شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (088)
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، محمد وآله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة والأخوات السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أهلاً بكم إلى حلقة جديدة ضمن برنامجكم: شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح.
مع مطلع حلقتنا نرحب بصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور: عبد الكريم بن عبد الله الخضير، عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، أهلاً بكم شيخ عبد الكريم.
حياكم الله وبارك فيكم وفي الإخوة المستمعين.
المقدم: لازلنا مع الإخوة المستمعين في باب سؤال جبريل النبي –صلى الله عليه وسلم- عن الإيمان والإسلام والإحسان من خلال حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
لعلنا نستكمل ما تبقى من هذا الحديث.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
في ألفاظ الحديث يقول أبو هريرة -رضي الله عنه-: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يومًا بارزًا للناس" كان النبي -صلى الله عليه وسلم-، وفي رواية: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "يومًا" يعني من الأيام، "بارزًا للناس" أي ظاهرًا لهم، غير محتجب عنهم، ولا ملتبس بغيره، والبروز: الظهور، قال ابن سيده: برز يبرز بروزًا، وخرج إلى البَراز وهو الفضاء، وبرَّزه إليه وأبْرَزه، وكلُّ ما ظهر بعد خفاء فقد بَرَز، قال الله تعالى: {وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً} [سورة الكهف 47] قال الهروي: أي ظاهرة ليس فيها مستظل ولا متفيَّأ، وفي رواية أبي داود: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يجلس بين أصحابه، فيجيء الغريب فلا يدري أيهم هو؟ فطلبنا إليه أن نجعل له مجلسًا يعرفه الغريب إذا أتاه، قال: فبنينا له دكانًا من طين كان يجلس عليه، يعني مرتفع، بمثابة الكرسي يجلس عليه النبي -عليه الصلاة والسلام-، لكنه من طين، واستنبط منه القرطبي استحباب جلوس العالِم بمكان يختص به، ويكون مرتفعًا إذا احتاج لذلك لضرورة تعليم ونحوه، ليس معنى أنه يترفَّع على الناس، ويتعالى عنهم، ويجلس في مكان مرتفع، والناس في منخفض، هذا إذا احتيج إليه، وإلا هو كغيره من الناس.
يقول: استنبط منه القرطبي استحباب جلوس العالِم بمكان يختص به، ويكون مرتفعًا إذا احتاج لذلك، لضرورة تعليم ونحوه.
"فأتاه رجل" أي ملَك في صورة رجل، وفي إرشاد الساري...
المقدم: التلبُّس بالغير -أحسن الله إليك- ألفاظ يستخدمونها العرب كثيرًا، يريدون بها أن يكون مختبئا خلف شخص؟ لو قالوا: غير مُلْتَبِس به بغيره يعني؟
لا، غير مشتبه، غير مشتبه لا يلتبس الأمر، لا يخفى على غيره، لا يشتبه بغيره، يكون بارزًا واضحًا لا يلتبس بغيره، يعني لا يشتبه بغيره، يزول فيه اللبس بحيث يزول اللبس وهو الاشتباه.
المقدم: لكن ما يمكن أن يقول يعني الاتحاد بمكان أو الاختفاء خلفه، أو قد يكون قريبًا منه بحيث لا يُعرف مثل: {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} [سورة البقرة 187]؟
هو الالتباس هو نتيجة الامتزاج والاختلاط، يعني كونه بجانبه من غير شيء يميزه يلتبس به عند من لا يعرفه.
"فأتاه رجل" أي ملك في صورة رجل، وفي إرشاد الساري ذكر رواية في هامش الأصل ذُكرت: فأتاه جبريل بدل رجل، فأتاه جبريل في مكان أتاه رجل، يعني فُسِّر المبهَم بجبريل، وفي التفسير للمصنِّف: إذ أتاه رجل يمشي، التفسير يعني من كتاب الصحيح من البخاري، في كتاب التفسير من صحيح البخاري: إذ أتاه رجل يمشي، وفي رواية أبي فروة: فإنا لجلوس عنده إذ أقبل رجل أحسن الناس وجهًا، وأطيب الناس ريحًا، كأن ثيابه لم يمسها دَنَس، ولمسلم من حديث عمر -رضي الله عنه-: بينما نحن ذات يوم عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، وفي رواية ابن حبان: سواد اللحية، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وفهم الضمائر هنا: أسند ركبتيه إلى ركبتيه، ركبتي هذا الرجل إلى ركبتي النبي -عليه الصلاة والسلام-، ووضع كفيه على فخذيه.
