شرح العقيدة الطحاوية (09)

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، اللهم اغفر لنا ولشيخنا واجزه عنا خير الجزاء برحمتك يا أرحم الراحمين، قال المؤلف رحمه الله تعالى:

قوله: لا يفنى ولا يبيد، إقرار بدوام بقائه سبحانه وتعالى قال عز من قائل {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَان}[الرحمن:26]  ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام والفناء والبيد متقاربان في المعنى والجمع بينهما في الذكر للتأكيد وهو أيضا مقرر ومؤكد لقوله دائم بلا انتهاء.

الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيقول المؤلف رحمه الله تعالى لا يفنى ولا يبيد ومن عداه خُلق للفناء {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَان * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَام * فَبِأَيِّ آلاَء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَان}[الرحمن:26-28] وقرن بين نفي الفناء ونفي البيد وهما متقاربان في المعنى ومنهم من يقول هما مترادفان على خلاف بين أهل العلم هل يوجد الترادف التام والتطابق في المعنى من كل وجه أو أن هناك شيء من الاختلاف الذي قد يخفى على كثير من طلاب العلم، بل في كتب اللغة يحكمون بالترادف بين بعض الألفاظ وإذا دقق وحقق وقورن بينها بدقة وجد بعض الفروق، ومن أنفع ما يقرأ في هذا الباب كتاب الفروق اللغوية لأبي هلال العسكري فتجده يذكر الألفاظ التي لا ترى فيها اختلافا من حيث المعنى لكن هو يوجد فروقا دقيقة بناء على استقراء تام لكتب اللغة، قال والفناء والبيد متقاربان في المعنى ما قال مترادفان؛ لأن كل مادة من هاتين المادتين فني وباد لها تركيب ولها اشتقاقات منها الأصغر ومنها الأكبر، ويلاحظ يعني قد تجد في كتاب ابن فارس معجم مقاييس اللغة يأتيك بأصل المادة ومعناها ثم بعد ذلك يفرع عليها الفاء والنون والياء حروف أصلية وكذلك الباء والياء والدال ثم يقارن بينها وهو من أنفع الكتب في هذا الباب كتاب موسع، وفيه الكلمات أو فيه أكثر ما يحتاج إليه من هذه الكلمات في بيان التركيبة الأصلية للكلمة، وأما من حيث المعاني فكتاب الفروق لأبي هلال العسكري مفيد جدا، يذكر لك مثلا الفرق بين النوع والصنف والضرب والقسم هي متقاربة من حيث المعاني لكن لكل واحد منهما ما يختص به من دقائق المعاني، هنا قال رحمه الله: والفناء والبيد متقاربان في المعنى والجمع بينهما في الذكر للتأكيد، وهو ما يدل على الدوام والبقاء له- جل وعلا- وهو أيضا مقرر ومؤكد لقوله دائم بلا انتهاء، أنتم رأيتم في هذه العقيدة أن فيها من الألفاظ ما يمكن الاستغناء عنه بما قبله أو بما بعده فهو يردف جملا مسجوعة قد يكون بعضها يغني عن بعض لكنها في الجملة لها مدلولات، يعني قد لا يحتاج إلى الفروق بينها طالب العلم- طالب العقيدة- بقدر ما يحتاج إليها المتمكن في العلم، المقصود بالذات الذي هو العقيدة، وعلم اللغة مثلا لا يفنى ولا يبيد يقول لماذا لا يقتصر على واحدة منهما لاسيما أن المتن ينبغي أن يعتصر ليحفظ وقوله دائم بلا انتهاء وهو مفاد قوله جل وعلا {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ}[الحديد:3] الذي فسره النبي -عليه الصلاة والسلام- هو الآخر فليس بعده شيء هذا يعني بلا انتهاء.

