شرح أبواب الصلاة من سنن الترمذي (02)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

سم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المؤلف -رحمنا الله وإياه تعالى وغفر لشيخنا وللحاضرين-:

باب: منه:

حدثنا هناد قال: حدثنا محمد بن فضيل عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن للصلاة أولاً وأخراً، وإن أول وقت صلاة الظهر حين تزول الشمس، وآخر وقتها حين يدخل وقت العصر، وإن أول وقت صلاة العصر حين يدخل وقتها، وإن آخر وقتها حين تصفر الشمس، وإن أول وقت المغرب حين تغرب الشمس، وإن آخر وقتها حين يغيب الأفق، وإن أول وقت العشاء الآخرة حين يغيب الأفق، وإن آخر وقتها حين ينتصف الليل، وإن أول وقت الفجر حين يطلع الفجر، وإن آخر وقتها حين تطلع الشمس».

وفي الباب عن عبد الله بن عمرو: سمعت محمداً يقول: حديث الأعمش عن مجاهد في المواقيت أصح من حديث محمد بن فضيل عن الأعمش، وحديث محمد بن فضيل خطأ أخطأ فيه محمد بن فضيل.

قال -رحمه الله-: حدثنا هناد قال: حدثنا أبو أسامة عن أبي إسحاق الفزاري عن الأعمش عن مجاهد قال: "كان يقال: إن للصلاة أولاً وأخراً" فذكر نحو حديث محمد بن فضيل عن الأعمش نحوه بمعناه.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين،

أما بعد:

فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:

"باب: منه" أي من الباب السابق، وهو بمثابة الفصل منه، فموضوعه في مواقيت الصلاة تبعاً لما تقدم وقوله: منه، يعني كالفرع منه، كالفصل منه، وكثيرًا ما يذكر الإمام البخاري باباً مترجماً باب ما جاء في كذا ثم يتبعه بقوله: باب من غير ترجمة، ويقرر أهل العلم أنه في هذه الحالة يكون بمثابة الفصل من الباب الذي قبله، وهنا صرح بأنه منه، وإن وجدت في بعض النسخ دون بعض، ويقول: باب منه، وهذه توجد في أكثر النسخ، وفي بعضها لا يوجد منه، ولو لم تذكر فهي بمثابة الفصل والجزء منه.

قال -رحمه الله-: "حدثنا هناد" هو ابن السري تقدم ذكره مراراً "قال: حدثنا محمد بن فضيل" محمد بن فضيل بن غزوان الضبي مولاهم، صدوق، لكن لا يعني أنه لا يحصل منه الخطأ كما هنا، فيما قرره الإمام البخاري، وإن رأى بعضهم أنه ليس بخطأ، وأن الحديث يروى على الوجهين مرفوعاً وموقوفاً على ما سيأتي بيانه -إن شاء الله تعالى- "عن الأعمش" سليمان بن مهران، الإمام الحافظ، الثقة المعروف "عن أبي صالح" ذكوان السمان، ثقة تقدم ذكره مراراً "عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: «إن للصلاة أولاً وأخراً»" هذا الإسناد الذي ذكره الإمام الترمذي يثبت به الخبر؛ لأن أقل ما فيه من قيل فيه: صدوق وهو محمد بن فضيل، والبقية أئمة حفاظ، اللهم إلا ما يخشى من تدليس الأعمش فإنه قال: عن أبي صالح ولم يصرح بالتحديث.

"قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن للصلاة أولاً وأخراً»" هذا الكلام صحيح، يعني أوقات الصلاة لها أول وآخر، لكن هل كل كلام صحيح مجزوم بصحته تُمكن نسبته إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-؟ لو يقال لك: احلف أن الواحد نصف الاثنين تتردد في الحلف؟ نعم، لا، لكن لو قال لك: قل: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إن الواحد نصف الاثنين يجوز وإلا ما يجوز؟ لا ما يجوز، هذا وضع، هذا كذب على النبي -عليه الصلاة والسلام- وإن كان الكلام صحيحاً، فالكلام هنا صحيح «إن للصلاة أولاً وأخراً» كما تقدم وكما سيأتي، لكن نسبته إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- ورفعه إليه ينازع فيه الإمام البخاري على ما سيأتي.

«وإن أول وقت صلاة الظهر حين تزول الشمس» وهذا محل إجماع على ما تقدم، لم يخالف  في هذا أحد من أهل العلم أن أول وقت صلاة الظهر إذا زالت الشمس.

«وآخر وقتها حين يدخل وقت العصر» حين يدخل وقت العصر فلا فصل بين وقت الظهر ولا وصل، فلا فصل ولا اشتراك، يعني لا فصل بين الوقتين كما يقول بذلك الحنفية في قول عندهم أن وقت صلاة الظهر ينتهي من مصير ظل كل شيء مثله، ووقت صلاة العصر يبدأ من مصير ظل كل شيء مثليه، فما بين المثل والمثلين فاصل لا يصلح للظهر ولا يصلح للعصر على هذا القول، ولا اشتراك أيضاً كما قال المالكية أن هناك قدراً مشتركاً في آخر وقت صلاة الظهر، وهو أول وقت صلاة العصر يصلح مقداره أربع ركعات يصلح أن تُصلى فيه الظهر أداءً، ويصلح أن تصلى فيه العصر أداء، وهذا سبق الكلام فيه، وأنه كلام مجمل كما جاء في حديث إمامة جبريل، الذي سبق شرحه، وأنه معارض بما هو أصرح منه من حديث عبدالله بن عمرو في صحيح مسلم: «ما لم يحضر وقت العصر» فدل على أنه لا اشتراك بينهما، كما أنه لا فاصل بينهما كما يقول الحنفية، «وآخر وقتها حين يدخل وقت العصر» وكأن وقت العصر معلوم عندهم، بُين بأحاديث سابقة، ولذلك قال: «حين يدخل وقت العصر».

«وإن أول وقت صلاة العصر حين يدخل وقتها» كأنه معلوم بداية وقتها معلوم عندهم، ولذلك لم يبين في الخبر، «وإن آخر وقتها حين تصفرُّ الشمس» وهذا هو الوقت المختار، ولا يجوز تأخيرها إلى وقت الاصفرار؛ لأنه جاء الترهيب من ذلك، وإن كان وقت الأداء يستمر إلى غروب الشمس، وقت الأداء الاضطرار يستمر إلى غروب الشمس لحديث: «من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر» وهذا تقدم الكلام فيه.

«وإن أوّل وقت المغرب حين تغرب الشمس» إذا وجبت الشمس وسقطت وغاب القرص دخل وقت صلاة المغرب.

«وإن آخر وقتها حين يغيب الأفق» والمراد به الشفق وهو الأحمر عند الجماهير، جماهير أهل العلم على أنه الأحمر، وإن كان الإمام أبو حنيفة في أول الأمر يقول: إنه الأبيض، ومضى ما فيه من كلام، وهذا يدل على أن للمغرب أولاً وأخراً، وأنه يمتد من غروب الشمس إلى مغيب الشفق خلافاً للشافعية الذين يرون أن وقت المغرب مضيق، وأنه لا يتسع لأكثر من التأهب للصلاة بالوضوء بالطهارة، وأداء ثلاث ركعات، ثم بعدها يخرج الوقت على ما تقدم في حديث إمامة جبريل للنبي -عليه الصلاة والسلام- الذي سبق الكلام فيه وأنه صلى المغرب في اليوم الثاني في الوقت الذي صلى فيه المغرب في اليوم الأول، فدل على أن وقتها واحد، ولا شك أن حديث إمامة جبريل متقدم وهذه الأحاديث متأخرة فهي المحكمة، وحديث إمامة جبريل منسوخ بهذه الأحاديث.

