صفحات مشرقة في عبادات العلماء

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فإن هذه المحاضرة أو هذا الدرس ليس لي فيه خيار، ولو استشرت فيه لما قبلت، نعم أنا موافق على إلقاء درس في الوقت نفسه، لكن لو عُرض عليَّ مثل هذا العنوان لما قبلت، ولا أقول في مقدمة هذا الدرس إلا ما قلته في مقدمة الهمة في طلب العلم، يعني كمن يضرب مثل بشجاعة أجبن الناس، أو بكرم أبخل الناس، يعني يؤتى بمثلي ليلقي درساً عن عبادات العلماء والتقصير معروفٌ لدى الخاص والعام؟! نسأل الله -جل وعلا- أن يمن علينا وعليكم بالعمل بالعلم، وأن يتفق الظاهر مع الباطن، هذا الموضوع يحتاج إلى شخصٍ يتحدث عن نفسه، وطالما تحدثت عن نفسي في محاضرات كثيرة في الآفات التي تعتري طالب العلم، وأضرب الأمثلة من نفسي، وإن لم يعلم السامع، أقول: هذا الموضوع يحتاج إلى شخصٍ يتحدث عن نفسه.

ويمكن أن أبرر القبول -بعد الإعلان- بصنيع ابن القيم -رحمه الله تعالى- في طريق الهجرتين ذكر ابن القيم -رحمه الله تعالى-: المنهج الذي يسير عليه المقربون من استيقاظهم إلى نومهم، ذكر خطة عمل يسيرون عليها، ماذا يصنعون إذا انتبهوا من النوم قبل الصبح؟ ثم بعد ذلك ما صنيعهم إذا دخلوا المسجد لأداء صلاة الصبح، ثم بعد ذلك جلوسهم حتى ترتفع الشمس، ثم بعد ذلك انصرافهم إلى أعمالٍ أخرى من أعمال الآخرة، وليس من أعمال الدنيا، ثم يأتون لصلاة الظهر، والصلاة شغلهم الشاغل، فمنهم من يقضي ما بين الصلاتين بالعبادة من ذكر وتلاوة وصلاة، ومنهم من يقضيه في العلم والتعليم، ثم بعد صلاة العصر لهم برنامج ذكره ابن القيم في كتابه، فليرجع إليه، ثم بعد المغرب كذلك، ثم بعد صلاة العشاء، يأتي وقت الوظيفة، وإذا أووا إلى فرشهم كما قال ابن القيم: ذكروا أذكار النوم، وهي كما قال: تقرب من الأربعين، ومن منا يستحضر أربعة فضلاً عن أربعين، ابن القيم لما ذكر هذا البرنامج الذي يسير عليه المقربون، أقسم بالله لئلا يُظن أنه يتحدث عن نفسه، والمظنون به أنه يتحدث عن نفسه، هذا الذي يغلب على الظن، ومع ذلك يقسم ابن القيم -رحمه الله تعالى- أنه ما شمَّ لهم رائحة، هذا ابن القيم هو يرسم هذا المنهج للمقربين، فضلاً عن غيرهم من الأبرار، وأصحاب اليمين.

ابن القيم -رحمه الله تعالى- وهذه زيادة في الإيضاح والفائدة- ذكر أنهم إذا جلسوا بعد صلاة الصبح يذكرون الله تعالى حتى ترتفع الشمس، يقول: منهم من يصلي، ومنهم من ينصرف دون صلاة، لكن لما ذكر حال الأبرار، قال: إنهم لا ينصرفون إلا بعد الصلاة، يعني صلاة الضحى؛ لأن المقربين ينصرفون من عبادة إلى عبادة، ولن ينسوا صلاة الضحى؛ لأن وقتها الفاضل لم يأتِ بعد، المذكور في قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((صلاة الأوابين إذا رمضت الفصال)).

وأما بالنسبة للأبرار فإنهم لا ينصرفون إلا بصلاة؛ لأنهم ينصرفون بعد ذلك إلى أعمالهم في أمور الدنيا، ويخشى أن ينسوا صلاة الضحى.

والظاهر من كلام ابن القيم أنه لا يصحح الحديث الوارد في ذلك، أن من جلس ينتظر طلوع الشمس وصلى الصبح بجماعة، وجلس بمصلاه حتى تطلع الشمس، ثم صلى ركعتين، انقلب بأجر حجة وعمرة تامة تامة تامة.

كأنه لا يصحح هذا الخبر، وإلا لو صح عنده لما انصرف أحد لا من المقربين ولا من الأبرار إلا بعد هذه الصلاة، والحديث بطرقه يقوي القول بتحسينه، وإن صححه بعضهم، لكن الكلام لأهل العلم فيه ظاهر، يقوى القول بتحسينه، إذا عرفنا هذا ابن القيم رسم الخطة، ويغلب على الظن لما عرف عنه من عبادات متنوعة، بعضها إذا سمعه القارئ يظنه ضربٌ من الخيال، أو أساطير، مع هذه العبادات المتنوعة يقسم بالله أنه ما شمَّ لهم رائحة.

فماذا نقول إذا كان هذا ابن القيم يقسم بالله أنه ما شم لهم رائحة؟ ونحن نذكر في هذه المحاضرة شيء من عبادات العلماء، وهم من المقربين، فماذا نقول؟

وأعتذر عما قاله الأخ الذي قدم، وذكر ما ذكر مما يخالف الواقع، وليس من عادتي أن أقاطع أحد في كلامه، وإلا لا شك أنه جاوز في الوصف، فأسأل الله -جل وعلا- أن يعفو عني وعنه وعنكم.

إذا عرفنا هذا فعنوان المحاضرة: "إشراقات" هذا لمن عرف حقيقة الأمر، وإلا فكثيرٌ من الناس يظن أن العبادة والإكثار منها، يعني في عرف عامة الناس ومن في أحكامهم ظلمات، لماذا؟ لأنه يحبس نفسه في مكانٍ ضيق ينزوي به عن الناس، فهو في ضيق، وهذا لم يجرب ما جرب القوم، ولو جرب عرف حقيقة الأمر، وأنها هي السعادة وهي النعيم، وهي جنة الدنيا، التي تحدث عنها شيخ الإسلام وابن القيم، وكثيرٌ من أهل العلم.

عبادات العلماء:

بعد هذه المقدمة أقول: عبادات العلماء:

العلماء الذين يستحقون أن يوصفوا بهذا الوصف هم أهل العلم والعمل، ولا يستحق الوصف بالعالم إلا من عمل، {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} ثم قال: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}[(9) سورة الزمر] فدل على أن أهل العلم المستحقين لهذا الوصف هم أهل العمل، فالذين لا يعملون بالعلم ليسوا من أهل العلم.

وفي الحديث المختلف في تصحيحه عند أهل العلم وممن صححه الإمام أحمد -رحمه الله-: ((يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله)) فأهل العلم هم العدول، ومفهومه أن الذين لا يتصفون بهذا الوصف من أهل الفسق والتفريط الذين لا يستحقون الوصف بالعدالة ليسوا من أهل العلم ((يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله)) فالذين لا يعملون بالعلم ليسوا بعدول، إذاً الذي يحملونه ليس بعلم.

ابن عبد البر -رحمه الله تعالى- له رأي مشهور، ووافقه عليه جمعٌ من أهل العلم: أن كل من عرف بحمل العلم فهو ثقة عدل مرضي؛ لهذا الحديث، كل من حمل العلم فهو عدل لهذا الحديث.

يقول الحافظ العراقي:

ولابن عبد البر كل من عني

فإنه عدلٌ لقول المصطفى

 

 

بحمله العلم ولم يوهنِ

يحمل هذا العلم لكن خولفَا

خولفَا ابن عبد البر يعني على فهمه العكسي، الذي فهمناه من الحديث أن الذي ليس بعدل لا يسمى ما يحمله علم، وفهم أن كل من يحمل العلم وله عناية به أنه عدل، لكن الواقع يرد هذا القول؛ لأننا نرى من يحمل هذا العلم ممن هو متصفٌ بالفسق، فكيف يعدل مثل هذا؟ ولذا يقول الحافظ العراقي: "لكن خولفَا" خولف ابن عبد البر في فهمه؛ لأننا نرى ورأينا ورأيتم ممن يُعد من بحور العلم بحسب الظاهر، ومع ذلك علامات وآثار الفسق ظاهرة، هذا في الحقيقة ليس بعلم.