قوله: ولا يكون إلا ما يريد، هذا رد لقول القدرية والمعتزلة فإنهم زعموا أن الله أراد الإيمان من الناس كلهم والكافر أراد الكفر وقولهم فاسد مردود لمخالفته الكتاب والسنة والمعقول الصحيح وهي مسألة القدر المشهورة وسيأتي لها زيادة بيان إن شاء الله تعالى.

القدرية الذين ينفون القدر ويقولون إن الأمر أنف وأن العبد يخلق فعله ويستقل بفعله، ويرون أيضا أن الأسباب تستقل بالمسببات دون تأثير من الله جل وعلا له، فجعلوا مع الله خالقا غيره؛ ولذا سموا مجوس هذه الأمة، زعموا أن الله أراد الإيمان من الناس كلهم وكان المراد بالإرادة الشرعية فقد أراد الله الإيمان من الناس كلهم وإن كان المراد الإرادة الكونية القدرية فالله- جل وعلا- أراد إرادة شرعية وحكم وقضى وقدّر على بعض خلقه ألا يستجيب لهذه الإرادة والكافر أراد الكفر وإرادته ومشيئته مستقلة عن إرادة الله- جل وعلا- ومشيئته عند القدرية لكن المقرر عند أهل السنة أن العبد له إرادة وله مشيئة لكنها تابعة لإرادة الله ومشيئته {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ}[الإنسان:30]  بخلاف مقابلهم وهم قدرية أيضا لكن أولئك يبالغون في النفي وهؤلاء يبالغون في الإثبات وهم الجبرية الذين يقولون أن العبد لا قدرة له ولا مشيئة، بل هو مسيّر لا يملك من أمره شيئا وحركته كحركة ورق الشجر{وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى}[الأنفال:17]  ليس له من أمره شيئا، ويزعمون أنه إذا طلب منه شيء وحكم عليه بضده، طلب منه الإيمان وقضي عليه بالكفر أن هذا ظلم له؛ لأنه مجبور على أفعاله، فهؤلاء في طرف، وأهل السنة في طرف، وأهل النفاة في طرف، والمثبتون الغلاة الجبرية في طرف، وأهل السنة وفقوا في العمل بنصوص الفريقين؛ لأن النفاة اعتمدوا على نصوص، والمثبتة اعتمدوا على نصوص، لكنهم ضربوا هذه بهذه ولم يوفقوا للتوفيق بينها وحملها على المحامل الصحيحة التي تؤيدها النصوص وقولهم فاسد مردود لمخالفته الكتاب والسنة والمعقول الصحيح، وهي مسألة القدر المشهورة، ومعبد الجهني من أوائل من قال بالقدر كما في صحيح مسلم، بل أول من قال بالقدر وجاؤوا لعبد الله بن عمر رضي الله عنه وذكروا له ما أحدث في هذه المسألة العظيمة وحكم ابن عمر بكفرهم وأن الله لا يقبل منهم صرفا ولا عدلا ولو أن لأحدهم مثل أحد ذهب وتصدق به ما تقبل منه وكأنه يلحظ قول الله جل وعلا: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ}[التوبة:54] ولا شك أن من نفى العلم السابق وقال إن الأمر أنف وأن الله لا يعلم شيئا قبل وقوعه هذا كافر بالإجماع، لكن أهل العلم يقررون أن هذا النوع لا يوجد الآن يعني في وقتهم قديما يعني وجد في أول الأمر ثم انقرض لأنه كفر صريح، الله جل وعلا لا يعلم ما يحصل في ملكه؟! يذكر عن بعض الفلاسفة أنه يعلم الكليات ولا يعلم الجزئيات يعني التفاصيل ما يعرفها لكن الكليات يعلمها وعلى كل حال كل هذا ضلال وإفك وقول على الله بلا علم، والمعتزلة في هذا الباب قدرية والروافض في هذا الباب قدرية.

وسموا قدرية لإنكارهم القدر وكذلك تسمى الجبرية المحتجون بالقدر قدرية أيضا.

لكن هؤلاء نفاة وهؤلاء غلاة في الإثبات.