المقدم: له هو.
فخذي نفسه أو فخذي النبي -عليه الصلاة والسلام-؟
المقدم: فخذي نفسه.
فخذي نفسه، يعني كهيئة المصلي، كما جاء في بعض الروايات، كهيئة المصلي، لكن في حديث ابن عباس وأبي عامر: ثم وضع يده على ركبتي النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأفادت هذه الرواية أن الضمير في قوله: "على فخذيه" يعود على النبي -عليه الصلاة والسلام-، وبه جزم البغوي وإسماعيل التيمي لهذه الرواية، ورجَّحه الطيبي بحثًا، يعني من خلال تفسير الضمائر فقط، ولم يقف على هذه الرواية، مجرد بحث.
ورجحه الطيبي بحثًا لأنه نسق الكلام خلافًا لما جزم به النووي ووافقه التُّرْبِشْتِي؛ لأنه حمله على أنه جلس كهيئة المتعلم بين يدي من يتعلم منه، وهذا لا يناسب أن يأتي المتعلم يضع يديه على فخذي المعلم، نعم هذا جزم به النووي ووافقه التُّرْبِشْتِي، معروف التُّرْبِشْتِي أو ما هو معروف؟ شارح ماذا؟
المقدم: له شرح على البخاري.
له شرح على البخاري أو على المصابيح؟
المقدم: المصابيح.
نعم.
لأنه حمله على أنه جلس كهيئة المتعلِّم بين يدي من يتعلَّم منه، لكن حديث ابن عباس وأبي عامر الأشعري، ثم وضع يديه على ركبتي النبي -عليه الصلاة والسلام-، هذه تفسِّر، الرواية تفسَّر بالرواية الأخرى، وهذا يكون مبالغة في التعمية، جاء في رواية سليمان التيمي حتى برك بين يدي النبي -عليه الصلاة والسلام- كما يجلس أحدنا في الصلاة، مقتضى هذه الرواية أو ظاهرها يدل على أن يديه على فخذي نفسه، لكن الرواية الأخرى أصرح منها، كما أنه قد يجلس كهيئة المصلي بالنسبة للرجلين، أما اليدين ما تلزم المطابقة التامة، جلس كهيئة المصلي بالنسبة لرجليه حيث افترش كما يجلس المصلي، لكن يديه وضعهما على فخذي النبي -عليه الصلاة والسلام-.
يقول ابن حجر: الظاهر أنه أراد بذلك المبالغة في تعمية أمره ليقوى الظن بأنه من جفاة الأعراب، ولهذا تخطى الناس حتى انتهى إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولهذا استغرب الصحابة صنيعه؛ ولأنه ليس من أهل البلد، وجاء ماشيًا ليس عليه أثر سفر، كل هذا مبالغة في التعمية؛ لئلا يُعرَف.
فإن قيل: كيف عرف عمر -رضي الله عنه- أنه لم يعرفه أحد؟ يعني جاء في حديث عمر في مسلم: ولا يعرفه منا أحد، لو قال: ولا أعرفه، حكم على نفسه واضح هذا، لكن كونه يحكم على غيره، ولا يعرفه منا أحد.
فإن قيل: كيف عرف عمر -رضي الله عنه- أنه لم يعرفه أحد منهم؟ أجيب بأنه يحتمل أن يكون استند في ذلك إلى ظنه؛ لأنه ما دام ما عرفه هو، غيره ما يعرفه، أو إلى صريح قول الحاضرين، الحاضرين قالوا: ما نعرفه، قلت، هذا كلام ابن حجر: وهذا الثاني أولى، فقد جاء كذلك في رواية عثمان بن غياث، فإن فيها: فنظر القوم بعضهم إلى بعض فقالوا: ما نعرف هذا، هذا تصريح، إذًا كيف يأتي بالاحتمالات مع وجود الكلام الصريح؟ يأتي بالاحتمالات لأنها قيلت، يأتي بالاحتمالات التي يحتملها اللفظ وقيل بها، ثم يرجِّح ما يراه بدليله.
وللحديث سبب، فقد روى مسلم من رواية عمارة بن القعقاع قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «سلوني» فهابوا أن يسألوه، قال: فجاء رجل... الحديث، فقال: يا رسول الله كما في التفسير للمصنِّف، ولمسلم أيضا قال ذلك بعدما سلَّم، كما في رواية أبي فروة، ولم يذكر السلام هنا اكتفاءً بنقل بعض الرواة، وفي بعض الروايات: يا محمد، باسمه كنداء الأعراب تعمية لحاله.