«وإن أول وقت العشاء الآخرة» في عشاء أولى من أجل أن يقال: عشاء آخرة؟ في مغرب وفي عشاء، وصفها بالآخرة يدل على أن هناك عشاء أولى، أو يكون المراد بالآخرة المتأخرة التي هي آخر صلوات اليوم والليلة، فهي متأخرة عن غيرها، وإلا فليس هناك عشاء أولى ليكون هناك عشاء آخرة إلا أنه باعتبار أنها تكون في وقت العشي، والعشي فيه أكثر من صلاة، فيه أربع صلوات العشي، إحدى صلاتي العشي في حديث ذي اليدين، إما الظهر وإما العصر، فالظهر والعصر في العشي؛ لأنها بعد الزوال، وكذلك المغرب والعشاء، فهي آخر صلوات العشي، ولا يظن بهذا أن المغرب يقال لها: العشاء كما جرى به عرف بعض البلدان، يقولون للمغرب: العشاء، صلينا العشاء يعني المغرب، ويقولون للعشاء: الأخير، وهذا معروف في هذه البلاد، وإن كان يعني يكاد يكون انقرض إلا عند بعض كبار السن، لكن هو معروف على كل حال.

«وإن أول وقت العشاء الآخرة حين يغيب الأفق» يعني يغيب الشفق الأحمر «وإن آخر وقتها حين ينتصف الليل» ومضى الكلام في آخر وقت العشاء، وأنه على حديث إمامة جبريل ينتهي بانتهاء ثلث الليل، فإنه صلى بالنبي -عليه الصلاة والسلام- العشاء في اليوم الثاني حين ذهب ثلث الليل، وقال: الوقت ما بين هذين الوقتين، فدل على أنها لا تؤخر، وفي هذا الحديث كما في حديث عبد الله بن عمرو في صحيح مسلم: «إلى منتصف الليل الأوسط» فوقتها يمتد إلى نصف الليل، وبهذا قال جمع من أهل العلم، والأحاديث صحيحة صريحة، حديث عبد الله بن عمرو يمكن من أصح ما ثبت في المواقيت، وفيه أنه ينتهي بانتهاء نصف الليل، وإن كان الأكثر من أهل العلم يرون أن وقت العشاء يمتد إلى طلوع الفجر، ذكرنا هذا ودليله بالأمس، ودليله حديث عام وهو مخصوص بصلاة الصبح «ليس في النوم تفريط، وإنما التفريط على من أخَّر الصلاة حتى يجيء وقت الأخرى» أو «حتى يدخل وقت الصلاة الأخرى» فدل على أن العشاء تمتد إلى طلوع الفجر، لكن هذا الحديث مخصوص بصلاة الفجر، فإنها تنتهي بطلوع الشمس بالإجماع، ولا يمتد وقتها إلى مجيء وقت صلاة الظهر.

«وإن أول وقت الفجر حين يطلع الفجر» يبرق الفجر، يطلع الفجر والمراد به الصادق الذي ينتشر في الأفق عرضاً يمنياً وشمالاً، وليس المراد به الأول الكاذب على ما بيناه بالأمس.

«وإن آخر وقتها حين تطلع الشمس» وهذا محل إجماع «من أدرك ركعة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح» ومفهومه: أن من لم يدرك ركعة قبل طلوع الشمس فإن صلاة الصبح قد فات وقتها، وهذا محل إجماع.

قال -رحمه الله-: "وفي الباب عن عبد الله بن عمرو بن العاص" مخرج في صحيح مسلم، وذكرنا جملاً منه في درس الأمس، وفي درس اليوم، أخرجه مسلم، فهو من أصح ما ورد في الباب، ومن أوضح ما يروى في المواقيت.

"قال أبو عيسى: وسمعت محمداً" يريد محمد بن إسماعيل البخاري، كثيراً ما يعول عليه في الكلام على الرواة، وفي تعليل الأحاديث "وسمعت محمداً يقول: حديث الأعمش عن مجاهد" الآتي بعد هذا مباشرة "في المواقيت أصح من حديث محمد بن فضيل عن الأعمش، وحديث محمد بن فضيل خطأ أخطأ فيه محمد بن فضيل".

حديث الأعمش عن مجاهد في المواقيت أصح، هذه أفعل تفضيل، وإذا قلنا: إنها على بابها قلنا: إن الحديثين صحيحان، حديث مجاهد وحديث محمد بن فضيل عن الأعمش، قلنا: هما صحيحان؛ لأن مقتضى أفعل التفضيل أن يشترك اثنان في وصف يزيد أحدهما على الآخر في هذا الوصف، إذا قلت: زيد أغنى من عمرو هل تفهم من هذا أن عمر فقير؟ أو غني لكن زيد أكثر منه؟ في هذا وصف، هذا الأصل في أفعل التفضيل، لكن أهل الحديث لا يستعملون أفعل التفضيل على بابها، بل لا ينظرون إلى الوصف أحياناً، وإنما ينظرون إلى مجرد الرجحان، رجحان طرف على آخر، هل يلزم من قول البخاري: حديث الأعمش عن مجاهد أصح هل يلزم منه صحة حديث الأعمش عن مجاهد؟ يعني مقتضى الصيغة نعم، كما أنه يلزم من مقتضى الصيغة أن يكون الحديث الأول حديث محمد بن فضيل صحيح أيضاً، لكن أهل الحديث لا يستعملون أفعل التفضيل على بابها، ولا يلزم منه صحة الاثنين، فضلاً عن أن يكون أحدهما مبالغاً في تصحيحه، مفضَّلاً على غيره، فإذا قالوا: حديث صلاة التسابيح أصح من حديث صلاة الرغائب هل يلزم من هذا صحة الحديثين؟ لا يلزم، لماذا؟ لأنهما ضعيفان باتفاق، وأهل الحديث لا يستعملون أفعل التفضيل على بابها، لو قيل: حديث جبريل الوارد عن عمر في صحيح مسلم أضعف من حديث جبريل حينما جاء يعلم الناس الدين المروي من طريق أبي هريرة، أضعف، هل يقتضي ذلك ضعف الحديث حديث عمر أو ضعف حديث أبي هريرة؟ لا، كلاهما في الصحيح، لكن هذا أرجح باعتباره متفق عليه حديث أبي هريرة وحديث عمر من أفراد مسلم، وإذا قالوا: ابن لهيعة مثلاً أوثق من الإفريقي هل يعني أنهما ثقتان؟ لا، كلاهما ضعيف، لكن ابن لهيعة أمثل منه وإن كان ضعيفاً، وإذا قيل: نافع أضعف من سالم هل يقتضي هذا أن نافعاً أو سالماً ضعيفان؟ أبداً، كلا، كلاهما من أعلى الدرجات في الحفظ والضبط والإتقان، هذا يبين أن أهل الحديث لا يستعملون أفعل التفضيل على بابها، فلا يعني أن الإمام البخاري يصحح الخبر الثاني ولا يصحح الخبر الأول، لا يلزم منه تصحيح ولا تضعيف، وإنما يلزم منه تقوية أحدهما على الآخر.

لكن قوله: أخطأ فيه محمد بن فضيل هذا يدل على أنه يضعِّف حديث محمد بن فضيل ويحكم عليه بأنه خطأ، لكن هل يلزم منه صحة الحديث اللاحق الذي قال فيه: أصح؟ أخطأ فيه محمد بن فضيل يعني أخطأ في إسناده حيث رواه عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة، وإنما هو عن الأعمش عن مجاهد موقوفاً عليه.

"قال: حدثنا هنّاد قال: حدثنا أبو أسامة عن أبي إسحاق الفزاري عن الأعمش عن مجاهد قال" يعني من قوله ليس بالمرفوع ولا موقوف، وإنما يقال فيه: ليس بمرفوع ولا موقوف، وإنما هو..، المرفوع ما يضاف إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-، والموقوف ما يضاف إلى الصحابي، والذي يضاف إلى التابعي يسمى مقطوع، فهذا ليس بمرفوع ولا موقوف وإنما هو مقطوع.

"عن الأعمش عن مجاهد قال: "كان يقال: إن للصلاة أولاً وأخراً" فذكر نحو حديث محمد بن فضيل عن الأعمش نحوه بمعناه".

