيه أحد من أهل الفضل يعرف قدر نفسه مهما بلغ من العلم والرسوخ فيه أن يقول: هو أعلم من فلان، أو..، ما يحتاج إلى هذا، ولا هو بالإنسان الذي يبرز نفسه، أبدًا، بل العكس إذا حاول إبراز نفسه سقط.

وقد حضرت مجلسًا جاء فيه شيخ من العلماء من كبار علماء المغرب، لكن الذكاء والعلم وحده لا يكفي، لا بد أن يعطى الإنسان الذكاء، يعرف به واحد من الكبار أيضًا هذا الشيخ الفلان العلامة الفاعل التارك المحدث، الكبير، ولا يضاهيه في علم الحديث إلا فلان، قال: يا شيخ فلان ما يعرف الحديث، ماذا يعني هذا؟!! فلان لا يعرف الحديث، وقد ألف في الحديث وعلومه أربعين كتابًا، قال: يا شيخ سبعين، هل هذه طريقة السلف؟!

الآن يشم بل يصرح أحيانًا في بعض المجالس؛ لأن هذا الداء دب إلينا بعد أن كنا لا نعرف هذه الأمور دب إلينا، ومن يلاحظ بعض المجالس العلمية الرسمية في المناقشات والرسائل وغيره يشم بعض هذا، يعني هل معنى هذا أنك ما تطلع إلا على أكتاف غيرك؟ يعني بحيث يستشير ما رأيك بفلان وفلان، اترك فلانًا،  يا أخي أنصف الناس، الإنصاف مطلوب، أنصف فالإنصاف مطلوب لا بد منه، لك عليه ملاحظات ناصحه وناقشه، ويبقى أنك تتفق معه في جل أبواب الدين، يعني ما بينكم خلاف إلا في شيء يسير، أما تهضم قدره أو تسبه وتغتابه وتبلغ عنه في أمور هو بعيد كل البعد عنها من أجل ماذا؟ لأن بعض الناس إذا استشير عن فلان علان هضم قدره؛ لأنه يتصور أنه ما..، أنهم في كفة، لا بد ليطلع هذا لا بد ينزل هذا، لا، ليس بصحيح، والله -جل وعلا- هو الذي بيده قلوب العباد، إذا رأى منك الإخلاص والصدق والإنصاف رفعك، والله المستعان.

هنا يقول: يفضل ابن جبير على نفسه: نعم يفضله، هذه عادتهم، وكثير من أهل العلم يقال في ترجمته: إنه ما رأى مثل نفسه، ما معنى هذا الكلام؟ ما رأى مثل نفسه، يعني أنه فاق شيوخه، فاق شيوخه في العلم، لا أنه يترفع عليهم، لا، أو يدعي ذلك، يعني أنه فاق شيوخه في العلم، لكن لو سئل عن تلاميذه ما فضل نفسه عليهم فضلًا عن شيوخه، والتواضع هو الذي يرفع الإنسان في الدنيا والآخرة،

تواضع تكن كالنجم لاح لناظر
ولا تك كالدخان يعلو بنفسه

 

على صفحات الماء وهو رفيع
إلى طبقات الجو وهو وضيع

فالتواضع هو الذي يرفع الإنسان.

 وسأخبركم عن ذلك، إنه نشأ في أهل بيت فقه: النخعيون كلهم أهل فقه وأهل علم، فأخذ فقههم: فأخذ فقههم المأخوذ المتلقى عن ابن مسعود -رضي الله عنه وأرضاه-.

فأخذ فقههم ثم جالسنا فأخذ صفوة حديثنا: يعني ضم إلى فقه قومه حديثنا، إلى فقه أهل بيته فمن كان مثله": بهذا ينبغي أن تكون عناية طالب العلم مقرونة بين الحديث والتفقه فيه، والله المستعان، نعم.

حدثنا أبو خيثمة قال: حدثنا سفيان بن عيينة قال: حدثنا أيوب الطائي قال: سمعت الشعبي يقول: "ما رأيت أحدًا من الناس أطلب للعلم في أفق من الآفاق من مسروق".

يقول الشعبي عامر بن شراحيل السابق ذكره: "ما رأيت أحدًا من الناس أطلب للعلم في أفق من الآفاق: يعني في بلد من البلدان ولا في قطر من الأقطار.

من مسروق": مسروق بن الأجدع من سادات الأمة ومن علمائها العاملين، من العُبَّاد المعروفين، العلم لا يأتي بالدعاوى ولا بالتمني، إنما يأتي بتوفيق الله -جل وعلا- ثم بذلك الأسباب، فلا يوجد أطلب للعلم في أفق من الآفاق من مسروق، وبهذا يحصل العلم ويدرك العلم، ولا يستطاع العلم براحة الجسم أبدًا، الذي يسترخي ويبغي العلم يأتيه، ما يمكن، حتى أخذ العلم من الوسائل الميسرة السهلة قد لا يتسنى أبدًا، قد لا يتسنى لطالب العلم أن يأخذ علمه المؤصل المضبوط المتقن من الأشرطة أو من الإنترنت أو من غيرها، لا بد من الحضور، مذاكرة الأقران، مزاحمة الشيوخ، لا بد من التعب، من السهر، فالعلم لا يستطاع براحة الجسم، وهكذا كان مسروق لا يوجد أطلب للعلم في أفق من الآفاق منه، اجتهد تجد، من جد وجد، والله المستعان نعم.

حدثنا أبو خيثمة قال: حدثنا هشيم قال: حدثنا سيار عن جرير بن حيان أن رجلًا رحل إلى مصر في هذا الحديث فلم يحل رحله حتى رجع إلى بيته: ((من ستر على أخيه في الدنيا ستر الله عليه في الآخرة)).

نعم، الرحلة في طلب الحديث معروفة من عهد الصحابة؛ حيث رحلوا إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- ورحل بعضهم إلى بعض الشهر الكامل؛ من أجل حديث واحد، ولا تظنون أن الوسائل مثل الوسائل الموجودة الآن، ولا تظنون أن أمور المعيشة متيسرة كما هي موجودة الآن، يكابدون الشدائد من أجل تحصيل حديث واحد، لكن هل تظن أن هذا الشخص الذي رحل شهرًا من أجل حديث ينسى هذا الحديث؟ لا يمكن، ورحلته عبادة، ومشقته حسنات، والأجر على قدر النصب يقال في مثل هذا؛ لأنه تابع للعبادة، فرحل عقبة بن عامر إلى مسلمة بن مخلد أمير مصر من أجل: ((من ستر على أخيه في الدنيا ستر الله عليه في الدنيا والآخرة)) وهو جزء من حديث مخرج في الصحيح.

فالستر هو الأصل، ينبغي على من اطلع على هفوة أو زلة من أخيه ألا ينشرها، بل يستر عليه، وهذا الأصل في المسلم أنه يستر على أخيه، لكن هذا ليس على إطلاقه، فالإمام مالك وغيره يقررون أن أهل السوابق والمعاصي المتكررة مثل هؤلاء لا يستر عليهم؛ لأن الستر عليهم -أهل السوابق وأهل المعاصي، وأهل المنكرات الذين لا يرعوون، ولا يراعون دينًا ولا غيره، ولا يستحييون من الله ولا من خلقه- مثل هؤلاء ينبغي ألا يستر عليهم؛ لأن المناداة بالستر المطلق هذه توطئة للإباحية، وتعطيل لحدود الله -جل وعلا-، فالذي تكرر منه المنكر ولا يزدجر ولا يرعوي مثل هذا يبلغ عنه، ولا يجوز الستر عليه، لكن من حصلت منه هفوة وزلة وندم على ذلك يستر عليه، نعم.

حدثنا أبو خيثمة قال: حدثنا سفيان عن بن جريج قال: "أملى علي نافع".

نعم الإملاء طريق من طرق التحمل، بل يقرر أهل العلم أنه أقوى طرق التحمل؛ لأنه فرع من الطريق الأول الذي هو السماع من لفظ الشيخ، والعلماء يجمعون على أن السماع من لفظ الشيخ من طرق التحمل المعتبرة، بل التلقي بها صحيح إجماعًا، وهي أقوى الطرق، يليها القراءة على الشيخ، وقال بعضهم: هما سواء، ومنهم من فضل القراءة على الشيخ على السماع لكنهم قلة، قول شاذ هذا، فأقوى طرق التحمل السماع من لفظ الشيخ، وأقوى أنواع السماع الإملاء من الشيخ للطالب؛ لما يتضمنه من تحرز الشيخ والطالب.

الشيخ وهو يملي يتحرى ويتحرز ويحرر، والطالب وهو يكتب ينتبه ويدون، بخلاف ما إذا كان الشيخ يلقي والطلبة يسمعون من غير إملاء ولا كتابة ولا...، مثل هذا قد يفوت بعض الشيء، والسماع عمومًا هو الطريق الأول، وهو الأصل في الرواية من لفظ الشيخ، وأقواه ما جاء من طريق الإملاء، نعم.

طالب: أحسن الله إليكم.