قال ابن حجر: ويجمع بين الروايتين "يا رسول الله" "ويا محمد" لأنه بدأ أولاً بندائه باسمه لهذا المعنى، للتعمية، ثم خاطبه بقوله: يا رسول الله.
لكن أقول أنا: يحتمل أنه ناداه باسمه لما ذُكر؛ للتعمية، لكن الرواة أبدلوه بما يليق بمقام النبي -عليه الصلاة والسلام-، لأن الرواة كأنهم ما استساغوا أن ينقلوا، القول الذي فيه نوع جفاء مع النبي -عليه الصلاة والسلام- ولا يمنع؛ لماذا؟ لأن إبدال النبي بالرسول والعكس جائز عند أهل العلم.
أقول: يحتمل أنه ناداه باسمه لما ذُكر؛ لكن الرواة أبدلوه بما يليق بالنبي -عليه الصلاة والسلام-؛ لما عُرِف من جواز إبدال الرسول بالنبي وعكسه، فضلاً عن إبدال الاسم الصريح بما يدل على الاحترام؛ يعني لو قال: قال أبو هريرة، قال محمد -صلى الله عليه وسلم-، ألا يجوز لمن جاء بعد أبي هريرة أن يقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ قال نبي الله -صلى الله عليه وسلم-؟ يجوز ذلك عند كل من يجيز الرواية بالمعنى، اللهم إلا إذا جاء بكلام متعبَّد بلفظه، إذا جاء بكلام تُعُبِّد بلفظه، فإنه حينئذٍ لا يجوز إبدال لفظ الرسول بالنبي ولا العكس، كما في حديث ذكر النوم، لما قال: ورسولك الذي أرسلت، قال: لا، ونبيك الذي أرسلت؛ لأنه متعبَّد بلفظه، ذِكْر هذا، لكن يجوز الإبدال في غير الأذكار؛ لأن المتحدَّث عنه ذات واحدة، سواءً ذُكِرَت بالاسم الصريح أو بالكنية أو باللقب الذي لا يُفهَم منه الذم، أو غير ذلك؛ لأن الحديث عن ذات واحدة لا يتغير.
"ما الإيمان؟" أي ما حقيقته؛ لأن (ما) لا يُسأل بها إلا عن الماهية "ما الإيمان؟" مقتضى ما الإيمان (ما) التي يُسأل بها عن الماهية أن يجاب بحقيقة الإيمان، فيكون الجواب مثلاً: الإيمان قول باللسان، واعتقاد بالجَنان، وعمل بالأركان... إلى آخره، هذا مقتضى الجواب بالسؤال بـ(ما) لأنه يُسأل بها عن الماهية، لكن النبي -عليه الصلاة والسلام- أجاب بالأركان التي لا يوجد إلا بوجودها؛ لماذا؟ لأنه أنفع للحاضرين، وهذا من باب أسلوب الحكيم الذي يسأل عن الشيء فيجيب بما هو أولى من المسؤول عنه {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ} [سورة البقرة 189] ماذا قال؟
المقدم: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} [سورة البقرة 189].
نعم أجاب بفائدتها؛ لأن السؤال عن ذاتها لا يفيد، نعم السؤال عن الإيمان والجواب بحقيقته وماهيته في غاية الأهمية، لكن أهم منه ما يتعلق بتحقيق ذلك الإيمان، وإيجاده وبيان أركانه.
وفي شرح القسطلاني: الظاهر أنه -عليه الصلاة والسلام- علم أنه سأله عن متعلَّقات الإيمان لا عن حقيقته، وإلا فكان الجواب: الإيمان التصديق، وإنما فسر الإيمان بذلك لأن المراد من المحدود الإيمان الشرعي، ومن الحد اللغوي، حتى لا يَلزَم تفسير الشيء بنفسه.
وحمله الأُبِّي على الحقيقة، معللاً بأن السؤال بـ(ما) بحسب الخصوصية إنما يكون عن الحقيقة لا عن الحكم، ما معنى كلام الأُبِّي؟ حمله الأُبِّي على الحقيقة، سئل عن الإيمان بـ(ما) وأجاب عن حقيقته بأركانه، حمله الأُبِّي على الحقيقة، معللاً بأن السؤال بـ(ما) بحسب الخصوصية إنما يكون عن الحقيقة لا عن الحكم، وحقيقة الشيء تكون بأقسامه المحصورة، تكون بأركانه المحصورة، يعني إذا كانت الأركان محصورة بحيث لا يمكن أن يزاد عليها...