وهو مخرج في المسند والبيهقي وغيرهما، وبهذا يكون الإمام البخاري أعل الرواية المرفوعة بالمقطوعة، أعل المرفوعة بالمقطوعة، ووافقه أبو حاتم الرازي كما في العلل لابنه، والتعليل بهذه النوع أو بهذه الطريقة محل نزاع ومحل خفاء شديد؛ لأنه يأتي من يقول: إن الطريق المقطوعة المنسوبة إلى مجاهد لا يعل بها الخبر المرفوع، وما المانع أن يكون الحديث مروي على الوجهين؟ فالخبر أحياناً يروى مرفوعاً، وأحياناً يروى موقوفاً، أحياناً يرفعه الصحابي إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-، وأحياناً يفتي به من قوله، وعندنا أحياناً يرفع إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-، وأحياناً يفتي به مجاهد من قوله، ولذا رجّح بعضهم -الشيخ أحمد شاكر رجح- أنه يروى على الوجهين وما المانع؟ وكثيراً ما يسلك الشيخ هذا المسلك.

وهذه طريقة معتمدة عند المتأخرين، إذا لم يكن هناك تعارض فلا يعل أحدهما بالآخر، بل يكون الحديث مروياً على الوجهين، لكن مثل هذا لا يقول به الأئمة الكبار؛ لأن المتأخرين ليست لديهم من الأهلية ما لدى المتقدمين؛ لأن المتقدمين حفظوا مئات الألوف من الأحاديث، ويجزمون بالصواب على أنه صواب، ويجزمون على الخطأ بأنه خطأ، يحكمون على الخطأ أنه خطأ، وإن لم يتضمن مخالفة، يقولون: أخطأ فيه، وما المانع أن يكون أخطأ؟ هذه طريقة المتقدمين لكن دون المتأخرين والحكم بها خرط القتاد، حتى يكون في مصاف المتقدمين في الحفظ والاطلاع على الروايات.

تعليل البخاري للرواية المرفوعة بالرواية المقطوعة لا يستطيع أن يحكم به أحد من المتأخرين، حتى يكون في مصافهم في الحفظ والإتقان والاطلاع على الطرق والروايات والعلل حتى يكون ممن يكتفي بشم الحديث.

قد يقول قائل: إن الآلات قرَّبت، إذا كان الإمام أحمد يحفظ سبعمائة ألف حديث، فعندنا قرص صغير فيه خمسمائة ألف حديث، وإذا كان الاطلاع على الروايات والطرق ميسور عند المتأخرين بواسطة الأجهزة صار حكمهم حكم المتقدمين، المسألة مسألة حفظ واطلاع، الآن نطلع من خلال لحظة في ضغطة زر على جميع الروايات ونعرف ننظر، لكن هناك فرق بين من تكون الأخبار بين عينيه وبين أن تكون الأخبار في ذاكرته، فرق، الأخبار في الذاكرة رددت ومحصت وفحصت مراراً، وكررها مرات، بخلاف من اطلع على هذه الطرق لأول مرة، حتى ولو أعاد النظر فيها وردد وكرر لن يكون بمثابة المتقدمين الذين حفظوا هذا العلم بالتدريج.

الشيخ أحمد شاكر صوَّب أن يكون الحديث مروي على الوجهين، وهو مسبوق من قبل ابن القطان الفاسي وهو متأخر، يعني في السادس، متأخر بالنسبة للأئمة، لكن عنده من الحفظ والإحاطة ودقة النظر ما يؤهله لمثل هذه الأحكام، لكن بالنسبة للمتأخرين، الأمر في غاية الوعورة، وإن نادى بعض الغيورين على السنة أن ينحو المتأخرون من طلاب العلم منحى المتقدمين، لكن أقول: إن هذا في غاية الصعوبة، إذا وجد من وهبه الله من الحفظ والحذق والضبط والإتقان ما وهب للمتقدمين، وأخذ العلم عن أهله وحفظه ووعاه في قلبه احتمال، أما من اعتمد على الآلات أو ضعف في الحفظ وليس عنده من المحفوظ إلا الشيء اليسير لا يمكن بحال من الأحوال أن يضاهي الأئمة المتقدمين؛ لأن الأئمة المتقدمين قواعدهم ليست كافية لتقليدهم من قبل المتأخرين، هناك قواعد وضوابط مأخوذة من منثور كلامهم، لكنها لا تكفي المتأخر لمحاكاة المتقدمين، إلا بالمران، يعني لو أن شخصاً تخصص في هذا الباب في جمع الطرق والنظر في الأسانيد والعلل، وأفرغ جهده وأوتي من قوة الحفظ والفهم احتمال، لكن هذا كم يوجد في القرن من واحد؟ هؤلاء نوادر، أما بالنسبة للمتقدمين ففيهم كثرة، لماذا؟ لأن الوقت وقت رواية، ووقت حفظ، والرواة متوافرون، يعرف أن هذا الراوي ضبط هذا الحديث، ويعرف...

مالك لما قيل له: أنت تسمي عمرو بن عثمان الأئمة كلهم يقولون: عمرو بن عثمان وأنت تقول: عمر، قال: هذا بيته، هذا بيته، ويش يعني؟ مو مثل الآن ما نتصور هذا الشخص فضلاً عن أن نعرف بيته وإلا...، ما عندنا إلا قاله الأئمة، قالوا: عمرو، وقال مالك: عمرو، نرجح بين هذا وهذا، ما نرجح إلا بالكثرة، كثرة من قال عمرو فقط، ما عندنا غير هذا، لكن الأئمة عندهم غير هذا، كل ما مر من عند بيته قال: هذا بيت عمر بن عثمان، الأئمة كلهم يقولون: عمرو، قال: هذا بيته، إيش يعني؟ يعني أنا أعرفه جيراننا يا أخي، يعني لو يذكر لك شخص ما رأيته ولا كذا، ويُصحَّف لك اسمه قليلاً ما تستطيع أن تصل إلى الحقيقة، لكن الذين عاصروه وعايشوه لا شك أنهم يجزمون، أو يأتي بعد خمسين سنة مثلاً شاب يقول لك: قال الشيخ صالح بن عثيمين، وأنت عرفت الشيخ عشت معه عشرين سنة، وعمرك ذاك الوقت سبعين مثلاً، يؤخذ قوله وإلا قولك؟ أنت تعرف الشيخ بعينه عاشرته وعاصرته وسمعت كلامه مراراً، وتردد اسمه على ذهنك ألوف المرات، ويجي واحد من بعد خمسين سنة يقول: الشيخ صالح بن عثيمين؟

هذا حال الأئمة بالنسبة للرواة، وحال من تأخر بعدهم، يعني لو تصحف علينا اسم في بعض الكتب ما استطعنا نصححه إلا من خلال الكتب الأخرى، ما تستطيع والله يقول: ابن أخته يقول: لا، اسمه كذا، ابن عمه يقول: لا، اسمه كذا، وهم أعرف، ما تدري أنت ما أدركته، لا أدركت الراوي ولا أدركت من أدركه، فهذا هو السر في كون الأئمة يحكمون بمثل هذه الأحكام، والمتأخرون من أهل العلم ليس لديهم إلا الموازنة والترجيح بين أقوال الأئمة.

الشيخ أحمد شاكر صوب وقال: والذي أختاره أن الرواية المرسلة أو الموقوفة تؤيد الرواية المتصلة المرفوعة، ولا تكون تعليلاً لها أصلاً؛ لأنه من حيث النظر ما فيه ما يمنع إطلاقاً أن الحديث يروى عن النبي -عليه الصلاة والسلام- بإسناد صحيح، ويرى عن ابن عباس من قوله بإسناد صحيح؛ لأن ابن عباس أحياناً ينشط فيرويه عن النبي -عليه الصلاة والسلام-، وأحياناً يفتي به من رأيه، وكذلك أبو هريرة، لكن إذا اختلف المرفوع عن الموقوف قلنا: العبرة بما روى لا بما رأى، وإن كان بعض أهل العلم يرشح العكس باعتبار أن الموقوف متأكد منه، ابن عباس قال هذا الكلام، لكن هل رفعه إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- أو وقفه على نفسه؟ هذا ليس بمجزوم فيه، في نصب الراية نقل عن ابن الجوزي أنه قال في التحقيق: ابن فضيل ثقة يجوز أن يكون الأعمش سمعه من مجاهد مرسلاً ومن أبي صالح مسنداً، يعني يرويه على الوجهين.

ونقل أيضاً عن ابن القطان قال: ولا يبعد أن يكون عند الأعمش طريقان: إحداهما: مرسلة والأخرى مرفوعة، والذي رفعه صدوق من أهل العلم، وثّقه ابن معين، وهو محمد بن فضيل.