حدثنا أبو خيثمة قال: حدثنا جرير عن عبد الملك بن عمير عن وراد كاتب المغيرة قال: "أملى عليَّ المغيرة وكتبته بيدي".

نعم وراد كاتب المغيرة معروف، وله جاء أحاديث بهذه الصيغة: أملى عليَّ المغيرة، في هذا الإملاء، وكتب بيده، هذا أيضًا دليل على صحة التحمل بطريق المكاتبة، المكاتبة وهي طريقة معتبرة من طريق التحمل والرواية، فالمكاتبة حصلت بين الصحابة كما هنا، وهو جزء من حديث مخرج في الصحيح، والمكاتبة حصلت بين الصحابة، وحصلت بين التابعين، وتتابع أهل العلم على الرواية بها إلى عصر الأئمة المصنفين، ففي البخاري يقول: كتب إلي محمد بن بشار، فالمكاتبة طريق معتبر من طرق الرواية، نعم.

وهناك كتابة ومكاتبة، فرق بين الكتابة والمكاتبة، الكتابة يكتب ابتداءً من غير طلب، والمكاتبة يكتب إليه، يطلب أن يكتب إليه بالأحاديث، ثم بعد ذلك يجيبه فيكتب له، فهذه المكاتبة مفاعلة بين الطرفين، نعم.

حدثنا أبو خيثمة قال: حدثنا عبد الله بن نمير عن الأعمش قال: ذكر إبراهيم فريضة أو حديثًا فقال: "احفظ هذا لعلك تسأل عنه يومًا من الدهر".

نعم هناك فوائد يخشى من فواتها، والعلم صيد والكتابة قيده والكتابة نائبة مناب الحفظ، الأصل الحفظ، وكثير ما يمر بالطالب وهو يقرأ في كتب أهل العلم: احفظ هذا، احرص على هذا، كثيرًا ما يقول: احفظ هذا -ابن القيم -رحمه الله تعالى- علك ألا تجده في مصنف آخر البتة"، وهو يحث طالب العلم على هذه الفائدة التي تعب عليها ابن القيم، ولا يعني هذا أنه معجب بكتابته، لا يعني هذا أن ابن القيم معجب بكتابته، وأنه يزدري غيره، أو أنه أتى بما لم يأت به غيره، لا، هو يحث طالب العلم أن ينتبه لهذا الموضوع، هذا من باب النصيحة.

وهنا يقول: إذا ذكر إبراهيم النخعي فريضة أو حديثًا، قال: احفظ هذا: وجاء في حديث وفد عبد القيس المخرج في الصحيح أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: ((احفظوهن وأخبروا بهن من وراءكم))، فهذا حث على الحفظ، وأيضًا الذي لا يحفظ يقال له: اكتب، اكتب يا أخي، اكتب هذه الفائدة، نعم؛ لأنها فائدة يعني متعوب عليها ما تجدها في أي كلام، والذي لا يحفظ -لا يسعفه الحفظ- يستعمل القلم، استعن بيمنك بالكتابة

فالعلم صيد والكتابة قيده
فمن الحماقة أن تصيد غزالة

 

قيد صيودك بالحبال الواثقة
وتتركها بين الخلائق طالقة

وكم ندمنا على فوائد مرت بنا ونريد أن نتذكرها فلا نذكر، نريد أن نراجع أي كتاب ما تقدر، إلا إذا استعملت الكتابة، ولو كتبت العناوين ورؤوس المسائل، يعني معك هذا الكتاب تقرأ فيه تمر عليك الفوائد تدون صفحة كذا فيها كذا، كفهرس خلاصة للفوائد ورؤوس المسائل، وهذه طريقة معروفة من كتب العلماء والأئمة والمتقدمين والمتأخرين يستعملون هذه الكتابة. نعم.

حدثنا أبو خيثمة قال: حدثنا أبو معاوية قال: حدثنا الأعمش عن إبراهيم قال: "كانوا يكرهون أن يظهر الرجل ما عنده".

وهذا من باب ورع السلف -رحمهم الله- يكرهون أن يظهر الرجل ما عنده، والآن يوجد في مجالس أهل العلم من الطلبة الصغار من لا ينتظر الخبر، إذا قال الشيخ: مبتدأ، جاء بالخبر، ما ينتظر؛ ليلفت أنظار الناس إليه، والسلف كانوا يكرهون أن يظهر الرجل ما عنده، لا سيما إذا وجد من يكفيه، إذا وجد من يكفيه، يعني الدين محفوظ بلا شك، والأمة معصومة من أن تفرط بشيء من دينها، فإذا وجد من يكفيك احمد ربك على العافية؛ لأنك إذا قمت بالشيء نعم حمل الدين فرض على الأمة، فإذا وجد من يكفيك علك لو تصدرت وسبقت الناس يمكن تخطئ فيدون عليك الخطأ، فافرح بمن يحمل عنك هذا الواجب، وإذا تأملنا فيما يحفظه الأئمة من مئات الألوف من الأحاديث، ووجدنا في مصنفاتهم ولا العشر مما يحفظونه عرفنا هذا، كانوا يكرهون أن يظهر الرجل ما عنده، بل الواحد منهم إذا صنف كتابًا ووجد كتاب غيره يغني عنه أتلفه؛ المقصود أن ينتشر الخير ويتعلم الناس، ولا يلزم أن ينسب هذا العلم إلى فلان أو إلى فلان.

الإمام أحمد يحفظ سبعمائة ألف حديث وليس في مسنده ولا نصف العشر؛ لأنه وجد أن هذا أدى واجبًا، وذاك أدى واجبًا، وهذا صنّف، وهذا ألّف، وهذا جمع يكفي، قاموا بالواجب ورأى أن هذا القسم الذي دونه يسقط به الواجب عن نفسه، نعم، وعلى هذا إذا كان الإنسان يستقل بمسألة حررها وتعب عليها لا يتصدر بها المجالس، كما يلاحظ من بعض الناس، لا يتصدر بها المجالس، ينتظر حتى يسأل عنها، وإن طرحها على طريقة السؤال واستفاد منها، ومناقشة مع الإخوان، على ألا يظهر نفسه باعتبار أنه هو -على ما يقولون في تعبيراتهم- سيد الموقف، لا، نعم على أنه مستفيد، عله أن يجد عند غيره ما ليس عنده، نعم، يكرهون أن يبدأ هو بالحديث، ويصلح أيضًا اللفظ الآخر أن يحدث بكل ما عنده، يفيد الناس لكن لا يظهر كل ما عنده؛ لأنه يوجد عند الناس ما يسقط عنه الواجب، وهذا في الأمثلة الذي ذكرناها ما يدل عليه، نعم.

حدثنا أبو خيثمة قال: حدثنا عثام بن علي العامري قال: سمعت الأعمش يقول: "ما سمعت إبراهيم يقول في شيء برأيه قط".

نعم، هذا إبراهيم النخعي الفقيه المعروف ما يقول في شيء برأيه، إما أن يفتي بنص، أو بقول صاحب، قال بعضهم: "إن استطعت ألا تحك رأسك إلا بأثر فافعل"؛ لأنك معرض للخطأ، معرض لا سيما الطالب الذي لا يحيط بأقوال أهل العلم معرض، فكونه يفتي بالنص فقد حصل من الصحابة الفتوى بالنص، يسأل عن مسألة كذا فقال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: كذا، الجواب في كلامه -عليه الصلاة والسلام-؛ ليأمن الزلل، وأما الفتوى بمجرد الرأي لا شك أن هناك مسائل منصوص عليها لا مجال فيها للرأي والاجتهاد؛ لأن العبرة بالنص، أما إذا نزلت نازلة لا يوجد فيها نص فأهل العلم لهم أن يجتهدوا في حكمها ويلحقوا النظائر بنظائرها ويقيسوا الأشباه بأشباهها، والأمر معروف عند أهل العلم، فالإكثار من الرأي هذا مذموم، أما استعمال الرأي بعد النصوص عند الحاجة إليه فهو ممدوح، لكن الإشكال فيمن أعيته النصوص وعجز عن حفظها ثم صار يفتي الناس برأيه -كما هو شأن كثير من الفقهاء المنتسبين إلى مدرسة الرأي- نص بعض أهل العلم أنهم عجزوا عن حفظ النصوص فصاروا يفتون برأيهم، وهذا ملاحظ، يعني كثير من طلاب العلم -والله يعفو ويسامح- يعني سهل عليك أنك تسأله عن معنى حديث، لكن يصعب عليه أن تسأله عن درجة حديث، أو لفظ حديث؛ لأن حفظ النصوص معجز صعب، لا سيما الذي ما مسك الطريق من أوله، ما انتبه إلى الأمر إلا بعد فوات الأوان، أما من يسر الله له من يأخذ بيده إلى الطريق الصحيح من أول الأمر هذا يحمد الله على هذه النعمة، نعم.

حدثنا أبو خيثمة قال: حدثنا ابن يمان عن أشعث عن جعفر عن سعيد بن جبير {يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} [(37) سورة النساء] قال: "هذا من العلم".