ومن أقوى الأدلة على هذا الفهم قول الله -جل وعلا-: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ}[(17) سورة النساء] هل التوبة خاصة بالجهال الذين لا يعرفون الأحكام، أو أنه لو كان عارفاً بالحكم، يعرف أن الزنا حرام ويزني، يعرف الحكم بدليله، يعرف أن شرب الخمر حرام ويشرب، يعرف الحكم بدليله، ويعرف أن السرقة حرام ويسرق، ويعرف أن الربا حرب لله ورسوله ويرابي، ثم بعد ذلك يتوب؟ نقول: هل هذا مقبول التوبة أو غير مقبول؟ إذا أخذنا الجهالة على عدم العلم بالحكم، قلنا: هذا ليست له توبة، ولم يقل بهذا أحدٌ من العلم {فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ}[(275) سورة البقرة] التوبة تهدم ما كان قبلها، المقصود أن هذا الجاهل المنصوص عليه هو الذي يقدم على المعصية ولو كان عارفاً بالحكم بدليله، فالذي يعصي هذا جاهل ولو عرف الحكم، وهذا لا يشكل معنى الحديث مع وجود من يحمل العلم من غير العدول، فالعلم يقتضي العمل، والعلم ثمرته العمل.

للخطيب البغدادي كتاب مختصر أسماه (اقتضاء العلم العمل) يقول في مقدمته:

"ثم إني موصيك يا طالب العلم بإخلاص النية بطلبه، وإجهاد النفس على العمل بموجبه، فإن العلم شجرة والعمل ثمرة، وليس يُعد عالماً من لم يكن بعلمه عاملاً، فلا تأنس بالعمل ما دمت مستوحشاً من العلم، ولا تأنس بالعلم ما كنت مقصراً في العمل، ولكن اجمع بينهما، وإن قل نصيبك منهما".

لأنه قد تحصل المزاحمة، العلم يحتاج إلى وقتٍ طويل، نقول: اعمل بما علمت، ولن يعوقك هذا عن تحصيل العلم؛ لأنه يكثر السؤال من كثيرٍ من الطلبة يقول: أن العمل قد يعوقنا عن تحصيل العلم، ولا سيما العمل الميداني الذي يتطلب وقتاً، كإنكار المنكرات في الأسواق وغيرها، نقول: سدد وقارب، إذا بلغك عن الله وعن رسوله أمر أو نهي فاعمل به، بادر بالعمل به؛ لأن هذا هو الثمرة.

يقول: "وما شيء أضعف من عالم ترك الناس علمه لفساد طريقته، وجاهل أخذ الناس بجهله لنظرهم إلى عبادته".

لا شك أن عامة الناس يُحسنون الظن بأهل العبادة، وما حصلت الفجوة التي نعيشها بين العلماء والعامة؛ وما حصل من وقوع الناس في أعراض أهل العلم إلا بسبب تقصيرهم في العمل، عامي يحضر إلى المسجد مع الأذان فإذا التفت بعد الصلاة إذا شخص من أهل العلم يقضي بعض الصلاة، هذا نفسه لا توافقه على سؤاله، وإن كان بعضهم يقول: خذ من علمه، ولا تأخذ من عمله، هذا الكلام ليس بصحيح.

وفي صحيح مسلم: جاء شخص من العراق إلى ابن عمر، يريد أن يسأله عما مسألة في المناسك، فقال: عليك بابن عباس، ابن عباس علم وعمل، لكن في مجال العمل لا شك ابن عمر معدود من العباد، وسيأتي شيء من طريقته وعمله، قال: عليك بابن عباس، شهادة حق وإنصاف، فقال: ذلك رجل مالت به الدنيا ومال بها، يعني أنه ليس في زهده مثل ابن عمر، ولا يظن به أنه يزاول المنكرات، أو يأكل مشتبهات، أبداً، حَبر الأمة وترجمان القرآن، لكن عامة الناس ثقتهم بالعامل، فإذا رأوا من أهل العلم من يظهر عمله عليه على جوارحه وفي سرته وعلانيته يقتدون به.

قال -رحمه الله- بعد ذلك: "وهل أدرك من السلف الماضين الدرجات العلى إلا بإخلاص المعتقد، والعمل الصالح، والزهد الغالب في كل ما راق من الدنيا".

يعني كل شيء له ضريبة، توسعت في أمر الدنيا يكون على حساب الآخرة؛ لأنها ضرة، ومع ذلك {وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}[(77) سورة القصص] لكن كم ممن يقال له هذا الكلام في وقتنا هذا؟ الناس بحاجة حتى من أهل العلم مع الأسف ومن طلابه أن يقال له: لا تنس نصيبك من الآخرة؛ لأنه وجد بعد انفتاح الدنيا، شاهدنا وسمعنا أشياء حتى من بعض من ينتسب إلى العلم شيء لا يخطر على البال، من الانصراف، وإن لم يكن من ذلك إلا انصراف القلب.

يعني إذا حدث، قصة حصلت هذه الأيام أن مجموعة صلوا صلاة الظهر وجهر الإمام وأمنوا، هؤلاء ماذا بقي للآخرة في قلوبهم؟! وسمع من يقول -وهو ساجد-: آمين، لا شك أن هذا سببه الانصراف عن الآخرة، والإقبال على الدنيا؛ لأن القلب ما يحتمل كل هذه الأمور إلا ممن وفقه الله -جل وعلا-.

فشخص من أهل الدنيا ويملك مليارات، يقول: دعانا في يوم من الأيام فإذا بمجلسه غاص بالناس، هل هم الأعيان؟ هل هم الوجهاء؟ هل هم الملأ من القوم؟ لا، كلهم فقراء، وبعد ذلك يجلس وبدون مبالغة، جلس نصفه خارج المجلس ونصفه داخل، متكئ على الباب، وهؤلاء الفقراء في صدر المجلس، ومع ذلك لما وضع الوليمة رفض أن يجلس معي، جلس معهم، وكان من عادته وديدنه أن يدخل المسجد يصلي العصر ولا يخرج إلا بعد صلاة العشاء، يعني هل الآخرة تعوقهم من تحصيل الدنيا؟ في سلف هذه الأمة أثرياء، ومع ذلك هم النجوم في العلم والعمل، وهذا لا يعوق، والدنيا لا تضر إلا لمن رأى أنه استغنى {كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى}[(6-7) سورة العلق] فإذا رأى في نفسه أنه استغنى الآن وقعت الهلكة، أما إذا كانت الدنيا تحت تصرفه، وفي يده لا في قلبه، فإن هذا نِعَم على نِعَم.

يقول -رحمه الله- في مقدمة كتابه آنف الذكر:

"وهل وصل الحكماء إلى السعادة العظمى إلا بالتشمير في السعي والرضا بالميسور، وبذل ما فضل عن الحاجة للسائل والمحروم".

ثم عاد بدأ بنا، قال: "وهل جامع كتب العلم إلا كجامع الفضة والذهب، وهل المنهوم بها إلا كالحريص الجشع عليهما، وهل المغرم بحبها إلا ككانزهما".

ثم ذكر حديث أبي برزة إلى آخر كلامه -رحمه الله-.

جامع الكتب الذي يجمع من الكتب يملأ الدور بالكتب، لكنه لا يفيد منها، ولا يبذل منها، هذا لا شك أنه ككانز الذهب والفضة. وابن خلدون يقول: "أن كثرة التصانيف من عوائق التحصيل".