والتسمية على الطائفة الأولى أغلب أما أهل..

يعني عند الإطلاق إذا أطلق القدرية فالمراد بهم النفاة، والرازي في تفسيره يقرر وبقوة عقيدة الجبر والغلو في إثبات القدر.

أما أهل السنة فيقولون إن الله وإن كان يريد المعاصي قدرا فهو لا يحبها ولا يرضاها ولا يأمر بها بل يبغضها ويسخطها ويكرهها وينهى عنها، وهذا قول السلف قاطبة فيقولون ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ولهذا اتفق الفقهاء على أن الحالف لو قال والله لأفعلن كذا إن شاء الله لم يحنث إذا لم يفعله وإن كان واجبا أو مستحبا.

لأنه إذا لم يفعله فقد تبين بذلك أن الله جل وعلا لم يشأه.

ولو قال إن أحب الله حنث إذا كان..

إن أحب اللهُ يعني أحب الله فعل ذلك.

أحسن الله إليك.

إن أحب اللهُ حنث إن كان واجبا أو مستحبا.

لأن الله جل وعلا يحب الواجب ويحب المستحب.

والمحققون من أهل السنة يقولون الإرادة في كتاب الله نوعان إرادة قدرية كونية خلْقية وإرادة دينية أمرية شرعية فالإرادة الشرعية.

يجتمعان في إيمان المؤمن الله أراده شرعًا وطلب منه أن يؤمن وأراده كونا وقدرا فحصل الإيمان منه والإرادة الكونية تستقل بعدم إيمان الكافر؛ لأن الله أراد منه شرعا لكنه لم يرد منه قدرا.

فالإرادة الشرعية هي المتضمنة للمحبة والرضا والكونية هي المشيئة الشاملة لجميع الحوادث وهذا كقوله تعالى: {فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء}[الأنعام:125]  وقوله تعالى عن نوح..

{فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ}[الأنعام:125]  هذه إرادة شرعية وأيضا كونية والإرادة الثانية {وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ}[الأنعام:125]

هذه إرادة كونية وإلا فقد أراد الله منه أن يسلم ويؤمن.

وقوله تعالى عن نوح عليه السلام {وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ}[هود:34]

القدر حجة أهل الإشراك القدر حجة المشرك {لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا}[الأنعام:148] {لَوْ شَاء اللّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ}[النحل:35]  لكن هل هذه حجة هل أنت مجبور على أفعالك؟

 لك حرية واختيار ولا أحد يمنعك إذا أردت إلا إذا كان الله جل وعلا كتب عليك الشقاوة فحريتك واختيارك تابعة لمشيئة الله وقدره، الآن إذا مررت بشخص تقول له صلّ وهو جالس والناس يصلون ويقول لك الله يهدينا في أحد يمنعه من أن يقوم على قدميه ويذهب إلى الميضأ ويتوضأ ويصلي مع الناس ليست لديه القدرة أن يفعل هذا؟! لكن ما الذي منعه المشيئة الكونية والقدر أو ليس عنده اختيار؟! يستطيع أن يقوم إلى الميضأ ويتوضأ ويصلي مع الناس ما فيه أدنى تردد، ما يقال والله أنه حاول أن يقوم وسقط لأن الله ما أراد له، لا أحد يقول هذا ولا الكفار يقولون هذا الكلام.

وقوله تعالى: {وَلَـكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيد}[البقرة:253] وأما الإرادة الدينية الشرعية الأمرية فكقوله تعالى: {يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}[البقرة:185] وقوله تعالى: {يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيم * وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًا}[النساء:26-27].

يعني لو أن إنسانا قال لآخر بلّغ سلامي فلانا، فقال إن شاء الله وما بلّغه ماذا يكون عليه؟

 ما خالف هو ربط ذلك بالمشيئة، والله سبحانه وتعالى ما شاء أن يبلغ فلا لوم عليه، لكن إذا قال بلّغ سلامي فلان لاسيما إذا كان ممن تلزم طاعته ولا ربطه بمشيئة يُلام لأنه فرّط في شيء التزم به.

{وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًا * يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا}[النساء:27-28] وقوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ}[المائدة:6] وقوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}[الأحزاب:33] فهذه الإرادة هي المذكورة في مثل قول الناس لمن يفعل القبائح هذا يفعل ما لا يريده الله أي لا يحبه ولا يرضاه ولا يأمر به.

هذا يفعل ما لا يريده الله هذا الكلام صحيح إذا كان المراد بالإرادة الشرعية وليس بصحيح إذا كان المراد الكونية القدرية.

وأما الإرادة الكونية فهي الإرادة المذكورة في قول المسلمين ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.

ولو لم يكن ولو كان مما يحبه الله- جل وعلا- ما شاء الله كان ولو لم يحبه الله، وما لم يشأ لم يكن ولو أحبه الله- جل وعلا -إذا أريد به الإرادة الكونية.

والفرق ثابت بين إرادة المريد أن يفعل وبين إرادته من غيره أن يفعل، فإذا أراد الفاعل أن يفعل فعلا فهذه الإرادة المعلقة بفعله، وإذا أراد من غيره أن يفعل فعلا فهذه الإرادة لفعل الغير وكلا النوعين معقول للناس والأمر يستلزم الإرادة الثانية دون الأولى فالله تعالى إذا أمر العباد بأمر فقد يريد إعانة المأمور على ما أُمر به وقد لا يريد ذلك وإن كان مريدا منه فعله.

الله جل وعلا يقول:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا}[الإسراء:15] لا بد من البيان للناس وقيام الحجة عليهم لئلا يكون للناس على الله حجة، فبُعثت الرسل وأنزلت الكتب من أجل هذا، لكن ما وراء ذلك من التوفيق والقبول هذه مسألة ثانية من قَبِل، فقد أراد الله له الهداية وكتب له السعادة ومن لم يقبل بعد أن بُيِّن له فلا حجة له وغلبت عليه الشقاوة، وهل من اللازم بعد البيان والتمكين من الفعل أن يعان على هذا الفعل؟ يعني لو مدرس قُدِّر أنا مدحت كتابا وأثنيت عليه وخرج نصف الطلاب قبل نهاية الدرس وبحثوا في المكتبات وسألوا عنه ما وفقوا لوجوده بقي نصف الطلاب مثلا قلت لهم الكتاب مطبوع بمطبعة كذا وبِيع في مكتبة كذا هذا فيه إعانة على الحصول عليه أولئك ما أعنتهم ولا دللتهم عليه، إنما أثنيت على الكتاب وخرج النصف الثاني وبقي خمسة طلاب وقلت لهم عندي لكم نسخ هل أنا ظلمت أولئك الذين خرجوا وبحثوا أنا بينت لهم أن هذا الكتاب نافع فاقتنوه ما بقي علي حجة، ما قال والله ما ذكرت لنا اسم الكتاب، عندكم وسائل وطرق تتمكنون بها من الحصول على الكتاب والبيان حصل والحجة انقطعت، لا أحد يقول لي والله أنت ما ذكرت الكتاب أو تركتنا في عمّيا ما ندري ما هو المرجع الذي نرجع إليه؟! الله-جل وعلا-بيّن للناس كلهم وأرسل رسوله ليبين للناس ما نُزّل إليهم وما ترك لأحد حجة، فمن أراد الله له الهداية وشرح صدره للإسلام ووفقه هذا حصلت له هداية الدلالة وهداية التوفيق وأولئك انقطعت حجتهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب.

وتحقيق هذا مما يبيّن فصل النزاع في أمر الله تعالى هل هو مستلزم لإرادته أم لا، فهو سبحانه أمر الخلق على ألسن رسله عليهم السلام بما ينفعهم ونهاهم عما يضرهم ولكن منهم من أراد أن يخلق فأراد سبحانه أن يخلق ذلك الفعل و يجعل..