ما الذي بعدها، بعد يبخلون ويأمرون الناس بالبخل؟

طالب:.......

نعم، الدلالة فيما بعدها، {يَبْخَلُونَ}: بما عندهم {وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ}: يعني في العلم في باب العلم لا ينفق مما أعطاه الله من علم، ولا يحث الناس بل يثبط من رآه يعلم الناس، أنت ما أنت بملزوم، أنت ما أنت بمكلوف، أنت تعرض نفسك لكذا، أنت...، ويحفظ بعض ما جاء في مسائل ورع السلف، يحفظ شيئًا من ورع السلف وهو لا هو بمشتغل ولا هو يدع الناس يشتغلون، وقصده من ذلك التبرير لنفسه وتحطيم الناس وتثبيطهم عن فعل الخير، وهذا مشاهد في كافة وجوه الخير، تجد شخصًا يذهب إلى مكة لأداء العمرة ولزوم بيت الله في الأيام الفاضلة، وينفق في ذلك في العشر الأواخر -عشرين ألف مثلًا- يأتيه من يأتيه يقول: هذه العشرون الألف، يعني المسألة هذا نفع لازم، وهناك فقراء محتاجون، لو أنفقت هذه العشرين على خمس أسر تغنيهم أيام رمضان وما بعد رمضان أفضل من كونك تترك بلدك وتذهب، لكن هل الناصح هذا وهو أكثر غناة -يعني أغنى من المنصوح- هل هذا دفع شيئًا؟ ما هو بدافع، لكن يبغي يحرم هذا العمرة والمجاورة والأوقات الفاضلة ومضاعفة الصلوات، نعم، ولا هو منفق ولا ....، وما قصده أن ذاك ينفق، بس ما يريده أن يذهب ولا يستفيد ولا يغتنم هذه الفرص، نعم، أبدًا هذه طريقة بعض الناس، يعني يشق عليه أنه من جيرانه راح ثم يبدأ عليه الضغوط من بيته، الناس راحوا وخلونا، أنت ماذا تريد، يمسكهم واحد، واحد يا أخي هذه الأموال التي تنفقونها لو تصرفونها على الفقراء، ولا هو بمصرف ولا منفق على الفقراء ولا مغتنم للأوقات ولا أزمان، ولا أماكن فاضلة، فمثل هذا يخذل الناس ولا هو مخرج شيئًا، ومثله أيضًا من بعض من ينتسب إلى العلم تجده محرومًا، محروم لا يريد أن يعطي، وإذا رأى شخصًا نفع الله به وبذل من نفسه، يقول: يا أخي انظر إلى السلف يتورعون ويتدافعون وهذه مزلة قدم وأنت يحفظ عنك كذا، هذا إن استفاد من نصوص السلف وما نصوص السلف وإلا جاب له بعد أمور ..، تعرض لأذى، تعرض نفسك للمسائلة، تعرض نفسك، لا نفع به الباب الذي باب السلف وإلا أتى له بباب الخلف بعد، هذا حرمان يا إخوة، هذا الحرمان بعينه، {يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ}، ولا هو بنافع ولا يدع الناس ينفعون، ومع الأسف لهم وجود مثل هؤلاء.

وأحيانًا قد لا يكون من سوء نية، قد يكون من تلبيس الشيطان عليه، مثل شخص عنده دروس مرتبة ومنظمة إذا جاء رمضان أوقف الدروس، طيب لماذا أوقفت؟ هذا وقت مضاعفة الأجور؟ قال: يا أخي السلف ما يخلطون مع القرآن شيئًا، لا يحدثون ولا يعلمون ولا شيء، خلاص، اطبق الكتب إلى أن يطلع رمضان، هذا شهر القرآن، وهو بالنهار نائم، صائم، نائم، وبالليل في الاستراحة إلى الفجر، هل هذا هدي السلف؟ لا ليس هدي السلف، هذا من تلبيس الشيطان عليه، وقد يقوله لغيره، قد ينقل هذا لغيره، الإمام مالك ما يتكلم بحديث في رمضان، يقبل على المصحف، لكن هات مثل مالك، اشتغل مثل مالك، ثم إذا قيل له: إن فلان يقرأ القرآن في رمضان في يوم جاء بالأحاديث المتشابهة، لا يفقه من يقرأ القرآن في أقل من ثلاث، إذا قيل له ثلاث، قال: الرسول قال لابن عمر: ((أقرأ القرآن في سبع ولا تزد)) وختمة مع التدبر، وهو لا هو دارٍ لا بتدبر ولا بغير تدبر، لكن كما قال: {يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ}، وأمثلة هذا كثيرة وموجودة في الواقع، لكن ومع ذلكم يوجد -ولله الحمد- من العلماء الربانيين الباذلين ما يكفي حاجة الأمة ولله الحمد، فالخير موجود.

حدثنا أبو خيثمة قال: حدثنا جرير عن ليث قال: "كان أبو العالية إذا جلس إليه أربعة قام".

يقول: حدثنا أبو خيثمة قال: حدثنا جرير عن ليث: معروف ابن أبي سليم، وهو محكوم بضعفه، لكن هذا أثر لا يترتب عليه حكم.

يقول: "كان أبو العالية إذا جلس إليه أربعة قام": لا يحب الفتنة، ولا يحب أن يوطأ عقبه، ولا يحب أن تلفت عليه الأنظار، ولا يقال: فلان يحضره كذا، فلان مسكين ما يحضره إلا كذا، ما يهمهم هذا أبدًا.

إذا جلس طالب علم ما هو بمنزلة هؤلاء، وجلس عنده عشرين ثلاثين قال: هؤلاء ما يسوون العنوة، ويتأثر إذا طلع واحد من الباب، دعه يطلع، وماذا فيه؟، أنت أتيت لهذا الواحد أم أتيت لموعود الله -جل وعلا-؟

إذا جلس إليه أربعة: قام؛ يظنهم كثرة، ثلاثة يكفون، ولو وجد واحد يحمل العلم بحقه يكفي، يكفيك واحد، وبعض الناس ينظر إلى الكثرة وأنه مقياس، وأن هذا العالم هو.,..؛ لأنهم ينظرون إلى أنه كلما كثرت الجموع كانت الدلالة على أنه أعلم من غيره، أو الناس أحوج إليه من غيره!! ما هو بصحيح؛ نرى فئام الناس يجتمعون على القصاص أكثر من أهل العلم الراسخين، هذا الحاصل، تذكر محاضرة لفلان أو علان، في نهايتها لو تقول له: أعطني فائدة أو فائدتين من هذه المحاضرة ما أدرك شيئًا، والعالم الرباني الذي معك كتابك يشرح لك كلام الله وكلام رسوله بعلم متين مؤصل متعوب عليه، كل كلمة فيها فائدة، ومع ذلك الحضور يكون أقل.

وهذا أبو العالية إذا اجتمع إليه أربعة قام، فليست العبرة بالكثرة، العبرة بمن يحمل هذا العلم عنك وينشره بعدك، فيكون لك أجره وأجر من تبعه إلى يوم القيامة، وجاء في الحديث الصحيح: ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: من علم ينتفع به..)) علم ينتفع به، وهذا يكون بالتعليم والتأليف، ينتفع بالتعليم وبالتأليف، لكن المدار على النية والإخلاص؛ ((إنما الأعمال بالنيات)) {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ} [(5) سورة البينة]، فلا بد من الإخلاص، وإذا نوى الإنسان النية الصالحة الخالصة ما تهمه الكثرة ولا القلة، وليست العبرة بالكثرة، أكثر من يحضر الدروس تجزم بأنهم لا قيمة لهم.

الشيخ محمد بن إبراهيم -رحمه الله- قيل له: إن طلاب كلية الشريعة -هذا الكلام قبل أربعين سنة- كثروا، لكن ما ترى منهم ناسًا يعتمد عليهم ويعول عليهم، قال: إذا صفى لنا العشر يكفي، يكفينا عشر، البقية هؤلاء يسدون وظائف ومرافق، يكفون حاجة المسلمين في بعض المرافق، أما علماء ما نبغي ما نحتاج ولا عشرهم، الذين يحملون العلم بحق ويؤدونه إلى من بعدهم، هذا الكلام صحيح، أنت تجد الآن في الحلقة خمسمائة أو ألفًا، يعني لو خرج منهم خمسين يكفي، يفون بحاجة الأمة، والله المستعان، نعم.

حدثنا أبو خيثمة قال: حدثنا الوليد بن مسلم قال: حدثني عبد الله بن العلاء قال: سمعت مكحولًا قال: "كنت لعمرو بن سعيد العاصي أو لسعيد بن العاص، فوهبني لرجل من هذيل بمصر، فأنعم عليَّ بها، فما خرجت من مصر حتى ظننت أنه ليس بها علم إلا وقد سمعته، ثم قدمت المدينة فما خرجت منها حتى ظننت أنه ليس بها علم إلا وقد سمعته، ثم لقيت الشعبي فلم أر مثله -رحمه الله-".