قال أحمد شاكر: والذي أختاره أن الرواية المرسلة أو الموقوفة تؤيد الرواية المتصلة المرفوعة، ولا تكون تعليلاً لها، لماذا؟ لأن أحمد شاكر وغيره من المتأخرين ليس بأيديهم إلا هذا، إما أن يقال: محض تقليد، قلد الأئمة، أو يقال: اجتهد في النظر بين أقوال الأئمة، أما أن تحاكي الأئمة في أقوالهم وتكون بمصافهم أو بمنزلة واحد منهم فأظن هذا شبه متعذر إلا في نوادر من الرجال يحفظون كما حفظ الأئمة.

سم.

عفا الله عنك.

قال -رحمه الله تعالى-:

باب: منه:

حدثنا أحمد بن منيع والحسن بن الصباح البزار وأحمد بن محمد بن موسى المعنى واحد، قالوا: حدثنا إسحاق بن يوسف الأزرق عن سفيان عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه -رضي الله عنه- قال: أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- رجل فسأله عن مواقيت الصلاة فقال: «أقم معنا إن شاء الله» فأمر بلالاً فأقام حين طلع الفجر، ثم أمره فأقام حين زالت الشمس فصلى الظهر، ثم أمره فأقام فصلى العصر والشمس بيضاء مرتفعة، ثم أمره بالمغرب حين وقع حاجب الشمس، ثم أمره بالعشاء فأقام حين غاب الشفق، ثم أمره من الغد فنوّر بالفجر، ثم أمره بالظهر فأبرد وأنعم أن يبرد، ثم أمره بالعصر فأقام والشمس آخر وقتها فوق ما كانت، ثم أمره فأخر المغرب إلى قبيل أن يغيب الشفق، ثم أمره بالعشاء فأقام حين ذهب ثلث الليل، ثم قال: «أين السائل عن مواقيت الصلاة؟» فقال الرجل: أنا، فقال: «مواقيت الصلاة كما بين هذين» هذا حديث حسن غريب صحيح، وقد رواه شعبة عن علقمة بن مرثد أيضاً.

يقول المؤلف -رحمه الله تعالى- كما قال في الباب السابق باب منه أي من الباب الذي قبله من الباب الأول قال: "حدثنا أحمد بن منيع والحسن بن الصباح البزار" وكلاهما من الثقات "وأحمد بن محمد بن موسى" ثقة أيضاً، حافظ، فكلهم ثقات، يجتمعون في روايته عن إسحاق بن يوسف الأزرق، قال: "المعنى واحد" المعنى واحد يعني وإن كان في بعض الألفاظ شيء من الاختلاف بين هؤلاء الرواة الثلاثة، المعنى واحد مبتدأ وخبر، وأحياناً يقال: كما في سنن أبي داود كثيراً: المعنى بدون واحد، ولا بد من تقدير الخبر، وقد يلتبس صنيع أبي داود حينما يحذف الخبر فلان وفلان وفلان المعنى فالمراد واحد، وأحياناً يأتي بعض الرواة منسوباً إلى معن، فيقال: حدثنا فلان ابن فلان وفلان ابن فلان المعني نسبة إلى معن، وهذا موجود في الرواة، فينتبه طالب العلم لمثل هذا؛ لأنه قد يلتبس عليه وهو نسبته إلى معن، فيظنه زيادة من المؤلف في الإسناد لبيان أن المعنى واحد بين هؤلاء الرواة وإن اختلفت ألفاظهم.

المعنى واحد يعني وإن اختلف اللفظ بعض الشيء مما لا يؤثر في المعنى مما تجوز روايته بالمعنى.

"قالوا –يعني الثلاثة- حدثنا إسحاق بن يوسف الأزرق" الإمام مسلم لا يقتصر على قول: المعنى واحد، إنما يقول: واللفظ لفلان، أو يقول: حدثنا أحمد بن منيع والحسن بن الصباح وأحمد بن محمد بن موسى قال أحمد بن منيع: حدثنا إسحاق بن يوسف، فإذا أعاد واحداً من الثلاثة أو من الاثنين دل على أنه هو صاحب اللفظ، الإمام البخاري يروي عن مجموعة، يقول: حدثنا فلان وفلان وفلان، قالوا: حدثنا فلان ولا يبين صاحب اللفظ ولا صاحب المعنى، لكن جرت القاعدة المطردة التي ظهرت بالاستقراء أن اللفظ للأخير منهم.

"قالوا: حدثنا إسحاق بن يوسف الأزرق" المخزومي ثقة أيضاً "عن سفيان الثوري عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة" تابع سفيان الثوري على روايته عن علقمة بن مرثد شعبة، كما نبه على ذلك المؤلف في آخر الباب "عن سليمان بن بريدة -تابعي ثقة- عن أبيه" بريدة بن الحصيب صحابي "قال: أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- رجل فسأله عن مواقيت الصلاة فقال: «أقم معنا إن شاء الله» إن شاء الله هذه ليس فيها معنى التعليق، وإنما هي لمحض التبرك، ما قال: أقم معنا إن شئت ليخيره ويرد الأمر إلى مشيئته، فقال: إن شاء الله، أقم معنا، يعني الصبر على التبليغ، سؤال يقال: أقم معنا يومين، إيش يترتب على الإقامة يومين؟ أنه ينظر إلى سؤال هذا السائل الذي جاء يسأل، ولا ينظر في مصلحة المأمومين بكافة، فيوم يصلي بهم في أول الوقت، وفي اليوم الثاني يؤخرهم إلى آخر الوقت، لكن هل يتحمل الناس التعليم بهذه الطريقة اليوم؟ ولا المسئول، إذا سئل أعطاه الجواب، ما أعطاه نصف جواب وهو يمشي يمكن ما يثبت عليه، ولا شك أن التعليم بالفعل أبلغ من التعليم بالقول، وهذا وصفه -عليه الصلاة والسلام-، البلاغ والبيان، لكن هذه الطريقة لا يكاد أحد أن يحتملها، لو وهو بمفرده لو جاء إلى شخص ساكن بمفرده في مكان وقال: علمني الأوقات، ما يقول له: اجلس عندي يومين، وأصلي بك يوم في أول الوقت، واليوم الثاني في آخر الوقت، ولو لم يترتب على ذلك تأخير للمأمومين، وفي هذا تربية لأهل العلم أن يصبروا على السائل، الموجود الآن يعني مع ضغوط الحياة، يعني كان الناس عندهم فسحة من الوقت، وعندهم شيء من السعة في الصدر، ويستقبلون السائلين، ويجلسون معهم، ويقف في الشارع في حر الشمس، يستثبت من هذا السائل، ويجيبه بكل ما يريد.

الآن، الآن كل مشغول، حتى الوظيفة الإلهية التي هي إجابة السائل وعدم كتم العلم والتحذير من ذلك تجده إن أجاب فبنصف جواب، ولا أقول: إن كل أهل العلم على هذه الطريقة لكنه موجود، ويحصل كثيراً منا ومن غيرنا، يجي إلى العالم بيده المصحف يقرأ، يقول: غير هذا الوقت، نعم ينبغي أن يُعلَم طلاب العلم شيء من الأدب؛ لأن بعضهم قد يسيء، كما جاء واحد منهم لا يريد سؤال يبي يقرأ بكتاب والشيخ بيده مصحف ويقرأ، قال: والله أنا مشغول الآن، ثم تحدث في المجالس، الشيخ يقول: مشغول وهو جالس يقرأ قرآن، طيب القرآن ما هو بشغل؟ هذه مشكلة أيضاً من الطرف الآخر.

إذا كان هناك سؤال عابر لا مانع من إجابته أثناء قراءة القرآن، لكن يحضر كتاب بيقرأ وأنت تقرأ القرآن، لا مانع من رده أيضاً، فالأمور تقدر بقدرها.