وهذا شيء مجرب، جربانه وجربه غيرنا، يعني يحتار الإنسان إذا أراد أن يختار تفسير آية من بين خمسين تفسير، أو ينظر شرح حديث من بين عشرات الشروح، يحتار قبل أن يبدأ، فإذا بدأ قال: لعل فلان تكلم أكثر، ولعل علان تكلم أكثر، ثم يضيع الوقت بمثل هذا، وحدث ولا حرج عما يضيع من الأوقات في ترتيبها، ترتيب هذه الكتب، وتنظيفها، ونقلها من مكان إلى مكان، هذا لا شك أنه شيء عائق عن التحصيل.

وأدركنا شيوخنا ممن ليس لديهم من الكتب إلا الأصول المهمة في ثلاثة دواليب لا تزيد عن ثلاثمائة مجلد، أربعمائة مجلد، ومع ذلكم إذا فُتح أي مجلد وجد عليه أثر، أثر قراءة، وأثر في العلم وأثر في العمل، فليس جمع الكتب مما يمدح به الشخص إذا لم يكن ممن يستفيد من هذه الكتب، ويعمل بما علم، ولذا قال: "هل جامع الكتب إلا كجامع الذهب والفضة".

أثر هذه الكتب إذا دخلت في القلب، ولم يفد منها الفائدة المرضية، كأثر الذهب والفضة، يعني شخص من الأشخاص منهوم بالكتب، ومع ذلك قد تضيع عليه صلاة الجماعة بسبب الكتب، يعني عنده موعد مع شخص عنده كتب....... يبيع، ثم بعد ذلك يمتطي السيارة مع الأذان ليصلي عنده، فإذا وصل إليه فإذا الجماعة قد صلوا، وهذا كثير، لماذا؟ لأن الوسائل حلت محل الغايات عندنا، وقاصر النظر عن إدراك المطلوب، ولا أريد أن أطيل في مثل هذا؛ لأنها حقيقة مرة نعاني منها، ويعاني غيرنا منها، فالقصد القصد، ولا يعني هذا أن طالب العلم لا يشتري كتب، يشتري ما يحتاجه من الكتب، والكتب متوفرة وميسورة -ولله الحمد-، لكن إما أن يجمع كل كتاب وكل طبعة من كل كتاب! هذا لا شك أنه يعوق عن التحصيل.

ثم ذكر -رحمه الله- حديث أبي برزة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه؟ وعن علمه ماذا عمل به؟)) وهذا هو الشاهد ((وعن علمه ماذا عمل به؟)) فهو سوف يسأل عن هذا العلم الذي نام عنه، وكتمه عن الناس، وسئل فلم يجب، ولم يبذله، وقد جاء في الخبر: ((ابن آدم علم مجاناً كما علمت مجاناً)) وكثيرٌ من أهل العلم يتورع عن بذله، وليس هذا بورع، نعم قد يكون بالنسبة لبعض الناس الذي لا يملك نفسه عن قول: لا أعلم، قد يكون عليه خطر، قد يسأل عما لا يحسن ولا يتقن، ثم بعد ذلك تصاب المقاتل، على الإنسان أن يبذل، ولكن لا يبذل إلا ما يعلم، ولا يتشبع بما لم يعطَ.

قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "هتف العلم بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل".

ولا شك أن العمل هو الذي يثبت العلم، ولذا لو سألت شخصاً يبلغ من العمر خمسين سنة مثلاً، وسألته عن المناسك وقد حج في أول عمره، ما تجده يدرك من أحكام المناسك إلا الشيء اليسير، لكنه يدرك أحكام الصلاة، لا سيما إذا كان لديه أهلية، ومن أهل العلم من أخطأ في كثير من أحكام المناسك؛ لأنه لم يحج، ومنهم من حج بعد تأليفه في المناسك فأحرق ما ألفه؛ لأنه لم يعمل بهذا العلم، ثم لما عمل استنار له الطريق، واتضح له الحق.

وعن الحسن -رضي الله عنه- قال: "ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني"، يعني الإنسان يدعي ويتشبع ويتصنع لكن هذا لا يكفي "ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال".

وعن جندب بن عبد الله قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((مثل العالم الذي يعلم الناس الخير وينسى نفسه كمثل السراج، يضيء للناس ويحرق نفسه)) والحديث لا بأس به جيد.

((مثل العالم الذي يعلم الناس الخير وينسى نفسه كمثل السراج، يضيء للناس ويحرق نفسه)) والنصوص في هذا كثيرة جداً.

ولو لم يكن إلا حديث الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار يوم القيامة، وفيهم العالم الذي يعلم الناس، أفنى عمره في العلم والتعليم، ثم بعد ذلك في النهاية يكون من أول من تسعر بهم النار، وإنما يعلم ليقال: عالم، نسأل الله السلامة والعافية.

فالإخلاص لله -جل وعلا- في العلم أمرٌ لا بد منه، بل هو من أول شروطه، فالعلم من أمور الآخرة المحضة، التي لا تقبل التشريك، وإذا قلنا العلم فالمراد به العلم بالكتاب والسنة، وما يعين على فهم الكتاب والسنة.

مسألة الإكثار من العبادة:

المسألة التي يشار إليها قبل الدخول في الموضوع، مسألة الإكثار من التعبد، من أهل من قال: أنه بدعة، فمثلاً الصلاة لو تتبعنا مما نُص عليه من فعله -عليه الصلاة والسلام- غير الأدلة الإجمالية، وجدناه يصلي الفرائض سبع عشرة ركعة، والرواتب والوتر، فيكون المجموع أربعين، منهم من قال: من زاد على ذلك دخل في حيز الابتداع، لكن هذا الكلام ليس بصحيح؛ لأن النصوص العامة والخاصة من فعله -عليه الصلاة والسلام- تدل على خلاف ذلك، نعم من تعبد لله -جل وعلا- بما لم يشرعه مما لم يسبق له شرعية من كتاب الله وسنة نبيه -عليه الصلاة والسلام- لا شك أنه مبتدع؛ لأن البدعة العمل الذي يتعبد به مما لم يسبق له شرعية من الكتاب والسنة، والبدع كلها ضلالة، وإذا اشتغل أحدٌ ببدعة، لا شك أنه على حساب سنة. فليحرص الإنسان على تحرير المقام، فلا يفرط بسنة، ولا يرتكب بدعة؛ لأن بعض الناس قد يقصر في هذا الباب علمه وفهمه، ويزيد حرصه، ثم بعد ذلك يدخل في حيز البدع وهو لا يشعر، ومر بنا ومر بغيرنا أننا قد نتذكر ما حفظناه من بعض الأذكار الصحيحة، فلا نذكر، وقد نذكر بعضها ونترك بعضها، فإذا تأملنا أننا زدنا في أذكار عن الحد المشروع مثلاً من الأذكار المحددة، قد يكون زدنا فيها، ثم بعد ذلك لم نوفق للأذكار الثابتة.

فعلى الإنسان أن يحرص أن لا يعمل عملاً إلا وعنده فيه أصل من الكتاب والسنة، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- قبل ذلك ما ثبت أصله في الكتاب والسنة كالصلاة والذكر والتلاوة والصيام والحج والإنفاق في سبيل الله، والجهاد والدعوة وغير ذلك، هذا كلها أصولها ثبتت في الكتاب والسنة، فالإكثار منها على الهيئة المشروعة في الأوقات التي جاءت من قبل الشارع، جاء عدم المنع منها ليس ببدعة، للأدلة العامة والخاصة التي تذكر، بل الممنوع من ذلك كما تقدم في حد البدعة ما لم يسبق له شرعية من كتاب أو سنة.

الاجتهاد في التعبد حسب الطاقة ثبت عن النبي -عليه الصلاة والسلام-، فقد قام -عليه الصلاة والسلام- في الليل حتى تفطرت قدماه، وصلى بالبقرة ثم النساء ثم آل عمران بركعة واحدة، فماذا عن بقية الصلاة؟ ماذا عن الركوع والسجود؟ فإطالة الصلاة مطلوبة؛ لأنها ثابتة عن النبي -عليه الصلاة والسلام-، وكثرة الركعات أيضاً مطلوبة؛ لأنه ثبت عنه -عليه الصلاة والسلام- الإطلاق ((صلاة الليل مثنى مثنى)) وثبت عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه أجاب من سأله مرافقته في الجنة فقال: ((أعني على نفسك بكثرة السجود)) وهذا يتطلب إكثار من الركعات، فالتطويل ثبت بفعله -عليه الصلاة والسلام-، والإكثار ثبت بقوله وحثه -صلى الله عليه وسلم-.