وهذا الأثر عن مكحول، وهؤلاء العلماء الأئمة، إبراهيم، والشعبي، وسعيد بن جبير، وأبو العالية، ومكحول، لهم قصص ولهم أخبار، على طالب العلم أن يعنى بها ويطلع عليها، في السير كثير من أخبارهم، يعني تنشط همة طالب العلم وتفتح له آمال وآفاق؛ لأنه كما يقول أهل العلم: بذكر الصالحين تتنزل الرحمات، فإذا قرأنا في كتبهم -في سيرهم وما دون عنهم- من أخبارهم نشطنا، نعم المعول على الكتاب والسنة، لكن هؤلاء تطبيق عملي للنصوص؛ لأنهم عملوا واقتدوا، ونفذوا، ائتمروا وانتهوا، فيستفاد من سيرهم.

هذا يقول -مكحول بن عبد الله الشامي- مكحول من يعرف من أوصافه شيئًا؟ أوصافه الخلقية؟

مكحول مولى، عبد يباع ويشرى، وإذا اطلعنا إلى بعض الأوصاف التي ذكرت سواءً كانت في خلقه أو في خلقه ومثله أو أشد من عطاء عرفنا أن الدنيا لا تساوي شيئًا، الإنسان يحرص على ثوبه باستمرار يصير مكويًّا ما فيه عرافيط ولا فيه شيء، أو شماغه أو ملبسه أو مركبه، هؤلاء خلقة فيهم عاهات، لكن ليست العبرة بالشكل، ((إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم))، يعني تصور شخصًا بمستشفى النقاهة محكوم عليه أنه ما هو طالع أبدًا إلا للمقبرة، فيه عاهات وفيه تعكفات وفيه أمور يعني..، يوجد من أهل العلم مثله في خلقته، ومع ذلكم على رؤوس الخلفاء يوضعون تاجًا، وهذا كان مولًى لعمرو بن سعيد بن العاص، أو لأبيه سعيد بن العاص.

يقول: فوهبني لرجل من هذيل: لرجل من هذيل، بمصر فأنعم عليَّ بها: يعني أنعم عليه بالحرية، أعتقه، ولا شك أن الرق مع ما جاء في فضله من النصوص، فيمن أدى حق الله وحق مواليه هذا له أجران، لكن يبقى أن الحرية لا يعدلها شيء، يتعبد على راحته، وينتقل من بلد إلى آخر، ويقضي وقته فيما يرضي الله -جل وعلا- يرتاح من خدمة المولى.

يقول: فأنعم علي بها، فما خرجت من مصر حتى ظننت أنه ليس بها علم إلا وقد سمعته: من عالم إلى عالم، من حلقة إلى حلقة، من كذا إلى كذا، أدرك كل علم المصريين.

ثم قدمت المدينة فما خرجت منها حتى ظننت أنه ليس بها علم إلا وقد سمعته: وهكذا ينبغي للإنسان أن يعنى بعلم أهل بلده، فإذا انتهى منهم ينتقل إلى بلد آخر، فإذا انتهى منهم ينتقل إلى بلد آخر، ليحصل ما عندهم من علم مما ليس عند أهل بلده.

يقول: ثم لقيت الشعبي: يقول: يكفيني علم مصر وعلم المدينة؟ لا، وقف على هذا الحبر –الشعبي- يقول: فلم أرَ مثله -رحمه الله-": ما السبب؟. السبب ما يفوته شيء، مثل ما تقدم أنه ما كتب سوداء على بيضاء، يحفظ، والحفظ لا علم إلا بحفظ، ما فيه علم إلا بحفظ، العلم الشرعي ما فيه بدون حفظ، نعم، العلوم التجريبية مبنية على العمل اليدوي أمرها سهل ما تحتاج إلى حفظ، إذا نظرت إلى الآلة وعرفت المسمار ومعك المفك عرفت، ما يحتاج حفرًا؛ ولذا الذين تعلموا قيادة السيارة، وتعلموا الهندسة وصناعة السيارات بالخبرة أفضل من الذين درسوها، فيه كتب تعليم قيادة السيارة، لكن ما الفائدة؟ وقل مثل هذا في الأمور العملية، عندك كتاب مجلد في تخريج الأحاديث ودراسة الأسانيد وكذا، هل هذا أفضل -الذي يحفظ هذا الكتاب- أو الذي يزاول بيده؟ لا، هذا يحتاج إلى مران، ويحتاج إلى عمل، لكن قال الله، وقال رسوله، لا بد من الحفظ، وهناك دعاوى مغرضة للصد عن العلم الشرعي، قضايا يزعمون أنها تربوية، يقولون: الحفظ يبلد الذهن، ما معنى هذا حفظ كتابًا، زاد في البلد نسخة، ثم ماذا؟ نقول: نعم يزيده نسخة، احفظ وافهم، وحرر ونقح ووجه واستنبط؛ هذا العلم. ثم لقيت الشعبي فلم أر مثله -رحمه الله-: نعم.

حدثنا أبو خيثمة قال: حدثنا الوليد بن مسلم قال: حدثني تميم بن عطية العنسي قال: سمعت مكحولًا يقول: "اختلفت إلى شريح أشهرًا فلم أسأله عن شيء؛ أكتفي بما أسمعه يقضي به".

وهذا أيضًا عن مكحول يقول: "اختلفت إلي شريح أشهرًا: شريح القاضي معروف من مشاهير القضاة، من الدهاة المعروفين في هذا الباب من أهل العلم، والنباهة، يقول: اختلفت إليه شهرًا، فلم أسأله عن شيء؛ أكتفي بما أسمعه يقضي به": ومثل شريح قاضٍ عالم مفتٍ، من جلس عنده ولو دقائق استفاد؛ لأن المجالس معمورة بما ينفع، ليست مجالس قيل ولا قال، تجلس عند العالم، وهذه طريقة كثير من العوام وأدركناهم يأتون يجلسون عند الشيخ يستفيدون، يستفيدون من المجالس -من مجالس الذكر، مجالس العلم، مجالس الشيوخ- والآن كثير من عوام المسلمين من كبار السن رجال ونساء صار عندهم معرفة ببعض المسائل الفقهية وبكثير من المسائل الفقهية أكثر من بعض من ينتسب إلى العلم وطلبه؛ بسبب مجالستهم لعلماء الآن، ما يقوم مقامهم، برنامج نور على الدرب تفتحه العجوز أو الشايب ويسمعون واستفادوا فوائد عظيمة، هذه مجالس معمورة بالخير والفضل.

مجلس شريح ماذا تتصورون، كم الأرض الفلانية، وكم المخطط الفلاني أين راح؟ لا ما فيه، ما فيه إلا علم، قضاء، إفتاء، حل مشاكل، مشورة، نصح، توجيه، إلى غير هذا.

فيقول: اختلفت إلى شريح أشهر فلم أسأله عن شيء؛ أكتفي بما أسمعه يقضي به: شريح هذا جاءه ولده وقال: إنه له مع آل فلان خصومة، يريد أن يعرضها عليه؛ ليختصر عليه الطريق إن كان له حق قال: هاتهم، وإلا تركهم، سمع القضية شريح قال: هاتهم، فلما مثلوا بين يديه ادعى عليهم، ماذا تقولون؟ قالوا: ما لك شيء، قال له: يا أبت أنا جئت قلت لك قبل، كنت أرحتني، ما نحضرهم، لا نتعب ولا نتعبهم، قال: لا، خليك من هنا، هنا مقاطع الحقوق، أنت لو قلت لك: ما لك شيء، رحت تصالحهم ولو على شيء يسير.

الآن بعض الناس يجزم أن ما في ذمته شيء، لكن بدل ما يجاب ويجبر المحكمة يدعى عليه المليون تقول: أعطيك عشرة آلاف وأعفيك، يعطيك عشرين!! صحيح، وهو ما هي شيء، يبغي يفدي نفسه ووقته وجهده، يعني لو قال: ما لك شيء، راح يصالحهم، والله المسألة محرجة، والقاضي هو الوالد وتعرفون المسألة إحراج، ما رأيكم نصلح، ويصلحون ولو على شيء يسير، هذا شريح وهذا قضاء شريح.

في الإسلام على مر العصور قضاة دهاة ممن يستطيعون الوصول إلى الحقوق بأيسر الطرق، وأسهل الأسباب، وما زلنا إلى وقتنا هذا نسمع عن النوابغ ما نسمع، وأخبارهم مدونة في الكتب، منها أخبار القضاة لوكيع معروف ثلاثة مجلدات مطبوع، نعم.