هذا السائل جاء إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- فقال: «أقم عندنا» أقم عندنا يومين، وترتب عليه أنه أجل الصلاة بالنسبة لليوم الأول وفي اليوم الثاني أخّر الصلاة، وخلفه من يصلي معه -عليه الصلاة والسلام- من المأمومين، ولا شك أن في هذا مشقة تحصل بسبب التقديم كحصولها بسبب التأخير؛ لأنه بسبب التقديم قد تفوته الصلاة، وبسبب التأخير قد تفوته بعض مصالحه، لكن الناس في الصدر الأول همهم ما خلقوا من أجله، همهم ما خلقوا من أجله، وهو تحقيق العبودية، لكن الآن هل هم الناس الصلاة؟ هل منهم من يقول: أرحنا بالصلاة؟ بل لسان الحال عند كثير من المسلمين: أرحنا من الصلاة، يبي يتأخر الإمام خمس دقائق ما تحمل الناس، تلفت بعضهم على بعض، ثم في الدقيقة الثاني يأخذون في الكلام والسب، لماذا؟ لأن الصلاة ليست هم بالنسبة لهم، ولا يعني هذا أن الإمام يكون على..، يأخذ راحته بحيث يتضرر المصلون، مرة يصلي بهم في أول الوقت ومرة في أثنائه، ومرة في آخره من أجل أن يهتم الناس بما خلقوا له بناءً على فراغه وشغله هو، لا، هو عليه أن لا يشق على الناس، لكن إذا عرف من حال الناس أنهم لا يتضررون بهذا، وأنهم يقبلون مثل هذا، ما المانع أن يطبق فيهم السنة؟

"فأمر بلالاً فأقام حين طلع الفجر" بمجرد طلوع الفجر هو معلوم أن ركعتي الفجر من آكد السنن، ولا يقال: إنه بعد أن يشق الصبح وطلعت الفجر وأقيمت الصلاة بغلس وما صلى ركعتي الفجر، لا، هذه لا تحتاج إلى تنصيص؛ لأنه جاء فيها نصوص أخرى، نصوص كثيرة، وهي خير من الدنيا وما فيها، ركعتي الفجر "فأقام حين طلع الفجر –يعني بغلس في أول- ثم أمره فأقام حين زالت الشمس فصلى الظهر" يعني في أول الوقت، يعني هذا في اليوم الأول "ثم أمره فأقام فصلى العصر والشمس بيضاء مرتفعة" يعني في أول وقتها "ثم أمره بالمغرب حين وقع حاجب الشمس، ثم أمره بالعشاء فأقام حين غاب الشفق" فصلى الصلوات الخمس في أوائل أوقاتها "ثم أمره من الغد" في اليوم الثاني "فنور بالفجر" يعني ظهر النور، أسفر بصلاة الصبح فصلاها في أواخر وقتها قبل طلوع الشمس "ثم أمره بالظهر فأبرد وأنعم" بالغ في الإبراد، بالغ حتى صلاها في أواخر وقتها "وأنعم أن يبرد، ثم أمره بالعصر فأقام والشمس آخر وقتها فوق ما كانت" يعني كانت حينما صار ظل الشيء مثله في اليوم الأول، وفي الثاني مثليه، قبل أن تصفر الشمس، فوق ما كانت عليه يعني بالأمس، أي حين صار ظل كل شيء مثليه، وقبل اصفرار الشمس بخلاف اليوم الأول، فقد صلاها في أول وقتها حين صار ظل كل شيء مثله "ثم أمره فأخر المغرب إلى قبيل أن يغيب الشفق" أمره أن يؤخر فأخر المغرب إلى قبيل أن يغيب الشفق، وهذا دليل للجمهور على أن وقت المغرب يتسع هذه المدة، يعني ما يقرب من ساعة ونصف "ثم أمره بالعشاء فأقام حين ذهب ثلث الليل" حين ذهب ثلث الليل، ومعلوم أن التعليم في أول الأمر بالفعل كما في هذا الحديث وحديث إمامة جبريل، فهذا الحديث متقدم، ثم بعد ذلك صار يعلم الناس بالقول -عليه الصلاة والسلام-، ثم أمره بالعشاء فأقام حين ذهب ثلث الليل، وهذا يوافق حديث إمامة جبريل وأن وقت العشاء آخره ثلث الليل، وجاء بعده ما يدل على أن آخر وقت العشاء نصف الليل، فأقام حين ذهب ثلث الليل "ثم قال: «أين السائل عن مواقيت الصلاة؟» فقال الرجل: أنا" أي هاهنا، حاضر، يعني في وقتنا حتى السائل لو أجيب إلى ما طلب وصنع الإمام والجماعة كلهم ما تذمر منهم واحد، يمكن السائل ما يصبر، فإذا قيل: أين السائل؟ يمكن ما يجيب، صحيح ما صارت النفوس تتحمل، ما صارت النفوس تتحمل الآن، وإذا أردت أن تختبر الناس انظر إليهم عند الإشارات، لو تجد واقف واحد في آخر الشارع من جهة اليمين ووراه واحد يبي يلف يمين يصبر ثواني؟ ما يصبر، والمسألة ثواني، صحيح أن هذا الذي وقف أخطأ؛ لأن من حق هذا أن يلف يمين بدون إشارة، لكن الصبر أين الصبر؟ يعني في مواطن التجمعات في الصلوات مثلاً في المواسم في الجمع في الأعياد، تجد إنسان وراء الناس لا يصبر حتى يفرغ الطريق له، هذا يشترك فيه جل الناس اليوم، فما صار عند الناس تحمل، صارت النفوس لا تحتمل مثل هذه الأمور، فكيف السائل بيصبر يومين "فقال الرجل: أنا" أي هاهنا حاضر، نعم هو يعني احتمال صبره أكثر من احتمال صبر المأمومين، الذي يصبرون من أجل سؤال غيرهم، لكن مع ذلك في وقتنا ما أتصور أن سائلاً يبي يصبر يومين، مهما كانت حاجته، حين يطلبون الشفاعات ما يصبرون، يطلب شفاعة لنفسه يجي للواحد من أهل العلم مثلاً يقول: اكتب لي شفاعة إلى فلان وإلا علان إلى الجامعة الفلانية وإلا الأمير الفلاني، يقول: انتظر أنا الآن مشغول، صلِّ معنا العصر، طيب إلى متى؟ ما يصبر وبيشيل نفسه، والثاني محسن، ثم بعد ذلك إذا قال له: اترك الموضوع لي، اعطني أوراقك واكتب عليها، صار الشافع كأنه مذنب، والمشفوع له يتحسب عليه، أخّرنا أخره الله، هذا واقع الناس اليوم، يا أخي هذا محسن، محتسب، ما على المحسنين من سبيل، متى ما فرغ كتب لك يا أخي، ومن هذا معاناة عند كثير من أهل العلم، تجد بعض الناس من أجل شفاعة يرفع صوته على الشيخ، أخرتنا، ما معك حق، أنت تظن الناس كلهم فاضين، فكيف إذا كان مثل هذا السؤال، يعني هذا فيه تربية لجميع الأطراف، هذه التصرفات من النبي -عليه الصلاة والسلام- القدوة والأسوة هذه تربية لجميع شرائح المجتمع، بدءاً من الإمام الأعظم إلى أقل واحد، نعم قد يقول قائل: إن الرسول -عليه الصلاة والسلام- بين وبلغ ووضح فلسنا بحاجة إلى مثل هذه التصرفات، لكن هناك لها نظائر، يعني ليس لها أطراف يتضررون ومع ذلك الإنسان لا يصبر.

"فقال الرجل: أنا" أي هاهنا حاضر "فقال: «مواقيت الصلاة كما بين هذين»" والكاف زائدة، الأصل ما بين هذين الوقتين، ويقال في هذا ما قيل في درس الأمس في حديث إمامة جبريل، وأن المراد أن الصلاة في هذين الوقتين وما بينهما.

"قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب صحيح" وهو مخرج في صحيح مسلم، فالخبر صحيح وهو أيضاً عند أحمد النسائي وابن ماجه.

قال: "وقد رواه شعبة عن علقمة بن مرثد أيضاً" وهذه المتابعة من شعبة لسفيان مخرجة عند مسلم أيضاً.

سم.

عفا الله عنك.