لأن الله-جل وعلا-خالق العبد وخالق فعله {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُون}[الصافات:96]

والقدرية والمعتزلة النفاة يزعمون أن العبد يخلق فعله، وللإمام البخاري كتاب من أنفع ما يُذكر في هذا الباب وهو خلق أفعال العباد.

فأراد سبحانه أن يخلق ذلك الفعل ويجعله فاعلا له، ومنهم من لم يرد أن يخلق فعله فجهة خلقه سبحانه لأفعال العباد وغيرها من المخلوقات غير جهة أمره للعبد على وجه البيان لما هو مصلحة للعبد أو مفسدة وهو سبحانه إذا أمر فرعون وأبا لهب وغيرهما بالإيمان كان قد بيّن لهم ما ينفعهم ويصلحهم إذا فعلوه ولا يلزم إذا أمرهم أن يعينهم بل قد يكون في خلقه لهم ذلك الفعل وإعانتهم عليه وجه مفسدة من حيث هو فعلٌ له فإنه يخلق ما يخلق لحكمة ولا يلزم إذا كان الفعل المأمور به مصلحة للمأمور إذا.. مصلحة للمأمور إذا فعله أن يكون مصلحة للآمر إذا فعله هو، أو جعل المأمور فاعلا له فأين جهة الخلق من جهة الأمر فالواحد من الناس يأمر غيره وينهاه مريدا لنصحه ومبينا لما ينفعه وإن كان مع ذلك لا يريد أن يعينه على ذلك الفعل إذ ليس كل ما كان مصلحته في أن آمر به غيري وأنصحه يكون مصلحتي في أن أعاونه أنا عليه بل قد تكون مصلحتي إرادة ما يضادُّه فجهة أمره لغيره نصحا غير جهة فعله لنفسه وإذا أمكن الفرق في حق المخلوقين فهو في حق الله أولى بالإمكان والقدرية تضرب مثلا بمن أمر غيره بأمره فإنه لا بد أن يفعل ما يكون المأمور أقرب إلى فعله كالبِشْر والطلاقة وتهيئة المساند والمقاعد ونحو ذلك فيقال لهم هذا يكون على وجهين أحدهما أن تكون مصلحة الأمر تعود إلى الآمر كأمر الملك جنده بما يؤيد ملكه وأمر السيّد عبده بما يصلح ملكه.

هذا لا بد من أن يعينه على ما يحقق لأن المصلحة راجعة إليه لكن هل المصلحة في طاعة المطيع تعود إلى الله جل وعلا؟ لا، «يا عبادي لو أن أولكم وآخركم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا» الله-جل وعلا-خلق الخلق وقال هؤلاء للجنة ولا أبالي وهؤلاء للنار ولا أبالي.

وأمر الإنسان شركاءه بما يصلح الأمر المشترك بينهما ونحو ذلك الثاني أن يكون الآمر يرى الإعانة للمأمور مصلحة كالأمر بالمعروف وإذا أعان المأمور على البر والتقوى فإنه قد علم أن الله يثيبه على إعانته على الطاعة وأنه في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه فأما إذا قُدِّر أن الآمر إنما أمر المأمور لمصلحة المأمور لا لنفع يعود على الآمر من فعل المأمور كالناصح المشير وقُدِّر أنه إذا أعانه لم يكن ذلك مصلحة للآمر وأن في حصول مصلحة المأمور مضرة على الآمر مثل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى وقال موسى وقال لموسى {إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِين}[القصص:20]

إني.. إني..

إني لك..

لك من الناصحين..

{إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِين}[القصص:20] فهذا مصلحته في أن يأمر موسى عليه السلام بالخروج لا في أن يعينه على ذلك إذ لو أعانه لضره قومه ومثل هذا كثير وإذا قيل إن الله أمر العباد بما يصلح..