ثم يأتي من يأتي ويقول: أن الإكثار من التعبد بدعة، ما عرف عن النبي -عليه الصلاة والسلام- أنه قام ليلة كاملة، وهذا عن عائشة -رضي الله تعالى عنها-، مع أنه -عليه الصلاة والسلام- إذا دخلت العشر شد المئزر وأحيا الليل، فهذا وارد على هذا الحديث، فإذا دخل التخصيص بمثل هذا النص، عموم خبر عائشة أضعفه، هذا مقرر عند أهل العلم, وما دام ثبت أنه أحيا الليالي العشر، عشر رمضان، يدل على أن إحياء الليل ليس ببدعة، وقد عرف عن سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين فمن دونهم ممن يأتي ذكره في الأمثلة -إن شاء الله تعالى- هذا بالنسبة للصلاة.

الصيام ثبت عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه يصوم حتى يقال: لا يفطر، وثبت عنه أنه كان يفطر حتى يقال: أنه لا يصوم، وكان يصوم من الأشهر الحرم، يصوم في المحرم، ويصوم من شعبان أكثره، فلا يقال: أن مثل هذا العلم بدعة، مع قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((أفضل الصلاة صلاة داود، وأفضل الصيام صيام داود، ينام نصف الليل، ثم يقوم ثلثه، ثم ينام سدسه)) بالنسبة للصيام يصوم يوماً ويفطر يوماً، ثم يأتي من يقول النبي -عليه الصلاة والسلام- نجزم أنه ما صلى يوم وأفطر يوم؛ لأنه ثبت أنه كان يصوم حتى يقال: لا يفطر، ويفطر حتى يقال: لا يصوم.

من كان وضعه في احتياج الناس إليه مثل حال الرسول -عليه الصلاة والسلام- يفاضل بين هذه العبادات، وأهل العلم يقررون أن العبادات المتعدية النفع مقدمة على العبادات الخاصة.

في مسلم عن عائشة أن النبي -عليه الصلاة والسلام- ما كان يصوم العشر، وثبت من حديث بعض أزواجه أنه كان يصوم العشر، فعائشة تذكر من حاله الغالب أنه كان لا يصوم العشر؛ لأنه مشغول بحاجات الناس. وأيضاً ثبت في الحديث الصحيح: ((ما من أيام العمل الصالح فيهن خيرٌ وأحب إلى الله من هذه الأيام العشر)) ثم بعد ذلك ثبت عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((من صام يوماً في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً)) فإذا ضممنا هذا الحديث إلى هذا الحديث، قلنا بمشروعية صيام العشر، وكونه -عليه الصلاة والسلام- لا يصوم العشر أحياناً مثل ما قال: ((عمرةٌ في رمضان تعدل حجة)) ومع ذلك ما ثبت عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه اعتمر في رمضان، هل نقول: أن العمرة في رمضان ليست مشروعة؟ يكفينا قوله -عليه الصلاة والسلام-.

والنبي -صلى الله عليه وسلم- قد يترك العمل رأفة بأمته، خشية أن يفرض عليهم، لو تظافر قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((عمرة في رمضان تعدل حجة)) مع فعله، ماذا يكون الواقع؟ الآن الناس يموتون، يعتمر في رمضان أكثر من ملونين شخص، يجتمعون في ليلة واحدة، لو تظافر فعله مع قوله كيف يكون العمل؟ لكن من الناس من يقول: النبي -عليه الصلاة والسلام- ما اعتمر في رمضان، والحمد لله لنا أعمال بدائل، نقول: يكفينا ما ثبت من قوله -عليه الصلاة والسلام-.

لكن إذا عمل عملاً وندم عليه ولم يحثنا عليه، اقتدينا به في مثله، فلا نكلف أنفسنا في مثل هذا العمل، كدخول الكعبة مثلاً، ما ثبت عن النبي -عليه الصلاة والسلام- حثنا على دخولها، لكنه دخلها، ومع ذلك ندم على ذلك؛ لئلا يشق على أمته.

فانظروا لما لم يتظافر القول مع العمل صار الأمر أقل، ولو تظافر القول مع العمل في عمرة رمضان لوجدنا الزحمة التي لا تطاق، فبعض الناس يتشبث بكونه -عليه الصلاة والسلام- لم يعتمر في رمضان، ويتسلى بذلك.

تقول عائشة -رضي الله عنها-: "وأيكم يطيق ما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يطيق؟!" بذله وتضحيته في الصلاة والصيام والدعوة والجهاد شيء لا يطاق، لكن تجد مثلاً بعض الناس يذكر عنه في التلاوة أشياء، يذكر عنه ما يتعجب منه في التلاوة، لماذا؟ لأنه صارت على حساب أعمال أخرى، وبعضهم يذكر عنه على ما سيأتي من ذكر الأمثلة من الصلاة ما لا يخطر على البال، وصار هذا على حساب عبادات أخرى، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- يفاضل، ويوازن بين هذه العبادات، ووقته مشغول ومعمور بالطاعة، والتبليغ ودعوة الناس إلى الخير. تقول عائشة: "وأيكم يطيق ما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يطيق؟!" ومحل ذلك كما قال ابن حجر: "ما لم يفضِ إلى الملل" لما جاء في الحديث الصحيح: ((أكلفوا من العمل ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا)) وأخرج البخاري من حديث عائشة -رضي الله عنها- مرفوعاً: ((عليكم ما تطيقون من الأعمال، فإن الله لا يمل حتى تملوا)) وجاء في الحديث الصحيح: ((أفضل الأعمال ما داوم عليها صاحبه)).

بعده -عليه الصلاة والسلام- وجد الاجتهاد في العبادة من الصحابة والتابعين، ومن تبعهم من غير نكير، فلا يمكن أن يوصف مثل هذا بالابتداع؛ لأنه عمل سلف هذه الأمة، وخير هذه الأمة، اقتداءً بنبيها -عليه الصلاة والسلام-، وقد قال -عليه الصلاة والسلام-: ((الصلاة خير موضوع، فمن استطاع أن يستكثر فليستكثر)) فجاء الحث على الذكر والتلاوة في الكتاب والسنة، قال الله -جل وعلا-: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}[(35) سورة الأحزاب] وقال -عليه الصلاة والسلام-: ((سبق المفردون... الذاكرون الله كثيراً والذاكرات)) وجاء الترغيب بتلاوة القرآن، ففي كل حرفٍ من القرآن عشر حسنات، عبادات أجورها لا يمكن أن يحاط به، ممن لا تنفذ خزائنه، ومع ذلك لا تكلف شيئاً، والمحروم لا تنفعه مثل هذه النصوص، إلا أن الله -جل وعلا- قال: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ}[(45) سورة ق] {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ}[(17) سورة القمر] ما هو كل الناس، ولذلك تجد بعض الناس يصعب عليه أن يفتح المصحف، وتجده حافظ ومع ذلك لا يقرأ، ولا شك أن هذا حرمان، وبكل حرف عشر حسنات، والختمة الواحدة بأكثر من ثلاثة ملايين حسنة، يعني الجزء الواحد الذي يقرأ بربع ساعة مائة ألف حسنة.