المقدم: فهذه حقيقته.
حقيقته، إذا اجتمعت هذه الأركان وُجِدَت حقيقة الشيء.
الأُبِّي هذا، مَن الأُبِّي هذا؟
سائل: صاحب الإكمال لإكمال إكمال المُعْلِم.
نعم، هو شارح لصحيح مسلم مكمِّلاً الإكمال، إكمال إكمال المعلم للقاضي عياض، كمَّله الأُبِّي بإكمال إكمال الإكمال، وكُمِّل أيضًا بمُكَمِّل إكمال الإكمال للسنوسي.
وعلى هذا فقوله: «أن تؤمن...» إلى آخره، من حيث إنه جواب السؤال يتعين أن يكون حدًّا؛ لأن المقول في جوابه إنما هو الحد، ووقع هنا تقديم السؤال عن الإيمان لأنه الأصل، وثُنِّي بالإسلام لأنه يُظهِر مصداق الدعوى، وثُلِّث بالإحسان لأنه متعلِّق بهما، وفي رواية عمارة بن القعقاع عند مسلم بُدئ بالإسلام لأنه بداءة بالأمر الظاهر، وثُنِّي بالإيمان لأنه يتعلَّق بالأمر الباطن، ورجح هذا الطيبي لما فيه من الترقِّي، يعني ترقَّى من الإسلام أول ما يسلم الإنسان يكون في دائرة الإسلام، ثم يترقَّى إذا وقر الإيمان في قلبه، وخالطت بشاشة الإيمان قلبه ترقَّى إلى دائرة الإيمان، ثم بعد ذلك لزيادة الأعمال الصالحة والمراقبة يصل إلى مرتبة الإحسان.
لما فيه من الترقِّي، وجاء في رواية مطر الوراق تقديم الإسلام ثم الإحسان ثم الإيمان، والصواب أن التقديم والتأخير من تصرف الرواة لأن القصة واحدة، ولا يضر مثل هذا التصرف.
«أن تؤمن بالله» قال الطيبي: هو مضمَّن معنى أن تعترف به؛ ولهذا عدَّاه بالباء، أي أن تصدق معترفًا بذلك، قال ابن حجر: التصديق أيضًا يعدَّى بالباء، فلا يحتاج إلى دعوى التضمين.
يقول الطيبي: هو مضمَّن معنى أن تعترف به، أن تؤمن بالله أي تعترف به؛ لماذا اضطر الطيبي أن يضمِّن معنى الإيمان الاعتراف، ما أجاب بحقيقة الإيمان الأصلية وهي التصديق، قال: لأنه عدَّاه بالباء، ابن حجر تعقَّبه قال: التصديق أيضًا يتعدَّى بالباء، ليس بحاجة للتضمين مع أن المعنى الأصلي يتعدَّى بالباء، متى نحتاج إلى التضمين؟ إذا كان الفعل المذكور لا يتعدَّى بالحرف المذكور، فنحتاج حينئذٍ أن نضمِّن الفعل المذكور فعلاً يتعدَّى بالحرف المذكور.
قال ابن حجر: التصديق أيضًا يُعدَّى بالباء فلا يحتاج إلى دعوى التضمين.
وتعقَّبه العيني بقوله: قلت: الطيبي ادَّعى تضمين الإيمان معنى الاعتراف، وكون التصديق يتعدَّى بالباء لا يمنع دعوى تضمين الإيمان معنى الاعتراف حتى يقال: لا يُحتاج إلى دعوى التضمين، هذا تعقُّب من العيني لابن حجر.
أجاب ابن حجر في انتقاض الاعتراض، قلت: دار الأمر بين التضمين والإبقاء على المعنى الأصلي، دار الأمر بين التضمين تضمين الإيمان بالاعتراف، والإبقاء على معناه الأصلي وهو التصديق، فإذا كان كل منهما تعدَّى بالباء فالثاني متعيِّن، ولا يحتاج إلى الأول، أفبمثل هذا يُتصدَّى للاعتراض؟! والله المستعان.