نظير ذلك لو أن مدرسا عنده طلاب وبيّن لهم وشرح لهم المنهج وأعانهم على فهمه لكن هل من مصلحته أن يعينهم على الإجابة في الامتحانات؟ يتعرّض للضرر من كل وجه في الدنيا والآخرة يحرم عليه أن يخون هذه الأمانة ويخرّج طلابا لا ينفعون ولا ينتفعون ويتضرر أيضا في وظيفته، فمثل هذا إعانتهم ضرر مثل الذي جاء لموسى يسعى اخرج إني لك من الناصحين لكن لو هيأ له دابة وقادها به وأخرجه ودله يتضرر يمكن يقتله.

وإذا قيل إن الله أمر العباد بما يصلحهم لم يلزم من ذلك أن يعينهم على ما أمرهم به لاسيما وعند القدرية لا يقدر أن يعين أحدا على ما به يصير فاعلا وإذا عُللت أفعاله بالحكمة فهي ثابتة في نفس الأمر وإن كان نحن لا نعلمها فلا يلزم إذا كان في نفس الآمر له حكمة..

في نفس الآمر أو الأمر يا شيخ؟

الآمر.

فلا يلزم إذا كان في نفس الآمر له حكمة في الأمر أن يكون في الإعانة على فعل المأمور به حكمة بل قد تكون الحكمة تقتضي ألا يعينه على ذلك فإنه إذا أمكن في المخلوق أن يكون مقتضى الحكمة والمصلحة أن يأمر.

الحكمةِ.

أن يكون مقتضى الحكمةِ والمصلحة أن يأمر بأمر لمصلحة المأمور وأن تكون الحكمة والمصلحة للآمر ألا يعينه على ذلك فإمكان ذلك في حق الرب أولى وأحرى والمقصود أنه يمكن في حق المخلوق الحكيم أن يأمر غيره بأمر ولا يعين عليه فالخالق أولى بإمكان ذلك في حقه مع حكمته فمن فمَن أمره وأعانه على فعل المأمور كان ذلك المأمور..

قد يكون المأمور أحب الناس إليه وأقرب الناس إليه قد يكون ولد يأمره أبوه ويبين له بعض وجوه التجارة أو الصناعة ويشتري له أرضا ويبذل السبب في أن تكون مزرعة ثم يتركه ويشتغل هل من مصلحته أن يأتي ويزرع الأرض بنفسه يعين الولد على الزراعة ليس من مصلحته لا من مصلحة الأب ولا من مصلحة الابن.

فمن أمره وأعانه على فعل المأمور كان ذلك المأمور به قد تعلق به خلقه وأمره نشأة خلقا ومحبة فكان مرادا بجهة الخلق ومرادا بجهة الأمر ومن لم يعنه على فعل المأمور كان ذلك المأمور قد تعلق به أمره ولم يتعلق به خلقه لعدم الحكمة المقتضية لتعلِّق الخلق به ولحصول الحكمة المقتضية لخلق ضده وخلق أحد الضدين ينافي خلق الضد الآخر فإن خلق المرض الذي يحصل به ذل العبد لربه ودعاؤه وتوبته وتكفير خطاياه ويرقّ به قلبه ويذهب عنه الكبرياء والعظمة والعدوان يضادّ خلق الصحة التي لا تحصل معها هذه المصالح ولذلك خَلق.

خَلق.

ولذلك خَلق ظلم الظالم الذي يحصل به للمظلوم من جنس ما يحصل بالمرض يضادّ خلق عدله الذي لا يحصل به هذه المصالح وإن كانت مصلحته هو في أن يعدل وتفصيل حكمة الله في خلقه وأمره يعجز عن معرفتها عقول البشر والقدرية دخَلوا في التعليل على طريقة فاسدة مثّلوا الله فيها بخلقه ولم يثبتوا حكمة تعود إليه.