قال المؤلف -رحمه الله تعالى-:

باب: ما جاء في التغليس بالفجر

حدثنا قتيبة عن مالك بن أنس قال: وحدثنا الأنصاري قال: حدثنا معن قال: حدثنا مالك عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "إن كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليصلي الصبح فينصرف النساء" قال الأنصاري: فيمر النساء متلففات بمروطهن ما يعرفن من الغلس، وقال قتيبة: متلفعات.

وفي الباب عن ابن عمر وأنس وقيلة بنت مخرمة.

حديث عائشة حديث حسن صحيح، وهو الذي اختاره غير واحد من أهل العلم من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- منهم أبو بكر وعمر -رضي الله عنهما- ومن بعدهم من التابعين، وبه يقول الشافعي وأحمد وإسحاق يستحبون التغليس بصلاة الفجر.

.............

طالب: لا، أما في نسختنا ما هو موجود، في نسخة ثانية موجود، في هذه النسخة ما هي بموجود يا شيخ.

.............

وهو اختلاط النور، نور الصبح بظلمة الليل، يقال: جاء في الغلس والدلس، في الاختلاط في الظلمة في أول وقت صلاة الصبح أو بعد غروب الشمس هذا فيه غلس، يعني بعد غروبها في أثناء صلاة المغرب، والمراد بالتغليس في صلاة الفجر المبادرة بها في أول وقتها، بعد أن يتحقق دخول الوقت.

قال -رحمه الله-: "حدثنا قتيبة" وهو بن سعيد، ثقة، من شيوخ الأئمة "عن مالك بن أنس" الإمام مالك نجم السنن "ح" في بعض النسخ حاء، وهي لا توجد في بعض النسخ، ومعلوم أن هذه الحاء يشار بها إلى تحويل السند، ومرت مراراً ويستعملها الإمام مسلم كثيراً، وأبو داود كذلك، هي توجد عند الترمذي لكنها أقل، وهي عند الإمام البخاري أقل بكثير، التحويل من إسناد إلى آخر، ومنهم من يقول كالمغاربة: أنها إشارة إلى رمز الحديث.

"قال: وحدثنا" العادة جرت أنها إذا أثبتت الحاء لا تذكر قال، وإنما يقال: ح وحدثنا، ح وحدثنا فلان، وحدثنا الأنصاري، إسحاق بن موسى الأنصاري "قال: حدثنا معن" وهو ابن عيسى بن يحيى الأشجعي "قال: حدثنا مالك" معن بن عيسى هذا من رواة الموطأ عن الإمام مالك "عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة" فعندنا قتيبة يروي الخبر عن مالك، ويرويه أيضاً الأنصاري عن معن عن مالك فالطريق الأولى أعلى من الطريق الثانية، عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن عمرة عن عائشة "-رضي الله عنها- قالت: إن كان" (إن) هذه مخففة من الثقيلة، أي إنه كان "رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" واسمها ضمير الشأن "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليصلي الصبح" إن كان ليصلي التأكيد بـ(إن) المخففة من الثقيلة وأيضاً باللام ليصلي، هي لام تأكيد "الصبح فينصرف النساء" فينصرف النساء يعني قبل الرجال أو بعد الرجال، المقصود أنهم لا ينصرفون في وقت واحد، يثبت الرجال في أماكنهم حتى ينصرف النساء، بأمره -عليه الصلاة والسلام- فأين هذا من دعاة الاختلاط واحتجاجهم بأن النساء يصلين مع الرجال؟ وقد جاء قوله -عليه الصلاة والسلام-: «خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها» "إن كان -عليه الصلاة والسلام- ليصلي الصبح فينصرف النساء" قال الأنصاري في روايته: "فيمر النساء" رواية الأنصاري هي الثانية، والأولى رواية قتيبة "فيمر النساء متلففات" ورواية قتيبة: "متلفعات" والمعنى واحد، المتلففة والمتلفعة مستترات، قد لفت على بدنها كاملاً من أعلاه إلى أسفله مرط، وهو كساء غليظ من خز أو صوف، متلففات بمروط، أكسية غليظة، ومعلوم أنه إذا كان هذا المرط غليظاً من صوف أو من خز فإنه لا يبين ما تحته لا للرائي، ولا يبين الحجم ولا المفاصل، يعني قد يبين إجمالاً يعرف أنها طويلة أو بدينة، لكن لا يعرف التفصيل ما وراء هذا المرط، وكان النساء إلى وقت قريب يعني قبل ثلاثين سنة يلبسن هذا النوع من العَباء، عباءات غليظة، كأنها خيمة، يعني سمكها ثلاثة ملي متر، فقارن بينها وبين ما يلبس اليوم، الذي يشف عما تحت الذي تحته، والله إن هذا الحاصل، ومع الأسف أن يسمى مثل هذه العباءات التي تبدي ما تحتها تسمى عباءة مكة، أو عباءة المدينة، ليضلل بها عوام المسلمين، عباءة مكة شفافة يرى جميع ما تحتها تسمى عباءة مكة، والنساء في عصره -عليه الصلاة والسلام- متلففات ومتلفعات "بمروطهن ما يعرفن من الغلس" أولاً: لا تعرف أعيانهن لغلظ ما لبسنه من المروط، ما يعرف أن هذه فلانة أو فلانة إلا إذا كانت متميزة بطول كما قال عمر -رضي الله عنه-: قد عرفناك يا سودة، وعمر -رضي الله عنه- ما قال هذا الكلام للإساءة إلى أم المؤمنين أبداً، وإنما قاله رغبة في أن يفرض الحجاب، وعلى إثر ذلك فرض الحجاب، قد عرفناك يا سودة، سودة امرأة طوال ضخمة، قد تعرف المرأة من...، لكن لا يعرف منها شيء، ولا يستدل بأي أمر يظهر على ما خفي وبطن، وكان النساء يجررن الثياب خلفهن ذراعاً، ذراع الثوب خلفها، ومع الأسف أن الرجال الآن هم الذين يجرون الثياب، والنساء ثيابهن قصيرة، وما قصر من الثياب أكمله فتح القميص من الجانبين، كما قال القرطبي -رحمه الله-: من مظاهر تبرج الجاهلية الأولى شق القميص من الجانبين" كأنه أمر صار عادي ومألوف، يعني إذا أريد إشارة على شيء للرجال صور رجل والثوب يسحبه أو البنطلون يسحبه، وإذا صُور هذا علامة على أن هذا مدْرسة بنات وإلا أمر نسائي اللباس قصير «حذو القذة بالقذة» مثل ما عند الكفار "ما يعرفن من الغلس، وقال قتيبة: متلفعات" ومتلففات أو متلفعات والمعنى واحد.

"قال أبو عيسى الترمذي: وفي الباب عن ابن عمر" وهو عند ابن ماجه وعن "وأنس" بن مالك عند البخاري، "وقَيلة بنت مخرمة" عند الطبراني في قصة طويلة، اعتنى بها أهل الغريب؛ لأنها قصة طويلة فيها طرافة وفيها فصاحة ذكرها الحافظ في ترجمتها في التهذيب والإصابة وهي أيضاً موجودة في طبقات ابن سعد، وغيرها يُرجع إليها، لكنها حديثة عهد بجاهلية، قالت: قد أقيمت صلاة الغداة تقول: حتى قدمنا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يصلي بالناس صلاة الغداة قد أقيمت حين شق الفجر والنجوم شابكة في السماء، والرجال لا تكاد تعارف من ظلمة الليل، فصففت مع الرجال، وأنا امرأة حديثة عهد بجاهلية، فقال لي الرجل الذي يليني من الصف: امرأة أنت أم رجل؟ فقلت: لا، بل امرأة، قال: إنك كدت أن تفتنيني، فصلي وراءك في النساء، والآن تصف المرأة بدون حياء بين الرجال في أقدس البقاع في المسجد الحرام، بل جاءت امرأة في العام الماضي أو الذي قبله تدَّعي أنها فقيهة، وأنها دكتورة في الفقه، وتدرس في جامعة عريقة طلبت أن تصلي خلف الإمام في المسجد الحرام، وأن الخطاب الرجال يعم النساء، والحث على الصفوف الأولى يشملها، فقيل لها: خير صفوف النساء آخرها، لكنها زعمت أنها فقيهة وأن عندها معرفة بشيء من المسائل، أخيراً أجبرت إجبار إلى أن تنصرف على مكان النساء، فإذا كانت هذه تزعم أنها فقيهة، فكيف بالعوام إذا لم يكن هناك توجيه بقيام كل شخص بما أوجب الله عليه؟! العالم يقوم بدوره، الداعية يقوم بدوره، المعلم يقوم بدوره، ولي الأمر يقوم بدوره، الزوج يقوم بدوره، الأب الأخ، أما إذا ترك الحبل على الغارب فالنساء كما جاء في الحديث الصحيح: «ناقصات عقل ودين» لا بد من توجيههن، ولا بد من الأخذ على أيديهن، لا يمنع أن يكون فيهن من كمُلت، وفيهن من تقرب من الكمال، وفيهن العابدات، وفيهن الصالحات، وفيهن العالمات، لكن في الجملة عموم النساء هذا وصفهن، ولذلك تزاحم الرجال من أجل سنة وترتكب محرمات، وتسجد أمام الرجال وقد يسجد بعضهم من شدة الزحام على شيء من بدنها، وقد رأيناها في المطاف، في أيام المواسم، تأتي لطواف الإفاضة وطواف الوداع فتقام الصلاة وهي في المطاف، فتصلي مع الناس من يمينها رجل، وعن يسارها رجل ومن خلفها رجل، وهكذا، هذا خلل، هذا خلل بلا شك، لا بد من الانتباه له.