وهذا أمرٌ في غاية اليسر، مصداقاً لقول الله -جل وعلا-: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ}[(17) سورة القمر] يعني: الإنسان إذا جلس بعد صلاة الصبح ينتظر الشمس إلى أن ترتفع بإمكانه أن يقرأ القرآن في سبع، وهو مرتاح، وهذا لا يعوقه عن شيء من أعماله، لكن هذا الأمر يحتاج إلى شيء من المجاهدة، ثم بعد ذلك التلذذ كغيره من العبادات، وإلا فالأصل أن هذه العبادات تكاليف، ومما حفت به الجنة، والجنة حفت بالمكاره، يعني خلاف ما تشتهيه النفوس، فإذا جاهد نفسه، وعلم الله -جل وعلا- منه صدق الرغبة والنية أعانه، حتى تلذذ بذلك، وأثر عن السلف أنهم كابدوا قيام الليل، وما أشق قيام الليل على من لم يعتاده، تجده مستعد يجلس في القيل والقال إلى قرب الفجر، ثم بعد ذلك صراع مع نفسه، هل يوتر بركعة أو يقول الوتر سنة؟ ولئلا يشبه بالفرائض نتركه أحياناً، هذا شيء مجرب، وما كُره السهر والحديث بعد صلاة العشاء إلا لهذا الأمر؛ لأنه يعوق عن ذكر الله وعن الصلاة؛ لأنه على حساب الذكر، فإذا صلى العشاء ونام نام على خير، والصلاة كفرت ذنوبه ((الصلوات الخمس إلى الصلوات الخمس كفارات لما بينهما ما لم تغش كبيرة)) نام على ذنوب مكفرة، ولذا كان ابن عمر إذا تحدث بعد صلاة العشاء صلى قبل أن ينام، لينام عن صلاة.

هذا الحديث القيل والقال لا شك أنه يعوق صاحبه عن الذكر والتلاوة، ولذا نرى مع قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه)) بعض الناس يقول: الحج أربعة أيام، بالإمكان أن تضبط النفس ولا يتكلم بكلمة، لكن إذا كان قد عود نفسه على القيل والقال يستطيع أن يملك نفسه ثلاثة أيام؟ وبعض الناس يجاور في العشر الأواخر، ويجلس من صلاة العصر إلى صلاة المغرب في المسجد الحرام، فالمتوقع أنه ترك أهله وترك أمواله وجاور في هذه البقعة طلباً للثواب، والإكثار من العبادات، تجده يفتح المصحف إذا صلى العصر، ثم إذا قرأ صفحة أخذ يلتفت يميناً وشمالاً؛ لأنه ما تعرف على الله في الرخاء يعرفه في الشدة، ثم بعد ذلك إن رأى أحداً ممن يعرفه وإلا أطبق المصحف ثم يؤنبه ضميره لماذا أنا جئت؟ يفتح المصحف مرة ثانية، ثم يقوم من مكانه يبحث عمن يبادله الحديث، وتجد بعض الناس نظره في الساعة خشية أن يؤذن المغرب قبل أن يتم حزبه، هذا تعود في حال الرخاء، والله -جل وعلا- يقول: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى}[(4) سورة الليل].

الذكر:

الذكر من أفضل العبادات، وذكر له ابن القيم فوائد عظيمة جداً في مقدمة الوابل الصيب، وهو لا يكلف شيئاً، سبحان الله وبحمده مائة مرة حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر، يعني هذه تقال بدقيقة ونصف، ومن قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير كمن أعتق أربعة من ولد إسماعيل، والمائة عشرة من ولد إسماعيل، مع ما فيها من حفظ ورفع درجات، وحط سيئات، ولا إله إلا الله وحده لا شريك له إلى آخره مائة مرة بعشر دقائق.

والاستغفار شأنه عظيم، وجاء التنصيص عليه بالكتاب، وصحيح السنة، والإنسان تجده إما بالقيل والقال، أو بالسكوت، عرفنا أن هذا الشيء لا يكلف شيئاً، لكن على الإنسان أن يري الله -جل وعلا- من نفسه خيراً، ويعزم، ويترك أو يسد منافذ الشيطان إلى قلبه ليوفق لمثل هذه الأعمال.

النبي -عليه الصلاة والسلام- كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، وثبت عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه قال: ((أرحنا يا بلال بالصلاة)) كثير من المصلين الآن يصلي خلف إمامٍ لا تزيد صلاته على خمس دقائق، ومع ذلك ينظر في الساعة في كل ركن من أركان الصلاة، ويراوح بين رجليه، وثبت من خلال التجربة -من أهل العلم والعلم- أن الذي يتعامل مع الله -جل وعلا- هو القلب، فشخصٌ يناهز المائة، يصلي خلف شخصٍ قراءته عادية، يقرأ في كل تسليمة بجزء من القرآن، ويلوم الإمام لما استعجل في التسليمة الأخيرة، وشباب في العشرين والخمسة والعشرين والثلاثين ممن يطلب العلم، ويحرص على طلب العلم، تجده إذا صلى الإمام التسليمة من التراويح بعشر دقائق ضاق به ذرعاً، وبحث عن مسجدٍ آخر، والمساجد تمتلئ من طلاب العلم إذا كان الإمام لا يطيل القراءة، والله المستعان.

وقال ابن مسعود -رضي الله تعالى عنه-: "صليت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى هممت بأمرِ سوء، قيل: وما هممت به؟ قال: هممت أن أجلس وأدعه" وهذا الحديث في الصحيحين.

ومرض -عليه الصلاة والسلام- ليلةً فلما أصبح قيل: يا رسول الله: "إن أثر الوجع عليك لبين، فقال: ((إني علا ما ترون -بحمد لله- قد قرأت السبع الطوال)) نحن إذا زكم الإنسان وأصيب برشح، أول ما يتبادر إلى ذهنه حديث أن الإنسان إذا مرض أو سافر يكتب له ما كان يعمله صحيحاً مقيماً، من أجل أيش؟ ألا يصلي، ولا يقرأ، يمكن ولا يذكر الله -جل وعلا-.

وكان مع ذلك -عليه الصلاة والسلام- يخشع في صلاته ويبكي، فعن عبد الله بن الشخير -رضي الله تعالى عنه- قال: "أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يصلي وفي صدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء" وربما قام ليلة بآية واحدة، فعند ابن خزيمة وابن ماجه بسند لا بأس به أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "قام بآية حتى أصبح يرددها" قوله -جل وعلا-: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[(118) سورة المائدة].

الله -جل وعلا- أمر نبيه -عليه الصلاة والسلام- إذا فرغ أن ينصب {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ}[(7-8) سورة الشرح] قال ابن عباس: "فإذا فرغت من صلاتك فانصب" أي بالغ في الدعاء وسله حاجتك، وقال ابن مسعود: "إذا فرغت من الفرائض فانصب في قيام الليل" وقال الحسن وقتادة: "إذا فرغت من جهاد عدوك فانصب لعبادة ربك" فهو مأمور بهذا، والنصب هو التعب، ولا يمكن النصب والتعب بأداء أربعين ركعة في اليوم والليلة، بل لا بد من المزيد على ذلك في الكم والكيف؛ ليتحقق النصب المأمور به.

عبادة الصحابة:

الصحابة -رضوان الله عليهم- اقتدوا بنبيهم وقدوتهم وأسوتهم كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي -رضي الله تعالى عنهم أجمعين- وعن بقية الصحابة، فقد كان أبو بكر -رضي الله عنه- خير الأمة بعد نبيها -عليه الصلاة والسلام-، وفي سيرته من نصرة النبي -عليه الصلاة والسلام- وبذله نفسه وماله في نصرته -عليه الصلاة والسلام- مما لا يحتاج إلى إطالة، إضافة إلى ما عرف عنه من كثرة الصلاة، وأنه كان -رضي الله تعالى عنه وأرضاه- كما في الحديث الصحيح رجلاً أسيفاً، إذا قرأ الآية تسمع قراءته من البكاء.

وذكر الحافظ ابن كثير عن ليل عمر -رضي الله عنه- أنه كان يصلي بالناس العشاء ثم يدخل بيته فلا يزال يصلي إلى الفجر.