الله جل وعلا يعدل بين خلقه وأمر بالعدل {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ}[النحل:90] ومع ذلك يحصل الظلم من بعض مخلوقاته على بعض وحصول الظلم قد يكون المظلوم انتفع أكثر من الظالم بل هو المجزوم به لأن الظالم انتفع في دنياه إذا قدر أنه انتفع والمظلوم تضرر في دنياه لكن العبرة بالباقي، المظلوم انتفع في آخرته والظالم تضرر في آخرته وكل من الطرفين له نصوص جاء في حقه نصوص شرعية، هذا حرم عليه الظلم ورتب عليه الأوزار العظيمة، وذاك أمر بالصبر ورتب عليه الأجور وقد يكون المظلوم متسببا في هذا الظلم {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِير}[الشورى:30] ومع ذلك هذا لا يبرر للظالم أن يظلمه ما يقول والله هذا عاصي والله سلطني عليه بما كسبت يداه لا، أنت مباشر لهذا الظلم فأنت المسؤول الأول عنه وذاك متسبب نعم عوقب بهذه المظلمة، فمن نظر بعين الحكمة تبيّن له الحكم الإلهية من وراء هذه التصرفات وإلا كثير ممن يكتب الآن ويتكلم في وسائل الإعلام يتكلمون ويتفوهون بكلام تقشعر منه الجلود حتى قال قائلهم ما الحكمة في أن يولد الطفل ثم يموت!! تتعب عليه أمه تسعة أشهر ثم يموت أو يولد مشوّها معوّقا ما الحكمة؟ هل هذه حكمة حكيم خبير- نسأل الله العافية- وهذا قيل وكتب في الصحف وذكر في بعض وسائل الإعلام، وذلك عند غياب الرقيب المعاقب المحاسب على مثل هذه التصرفات وإلا هذا طعن في الرب- جل وعلا- وحكمته، ومن أراد أن ينظر إلى الحِكَم من خلق أمثال هؤلاء فليقرأ في كتب ابن القيّم كطريق الهجرتين ومفتاح دار السعادة وغيرهما من كتبه «إنما تنصرون وترزقون بضعفائكم» ومن تأمل بعين البصيرة وجد أن هؤلاء الضعفاء أكثر رزقا من الأقوياء الأشداء، وتجد الأذكياء العباقرة هم أقل الناس في هذا الباب لئلا يزعم أنه بقوته وحوله وصوله حصل على هذه الأمور، بل قد يكون ذكاؤه سببا في عدم رزقه والواقع يشهد بهذا.

طالب: ................

العبد له إرادة وله قدرة وله مشيئة لكنها تابعة لقضاء الله وقدره ومشيئته لا يستقل بذلك، هو ليس مسلوب الإرادة بحيث يكون مجبورا على أفعاله كما تقول الجبرية استدلالا بقوله جل وعلا: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى}[الأنفال:17]  والمقصود بذلك الإصابة هو رمى {إِذْ رَمَيْتَ}[الأنفال:17]  هو رمى فعل فله قدرة على الفعل وله إرادة وله اختيار لكن الإصابة بيد الله- جل وعلا- وما أصبت إذ حذفت يعني رميت، ولكن الله- جل وعلا- هو الذي أصاب.

قوله: لا تبلغه الأوهام ولا تدركه الأفهام، قال الله تعالى: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا}[طه:110] قال في الصحاح توهمت الشيء ظننته وفهمت الشيء علمته فمراد الشيخ رحمه الله أنّه..