حدثنا أبو خيثمة قال: حدثنا الوليد بن مسلم قال: حدثنا سعيد بن عبد العزيز عن مكحول قال: "تواعد الناس ليلة من الليالي إلى قبة من قباب معاوية فاجتمعوا فيها، فقام فيهم أبو هريرة -رضي الله تعالى عنه- يحدثهم عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى أصبح": نعم وهذا الخبر يقول مكحول: "تواعد الناس ليلة من الليالي إلى قبة من قباب معاوية: قبة: خيمة، قبة من قباب معاوية، فاجتمعوا فيها: ليغتنموا فرصة وجود الصحابي الجليل حافظ الأمة أبي هريرة الذي حفظ عن النبي -عليه الصلاة والسلام- ما لم يحفظه غيره بسبب الدعوة النبوية، وبسبب وبركة بسط الرداء الذي أمره به النبي -عليه الصلاة والسلام-، كان يحفظ ولا ينسى، وأقرانه وإخوانه من كبار الصحابة ومتوسطيهم وصغارهم يشغلهم الضرب في الأسواق والشغل بالأموال وهو متفرغ للحفظ، حتى صار بحق حافظ الأمة، ولا يطعن فيه إلا عدو للإسلام؛ لأن الطعن في مثل أبي هريرة يريح العدو، يهدم به نصف الإسلام؛ ولذا تجدون الحملة على أبي هريرة من قبل المبتدعة أكثر منها على غيره؛ لأنه بالطعن في أبي هريرة يرتاحون من نصف ما يروى عن النبي -عليه الصلاة والسلام-، لكن ما فيه أحد طعن في أبي اللحم، أو أبيض بن حمال، أو الصحابة المقلين، ويتعبهم، يحتاج إلى الذي يطعن لألف شخص من أجل أن يعادل أبي هريرة، وقد دعا النبي -عليه الصلاة والسلام- أن يحببه إلى الأمة ويحبب الأمة إليه، فكان كل من رآه من أهل الفضل يحبه، ولا يبغض أبا هريرة إلا من كان في قلبه نفاق، نسأل الله السلامة والعافية.

ويذكر العلماء ويؤكدونها بأسانيد ثابتة أنهم كانوا في مجلس -تداولها أهل العلم هذه القصة- فتكلم شخص في أبي هريرة فنزلت حية من السقف فلدغته فمات.

اجتمعوا فيها، فقام أبو هريرة يحدثهم؛ لأنه أخذ العهد والميثاق على من كان عنده شيء من العلم أن يبلغه لغيره ولا يكتمه، نعم، وهذا له مجال، وذاك أيضًا التدافع له مجال، إذا وجد من يكفيه يحرص ألا ينسب إليه العلم، لكن إذا لم يوجد من يكفيه يحدث، ((بلغوا عني ولو آية)) -كما سيأتي- مأمور بالبلاغ، وقد أخذ الله -جل وعلا- الميثاق على أهل العلم بالبيان أن يبينوا للناس ما نزل إليهم.

قام فيهم أبو هريرة يحدثهم عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى أصبح": وقد حفظ عن النبي -عليه الصلاة والسلام- ما لم يحفظه غيره، فهذا المثال للعطاء، وتلك أمثلة للورع، وكلاهما مطلوب، لا نضرب هذا بهذا، الورع مطلوب في وقته، والبذل والعطاء والبيان مطلوب في وقته، مثل ما يحتاج إلى الحلم أحيانًا، ويحتاج إلى السيف أحيانًا، هذا لا يصح في موضع هذا ولا يصح في موضع هذا، لو أن أبا هريرة تورع ودفع من ينقل لنا هذه الأحاديث، من ينقل لنا؟ ما فيه أحد، ولو أن أولئك الأقوام من سلف هذه الأمة وخيارها ما ضربوا لنا أمثلة في الورع من يتوقف عن التحديث بكل شيء؟ ما يكون هناك خطام ولا زمام، السلف يحدثون، نحدث، لكن هذا صنيع أبي هريرة علاج لمن بخل بعلمه، وصنيع أولئك من الورع علاج لمن حدث بكل شيء، نعم.

حدثنا أبو خيثمة قال: حدثنا الوليد بن مسلم قال: حدثنا الأوزاعي عن مكحول قال: "إن لم يكن في مجالسة الناس ومخالطتهم خير فالعزلة أسلم".

العزلة والخلطة: جاءت النصوص بهذا وهذا، النصوص الصحيحة جاءت بالخلطة -مخالطة الناس- ونفع الناس والصبر على آذاهم، وشرعت الجمع والجماعات والأعياد والحج، كل هذا من أجل الخلطة وهي الأصل، لكن إذا خشي الإنسان على دينه فالسلامة لا يعدلها شيء، ((يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال، يفر بدينه من الفتن)) فبعض الناس المتجه في حقه المخالطة، وبعض الناس المتجه في حقه العزلة، والشراح من القرن الثامن وهم يقولون: والمتعين في هذه الأزمان العزلة؛ لاستحالة خلو المحافل من الجرائم والمعاصي، يعني مجتمعات الناس ما تسلم، فكيف بهم لو رأوا زمننا هذا؟!

العزلة لا شك أنها في حق بعض الناس متعينة، وفي حق آخرين ممنوعة، وفي حق أقوام فاضلة، وفي حق آخرين مفضولة، ومرد ذلك إلى التأثير والتأثر، فإن كان الشخص يستطيع أن يؤثر في الناس الخير ولا يتأثر بشرورهم هذا تعينت عليه الخلطة، يخالط الناس، أما إذا كان بالعكس يتأثر بشرورهم ولا يستطيع التأثير بهم، هذا يتعين في حقه العزلة، وبقية الناس سجال، يؤثر ويتأثر والحكم للغالب، وهنا يقول: "إن لم يكن في مجالسة الناس ومخالطتهم خير: إذا لم تستفد من الناس فالعزلة أسلم": إذا لم تكسب منهم خيرًا، وتجني منهم ثمرات تنفعك في دينك ودنياك، وإلا دينك دينك، الزم، كن خلف بيتك إن استطعت، وإن غشمك الناس ذهبت إلى بيتك وما استطعت أن تعتزل وإلا انتقل، والله المستعان، نعم.

حدثنا أبو خيثمة قال: حدثنا الوليد بن مسلم قال: حدثنا الأوزاعي عن حسان بن عطية.

حسان: مصروف أم غير مصروف؟

طالب: مصروف.

أو على الخلاف، كانت النون أصلية أو زائدة؟ هو من الحسن أو من الحس؟

طالب: من الحسن.

من الحسن أو من الحس؟

طالب: يقال من الحسن.

من الحسن أو من الحس؟

طالب: الظاهر أنه من الحسن.

من الحسن إذن النون أصلية فهو مصروف، مصروف نعم.

طالب:.......

حسان بن....، ما رأيكم بأبان؟

طالب:.......

نعم، لكن قالوا:.......

طالب:.......

أبان مصروف أم غير مصروف؟ هل هو من الإبانة أو من الإباء؟ إذا كان من الإبانة فهو مصروف، وإذا كان من الإباء -من الرفض- فهو ممنوع من الصرف؛ لأن النون زائدة، مثل حسان، ويقولون في هذا قبل ما يتكلم أحد يحرج، يقولون: من منع أبان فهو أتان، نعم، حسان من الحسن يصير مصروفًا، نعم، يقولون: من منع أبان فهو أتان، مع أن ابن مالك الإمام المعروف المشهور يمنعه من الصرف، نعم.

حدثنا أبو خيثمة قال: حدثنا الوليد بن مسلم قال: حدثنا الأوزاعي عن حسانِ بن عطية، قال:...

طالب: ما اتفقنا أنها النون أصلية يا شيخ؟

*(كلمة غير مفهومة )  أصلية يصرف، متى يمنع من الصرف؟ إذا كانت الألف والنون زائدة.

عن حسان بن عطية قال: حدثني أبو كبشة أن عبد الله بن عمرو -رضي الله تعالى عنهما- حدثه أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار)).

هذا الحديث مخرج في الصحيح، فيه الأمر بالبلاغ عن النبي -عليه الصلاة والسلام-، وفيه الرد على من يتورع عن نشر الخير وبذل الخير وتعليم الناس والبيان للناس.

((بلغوا عني ولو آية)): بأقل القليل، يعني من حفظ عن النبي -عليه الصلاة والسلام- شيئًا فليبلغه إلى غيره، هذا أمر، ولا يجوز الكتمان، لا بد من البلاغ، لكن إذا حصل ممن يكفي سقط عن الباقين.

((بلغوا عني ولو آية)): يعني ولو كان المبلَّغ آية، ولو آية واحدة، من حفظ شيئًا من القرآن أو من السنة يعلم غيره.

((وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج)): حدثوا عن بني إسرائيل، وفي بعض الروايات عند البزار: ((فإن فيهم الأعاجيب)) فإن فيهم الأعاجيب، والأخبار المتلقاة من بني إسرائيل وما يعرف بالإسرائيليات منها ما جاء ما يشهد له في شرعنا، مثل هذا لا تردد في أنه من شرعنا؛ لأنه جاء ما يشهد له في شرعنا فهو شرع لنا، ومنها ما جاء في شرعنا ما يرده، مثل هذا يرد، أما ما كان لا هذا ولا هذا، لم يأت في شرعنا ما يشهد له ولا ما يرده، هذا الذي قيل فيه: ((حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج)) هذا أمره سهل، وفيهم أعاجيب، وفيهم أخبار، وفيهم علوم، نعم؛ ولذا تجدون كتب التفسير محشوة بالإسرائيليات كتب التواريخ، كتب الأدب، مملوءة بالإسرائيليات، لكن الشأن في الإسرائيليات التي تخالف ما عندنا من شرع، هذه ترد ولا ينبغي تسويد الورق بها، أما الأخبار التي لا تحمل مخالفة لشرعنا وديننا فمثل هذه يحدث بها.