ولا يقال إن عمر -رضي الله تعالى عنه- في هذه الحالة مخالف لما ورد عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه كان يكره الحديث بعدها؛ لأنه جاءه سائل فقال له ذلك الحديث، النبي -عليه الصلاة والسلام- كان يكره النوم قبلها -أي صلاة العشاء- والحديث بعدها، قال: "إني سائلك عن شيء من العلم" قال: اجلس، فجلس حتى أصبح، فمثل هذا لا يعارض ذلك الحديث. فالمقصود به -الحديث بعدها- الذي يعوق عن الصلة بالله -جل وعلا-، أما ما يعين ويوثق هذه الصلة فهو مطلوب، فقد سهر النبي -عليه الصلاة والسلام- في بعض الليالي للنفع والصلاة وغيرهما.

وقد ترجم الإمام البخاري وغيره -رحمة الله على الجميع- (باب السمر في العلم) وذكروا أمثلة من ذلك. وقال -رضي الله تعالى عنه - يعني عمر- لمعاوية بن خديج: "لأن نمت بالنهار لأضيعن الرعية، ولئن نمت بالليل لأضيعن نفسي، فكيف بالنوم مع هذين يا معاوية؟!".

الإشكال أن هذه الحقائق قد تخفى على بعض طلاب العلم كيف؟ يأتي طالب علم دافعه الحرص على التعلم إلى شيخ، فيجده في المسجد يقرأ القرآن بعد الصلاة، ثم يقول له: أنا أريد أن أقرأ عليك الكتاب الفلاني، فيقول: يا أخي أنا مشغول، ما أستطيع، ثم يذهب يتحدث في المجالس، الشيخ يقول: أنا مشغول، وهو جالس يقرأ قرآن، خلل في التصور يا أخي، إذا نسي نفسه كيف ينفع الناس؟! لا بد أن يتخذ ويقتطع من عمره ومن جهده ما يعينه على نفع الناس، فهذا عمر -رضي الله تعالى عنه- يقول: "لئن نمت بالليل لأضيعن نفسي، فيكيف بالنوم مع هذين يا معاوية؟!".

ثبت عن عثمان -رضي الله عنه- أنه كان يقرأ القرآن في ركعة، وأقل ما يتصور في الختمة الواحدة ست ساعات، أقل ما يتصور في الختمة كاملة ست ساعات، ومع ذلكم عرف من حالهم -أعني سلف هذه الأمة- أنهم إذا قرؤوا تأثروا، فإذا تأثروا بالليل يعادون بالنهار.

أقول: عرف من سلف هذه الأمة عن أكثر من واحد منهم أنهم إذا قرؤوا تأثروا، فإذا تأثروا يعادون من الغد، يعادون، يزارون، مرضى، ونحن نسمع من يبكي في قراءة القرآن، وهو موجود -ولله الحمد- في هذه الأمة، لكن ما الأثر بعد هذه القراءة؟ تجده يبكي في أول الآية، ثم في آخرها الصوت لم يعتدل بعد، ثم في الآية التي تليها كأنه الآن دخل في الصلاة، فأين التأثر؟!.

القلوب غطاها الران وغطتها المكاسب، وغطاها التخليط في المآكل، الشبهات لم يتورع عنها كثير من طلاب العلم فضلاً عن المباحات التي كان سلف هذه الأمة يتورعون عنها ويتركونها خشية أن تجرهم إلى الحرام.

ذُكر عن علي -رضي الله تعالى عنه- أنه كان يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة، لكن شيخ الإسلام بن تيمية في منهاج السنة يقول: الوقت لا يستوعب.

يعني لو افترضنا ألف ركعة، كل ركعة بدقيقة، يعني تصور أن تصلى ركعة مجزئة بدقيقة، ألف ركعة كل ركعة بدقيقة تحتاج إلى ألف دقيقة، ألف دقيقة كم هي ساعة؟ العشرة الساعات ستمائة دقيقة، وتسعمائة، خمسة عشر ساعة، والمائة تحتاج إلى ساعة ونصف، يعني ستة عشر ونصف ساعة صلاة، فقط صلاة. شيخ الإسلام يقول: الوقت لا يستوعب.

وابن القيم -رحمه الله- في مدارج السالكين ذكر عن بعضهم أنه يصلى أربعمائة ركعة، فعلق المعلق -الشيخ حامد الفقيه - رحمه الله- فقال: إذا اعتبرنا أن كل ركعة بدقيقتين فالوقت لا يستوعب، لكن صلاة ركعة بدقيقة تحصل به الصلاة المجزئة.

ولهذا ثبت عن الإمام أحمد أنه كان يصلي في اليوم والليلة ثلاثمائة ركعة، والحافظ عبد الغني كما سيأتي في ذكره -إن شاء الله تعالى- يصلي ما بين طلوع الشمس وارتفاع وقت النهي إلى الزوال ثلاثمائة ركعة، لكنه يقتصر في قراءته على الفاتحة والمعوذتين، والله المستعان.

في الصحيحين أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: ((نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل)) قال سالم ابنه: فكان عبد الله لا ينام من الليل إلا قليلاً، مبادرة في الامتثال، لما قال له النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((يا عبد الله، كن كأنك غريب، أو عابر سبيل)) فكان عبد الله يقول: إذا أصبحت لا تنتظر المساء، وإذا أمسيت لا تنتظر الصباح.

بنى بيته بأسبوع بيده، بأسبوع، فكم تبنى البيوت الآن؟ بيوت سوقة الناس، وأقلهم شأناً يحتاجون إلى أقل تقدير سنة، ثم بعد ذلك انظر ما تحملوه من الديون التي جاء الوعيد بشأنها، والشهادة في سبيل الله تكفر كل شيء إلا الدين، وابن عمر يبني بيته في أسبوع بيده؟!.

الناس إلى عهد قريب قبل انفتاح الدنيا إذا خرج صاحب الحاجة من بناء بيت أو شبهه من المسجد وقف عند الباب وقال: أعان الله من يعين، وساعدوه، الآن من يستطيع أن يقول مثل هذا الكلام؟ والله المستعان.

حال السلف في العبادة:

وعن أبي عثمان النهدي قال: تضيفت أبا هريرة سبعاً، فكان هو وامرأته وخادمه يقسمون الليل أثلاثاً، يصلي هذا ثم يوقظ هذا.

وقال ابن المبارك: ما بلغني عن أحد من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- من العبادة ما بلغني عن تميمٍ الداري.

وعن عثمان بن طلحة قال: كان ابن الزبير لا ينازع في ثلاثة، شجاعة ولا عبادة ولا بلاغة.

وعن الربيع بن خثيم قال: أتيت أويساً القرني -هذا سيد التابعين، وجاء مدحه في صحيح مسلم، وعمر طلب منه أن يدعو له بأمر النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: فوجدته قد صلى الصبح، وقعد فقلت: لا أشغله عن التسبيح، فلما كان وقت الصلاة قام فصلى إلى الظهر، فلما صلى الظهر صلى إلى العصر، فلما صلى العصر جلس يذكر الله إلى المغرب، فلما صلى المغرب صلى إلى العشاء، ثم نعس بعد صلاة العشاء أخذته عينه فلما انتبه، يقول: سمعته يقول: اللهم إني أعوذ بك من عينٍ نوامة، وبطنٍ لا تشبع، ذكر ذلك الشاطبي في الاعتصام.

وعن ابن المسيب قال: ما فاتتني الصلاة في جماعة منذ أربعين سنة، مبادرة إلى الفرائض، والفرائض أولى بالاهتمام من النوافل، وإذا اهتم بالفرائض وفق للنوافل، وإذا فرط في الفرائض كيف يوفق للنوافل؟! قال: ما فاتتني التكبيرة الأولى منذ خمسين سنة، وما نظرت في قفا رجلٍ في الصلاة منذ خمسين سنة، ذكر ذلك الذهبي في السير.

وعن عثمان بن حكيم قال سمعت سعيد بن المسيب يقول: ما أذن المؤذن منذ ثلاثين سنة إلا وأنا في المسجد. وثبت عن بعضهم أنه قال: أن الذي لا يأتي إلى الصلاة حتى يدعى إليها إنه لرجل سوء.