الصحاح للجوهري إسماعيل بن حمّاد الجوهري من كتب اللغة، تاج اللغة وصحاح العربية من الكتب القديمة في القرن الرابع وهو كتاب جامع في هذا الباب فيه ما يقرب من أربعين ألف مادّة له أوهام يسيرة لكنه في الجملة من أنفع كتب اللغة لطالب العلم؛ لأن القاموس وإن كان أكثر منه موادّ فيه ستون ألفا لكنه معتصر، هذا مبسوط شيئا ما فهو نافع جدا، وتعقبه صاحب الصحاح في بعض المسائل وعليه تعقبات وعليه دراسات، والوشاح في التعقبات على صاحب الصحاح مطبوع مع الطبعة الثانية من طبعاته الأولى في بولاق ويستفاد منه كثيرا والكتاب سهل ليس معتصرا مثل القاموس لا، سهل بالإمكان أن يمسكه طالب العلم ويقرؤه فيه بسطة في الكلام ومثل هذا يغري بقراءته، وطُبع طبعات متعددة طبع في بولاق مرتين أولى وثانية، وطبعه أحمد عبد الغفور عطار طبعة فاخرة ورائعة ومريحة للقراءة، وطبع بعد ذلك طبعات كثيرة لكنه من أنفع كتب اللغة وإن كانت موادّه أقل من القاموس واللسان وتاج العروس.

فمراد الشيخ رحمه الله أنّه لا ينتهي إليه وهم ولا يحيط به علم قيل الوهم ما يرجى كونه أي يظن أنه على صفة كذا والفهم هو ما يحصله العقل ويحيط به والله تعالى لا يُعلم كيف هو والله تعالى لا يَعلم كيف هو إلا هو سبحانه وتعالى.

لأنه لا يمكن أن يعرف الشيء إلا بمشاهدة أو بخبر، ما جاء فيه الخبر يتم العلم بواسطة الخبر وأما ما عدا ذلك لا بد من مشاهدة، فلم توجد يبقى أنه لا يمكن أن يُبلغ بدون هذين أو بالنظير إذا قيل فلان مثل فلان أنت ما رأيت فلانا، لكن لو قيل لك أنه أقرب الناس إلى فلان من الناس، الصحافة ما رأوا جبريل لكن لما قيل إن أشبه الناس به دِحية الكلبي يعني يمكن أن يصفوه في الوقت الذي جاء به على هيئة إنسان، أما فيما جاء به على خِلْقته له ستمائة جناح هذا ما رآه إلا الرسول -عليه الصلاة والسلام- على هذه الهيئة رآه مرتين والأوهام والأفهام الغالب أنها لا تطابق الواقع، التوقعات والحدس الغالب أنه لا يطابق الواقع افترض أن شخصا وكم من شخص افتُتِن بمكالمة يظن أن هذه المرأة التي كلمته أجمل الناس لماذا؟ لأنه توهّم ما رأى لكن بمجرد أو الذي وراء هذا الجدار ماذا تظنه أنت؟ مهما وصل خيالك لن تصل إلى الواقع لأنك ما رأيت ولا وُصف لك ولا نقل لك ما الذي وراءه فكيف بالخالق هذا في المخلوقات التي هي في الغالب متقاربة لكن الخالق جل وعلا كما قال المؤلف رحمه الله لا تبلغه الأوهام ولا تدركه الأفهام.

والله تعالى لا يعلم كيف هو إلا هو سبحانه وتعالى وإنما نعرفه سبحانه بصفاته وهو أنه أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد.

لكن الذي ينفي الصفات كيف يعرفه؟! والذي ينفي الأسماء كيف يسأله؟! إذا جاء الرب جل وعلا يوم العرض على صفته التي يعرفونها سجدوا له لكن الذي ينفي الصفات كيف يعرفه وكيف يسجد له؟! أمر خطير جدا ليس من السهولة أن يقال بعض الفرق التي تنفي الصفات من أهل السنة الأمر ليس بالسهل واللوازم عظيمة كبيرة جدا وإن كان هناك تآويل قد تخفف الأمر، لكن يبقى أن الأمر خطير ليس بالسهل فالإنسان يحمد الله- جل وعلا- على أن وفقه وهداه وأرشده إلى اعتناق هذا المذهب الحق الموافق لكتاب الله وسنة نبيه -عليه الصلاة والسلام-.

قال تعالى:{اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ}[البقرة:255] وقال {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُون * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم}[الحشر:23-24].

سبحانه لا إله إلا هو حسبك يكفي..

 

اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد...

"