السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
ففي الدرس الماضي ذكرنا الشرطين لقبول أي عمل يتقرب به إلى الله- جل وعلا- وهما: إخلاص العمل لله- جل وعلا- والمتابعة لرسوله -عليه الصلاة والسلام- وذكرنا الأدلة على ذلك وأوردنا ما يورده بعض من يقسم البدع إلى حسنة وسيئة وما أتممنا الكلام فيه، قول عمر نعمت البدعة هذه المقالة لعمر مخرجة في- الصحيح- صحيح البخاري وهي ثابتة إليه ولا مجال لنفيها وذكرنا هذا في الدرس الماضي، وأن عمر- رضي الله عنه- لما جمع الناس على إمام واحد لصلاة التراويح ثم خرج إليه في ليلة من الليالي فأعجبه هذا الصنيع فقال نعمت البدعة هذه والتي ينامون عنها يعني صلاة آخر الليل خير منها، فإطلاق البدعة على صنيع عمر في جمعهم على إمام واحد قررنا في الدرس الماضي أنه ليس ببدعة شرعية قطعا لأنه عُمِل وله أصل يُعتمَد عليه من سنة النبي -عليه الصلاة والسلام- فقد صلى بالناس ليال ثنتين أو ثلاث فلما رآهم كثروا وامتلأ بهم المسجد خشي أن تفرض عليهم فلا يستطيعونها، وهذا من شفقته ورحمته بأمته -عليه الصلاة والسلام- فعدل عنها ولم يخرج إليها لا نسخا لها ولا عدولا عنها، وإنما خشية أن تفرض كما جاء ذلك مصرحا به في بعض الروايات لما مات النبي -عليه الصلاة والسلام- وانقطع الوحي وثبتت الأحكام فلا يزاد فيها ولا ينقص وأُمِنَت وأُمِنَ ما كان يخشاه النبي -عليه الصلاة والسلام- رأى عمر وهو الخليفة الراشد الذي أمرنا بالاقتداء به أن يجمع الناس على إمام واحد؛ لأنه رآهم أوزاعا متفرقين، ولا شك أن الجماعة مطلب شرعي، الاجتماع والائتلاف مطلب شرعي فحققه عمر- رضي الله تعالى عنه وأرضاه- في جمعهم على إمام واحد لما خرج إليهم وقال: نعمت البدعة لما أعجبه المنظر، فهذه ليست ببدعة شرعية قطعا؛ لأنها عملت على أثر منه -عليه الصلاة والسلام- فقد جمَّع بهم في ليلتين أو ثلاث على اختلاف الروايات، وليست ببدعة لغوية، شيخ الإسلام وجمع من أهل العلم يقولون: هذه بدعة لغوية والبدعة اللغوية ما عُمِل على غير مثال سابق، وقد عملت على مثال سابق، فهي ليست ببدعة لغوية ولا شرعية إذًا ماذا تكون؟ الشاطبي وجمع ممن يقول بثبوت المجاز يقول هذا مجاز لأنه استعمال للفظ في غير ما وضع له وهذا لا إشكال فيه عند من يقول بالمجاز، لكن الذي لا يقول بالمجاز وهو المرجح عند أهل التحقيق من أهل العلم ماذا يقول؟ يقول إن هذا التعبير والأسلوب من باب المشاكلة والمجانسة في التعبير وهو أسلوب مطروق ومعروف في النصوص وفي لغة العرب {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [سورة الشورى:40] السيئة الأولى سيئة والثانية وهي معاقَبة الجاني ليست بسيئة لكن إطلاق السيئة على معاقبة الجاني من باب المشاكلة والمجانسة في التعبير.