وقال سعيد بن جبير: لقيني مسروق فقال: يا سعيد ما بقي شيء يرغب فيه إلا أن نعفر وجوهنا بالتراب، وما آسى على شيء إلا السجود لله تعالى.

وعن إبراهيم بن محمد بن المنتشر قال: كان مسروق يرخي الستر بينه وبين أهله، ويقبل على صلاته ويخليهم ودنياهم، ذكر ذلك أبو نعيم في الحلية.

وعن شرحبيل أن رجلين أتيا أبا مسلم الخولاني -عبد الله بن ثُوب- فلم يجداه في منزله، فأتيا المسجد فوجداه يركع، فانتظراه فأحصى أحدهم أنه ركعة ثلاثمائة ركعة.

وقال أبو الأحوص: قال لنا أبو إسحاق السبيعي: يا معشر الشباب اغتنموا -يعني قوتكم وشبابكم- قلما مرت بي ليلة إلا واقرأ فيها ألف آية، وإني لأقرأ البقرة في ركعة.

ألف آية تكون: في جزء، ألف آية تكون: أقل من جزء، يعني إذا قلنا: القرآن ستة آلاف، إذا قسمناها على الثلاثين كم يكون في الجزء؟...... إذا قلنا: ثلاثين؟.. لا أقل... لعلها تكون خمسة أجزاء أو أربعة أجزاء، يعني ورد خاص، قال: ما مرت بي ليلة إلا واقرأ فيها ألف ليلة، وإني لأقرأ البقرة بركعة، وإني لأصوم الأشهر الحرم وثلاثة أيام من كل شهر والاثنين والخميس.

المقصود أنه من أهل العلم إضافة إلى العلم، أبو إسحاق السبيعي من كبار المحدثين، من الرواة الحفاظ، ومع ذلك لم يشغله ذلك عن العمل، ويخبر الشباب بهذا، وليس هذا من إظهار العمل الذي يقلل الأجر، وإنما هو من أجل الاقتداء، فإذا غلب على الظن أنه يقتدى به كان الأثر المترتب على إظهاره أكثر من الأثر المترتب على إخفاءه، قال: ذهبت الصلاة مني وضعفت، وإني لأصلي فما اقرأ وأنا قائم إلا بالبقرة وآل عمران.

وقال حماد بن سلمة: ما أتينا سليمان التيمي في ساعة يطاع الله -عز وجل- فيها إلا وجدناه مطيعاً، إن كان في ساعة صلاة وجدناه يصلي، وإن لم تكن في ساعة صلاة وجدناه إما يتوضأ أو عائداً مريضاً أو مشيعاً جنازة أو قاعداً في المسجد، قال: فكنا نرى أنه لا يحسن أن يعصي الله -عز وجل-.

وقال معتمر بن سليمان التيمي لمحمد بن عبد الأعلى: لولا أنك من أهلي ما حدثتك عن أبي بهذا، مكث أبي أربعين سنة يصوم ويفطر يوماً، ويصلي الصبح بوضوء العشاء، وربما أحدث الوضوء من غير نوم.

وقال يحيى ابن المغيرة: زعم جريرٌ أن سليمان التيمي لم تمر ساعة إلا تصدق بشيء، فإن لم يكن صلى ركعتين.

وأما ما يروى عن أمير المؤمنين في الحديث سفيان الثوري فكثيرٌ جداً، فعن معمر بن إسماعيل قال: قام سليمان بمكة سنة فما فتر من العبادة سوى من بعد العصر إلى المغرب، وكان يجلس مع أصحاب الحديث وذلك عبادة.

وعن ابن مهدي قال: كنت لا أستطيع سماع قراءة الثوري من كثرة بكاءه، وقال ابن مهدي: ما عاشرت في الناس رجلاً آسف من الثوري. وقال الفريابي: كان سفيان يصلي ثم يلتفت إلى الشباب فيقول: إذا لم تصلوا اليوم فمتى؟. وقال الأوزاعي -رحمه الله-: من أطال قيام الليل هون الله عليه وقوف يوم القيامة. وقال الوليد بن مسلم: ما رأيت أكثر اجتهاداً في العبادة من الأوزاعي. وقال أبو مسهر عنه: كان يحيي الليل صلاة وقرآناً وبكاءً. قال حدثني بعض إخواني من أهل بيروت أن أمه كانت تدخل -يعني أم هذا الأخ- كانت تدخل منزل الأوزاعي، وتتفقد موضع الصلاة، صلاة الإمام الأوزاعي، فتجده رطباً من دموع في الليل. ودخلت امرأة لها صلة بزوج الأوزاعي فنظرت فوجدت بللاً في مسجده في موضع سجوده، فقالت لها: ثكلتك أمك، أراك غفلت عن بعض الصبيان حتى بال في مسجد الشيخ، فقالت لها: ويحك، هذا يصبح كل ليلة من أثر دموع الشيخ في سجوده.

وعن عبد الرحمن بن مهدي: لو قيل لحماد بن سلمة أنك تموت غداً ما قدر أن يزيد في العمل شيئاً. قال الحافظ الذهبي: كانت أوقاته -يعني حماد بن سلمة- معمورة بالتعبد والأوراد. وقال موسى بن إسماعيل: لو قلت لكم: إني ما رأيت حماد بن سلمة ضاحكاً، لصدقت، كان مشغولاً إما أن يحدث أو يقرأ أو يسبح أو يصلي، قد قسم النهار على ذلك. مات حماد بن سلمة في الصلاة في المسجد.

لكن لا شك أن التبسم حصل منه -عليه الصلاة والسلام-، وحصل -وهو نادر- أن ضحك -عليه الصلاة والسلام- حتى بدت نواجذه، لا شك أن هذا من شدة التحري؛ لأن بعض الناس لا يستطيع أن يوازن في مثل هذه المضايق؛ لأن بعض الناس لو ضحك استمر، وبعض الناس لو غفل ذهل، فهو يحزم نفسه على هذا لئلا يسترسل، بعض المضايق لا يستطيعها كثيرٌ من الناس، فمثلاً: مزاولة الأسباب مع قوة التوكل، هذا صعب جداً، يعني يذهب الإنسان إلى الطبيب، ثم بعد ذلك يحصل من التوكل على مثل ما كان عليه -عليه الصلاة والسلام- بعيد، فإما أن يحسم المادة ويترك التطبب، أو يحصل في قلبه ما يحصل، بعض الناس لا يستوعب، كيف يموت أعز الناس عليه ولا يجد في نفسه شيء؟! كيف تدمع عيونه ويبكي ويحزن، ومع ذلك لا يحصل في نفسه شيء من الاعتراض على القدر؟ كما كان من حاله -عليه الصلاة والسلام-؟. تضيق الأنظار في مثل هذه المواقف، حتى إن بعضهم لما مات ولده ضحك، ما استطاع أن يستوعب، فهذا حماد ما رؤي ضاحكاً، والله المستعان.

وقال يحيى بن أيوب: حدثني بعض أصحاب وكيع الذين كانوا يلزمونه أن وكيعاً كان لا ينام حتى يقرأ جزأه من كل ليلة ثلث القرآن، ثم يقوم في آخر الليل فيقرأ المفصل ثم يجلس، فيأخذ بالاستغفار حتى يطلع الفجر. وقال عبد الله بن أحمد: كان أبي -رحمه الله- يصلي في كل يوم وليلة ثلاثمائة ركعة، فلما مرض بسبب الجلد، حينما ثبت في المحنة كان يصلي كل يومٍ وليلة مائة وخمسين ركعة، وهذا ذكره أكثر من ترجم له. وقال إبراهيم بن هانئ النيسابوري: وكان -يعني الإمام أحمد- رأساً في العبادة وعلو الهمة، كان أبو عبد الله حيث توارى من السلطان عندي. وذكر من اجتهاده في العبادة أمراً عجباً قال: وكنت لا أقوى معه على العبادة، وأفطر يوماً واحداً واحتجم.