"قال أبو عيسى: حديث عائشة حديث حسن صحيح" وأخرجه الجماعة، وأيضاً في الباب عن جابر في الصحيحين وأبي بردة وأبي برزة أيضاً في الصحيحين، حديث أبي برزة وأبي مسعود عند أبي داود، فالحديث مروي من طرق متعددة، ولا مجال للنظر في ثبوته؛ لأنه مروي في الصحيحين وغيرهما، وأيضاً جاء عن صحابة منهم من ذكرنا، ابن عمر وأنس وقيلة وجابر وأبي برزة وأبي موسى.. أو أبي مسعود.

وقد رواه الزهري عن عروة عن عائشة نحوه، روى حديث الباب الزهري عن عروة عن عائشة نحوه.

يقول الشيخ أحمد شاكر: الزيادة من نسخة ورمز لها بعين، وهي زيادة جيدة، ورواية الزهري عن عروة في الصحيحين وغيرهما، وقد رواه الزهري عن عروة وعن عمرة كلاهما عن عائشة والروايتان صحيحتان.

"وهو الذي اختاره غير واحد من أهل العلم من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- منهم أبو بكر وعمر ومن بعدهم من التابعين" اختاره غير واحد من أهل العلم، يعني التغليس بصلاة الصبح والتبكير بها، وفعلها في أول وقتها "وبه يقول الشافعي وأحمد وإسحاق يستحبون التغليس بصلاة الفجر" وبه أيضاً يقول الإمام مالك، وأما الإمام أبو حنيفة فيرى الإسفار.

سم.

عفا الله عنك.

قال -رحمه الله تعالى-:

باب: ما جاء في الإسفار بالفجر:

حدثنا هناد قال: حدثنا عبدة عن محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة عن محمود بن لبيد عن رافع بن خديج -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر».

وقد روى شعبة والثوري هذا الحديث عن محمد بن إسحاق، ورواه محمد بن عجلان أيضاً عن عاصم بن عمر بن قتادة.

وفي الباب عن أبي برزة وجابر وبلال -رضي الله عنهم-.

حديث رافع بن خديج حديث حسن صحيح، وقد رأى غير واحد من أهل العلم من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- والتابعين الإسفار بصلاة الفجر، وبه يقول سفيان الثوري وقال الشافعي وأحمد وإسحاق: معنى الإسفار أن يضح الفجر فلا يشك فيه، ولم يروا أن معنى الإسفار تأخير الصلاة.

يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:

"باب: ما جاء في الإسفار بالفجر" الباب الأول في التغليس وفعل الصلاة في أول وقتها بعد التأكد من طلوع الفجر، وهنا الإسفار يعني بعد مضي وقت من صلاة الصبح يسفر فيه الجو ويعرف الإنسان جليسه، بخلاف التغليس الذي لا يعرف فيه جليسه، في الموضع الأول: لا يرى مواضع نبله، وفي الثاني: يرى مواقع نبله، فجاء الإسفار بالحديث المتقدم وبالأحاديث الكثيرة المتظافرة عن النبي -عليه الصلاة والسلام-، وهي عادته وديدنه، وأما الإسفار فجاء من قوله -عليه الصلاة والسلام-.

"باب: ما جاء في الإسفار بالفجر"

قال -رحمه الله-: "حدثنا هناد" وهو ابن السري "قال: حدثنا عبدة" وهو ابن سليمان "عن محمد بن إسحاق" محمد بن إسحاق إمام أهل المغازي، تكلم فيه أهل العلم بكلام كثير من أوثق الناس إلى دجال من الدجاجلة، كلام أهل العلم فيه كثير جداً، كتب بعضهم فيه وفي ما قيل فيه أكثر من سبعين صفحة، والخاتمة أن الرجل صدوق، لكنه مدلس لا بد أن يصرح بالتحديث، وإذا حدث في المغازي فهو إمام، وفي غيرها من الأبواب فيه كلام لأهل العلم، وغاية ما يقال فيه: إنه صدوق مدلس، لا بد أن يصرِّح بالتحديث.

"عن محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة" هنا لم يصرح، الأوسي المدني وهو ثقة من الطبقة الرابعة "عن محمود بن لبيد" صحابي صغير "عن رافع بن خديج" فالحديث يرويه صحابي عن صحابي "عن رافع بن خديج قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر»".

«أسفروا» يعني صلوا الفجر إذا ضاء الفجر ووضح «فإنه أعظم للأجر» أي الإسفار بالفجر أعظم، والمفضل عليه في أفعل التفضيل هنا إذا كان الإسفار أعظم فما المفضل عليه في أفعل التفضيل هنا؟ التغليس، التغليس الذي كان يفعله النبي -عليه الصلاة والسلام-، «أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر» كيف يقال: إن الذي فعله النبي -عليه الصلاة والسلام- مفضول بالنسبة للإسفار؟ ولذا طعن بعضهم في الحديث، وضعفه بسبب عنعنة ابن إسحاق، لكنه توبع على ذلك فارتفعت وانتفت تهمة التدليس، لكنه من حيث المعنى أعظم للأجر، وبعضهم يقول: إن أعظم هنا بمعنى عظيم، فإن أجره عظيم، وأحياناً يأتي في المفضول ما يظن به فاضلاً، عادته -عليه الصلاة والسلام- وديدنه التبكير، وما كان النبي -عليه الصلاة والسلام- ليختار لنفسه إلا الأفضل، وقد يفعل المفضول لبيان الجواز، ويكون في حقه أفضل.

يرد في المفضول ما يرفع من شأنه ليدل به على جوازه، الذي أعاد الصلاة بعد أن وجد الماء قيل له: لك الأجر مرتين، لكن الثاني قيل له: أصبت السنة، و«من عمر شمال الصف كان له كفلان من الأجر» لكن الحث على يمين الصف لا شك أنه أكثر؛ لئلا يعطل يسار الصف، هذا إن ثبت الخبر عند ابن ماجه وغيره، من أجل أن لا يعطل ويهجر شمال الصف، هل هنا فيه ما يستدعي الحث على تأخير الصلاة عن وقتها؟ الفاضل الذي هو التغليس إلى الإسفار هي في الوقت بلا شك، لكن بعضهم قال: إن المراد الإسفار التحقق من طلوع الفجر؛ لأنه من كثرة ما ورد في التغليس هذا قد يحمل بعض الناس لشدة حرصه على تطبيق السنة أن يصليها قبل طلوع الفجر، فيقال لمثل هذا: أسفر فإنه أعظم للأجر، ونصوص الشرع كما قلنا مراراً: علاج، الذي يؤخر صلاة الفجر يقال له: النبي -عليه الصلاة والسلام- يصليها بغلس، والذي يقدمها ويبادر بتقديمها فيخشى عليه من أن تقع صلاته قبل دخول الوقت يقال له: أسفر فإنه أعظم للأجر.