قالوا اقترح شيئا نجد لك طبخه |
|
XE "08-فهرس القصائد العامة:قالوا اقترح شيئا نجد لك طبخه *قلت اطبخوا لي جبة وقميصا " قلت اطبخوا لي جبة وقميصا |
هذه مشاكلة ولا يمكن أن يقال أن الجبة والقميص يمكن أن تطبخ اللهم إلا إذا كان بها أوساخ لا تزول إلا بالطبخ لكن هذا بعيد، لكن يأمرهم ابتداء أن يطبخوا له جبة وقميصا إنما يأمرهم أن يخيطوا له جبة وقميصا فهذا أسلوب معروف في النصوص وفي لغة الغرب وفي أشعارهم وفي استعمالاتهم يسمونه المشاكلة، قد يقول قائل أنه لم يقل أحد: ابتدعت يا عمر فقال نعمت البدعة، من أجل أن نقول هذه مشاكلة، علماء البديع لما ذكروا هذا النوع من أنواع البديع قالوا إنه التعبير بجنس ما شاكله مما ورد عليه حقيقة أو تقديرا، فكأن عمر خشي أن يقال له ابتدعت يا عمر أو كأنه توقع أن يقال له ابتدعت يا عمر فقال نعمت البدعة هذه، وعلى كل حال الخلفاء الراشدون لا يقال في صنيعهم بدعة؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي» «اقتدوا باللذَين من بعدي» ولذا في موطأ مالك عن أبي بكر الصديق- رضي الله تعالى عنه وأرضاه- أنه كان يقرأ في الركعة الثالثة من المغرب بعد الفاتحة {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ} [سورة آل عمران:8] هذا ثابت عنه في الموطأ وغيره، ولم يسبق أن نقل عن النبي -عليه الصلاة والسلام- أنه قال ذلك، ومعروف أن العبادات توقيفية فإما أن يقال أن هذه سنة خليفة راشد أمرنا بالاقتداء به، أو نقول إن هذا الصنيع لا يمكن أن يصنع من قبل الرأي والاجتهاد لأن العبادات توقيفية فيكون عند أبي بكر دليل ولو لم نطلع عليه لأن ما لا يقال بالرأي عند أهل العلم حكمه حكم المرفوع وهذا من جنسه، وعمر مثل ما ذكرنا في صلاة التراويح، وعثمان ذكرنا له أيضا الأذان الأول من يوم الجمعة وكل هذا مضى في الدرس الماضي، لكن هذا من باب التوضيح؛ لأنا ذكرنا أنها ليست ببدعة لا لغوية ولا شرعية إذًا ماذا تكون؟ أجبنا عنه في هذا الدرس، وموضوع درسنا اليوم فيما رواه الشيخان في حديث النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- «إن الحلال بيِّن وإن الحرام بيِّن وبينهما أمور مشتبهات» في بعض الروايات «متشابهات» وبعضها «مشبَّهات» «وبينهما أمور مشتبهات فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كراع يرعى حول الحمى ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب» هذا الحديث مخرج في الصحيحين وفي غيرهما من دواوين الإسلام، وهو حديث عظيم عظمه أهل العلم حتى قالوا إنه عليه مدار ربع الإسلام، فهو رابع أربعة أحاديث يدور عليها الدين كله، وبعضهم يقول ثلاثة وبعضهم قال إن الدين يدور على هذا الحديث فقط، وعلى كل حال هذا الحديث معظَّم عند أهل العلم وقد نظم أبو طاهر بن مفوِّز الأربعة التي أشار إليها أبو داود فقال:
عمدة الدين عندنا كلمات |
|
XE "08-فهرس القصائد العامة:عمدة الدين عندنا كلمات *أربع من قول خير البرية " أربع من قول خير البرية |
عمدة الدين عندنا كلمات |
|
أربع من قول خير البرية |
اتق الله وازهد ودع ما |
|
ليس يعنيك............. |
اتق الشبهات وازهد ودع ما |
|
ليس يعنيك واعملن بنية |