وقال أحمد بن سلامة النيسابوري الحافظ: كان هناد بن السري -رحمه الله- كثير البكاء، فرغ يوماً من القراءة لنا، يعني يقرئهم الحديث، توضأ فجاء إلى المسجد فصلى إلى الزوال، وأنا معه في المسجد، ثم رجع إلى مسجده فتوضأ وجاء فصلى من الظهر، وأخذ يقرأ في المصحف حتى صلى المغرب، قال فقلت: لبعض جيرانه ما أصبره على العبادة، فقال: هذه عبادته بالنهار منذ سبعين سنة، فكيف لو رأيت عبادته بالليل؟.

وكان محمد بن إسماعيل البخاري -رحمه الله تعالى- يختم في رمضان في النهار كل يوم ختمة، ويقوم بعد التراويح في كل ثلاثة ليالٍ بختمة. وقال بكر بن منير: كان محمد بن إسماعيل يصلي ذات ليلة، فلسعه الزنبور سبع عشرة مرة، فلما قضى الصلاة قال: انظروا أيش آذاني؟ وفي رواية وقد تورم جسده، فقيل له: لما لم تخرج من صلاتك؟ قال: كنت في سورة فأحببت أن أتمها.

وكان بقي بن مخلد الإمام الحافظ المعروف صاحب المسند الكبير يختم القرآن كل ليلة في ثلاثة عشرة ركعة، وكان يصلي بالنهار مائة ركعة، ويصوم الدهر، وكان كثير الجهاد فاضلاً.

على كل حال صوم الدهر معروف حكمه عند أهل العلم، وجاء في الحديث الصحيح: ((لا صام من صام الأبد)) وجاء أن صيام الدهر مفضول، وأن أفضل الصيام صيام داود، لكن بعض الناس إذا فتح له باب من باب العبادة استرسل فيه ونسي نفسه، ونسي ما جاء فيه من نصوص.

وكان الحافظ عبد الغني بن عبد الواحد المقدسي لا يضيع شيء من زمانه بلا فائدة، فإنه كان يصلي الفجر ويلقن القرآن، وربما أقرأ شيئاً من الحديث، ثم يقوم فيتوضأ فيصلي ثلاثمائة ركعة بالفاتحة والمعوذتين، كما سبق الإشارة إليه إلى قبل الظهر، وينام نومةً، فيصلي الظهر، ويشتغل إما بالتسميع -تسميع الحديث- أو بالنسخ إلى المغرب، فإن كان صائماً أفطر وإلا صلى من المغرب إلى العشاء، ويصلي العشاء وينام إلى نصف الليل أو بعده، ثم قام كأن إنساناً يوقظه فيصلي، ثم يتوضأ ويصلي إلى قرب الفجر، ثم ينام نومة يسيرة إلى الفجر، فهذا دأبه.

وقال موفق الدين بن قدامة: كان الحافظ عبد الغني جامعاً للعلم والعمل، كان رفيقي في الصبا وفي طلب العلم، وما كنا نستبق إلى خيرٍ إلا سبقني إليه إلا القليل، وكمل الله فضيلته بابتلائه بأذى أهل البدعة وعداوتهم، وابن قدامة ذكر في ترجمته من العبادة الشيء الكثير، فما ترك قيام الليل من شبابه إلى أن مات، فإذا رافق ناساً في السفر ناموا وحرسهم يصلي. ومع ذلك ترك هذا الأثر الكبير في العلم، يعني قد يقول قائل: كيف يؤلف المغني وهو يصلي بالليل والنهار؟! ولا يدري أن هذا خيرٌ معين للتأليف والعلم والتعليم. وقال الحافظ الذهبي في السير: كان قدوة صالحاً عباداً قانتاً لله ربانياً، خاشعاً مخلصاً عديم النظير، كبير القدر، كثير الأوراد والذكر والمروءة والفتوة والصفات الحميدة، قل أن ترى العيون مثله، وكان يكثر الصيام، ويتلو كل ليلة سُبعاً مرتلاً في الصلاة.

وأما ما ذكر عن شيخ الإسلام بن تيمية -نختصر باعتبار أن الوقت قرب- من العلم والعمل فشيء يشبه المستحيل، فمع كثرة مؤلفاته ذكر من عبادته وتهجده وأذكاره وصيامه وجهاده، ويقرر في ذلك أن هذا هو السبب في إعانته على العلم، وكان مع ذلك مجبولاً على الكرم، وما شد على دينار ولا درهمٍ قط، بل كان مهما قدر على شيء من ذلك يجود به كله، وكان لا يرد من يسأله شيئاً يقدر عليه من دراهم ولا دنانير ولا ثياب ولا كتب، حتى الكتب يعطيها.

وقال ابن رجب في ذيل الطبقات عن الإمام المحقق ابن القيم -رحمه الله تعالى-: وحج مرات كثيرة، وجاور بمكة، وكان أهل مكة يذكرون عنه من شدة العبادة وكثرة الطواف أمراً يتعجب منه.

وقال ابن القيم في مقدمة مفتاح دار السعادة الذي ألفه بمكة، وكان هذا من بعض التحف التي فتح الله بها عليّ حين انقطاعي إليه عند بيته، وإلقاء نفسي ببابه مستكيناً ذليلاً... إلى أن قال: فما خاب من أنزل إليه حوائجه وعلق به آماله، وأصبح ببابه مقيماً، وبحماه نزيلاً.

وهكذا يستمر العلماء المحققون على هذا المنهج، وهو الجمع بين العلم والعمل، فمن قرأ سيرة الشيخ محمد الإمام المجدد -رحمه الله- محمد بن عبد الوهاب رأى العجب، فيتعجب من هذه الأعمال الخاصة من صلاة وتلاوة وذكر مع ما قام به من جهاد بالسنان واللسان، وكذلك أبناءه وأحفاده وتلاميذهم إلى عصرنا.

وهذه البلاد أيضاً لها القدح المعلى من هذا النوع من أهل العلم والعمل، فمن أدرك الشيخ عمر بن سليم -رحمه الله- والعبادي والمفدى والخريصي والمطوع -رحمهم الله- جميعاً وأضرابهم وأمثالهم فهؤلاء يضرب بهم المثل في العبادة.

يعني لا يقال: أن هذا شيء غير مقدور عليه، هذا خاص بسلف هذه الأمة، فهناك أمثلة، وهذا الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله تعالى- مضرب المثل في التضحية، حيث بذل جميع وقته للدعوة والتعليم، وقضاء الحاجات، وحدثتنا زوجته أنه في ليلةٍ من الليالي جاء من المستشفى، ولاحظت عليه آثار التعب، فضبطت الساعة بعد عادته في القيام بساعة رأفةً به، فانتبه على العادة، وسألها لمَ لم يشتغل منبه الساعة، فأخبرته فلامها على ذلك، وأخبرته أنها فعلت ذلك من أجل راحته، فقال -رحمه الله-: الراحة في الجنة، وكان معدل نومه لا يزيد في اليوم والليلة لا يزيد على أربع ساعات.

ومن شيوخنا الأحياء الآن الموجودين من يزاول العمل الوظيفي، ويؤدي العمل من أوله إلى آخره بمقدار ست ساعات في اليوم، ومع ذلك يكون لديه الدروس اليومية، وقته معمور، وتجده يحرص على الصلاة على الجنائز، ويتردد على المساجد التي يصلى فيها على الجنائز، والآن خرج من الدوام، فيصلي على الجنازة ويتبعها، والمغرب عنده درس، وفي الليل قيام، فهذا ليس بالمستحيل، لكن الموفق من وفقه الله، فعلى كل حال نقتصر على هذا؛ لأن الوقت يزاحمنا، فالذي يُريَ الله -جل وعلا- من نفسه خيراً يعينه، وأكرر ما ذكرته في البداية أن هذا الموضوع لو أسند لشخص يحكي واقعه في العلم والعمل لكان أنفع؛ لأن القول الكلام الذي ينبع من القلب ويصدقه العمل هو المقبول، أما يسند إلى شخص لم يعرف بشيء من هذا، فهذا لا شك أنه حسن ظن من الإخوان، ولا نقول إلا خيراً، والله أعلم.

 

وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.