على كل حال الأصل أن الإيمان إذا كان بمعناه التصديق فهو يتعدى بالباء، فلا نحتاج إلى تضمين، لكن التضمين يفيد قدر زائد على مجرد التصديق والاعتراف والإذعان، فكلام الطيبي له وجه، وكلام ابن حجر أيضًا إذا كان مجرد التضمين لمجرد وجود الحرف فالمعنى الأصلي يتعدَّى بنفس الحرف.
أقول: تضمين الأفعال بما يناسب الحروف أمر معروف في النصوص، وهو أولى من تضمين الحروف، فيما رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية، لكن إذا كان المعنى الأصلي يتعدى بالحرف المذكور لا داعي للتضمين؛ لأنه خلاف الأصل؛ لأن التضمين غير التفسير، يعني لو فَسَّر الإيمان قال: معنى الإيمان الاعتراف والتصديق ما اعترض عليه، لكنه احتاج إلى التضمين؛ لأن الإيمان يتعدى بالباء، إذا كان القصد ذلك فالتصديق يتعدى بالباء الذي هو المعنى الأصلي، فلا نحتاج حينئذٍ إلى تضمين.
وتقدم تعريف الإيمان عند أهل السنة وأنه إقرار باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالجوارح.
قال ابن حجر هنا: الإيمان بالله هو التصديق بوجوده، وأنه متَّصف بصفات الكمال، منزَّه عن صفات النقص.
«وملائكته» الإيمان بالملائكة هو اعتقاد وجودهم، وأنهم كما وصفهم الله تعالى: {عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ} [سورة الأنبياء 26] والملائكة جمع مَلَك، وأصله مَلأك مَفْعَل، من الأُلوكة بمعنى الرسالة، زيدت فيه التاء لتأكيد معنى الجمع، أو لتأنيث الجمع؛ لأن الجمع يؤنث ويراد به الجماعة، كذا في عون الباري، وإلا فالأصل ملائك، يعني ما هو ملائكة، ملأك ملائك.
وقال صِدِّيق في تعريفهم: إنهم أجساد علوية نورانية مشكَّلة بما شاءت من الأشكال، وقدم الملائكة على الكتب والرسل نظرًا للترتيب الواقع؛ لأنه -سبحانه وتعالى- أرسل الملك بالكتاب إلى الرسول، وليس فيه متمسَّك لمن فضَّل كالمعتزلة الملك على الرسول، وجاء في رواية الأصيلي هنا: «وكتبه» واتفق الرواة على ذكرها في التفسير والإيمان بالكتب التصديق بأنها كلام الله تعالى.
أكثر الرواة على عدم ذكر الكتب في هذا الموضع، لكن جاء في رواية الأصيلي ذكر الكتب، واتفق الرواة على ذكرها في التفسير، والإيمان بالكتب التصديق بأنها كلام الله تعالى، وأن ما تضمنته حق، وفي شرح الكرماني: فإن قلت: الإيمان بالكتب أيضًا واجب فلم تركه؟ قلت: الإيمان بالرسول مستلزم للإيمان بما أنزل عليهم، لكن إذا عرفنا أنه ثابت في الروايات لا نحتاج إلى مثل هذا الجواب، يعني نحتاج إلى مثل هذا الجواب لو لم يُذكَر في جميع الروايات.
يقول: فإن قلت: الإيمان بالكتب أيضًا وارد فلم تركه؟ نقول: ما تركه، يجيب الكرماني يقول: الإيمان بالرسول مستلزم الإيمان بما أنزل إليهم، نقول: أيضًا الإيمان بالله مستلزم لجميع ما جاء عنه فلا نحتاج إلى ذكر الباقي، ونقله العيني عن الكرماني، ثم قال: على أنه مذكور في رواية الأصيلي هاهنا، إذًا لا نحتاج إلى الجواب.
«وبلقائه» قال ابن رجب: معناه الإيمان بوقوف العباد بين يدي الله -عز وجل- للمحاسبة بأعمالهم والجزاء بها.
وفي فتح الباري لابن حجر: «وبلقائه» كذا وقعت هنا بين الكتب والرسل، وكذا لمسلم من الطريقين، ولم تقع في بقية الروايات، وقد قيل: إنها مكررة؛ لأنها داخلة في الإيمان بالبعث، والحق أنها غير مكررة، فقيل: المراد بالبعث القيام من القبور، والمراد باللقاء ما بعد ذلك، وقيل: اللقاء يحصل بالانتقال من دار الدنيا، والبعث بعد ذلك، وقيل: المراد باللقاء رؤية الله -عز وجل- «بلقائه» يعني برؤيته.