فهذا من الأحاديث الأربعة التي يدور عليها الدين عند أهل العلم، الحلال بين لا إشكال فيه ولا مراء وهذا كثير في النصوص يأتي منصوصًا عليه بنص صحيح صريح فهو بيِّن لا يُختَلف فيه، وإذا اختُلف فيه ووجد فيه أكثر من دليل أمكن الترجيح فبان وجهه، وكذلك الحرام بيِّن جاءت فيه نصوص صحيحة صريحة هذه لا مجال للاجتهاد فيها لكن المشتبهات بين الحلال وبين الحرام وهي ما تتعارض فيه الأدلة وبعضهم يقول: هو نوع المكروه الذي هو متردد بين الحلال والحرام ليس بحلال يثاب فاعله بيِّن واضح بل فيه نوع منع، لكن لا على سبيل الإلزام وليس بحرام بيِّن يأثم فاعله فهو في منزلة بين المنزلتين، الحلال البيِّن والحرام البين فهو برزخ بينهما وهذا البرزخ هو الشبهات والمشتبهات والمتشابهات، أسباب الاشتباه إما تعارض الأدلة في نظر المجتهد فيوجد في المسألة نص يبيح وآخر يمنع، ثم بعد ذلك لا يستطيع أن يرجح بطرق الترجيح المعتبرة عند أهل العلم فيبقى مشتبها عليه وعلى من يقلده، أو يكون في منزلة بين المنزلتين فيكون من قبيل المتروك أو خلاف الأولى كما يقول بعض أهل العلم، طيب هذه المشتبهات التي لم تتضح فيها أدلة التحليل ولا أدلة التحريم أو كانت من نوع المكروه الذي هو في برزخ بين الحلال وبين الحرام «من اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه» طيب عندك دليل يبيح ودليل يحرِّم من غير ترجيح إذا أقدمت فالاحتمال قائم أن هذا الفعل حرام لوجود دليل يدل على التحريم مع أن هناك احتمالا آخر وهو أنه حلال لوجود ما يدل على الحل فما دمت بين احتمالين فكيف تستبرئ لدينك وعرضك، فإن أقدمت عليه وقع في دينك وفي عرضك من يرى تحريمه، الذي يراه حرام وترجحت عنده المسألة بتحريمه بالأدلة هذا يقع في دينك وفي عرضك «فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام» كيف؟ أنت الآن فعلت فعلا عندك فيه دليل يدل على أنه حرام ودليل آخر يدل على أنه حلال فهو من المشتبهات، إذا فعلت هذا سهل عليك فيما بعد ارتكاب الحرام؛ لأنك قد تحتاج إلى مثل هذا الفعل المشتبه فلا تقدر عليه إلا بطريق حرام وقد عودت نفسك على ارتكابه فهو يجر إلى ما وراءه، وكذلك المكروه وقد أُثِر عن جمع من السلف أنهم يتركون تسعة أعشار الحلال خشية أن يقعوا في الحرام، أنت الآن عودت نفسك على أن كل حلال ترتكبه احتجت إلى هذا الفعل الذي هو في أصله حلال لكن لا تستطيع أن تتوصل إليه إلا بطريق فيه نوع كراهة وقد عودت نفسك عليه لا تستطيع أن تفطم نفسك إذا عودتها على شيء فإنك سوف تتجاوز هذه المرحلة وتقول الحمد لله ليس بحرام إنما مكروه والمكروه لا عقاب عليه، طيب احتجت مرة ثانية وثالثة وعاشرة وسهل عليك الأمر وغرتك نفسك على ارتكابه فلم تستطع الوصول إليه إلا بطريق الحرام ماذا تصنع؟ كان التصوير الذي الآن يستعمل ونراه بكثرة في أقدس البقاع شأنه عظيم عند الناس ومعظَّم في النفوس لما ورد فيه من النصوص الشديدة، لكن لما تيسرت أسبابه وصارت بيد كل واحد من كبير وصغير متعلم وعامي رجال ونساء تيسرت الأسباب، أنت الآن تقول: أنا أستفيد من هذه الكاميرا في تصوير المناظر الجميلة وكذا يأتيك ظرف ما تملك نفسك وأنت ترى تحريم تصوير ذوات الأرواح دعنا من الذين يرون أن هذا ليس من التصوير هذا شيء آخر، لكن الذي يرى أنه تصوير حرام يصوِّر به المناظر، يصور الكعبة، يصور الأروقة، يصور الأشجار، يصور الأنهار هذا عند عامة أهل العلم لا إشكال لأنه ليس من ذوات الأرواح، وأشرنا سابقا إلى أن القرطبي ذكر أن جميع ما هو من مخلوقات الله لا يجوز تصويره لأن فيه مضاهاة لخلق الله حتى ما لا روح فيه، لكن مثل هذا القول لو يطرح هذه الأيام لا يمكن يُتصوَّر، أقول توجد هذه الآلة بيد شخص يرى أن هذا النوع من التصوير يرى ولده أو بنته تحبو لأول مرة وتنازعه نفسه أن يلتقط صورة لهذا المنظر الذي لا يتكرر وهو يرى أن التصوير حرام ماذا يقول لنفسه؟ هذا لعله من النوع الذي أفتى به جمع من أهل العلم ليس بحرام، ثم يعود إلى نفسه فيلومها أمس أنا أقول حرام واليوم حلال ما يصلح غدا خطا على قدميه خطوتين أو ثلاث، ترى كثير من الناس بهذه الطريقة تساهلوا في هذا الباب ناس نعرفهم من أهل التثبت لكن لما سهل عليهم الأمر وصار بأيديهم وإذا كثر الإمساس قل الإحساس، ثم بعد ذلك تذهب إلى البحث عن الأقوال الأخرى، أنت احتجت هذا المكروه تقول مكروه لا عقاب في فعله وترتكبه احتجت إليه لكن لا تصل إليه إلا بوسيلة فيها كراهة أشد، تقول مازلنا في دائرة الكراهة ثم احتجت إليه مرة ثالثة ورابعة وخامسة ضاقت بك السبل وقد عودت نفسك عليه فإنك لن تتردد في ارتكابه ولو بطريق تأثم فيه بعض الشيء، ثم بعد ذلك يسهل عليك، والسيئة كالحسنة تقول أختي أختي ولذلك نرى من ورع السلف وفقههم فيما قاله بعضهم إنهم يتركون تسعة أعشار الحلال خشية أن يقعوا في الحرام، ولا بد للمسلم أن يضع لنفسه سياجا يمنعه من الوقوف فيما منع منه شرعا، يعني لو أن شخصا قال أريد النوم في سطح ليس عليه سور، ما فيه سياج وينام على حافته ويقول أنا في مأمن، الآن أنا على سقف هل يمكن أن تطاوعه نفسه على هذا الفعل أو لا بد أن يضع سياجا لئلا يقع؟ لماذا لا نضع لديننا سياجا؟ «ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام» يعني لا محالة لأن هذه الشبهات تجره، كثرة الإيغال في الحلال يجره إلى الوصول إلى هذه الشبهات سواء كانت أدلتها متعارضة أو كانت من نوع المكروه، ومن وقع في الشبهات لا بد ولا محالة أن يقع في الحرام؛ ولذا قرر أهل العلم قاعدة سد الذرائع جميع الذرائع الموصلة إلى المحرم محرمة، يعني هذا ما جاء من فراغ هذا جاء من استقراء تام لنصوص الشريعة وقواعدها العامة، والآن ينادى على ألسنة كثير ممن يكتب ويبرز للناس في وسائل الإعلام ينادى بفتح الذرائع وأننا ضيقنا على أنفسنا، هذا الكلام ليس بصحيح لأن سد الذرائع حينما تريد أن تنام في مكان أو تجلس في مكان فيه خطر على نفسك فلماذا لا تحتاط لدينك «ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ألا وإن لكل ملك حمى» وانظروا إلى هذا التنظير المطابق «كالراعي يرعى حول الحمى» شخص معه غنيمات في حمى لملك من الملوك ولا يرضى أن يرعى فيه غير نعمه وماشيته، ثم بعد ذلك هل تستطيع أن تقترب من هذا الحمى لاسيما إذا عرفت أن هذا ظالم يزيد في العقوبة، هل تترك الغنم تدخل في هذا الحمى؟ لا، لأنك تخاف على نفسك إذًا لماذا لا تخاف على نفسك من النار «كالراعي يرعى حول الحمى» الآن الغنم صحيح أن لها قوى مدركة تعرف أن الطعام مطلوب، والذئب مهروب منه، وتخشى بعض الأمور بهذه القوة المدركة لكن ليس لها عقول، العقل ميَّز الله به بني آدم هذه إذا رأت وبينهما حد فاصل هذا القسم ما فيه كلأ والذي يليه مباشرة بجانبه فيه العشب والكلأ الكثير ألا تدخل وتأكل؟ تدخل وتأكل لكن ما مصيرك أنت من هذا الظالم الذي منع من الدخول في هذا الحمى فأنت تحتاط لنفسك ولا يكفيك البعد بكيلو واحد، ألف متر أو كيلوين أو خمسة أو عشرة خشية أن تدخل بهائمك لهذا الحمى من هذا الظالم فينالك بسببها الأذى لماذا لا تحتاط لدينك «كالراعي يرعى حول الحمى ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه» حمى الله محارمه «إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه» ابتعدوا عنه ليس فيه ثنيا، اجتنبوا إن استطعتم «ألا وإن حمى الله محارمه» فليحذر الإنسان من غشيان هذه المحارم وارتكاب هذه المآثم وإن دعته نفسه وشهوته وشيطانه عليه المراقبة لله- جل وعلا- عليه أن يراقب الله- جل وعلا- في السر والعلن، «ألا وإن في الجسد مضغة» مضغة بقدر ما يمضغه من الطعام «ألا وهي القلب» القلب «إذا صلحت صلح الجسد كله» لأنه هو الملك وبقية الأعضاء بمثابة الشعب لهذا الملك يأمر فيأتمرون، وينهى