((ومن كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار)): وليس في هذا الحديث ما يدل على أن الإنسان يتلقى علومه ويعتمد على كتب الأمم الأخرى؛ لأن بعض الناس يقول: لماذا لا أقرأ التوراة، أقرأ الإنجيل، أقرأ أي كتاب يؤلفه أي شخص، بنو إسرائيل وهم مخالفون وأمرنا بمخالفتهم، لماذا لا نقرأ الكتب؟ هنا نقول: انظر، استفد، تطلع، السخاوي له كتاب اسمه (الأصل الأصيل في ذكر الإجماع على تحريم النقل من التوراة والإنجيل) والمراد بهذا ليس المراد به مجرد التحديث للإخبار وللتسلية مثل ما هنا، لا، إذا كان المقصود به العمل؛ ولذا غضب النبي -عليه الصلاة والسلام- على عمر لما رأى في يده قطعة من التوراة، نعم، الدين لا يخلط بغيره، لكن إذا كانت المسألة مجرد حكايات وهذه الحكاية والقصة ما في شرعنا ما يردها، ما فيه ما يمنع من أن تذكر وتتناقل.

((ومن كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار)): يتخذ له مقعدًا من النار، يختار له مقعدًا من النار، وهذا وعيد شديد لمن يتعمد الكذب على النبي -عليه الصلاة والسلام-، الكذب على النبي -عليه الصلاة والسلام- موبقة من الموبقات، حتى صرح بعضهم –كالجويني- بكفر من يتعمد الكذب على النبي -عليه الصلاة والسلام-، لكن عامة أهل العلم على أنها كبيرة من كبائر الذنوب ولا يكفر كغيرها من المعاصي.

والخلاف في قبول توبة الكذاب معروفة عند أهل العلم، منهم من يرى أن توبته لا تقبل، ليس معنى أنها لا تقبل عند الله -جل وعلا-، إذا جاءت بشروطها ما فيه ما يمنع من قبولها، وليست بأعظم من الشرك، لكن المقصود في رواية الكذاب إذا تاب، هل تقبل روايته أو لا تقبل؟ هذا محل الخلاف.

((من كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار)): وهذا قدر من الحديث متواتر معروف مقطوع به عند أهل العلم، نعم.

حدثنا أبو خيثمة قال: حدثنا جرير عن الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق قال: "بحسب امرئ من العلم أن يخشى الله وبحسبه جهلًا أن يعجب بعلمه".

نعم هذا تقدم فيما مضى، يكفي المرء من العلم ما يوصله إلى الخشية؛ لأنه كلما كان أخشى لله كان علمه أكثر وأعظم وأنفع، والنبي -عليه الصلاة والسلام- هو أتقى الناس وأعلمهم بالله وأخشاهم، ولا شك أن من كان بالله أعرف كان منه أخوف، والعلم الذي لا يقود إلى الخشية والخوف من الله -جل وعلا- ولا يحمل على العمل الصالح فليس بعلم.

وبحسبه جهلًا أن يعجب بعلمه: يعجب بنفسه، يعجب بنطقه، يعجب بعرضه، يعجب بنفسه، يزدري غيره، يكفيه، هذا جاهل؛ لأنه إذا جهل نفسه كان بغيره أجهل، نعم.

حدثنا أبو خيثمة قال: حدثنا يحيى بن يمان قال: حدثنا الأعمش عن إبراهيم قال: "كان عبد الله لطيفًا فطنًا".

نعم عبد الله بن مسعود الصحابي الجليل كان -رضي الله عنه وأرضاه- لطيفًا فطنًا؛ لأن بعض الناس إذا ألين له الكلام وتلطف معه اتهم هذا بالغفلة، لا ما يلزم، ما يلزم، قد يكون الإنسان لطيفًا ولبقًا ويتحبب إلى الناس، ويتودد إليهم، ويتألفهم، ومع ذلك من أذكى الناس وأفطنهم، ومن هؤلاء ابن مسعود -رضي الله عنه وأرضاه- لطيف يحسن التعامل مع الناس.

وبعض اللئام يتصور الناس مثله، هو لئيم ويدعي الفطنة والحذق، فيقرن هذا بهذا، فإذا انتفى اللؤم عند شخص من الأشخاص وصار قلبه طيبًا سليمًا صافيًا قال: هذا مغفل مسكين، ولا يدري المسكين أنه هو المسكين.

وبعض الناس مجبول على مثل هذه الأمور بحيث لو قيل له: السلام عليكم، قال: هذا خائف مني، هذا أكيد أنه خائف مني، لا يا أخي، هذا يريد ما عند الله -جل وعلا-، هذا أذكى منك؛ لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((خيرهم الذي يبدأ بالسلام)) وأفطن منك، لكن القلوب مدخولة، الآن ما تجد قلبًا إلا في القليل النادر سليم مثل سلامة قلوب السلف والصحابة على وجه الخصوص، يأتي الشخص إلى الآخر يهديه ابنته، ما يشك أنه ناصح لكن لو جاء شخص لواحد من طلاب العلم قال: ترى عندنا واحدة تصلح لك، ماذا يقول؟ يقول: هذا ناصح ومتخير أو مقتدٍ؟ لا، يقول: لولا أن فيها عيب ما عرضها على الناس، اتركه عنك، يمكن أنه مهديها لعشرين قبلي، ما فيه قلب سليم يتعامل مع الخلق على ما أمر به، كما كان السلف يتعاملون به؛ ولذلك يحتاج الإنسان إذا أراد أن يسلك هذه المسلك يتحايل، يقول: والله أنا ودي بفلان يصير نسيبًا لي لكن بطريقتك دقق، بحيث لا يشعر أني  قلت لك، وما الداعي وما الذي يحد الناس إلى هذا الأمر إلا أن القلوب مدخولة، رانت عليها الذنوب، فنسأل الله السلامة والعافية، {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ* إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [(88 - 89) سورة الشعراء]، فالمعول على هذا الأمر، نعم.

حدثنا أبو خيثمة قال: حدثنا جعفر بن عون قال: حدثنا الأعمش عن مسلم بن صبيح عن مسروق قال: قال عبد الله: "لو أن ابن عباس أدرك أسناننا ما عاشره منا أحد قال: وكان يقول: نعم ترجمان القرآن ابن عباس -رضي الله عنه-".

يقول: حدثنا أبو خيثمة قال: حدثنا جعفر بن عون قال: حدثنا الأعمش عن مسلم بن صبيح: هو أبو الضحى السابق -في السند السابق- نعم، عن الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق، هو مسلم بن صبيح عن مسروق قال: قال عبد الله: هذا ابن مسعود: "لو أن ابن عباس أدرك أسناننا ما عاشره منا أحد: يعني ابن مسعود من كبار الصحابة، من الكبار، بينما ابن عباس من صغارهم، يقول: لو كان قرينًا لنا، لو أدرك ما أدركنا -ما أدركناه- من أول حياة النبي -عليه الصلاة والسلام- إلى آخرها ما عاشره منا أحد، فاق، ما صار قرينًا لنا ولا نحن بحوله ولا إليه، على صغره أدرك ما لم يدركه الكبار، فـ "لو أن ابن عباس أدرك أسناننا ما عاشره منا أحد قال: وكان يقول: "نعم ترجمان القرآن ابن عباس": هو ترجمان القرآن، وهو حبر الأمة، ودعا له النبي -عليه الصلاة والسلام- أن يعلمه التأويل وأن يفقهه في الدين فاستجيبت الدعوة؛ ولذا أقواله أكثر ما يدور في كتب التفسير من أقوال الصحابة أقوال ابن عباس، أكثر من غيره، هو أكثر من غيره رغم صغر سنه، عمره يوم وفاة النبي -عليه الصلاة والسلام- ثلاثة عشرة سنة، ما احتلم، يناهز الاحتلام ولما يحتلم.

المقصود أن ابن عباس أدرك ما لم يدركه الكبار، رغم حداثته وصغر سنه، وكان عمر -رضي الله عنه- يجلسه مع الكبار، فيغار بعض الكبار؛ لأن لهم أولاد في سنه حدثاء مثله، فلماذا لا يجلسون، فاختبرهم واختبره عمر -رضي الله عنه- فأدرك الناس السبب، نعم.

حدثنا أبو خيثمة قال: حدثنا محمد بن عبيد عن الأعمش عن مسلم عن مسروق قال: قال عبد الله: "إن من العلم أن يقول الذي لا يعلم: الله أعلم".