"قال: وقد روى شعبة والثوري هذا الحديث عن محمد بن إسحاق" شعبة والثوري، شعبة لا يروي عن مدلس إلا ما تحقق سماعه قال: "ورواه محمد بن عجلان أيضاً عن عاصم بن عمر بن قتادة" محمد بن عجلان تابع ابن إسحاق، وشعبة روى الخبر عن ابن إسحاق، فمحمد بن إسحاق له متابع، وروى عنه شعبة الذي لا يروي عن المدلسين إلا ما تحقق سماعه.

قال: "وفي الباب عن أبي برزة الأسلمي وجابر وبلال" عن أبي برزة الأسلمي وجابر وبلال يقول الشارح المباركفوري: لم أقف على من أخرج حديثهما، وأخرج البخاري عنهما التغليس، يعني ما وقفت على رواية عن أبي برزة وجابر في الإسفار، لكنهما ذكرا في التغليس، جابر في الصحيحين وأبي برزة في الصحيحين أيضاً، وبلال حديثه عند البزار لكنه حديث صحيح.

"قال أبو عيسى: حديث رافع بن خديج حديث حسن صحيح"، "حديث رافع بن خديج" في الإسفار "حديث حسن صحيح".

"وقد رأى غير واحد من أهل العلم من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- والتابعين الإسفار بصلاة الصبح" هل يمكن أن يكون حديث رافع بن خديج بسند الترمذي الذي ذكره حسن صحيح؟! إلا أن يكون من تساهل الإمام الترمذي وإلا ففي أبي إسحاق فيه كلام كثير لأهل العلم، وإذا قلنا بالقول المعتدل: أنه صدوق، قلنا: حديث حسن فقط، لكنه بالشواهد التي ذكرها وبالمتابعات يصل إلى درجة الصحيح.

"وقد رأى غير واحد من أهل العلم من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- والتابعين الإسفار بصلاة الفجر، وبه يقول سفيان الثوري" هو قول الحنفية، عندهم الإسفار بصلاة الصبح أفضل من التغليس عملاً بهذا الحديث.

"وقال الشافعي وأحمد وإسحاق" وهم ممن يرون التغليس، قالوا إجابة عن هذا الحديث: "أن يضح الفجر" يعني يتحقق طلوعه "فلا يشك فيه، ولم يروا أن معنى الإسفار تأخير الصلاة".

بعض أهل العلم حملوا الحديث على الليالي المقمرة؛ لأن أول الصبح لا يتبين فيها، وحمله بعضهم على الليالي القصيرة ليمتد الوقت؛ لأن الليل قصير، فإذا أسفر بصلاة الصبح أدركها من نام ولم يكفه نوم الليل، فمن أجلهم ورفقاً بهم في الليالي القصيرة تؤخر صلاة الصبح، وهذا يفعله بعضهم.

وحمله بعضهم على الليالي القصيرة ليدرك النوام الصلاة، وجاء فيه حديث عن معاذ لما بعثه النبي -عليه الصلاة والسلام- إلى اليمن، وأمره بالتفريق بين ليالي الشتاء وليالي الصيف، وبعضهم قال: إنه يدخل في صلاة الصبح بغلس وينصرف منها حال الإسفار لطول القراءة، كان النبي -عليه الصلاة والسلام- يقرأ ما بين الستين إلى المائة من الآيات، فإذا دخل فيها بغلس خرج منها بعد الإسفار.

هذا كلام لبعضهم، لكن المعروف أنهم ينصرفون منها ولا يعرف أحدهم جليسه من الغلس، مع طول القراءة، فدل على أنها تصلى في أول وقتها «إذا صلى أحدكم بنفسه فليطول ما شاء» جاء في الحديث الصحيح حديث معاذ: «أيكم أم الناس فليخفف فإذا صلى لنفسه فليطول ما شاء» النبي -عليه الصلاة والسلام- ثبت عنه أنه قرأ في صلاة الليل في ركعة واحدة خمسة أجزاء، قرأ البقرة ثم النساء ثم آل عمران.

يقول: أنا أصلي لنفس فاتتني الصلاة وأريد أن أحقق هذا الأمر: «فليطول لنفسه ما شاء» أقرأ في الركعة الأولى خمسة أجزاء، وفي الثانية أربعة، يترتب على ذلك أن يخرج الوقت وهو في الصلاة، يشرع فيها هو جاء والناس قد صلوا، وبقي من وقت الصلاة ساعة أو أقل من ساعة، فإذا قرأ في الركعة الأولى خمسة قطعاً خرج الوقت، أو لو قرأ البقرة فقط في الأولى وآل عمران في الثانية على طريقة الرسول يخرج الوقت، والرسول يقول: «فليطول لنفسه ما شاء» هل نقول: لا تطول؛ لئلا يخرج الوقت؟ أو نقول: طول لنفسك ما شاء ما دام أدرك ركعة قبل طلوع الشمس فأنت في الوقت؟ هذا الرجل يقول: الرسول يقول: «فليطول» هذا أمر، لكن هل هذا الأمر للإلزام أو للإباحة؟ لأنه بعد حظر، بعد منع، إذا كان في جماعة لا يجوز أن يطول عليهم بما يشق عليهم، ثم جاء الإذن له إذا صلى وحده، فيكون للإباحة، لا يكون هو الأفضل، أن يصلي ركعة في الوقت بحجة أنه يطول لنفسه ما شاء، ثم بعد ذلك ركعة بعد الوقت ويكون بذلك قد أدرك الصبح، هو أدرك الصبح بلا شك «من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح» لكن إخراج الصلاة عن وقتها لا شك أنه مفضول، وإن كان جائزاً في الجملة، والله أعلم.

وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

"
يقول: نود توضيح حقيقة وقت الفجر حيث ظهر فتوى بتقديم تقويم أم القرى.

الآن لو نظرنا إلى تقويم أم القرى وصلينا بعد طلوع الفجر حسب التقويم ركعتي الصبح ثم أقيمت الصلاة، الآن يطلع الفجر هنا أربع وسبع دقائق أو ثمان دقائق، افترض أنه أذن أربع وسبع دقائق وفرغ من الأذان أربع وعشر، ثم صلينا الركعتين وأقيمت الصلاة أربع وربع على التقويم، وقرأنا في صلاة الصبح على طريقة قراءة النبي -عليه الصلاة والسلام- بين الستين إلى المائة، هل نخرج منها بغلس أو بإسفار؟ خلونا على هذا التدريج، نخرج بغلس وإلا بإسفار؟ لا شك أننا نخرج بإسفار، وهناك لجان تعمل على تثبيت الوقت الصحيح وشُكل لجنة وراقبت الأوقات في أقصى الشمال -شمال المملكة- وفي أقصى الجنوب، وفي الوسط وفي الشرق والغرب، فكانت نتيجتها أن التقويم قد يتقدم دقيقتين أو يتأخر دقيقة، لما أجريت هذه المراقبة بدقة من ناس لديهم الخبرة والمعرفة والعلم الشرعي فهذه من أواخر اللجان التي خرجت، وهناك لجنة خرجت قبل عشر سنوات اثنا عشر سنة على وقت الشيخ ابن باز وأقرها وأفتى بموجبها ونشرت الفتوى في الصحف، ولا ينكر أنه يوجد من طلاب العلم من خرج لمراقبة الأوقات، وأثبت فرق، هذا لا ينكر، لكن أظن أن مرد الاختلاف إلى فهم دخول الوقت، فالمراد بالخيط الأبيض من الخيط الأسود هو شيء رقيق رفيع لا يدركه أكثر الناس، وطلوع الفجر إذا قلنا: إنه من انفجار الضوء هذا يدركه كل أحد، وقد يكون بين الخيط الأبيض وبين انفجار الصبح قد يكون فيه وقت، وهذا هو الذي أثبته بعضهم، فهل الوقت منوط بالخيط الأبيض من الخيط الأسود كالامتناع من الأكل والشرب أو من انفجار الوقت ووضوحه؟
أظن أن هذا هو محل الاختلاف بين هذه اللجان التي تخرج، ويحصل بينها من الخلاف ما يحصل.