فيكفون، "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله" لأن الجوارح التي يركَّب منها الجسد تأتمر بالأوامر بالنسبة لهذا القلب وتنتهي عند نواهيه وهذا القلب عليه مدار الأمر كله {يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } [سورة الشعراء:88-89] ما فيه غير هذا {يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [سورة الشعراء:88-89] فليحرص الإنسان على صلاح قلبه، قد يقول قائل: إن هذا القلب المتفق على تسميته قلبا في الجزء الأيسر من القفص الصدري متفق على تسميته قلبا، والنصوص كلها تخاطب القلب لكن مناط التكليف العقل رفع القلم عن ثلاثة والمجنون حتى يفيق، حتى يوجد العقل عنده، حتى يوجد مناط التكليف الذي هو العقل، طيب العقل هل يوجد ارتباط بينه وبين القلب؟ نصوص الشرع كلها تخاطب القلب، وجاء ما يدل على الارتباط الوثيق بينهما {لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} [سورة الحـج:46] فهناك ارتباط وثيق بين العقل والقلب، والقلب محله معروف لأنه شيء محسوس، والعقل يقرر الأطباء أنه في الدماغ لأنه قد يتأثر القلب الحسي ولا يتأثر العقل، وقد يتأثر العقل ولا يتأثر القلب المحسوس، فعلى هذا عند الأطباء- أعني الأطباء الذين تجردت أقوالهم وصنيعهم وطرائقهم عن النصوص الشرعية- يقولون لا يوجد ارتباط بين القلب والعقل؛ ولذلك يمكن أن يُنقَل قلب إنسان إلى آخر وقد يكون الأول من أعقل الناس والثاني أقل بكثير أو العكس هذا شيء مدرك ولا يمكن إنكاره، لكن ماذا نفعل بالنصوص الصحيحة الصريحة من الكتاب والسنة القطعية التي لا تحتمل تأويلا في توجيه الخطاب الشرعي إلى القلب، وتعليق الأوامر والنواهي والتكاليف بالعقل؟ لا بد أن يكون هناك بينهما ارتباط يوضحه قوله- جل وعلا- {لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} [سورة الحـج:46] فيقرر أهل العلم أن العقل محله القلب ويطلقون هذا، ورواية عند الإمام أحمد أن محله القلب وله اتصال بالدماغ، فيكون العقل مرتبطا بأمرين مرتبط بشيئين، مثل ما يقولون عن الكهرباء أنه لا بد من اثنين سالب وموجب فلا يقوم بأحدهما، فمحله القلب كما يقرره أهل العلم وله اتصال بالدماغ يتأثر بتأثر الدماغ «إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب» القلب له أمراض {فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [سورة الأحزاب:32] هل نقول أن هذا المرض المشار إليه في النفوس هو الذي يمكن أن تقام له عملية قسطرة وفتح وتوصيل شرايين لا، هو المرض المعنوي مرض الشهوة ومرض الشبهة، هذا المرض علاجه أغلى من علاج المرض الحسي العضوي؛ لأن به النجاة يوم القيامة، قد يترتب على المرض العضوي المرض الحسي ذهاب الدنيا والدنيا لا شيء بالنسبة للآخرة، الكلام في الهلاك الأخروي كيف نسعى للنجاة من هذا الهلاك {إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [سورة الشعراء:89] يحرص المسلم على أن يعالج قلبه من جميع الأمراض المؤثرة فيه، التي تكون عائقا وحاجزا بينه وبين ربه، ولابن القيم كلام كثير في الأدوية والعلاجات الناجعة المفيدة النافعة للقلوب، وكذلك للحافظ ابن رجب- رحمه الله- في مواضع من كتبه وغيرهما، وللغزالي أيضا في الإحياء على ما فيه من مخالفات عقدية وفيه أحاديث ضعيفة بل موضوعة فيتقى من هذه الحيثية ويستفاد منه بقدر الحاجة، وإن اعتمد على مختصراته مثل موعظة المؤمنين لجمال الدين القاسمي وما في حكمها يكفي في هذا النوع، وعلى كل حال الحديث عظيم وفيه فوائد كثيرة ويحتاج إلى دروس ونكتفي بهذا القدر.
والله أعلم وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.