نعم يقرر أهل العلم أن مقالة من لا يعلم عن حكم مسألة ما الله أعلم، نصف العلم، نصف العلم، والذي لا يقول: الله أعلم فيرد العلم إلى مصدره هذا تصاب مقاتله، الذي لا يقول: لا أدري، هذا لا شك أنه لا بد أن يقع في خطأ، فعلى الإنسان إذا شك في مسألة ما أن يقول: الله أعلم، وهذا لا يغيظه بل تزيده رفعه، والكبار قالوا: الله أعلم، مالك قال: لا أعلم، لا أدري، والإمام أحمد يقولها كثيرًا، وهذه سمة السلف الصالح، والصحابة كثيرًا ما يسألهم النبي -عليه الصلاة والسلام- فيقولون: الله ورسوله أعلم، يكلون العلم إلى عالمه.

فعلى الإنسان أن يكثر منها، وإذا كان لا يدري يقول: الله أعلم، ما المانع، الله أعلم، وهل ينقصه شيء؟ لا ينقصه شيء، يعني حتى لو قدر أنه موظف معين من قبل ولي الأمر لإفتاء الناس، هل يلزمه أن يفتي في كل مسألة؟ ما يلزمه، هو وظف وولي على أن يفتي بما يعلم، توقع عنده من العلم ما يفتي به الناس فلا يلزم، والأجرة ليست على كل فتوى بعينه، الذي يقول: إن هذه المسألة أخذت معناها مقابل لا، أنت عينت في هذا الأمر لما عندك من مجموع علم يمكن أن تمشي به حاجة بعض الناس، ما يلزم أن يكون جميع الناس، ولا يتصور في شخص مهما بلغ من العلم أن يجيب في كل ما سئل، أبدًا، إن أجاب في كل مسألة دليل على جهلة، ودليل على عدم ورعه ولا احتياطه، ومن أهم شروط المفتي الورع.

وليس في فتواه مفت متبع

 

ما لم يضف للعلم والدين الورع

لأن الذي لا يتورع لا يؤمن أن يفتي الناس بجهل، لا يؤمن أن يفتي الناس بهوى، والله والمستعان نعم.

حدثنا أبو خيثمة قال: حدثنا وكيع عن الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق قال: "ما نسأل أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- من شيء إلا علمه في القرآن، إلا أن علمنا يقصر عنه".

الله -جل وعلا- يقول: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} [(38) سورة الأنعام] كل شيء في القرآن، ما من مسألة تمر إلا وجوابها في القرآن، علمها من علمها، وجهلها من جهلها، لكن العلوم الأخرى، يحتاج إليها لفهم القرآن، وتوضيح القرآن، وتفسير القرآن، فالسنة التي فيها الأدلة التفصيلية على المسائل الشرعية هي تفصيل لما جمل في القرآن، وتوضيح لما أبهم في القرآن، فما من شيء نسأل عنه أصحاب النبي -عليه الصلاة والسلام- إلا كان علمه في القرآن، وطالب العلم في كل يوم لا سيما المتابع، في كل يوم يتكشف له من عجائب القرآن وغرائب القرآن ما لا يخطر على البال، ينزل عالم بالاستدلال للمسألة من آية شيئًا خفي على كثير من أهل العلم، من أين جابه هذا، هذا بتوفيق الله -جل وعلا- ثم بركة هذا الكتاب العظيم، فعلينا أن نعنى بالقرآن، ونهتم بالقرآن، نحفظ القرآن، نقرأ القرآن، نتدبر القرآن، نعمل بالقرآن، نتدارس القرآن، نتذاكر القرآن، نعنى بما يعين على فهم القرآن.

ومع الأسف أنه ينظر الآن إلى المتخصصين في القرآن وعلوم القرآن إلى أنهم كغيرهم كمن يتخصص في الفقه أو يتخصص في التاريخ أو يتخصص في الأدب، أو تخصص من هذه التخصصات، لكن لو أدركنا حقيقة القرآن وما يحويه القرآن من علم لكانت نظرتنا إلى أهل القرآن غير النظرة التي نراها الآن، نعم قد يوجد ممن يحمل القرآن نماذج تسيء، يعني يحفظون القرآن، ويتغنون بالقرآن، ويؤدون القرآن، الحروف من مخارجها بالتجويد، بالقواعد المعروفة، لكن تجدهم عن العمل أقل، بل قد وجد من يقصر في الواجبات ويرتكب بعض المحرمات، وهو يحمل كلام الله -جل وعلا-، فجعل نظرة بعض الناس إلى أهل القرآن من هذه الزاوية، لكنها نظرة قاصرة؛ الأصل في حامل القرآن أنه متميز عن غيره؛ ((إن الله ليرفع بهذا القرآن أقوامًا ويضع به آخرين)) لا شك أن لهم ميزة أهل القرآن، لهم ميزة، نعم العلماء لهم منازل، لكن ما يتصور أن عالمًا ليست له يد في القرآن، أو لا يعتني بالقرآن أو لا يهتم بالقرآن، لا يمكن أن يسمى عالمًا وهو لا يد له في القرآن، وليست له عناية بالقرآن، ما قلنا: إن العصر عصر تخصص صاحب الفقه لا يفتح القرآن، ما هو بصحيح، المتخصص في السنة لا يقرأ القرآن، ما هو بصحيح، القرآن للجميع، ومن خصه بمزيد العناية لا شك أنه يبين فضله، وتظهر مزيته على الناس، والله -جل وعلا- ((يرفع بهذا القرآن أقوامًا، كما في الحديث الصحيح، ويضع به آخرين)) كيف يرفع به؟

يرفع من اهتم به، واعتنى بشأنه، احترم القرآن، عمل بالقرآن، تدبر القرآن، لكن من أعرض عن القرآن، {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [(124) سورة طـه]، فلا يمكن أن يوجد شخص يتسمى بالعلم، أو ينوي طلب العلم، أو ينتسب إلى العلم ليست له قدم راسخة في القرآن وما يتعلق بالقرآن.

القرآن هو المتعبد بتلاوته، مجرد ما تفتح المصحف وتقرأ تؤجر على ذلك، كل حرف عشر حسنات، لكن لو فتحت البخاري وأنت لا تريد التفقه، بس مجرد أنك تقرأ، تؤجر؟ ما تؤجر، وهو البخاري وكلام النبي -عليه الصلاة والسلام-، لكن المتعبد بتلاوته لذات التلاوة هو كلام الله -جل وعلا-، ((من قرأ القرآن، فله بكل حرف عشر حسنات، لا أقول: ألم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف)) يعني ألف لام ميم فيها ثلاثون حسنة، والختمة الكاملة كما هو معروف فيها ثلاثة ملايين حسنة، ولا يترك قراءة القرآن إلا محروم، محروم بيِّن الحرمان، يعني إذا شغلنا بالصحف والمجلات والقنوات والتحليلات هذا وبال على الإنسان، يعني إذا رأيت الإنسان يتتبع هذه الأمور وهو يغفل عما خلق من أجله اعرف أنه محروم مفلس.

فعلينا جميعًا أن نعنى بكتاب الله -جل وعلا- نتدارس القرآن نتدبره، نحفظ القرآن وهذا من أهم المهمات، ونعنى بالقرآن قراءة بعد الحفظ بالتدبر والترتيل، وقراءة القرآن على الوجه المأمور به، كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: تعطي القلب من اليقين والإيمان والطمأنينة ما لا يدركه إلا من فعله.

ابن القيم يقول:

فتدبر القرآن إن رمت الهدى

 

فالعلم تحت تدبر القرآن

 ما فيه علم أبدًا إلا من خلال قال الله، قال رسوله، والسنة منزلتها من القرآن معروفة، مبينة للقرآن، موضحة للقرآن، مفسرة للقرآن، وإلا فالأصل كلام الله، المحفوظ السالم من الزيادة والنقصان، نعم.

حدثنا أبو خيثمة قال: حدثنا جرير عن الأعمش عن سالم بن أبي الجعد قال: قال أبو الدرداء -رضي الله تعالى عنه-: "معلم الخير والمتعلم في الأجر سواء، وليس في سائر الناس خير بعد".

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: حدثنا أبو خيثمة قال: حدثنا جرير عن الأعمش عن سالم بن أبي الجعد قال: قال أبو الدرداء: سالم لم يدرك أبا الدرداء، فالسند منقطع، يقول فيما يروى عنه: "معلم الخير والمتعلم في الأجر سواء: يعني في جنس الأجر سواء؛ لأن المتعلم مأجور، والمعلم مأجور، وهذا لا إشكال فيه، يعني في جنسه، وإن لم يتحدا في مقداره؛ لأن المتعلمين يتفاوتون، والمعلمون يتفاوتون فكيف بالمعلم مع المتعلم؟ لكنه في جنس الأجر كلهم مأجورون، وأما بالنسبة لسائر الناس يقول: وليس في سائر الناس خير بعد": يشهد لهذا الحديث -وهو في الترمذي وغيره-: ((الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه، أو عالمًا أو متعلمًا)) يعني ما عداها لا خير فيه، لكن هل عوام المسلمين لا خير فيهم؟ فيهم خير، بقدر ما عندهم من دين وفضل، وهذا تقدم تقريره في حديث: ((من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين)) فهل مفهومه أن من لم يرد الله به خيرًا لا يفقهه في الدين؟ معناه أنه أراد به شرًّا؟ تقدم تقرير أن هذا المفهوم ليس بالمراد، وإنما عنده من الخير بقدر ما عنده، أما بالنسبة للخير المتعلق بالفقه فلا يكون إلا لمن تفقه في الدين، وهذا مثله، نعم.