يقول الخطابي: وقوله: «أن تؤمن بلقائه» فيه إثبات رؤية الله -عز وجل- في الآخرة، تعقبه النووي بأن أحدًا لا يقطع لنفسه برؤية الله، فإنها مختصة بمن مات مؤمنًا، والمرء لا يدري كيف يُختَم له؟ فكيف يكون ذلك من شروط الإيمان؟
قال ابن حجر: وأجيب بأن المراد الإيمان بأن ذلك حق في نفس الأمر، وهذا من الأدلة القوية لأهل السنة في إثبات رؤية الله تعالى في الآخرة؛ إذ جُعِلَت من قواعد الإيمان.
قوله: «ورسله» الإيمان بالرسل تصديقهم فيما أخبروا، وطاعتهم فيما أمروا، واجتناب ما نهوا عنه واتباعهم.
والإجمال في الملائكة والكتب والرسل دليل على أنه لا يلزم التفصيل إلا من ثبتت تسميته، فيجب الإيمان به على التعيين.
«وتؤمن بالبعث» المراد بعث الموتى من القبور، وما يترتب عليه من الحساب والصراط والجنة والنار، وغير ذلك.
قال الكرماني: أو بعثة الأنبياء، تؤمن بالبعث، هل المراد به البعث من القبور أو بعث الأنبياء؟
المقدم: البعث من القبور.
هذا الأصل، المراد بعث الموتى من القبور، وما يترتب عليه من الحساب والصراط والجنة والنار، وغير ذلك، يقول الكرماني: أو بعثة الأنبياء، لكن الأول أظهر.
وفي الكرماني أيضًا: فإن قيل: لم كُرِّر لفظ: وتؤمن، تؤمن بالبعث، تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسوله، وتؤمن بالبعث، أعاد كلمة تؤمن؛ لماذا؟ الكرماني يقول: قلت: لأنه نوع آخر من المؤمَن به لأن البعث سيوجد فيما بعد، وأخواته موجودة الآن؛ يعني تؤمن بما وُجِد وتؤمن أيضًا بما سيوجَد.
وقال ابن حجر: تكرار تؤمن لكثرة من كان ينكره من الكفار، ولهذا كثر تكريره في القرآن.
في فتح المبدي: «وتؤمن البعث» أي بالقيام من القبور، وفي رواية: «باليوم الآخر» وهو تأكيد كقولهم أمس الذاهب، وقيل: لأن البعث وقع مرتين، «تؤمن البعث» وفي رواية «باليوم الآخر» وهو تأكيد كقولهم أمس الذاهب، وقيل: لأن البعث وقع مرتين:
الأولى: الإخراج من العدم إلى الوجود، أو من بطون الأمهات بعد النطفة والعلقة إلى الحياة الدنيا.
والثانية: البعث من بطون القبور إلى محل الاستقرار، وأما اليوم الآخر فقيل له ذلك لأنه آخر بالنسبة للدنيا، آخر أيام الدنيا، أو آخر الأزمنة المحدودة.
والحديث خرَّجه مسلم من حديث عمر -رضي الله عنه-، ولفظه: «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره» وخرَّجه ابن حبان، وزاد فيه: «وتؤمن بالجنة والنار والميزان» وكرر فيه أيضًا لفظ: «وتؤمن بالقدر» في حديث عمر المشار إليه.
قال ابن حجر: وكأنها إشارة إلى ما يقع فيه من الاختلاف، تؤمن بالقدر، مثل ما قال: «وتؤمن بالبعث» إشارة إلى ما يقع فيه من الاختلاف، فحصل الاهتمام بشأنه بإعادة تؤمن، ثم قرره بالإبدال بقول: «خيره وشره، وحلوه ومره».
المقدم: أيها الإخوة والأخوات، لعلنا نستكمل -بإذن الله تعالى- ما تبقى من ألفاظ هذا الحديث في حلقة قادمة وأنتم على خير.
في ختام حلقتنا نتوجه بالشكر الجزيل، بعد شكر الله -سبحانه وتعالى-، إلى ضيفنا فضيلة الشيخ الدكتور: عبد الكريم بن عبد الله الخضير، عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
شكرًا له، شكرًا لكم، نلقاكم على خير -بإذن الله تعالى-.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.