حدثنا أبو خيثمة عن الأعمش عن سالم بن أبي الجعد عن ابن لبيد قال: "ذكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيئًا قال: ((وذاك عند أوان ذهاب العلم))، قالوا: يا رسول الله وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن ونقرئه أبناءنا ويقرؤه أبناؤنا أبناءهم؟ قال: ((ثكلتك أمك ابن أم لبيد، أو ليس هذه اليهود والنصارى يقرؤون التوراة والإنجيل لا ينتفعون منها بشيء؟)).

يقول -رحمه الله تعالى-: حدثنا أبو خيثمة عن الأعمش عن سالم بن أبي الجعد عن ابن لبيد قال: "ذكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيئًا": شيئًا من أمر من الأمور، وقال: إن هذا الشيء إنما يكون عند أوان ذهاب العلم، يذهب العلم والمصادر موجودة؟ يذهب، نعم والمصادر موجودة، ويذهب العلم بذهاب العلماء وبقبضهم ((حتى لم يبق عالمًا اتخذ الناس رؤوسًا جهالًا))، والكتب موجودة والقرآن موجود والسنة موجودة لكن مثل هؤلاء ما أفادوا من هذه المصادر، إنما تلقفوا علومهم من غيرها، فبقوا على جهلهم.

((وذاك عند أوان ذهاب العلم)) قالوا: يا رسول الله وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن؟: تقرءون القرآن، لكن لا على الوجه المأمور به، ونقرؤه أبناءنا: كذلك هو مجرد قراءة من غير تدبر ولا تفهم، ولا تفكر، ولا محاولة استنباط، هذه حال كثير من الناس، لا يستفيد من القرآن كما ينبغي.

ويقرؤه أبناؤنا أبناءهم؟: يعني تواتر العمل والتوارث موجود في الأمة إلى رفع القرآن، وتواتر العمل والتوارث والقرآن، وقراءة القرآن موجودة، فهؤلاء يتوارثونه عن آبائهم، وأولئك عن آبائهم، وأولئك عن آبائهم، لكن الإفادة منه تتفاوت، وكل له ما يكتب له من هذا العلم وهذا الخير، وهذا الفضل.

 قال: ((ثكلتك أمك ابن أم لبيد، أو ليس هذه اليهود والنصارى يقرؤون التوراة والإنجيل)): عندهم كتب، ((لا ينتفعون منها بشيء)): فالإنسان لا يستطيع أن ينتفع إلا إذا قدر الله له ذلك، وأتى الأمور من أبوابها، أما إذا..، ولو أكثر القراءة، من الناس من يقرأ السنين بل العقود ولا يستفيد شيئًا؛ لأن الله -جل وعلا- لم يكتب له إفادة، سواءً كان بسببه أو كان خارجًا عن إرادته، لكنه مع النية الصالحة إذا كان خارجًا عن إرادته يكتب له أجر سلوك الطريق، لكن من الناس من يقرأ السنين الطويلة وهو مؤهل، ومع ذلك لا يدرك شيئًا؛ لأنه يتخبط، مرة يقرأ كذا، ومرة يقرأ كذا، ويقرأ كلام، ويقرأ نقيضه، ويقرأ ضده، وينشغل بغير شاغل، وتشغله الملهيات وتشغله المصادر المشبوهة، وينشغل بذلك عن الكتاب والسنة، ثم بعد ذلك لا يكتب له شيء من العلم، فعلى الإنسان أن يلزم الجادة المعروفة عند أهل العلم فيأخذ العلم من مصادره وعن أهله على الجواد والطرق المعروفة المرتبة عند أهل العلم، بالرفق واللين والنصح له لنفسه ولغيره من أقرانه، وبذل الخير والفضل لأحبابه ومعارفه، ومن يستطيع بذله لهم، نعم.

حدثنا أبو خيثمة قال: حدثنا جرير عن قابوس عن أبيه قال: قال ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما-: "أتدرون ما ذهاب العلم من الأرض؟ قال: قلنا: لا، قال: أن يذهب العلماء".

الحديث حديث ابن لبيد صححه الشيخ الألباني -رحمه الله تعالى- وقال: رجاله رجال الشيخين، ثقات، وسماع سالم بن مجاهد عن ابن لبيد، يعني عدم سماعه من أبي الدرداء هاذ مفروغ منه، لكن سماعه من ابن لبيد هذا مختلف فيه، وعلى كل حال الحديث معناه صحيح، ما فيه إشكال.

الحديث الذي يليه: حدثنا أبو خيثمة قال: حدثنا جرير عن قابوس عن أبيه قال: قال ابن عباس: "أتدرون ما ذهاب العلم من الأرض؟ قال: قلنا: لا، قال: أن يذهب العلماء": هذا الحديث موقوف على ابن عباس وفي معناه الحديث الصحيح المتفق عليه: ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من صدور الرجال، بل يقبض العلم بقبض العلماء)) بقبض العلماء، إنما يذهب العلم بذهاب العلماء، فإذا ذهب الأخيار فالخير أدبر، إذا ذهب العلماء انتهى العلم؛ لأنه لا علم إلا من طريقهم؛ لأن العلم في بطون الكتب، لكن هل بطون الكتب تنطق، هل بذاتها تدخل في قلوب الرجال؟ لا، إنما يثيرها العلماء من بطون الكتب، والمسألة مفترضة في ذهاب أهل العلم ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من صدور الرجال، ولكن يقبضه بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالمًا اتخذ الناس رؤوسًا جهالًا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا)) هذا متى؟ هذا إذا ذهب العلماء، وأنتم أدركتم شيئًا من هذا النموذج، وإن كان العلم موجود وأهل العلم موجودون، لكن توفي بعض العلماء الذين يشار إليهم بالبنان من كبار علماء الأمة، ثم بعد ذلك انفتح المجال لغيرهم لمن يفتون خلال الوسائل والقنوات والصحف والمجلات، نعم، وكثير منهم ليس بأهل لأن يفتي، ويبقى أن عندنا -ولله الحمد- من أهل العلم والعمل من تقوم بهم الحجة، ويحفظ الله بهم الدين، موجودون، لكن انفتح الباب على مصراعيه، وتعددت الوسائل، وأتيحت الفرص لغير أهل العلم،  فصاروا يفتون الناس بغير علم، والله المستعان، نعم.

حدثنا أبو خيثمة قال: حدثنا جرير عن العلاء عن حماد عن إبراهيم قال: قال عبد الله: "اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم، وكل بدعة ضلالة".

نعم هذا من كلام عبد الله بن مسعود موقوفًا عليه: "اتبعوا ولا تبتدعوا": "اتبعوا": شرط لصحة كل عبادة أن تكون متبعًا فيها النبي -عليه الصلاة والسلام- فالإخلاص هو الشرط الأول، والمتابعة للنبي -عليه الصلاة والسلام- هو الشرط الثاني، {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [(2) سورة الملك]، قال الفضيل بن عياض: "أحسن العمل أخلصه وأصوبه، قيل يا أبا علي: ما أخلصه وما أصوبه؟ قال: إذا كان العمل صوابًا غير خالص لم يقبل، وإذا كان خالصًا ليس بصواب -على السنة- لم يقبل" فلا بد من الاتباع، وكل بدعة ضلالة.

"اتبعوا ولا تبتدعوا": لا تحدثوا في الدين ما لم يسبق له مشروعية من كتاب الله وسنة نبيه -عليه الصلاة والسلام-.

"اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم": نعم الإسلام دين ليس بحاجة إلى ترويج مروج وإلا مزيد وإلا نقص، لا، لا يقبل.

الدين كامل وشامل ومحفوظ من الزيادة والنقصان، فليس بحاجة إلى بدع تلصق به، أو إلى أخبار تلحق به، فكفينا هذا الأمر، فعلينا أن نستثير ما في كتاب الله وسنة نبيه -عليه الصلاة والسلام- من علم ويكفينا هذا، وفيه غنية، ومن لم يكفه القرآن والسنة فلا كفاه الله، من لم يهتد بالقرآن، فلا هداه الله، نعم.

"وكل بدعة ضلالة": جاءت في الحديث الصحيح ((كل بدعة ضلالة))، وجاء أيضًا في السنن: ((وكل ضلالة في النار))، كل بدعة ضلالة، كل شيء مبتدع في الدين لم يسبق له شرعية من الكتاب والسنة فهو ضلالة، وهذا فيه رد على من يقسم البدع إلى محمودة ومذمومة، بدع حسنة، وبدع سيئة، بل منهم من قال: إن من البدع ما هي بدع واجبة، ومنها ما هي بدع مستحبة، ولكن يرده عموم هذا الحديث ((وكل بدعة ضلالة)).

 

اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك.