إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:

فإن طلب العلم لا يخفى فضله على أحد منكم، وما أعد الله -جل وعلا- لمن سلك طريقاً يلتمس هذا العلم، وما أعده من منازل للعلماء، مما تضافرت عليه نصوص الكتاب والسنة، مما لا نحتاج إلى بيانه وذكره.

من أهم ما يُعنى به طالب العلم ما يتعلق بالأصل الأصيل، والحبل المتين كتاب الله -جل وعلا-، علينا جميعاً أن نعنى بكتاب الله -جل وعلا- وأن نهتم به، وأن نتعلمه، ونقرأه على الوجه المأمور به، وأن نتدارسه، وأن نعلمه الناس، وأن نعمل بما اشتمل عليه.

ثم بعد ذلك العناية بسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، بادئين بالمختصرات على الجادة المعروفة عند أهل العلم، بدءاً بالأربعين الأحاديث الجوامع الكلية من جوامع كلمه -عليه الصلاة والسلام- التي منها هذه الأحاديث التي نشرحها، ومنها حديث اليوم.

هذه الأحاديث جوامع وقواعد كلية أحسن النووي -رحمه الله تعالى- باختيارها وانتقائها، وإن كان الحديث الذي دعاه إلى جمعها ضعيفاً، ((من حفظ على أمتي أربعين حديثاً ... )) هذا اتفق الحفاظ على ضعفه، وقد بين النووي ذلك في مقدمة الأربعين، فالداعي لجمعها هذا الحديث -وإن كان ضعيفاً- إلا أن عامة أهل العلم يعملون به في مثل هذا الباب، وقد نقل النووي الاتفاق على ذلك في مقدمة الأربعين، ونوزع في نقل هذا الاتفاق، وعلى كل حال أحسن -رحمه الله- بانتقائها وجمعها، فهي أحاديث كلية اعتمدها أهل العلم أن يُبدأ في حفظها كدرجة أولى ولبنة أولى للبناء العلمي المتين.

وقد عني بها أهل العلم فلا يحصى كم من شرح هذه الأربعين بدءاً من مؤلفها إلى يومنا هذا وهي تشرح، منها هذه الأحاديث التي أودعها النووي في كتابه حديث أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وقد أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال -جل وعلا-: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [(51) سورة المؤمنون] وقال -جل وعلا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [(172) سورة البقرة] ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء، يا رب، يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له؟! )) هذا الحديث مخرج في صحيح مسلم، وجامع أبي عيسى الترمذي، ومسند أحمد وغيرها من دواوين الإسلام، فهو معروف لا إشكال في صحته، ولم يخرجه البخاري -رحمه الله تعالى-؛ لأنه ليس على شرطه؛ فراويه فضيل بن مرزوق ليس من شرط البخاري، وهو غير ابن مرزوق الذي نص عليه الحافظ العراقي في ألفيته، ذاك عمرو بن مرزوق، لأنه يقول:

وفي البخاري احتجاجاً عكرمة ... مع ابن مرزوق وغير ترجمة

فالفضيل بن مرزوق هذا ليس من شرط البخاري، ولذا لم يخرجه في صحيحه، وهو صحيح، لا كلام لأحد فيه.

معنى: (أن الله طيب):

((إن الله طيب)) إذا وجدنا مثل هذه الصيغة في كتب السنة، مثلاً في صحيح مسلم ((إن الله طيب)) هل لنا أن نقول: إن الله تعالى طيب؟ أو إن الله -عز وجل- طيب؟ أو إن الله -جل وعلا- طيب؟ أم نقول: هذه زيادة لا توجد في الأصل؟ كما أننا إذا سمعنا ذكره -عليه الصلاة والسلام- نصلي عليه، أو نلتزم بما في الأصل؟ وقل مثل هذا في الصحابي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، هذا في الأصل، فهل لنا أن نقول: -رضي الله عنه-؟ نعم، هذه الأمور ليس مبناها على الرواية، وهي بين دعاء وثناء لا يتقيد فيها بالرواية، فتصلي على النبي -عليه الصلاة والسلام- ولو لم توجد الصلاة في الأصل، وتصف الله بما يليق به ولو لم يوجد في الأصل؛ لأن هذه إما دعاء وإما ثناء، لا مدخل للرواية فيه، وهذا فيما إذا كان الكلام في غير ما تعبد بلفظه، أما ما تعبد بلفظه فليس لك أن تزيد، ما تعبد بلفظه ليس لك أن تزيد فيه، ولو كان ذلك على سبيل الدعاء أو الثناء.

((إن الله تعالى طيب)) (طيب) يطلق ويراد به ما تستلذه النفوس، {فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء} [(3) سورة النساء]، ويطلق ويراد به الحلال {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ} [(157) سورة الأعراف]، يطلق ويراد به الطاهر {فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا} [(43) سورة النساء] ((إن الله طيب)) على أي الإطلاقات يحمل؟ على الأخير، طاهر، المقدس، المنزه، القدوس.

وبعض الشراح يأخذ من هذا الحديث وما جاء مما يسنده يأخذ أن الطيب اسم من أسماء الله -جل وعلا-، ((إن الله طيب)) كما أخذوا الرفيق، من حديث ((إن الله رفيق يحب الرفق، جميل يحب الجمال)) يأخذون من هذه أسماء، فهل الطيب من الأسماء الحسنى؟ من أسماء الله -جل وعلا- أو هو مجرد خبر عن الله -جل وعلا- ليس باسم من أسمائه؟ على كل حال نص كثير من الشراح على أنه اسم من أسماء الله -جل وعلا-، من هذا الحديث، لكن هل الصيغة جاءت لبيان أنه اسم من أسماء الله أو أنه مجرد خبر عن الله -جل وعلا- كما في حديث: ((إن الله وتر))؟ هل من أسماء الله -جل وعلا- الوتر؟ لو توسعنا في مثل هذا لقلنا كما قال ابن حزم وغيره أن الدهر من أسماء الله -جل وعلا-، فالمسألة خلافية بين أهل العلم ولا شك أن سياقه سياق الخبر، سياق الحديث سياق الخبر، كالوتر، ((إن الله وتر)).

ما يدل عليه نفي القبول:

((إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً)) القبول جاء في النصوص، وعدم القبول كما هنا (لا يقبل) نفي القبول جاء في بعض النصوص ما يدل على نفي الصحة، وجاء في بعضها ما يدل على نفي الثواب المرتب على العبادة، فمثلاً في حديث: ((لا يقبل الله صلاة من أحدث حتى يتوضأ)) هذا يراد بنفي القبول نفي الصحة؛ لأن الأدلة دلت على أن الطهارة شرط لصحة الصلاة، وما تخلف شرطه لا يصح؛ لأن الشرط يلزم من عدمه العدم، ((لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار)) كذلك، وجاء إطلاق نفي القبول ويراد به نفي الثواب المرتب على الصحة، على العبادة، تكون العبادة صحيحة، أيش معنى صحيحة؟ مجزئة مسقطة للطلب، بمعنى أنه لا يؤمر بإعادتها، لكن الثواب المرتب عليها لا يستحقه الفاعل ((لا يقبل الله صلاة عبد آبق)) ((لا يقبل الله صلاة من في جوفه خمر)) {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [(27) سورة المائدة] مفهومه أن الله -جل وعلا- لا يتقبل من غير المتقين، غير المتقين الفساق مفهوم الآية أن الله -جل وعلا- لا يتقبل منهم؛ لأن الحصر في القبول للمتقين، مفهومه أن الله -جل وعلا- لا يقبل من غيرهم من الفساق، فإذا قلنا: المراد بنفي القبول هنا الصحة، قلنا: جميع تصرفات الفساق باطلة، إذا صلى وهو مرتكب لذنب، قلنا: لا بد من إعادة، إذا صام وهو مرتكب لذنب، قلنا: لا بد من إعادة، إذا حج وهو مرتكب لذنب لا بد من الإعادة، لأنه ليس من المتقين، العاصي ليس من المتقين، والله -جل وعلا- إنما يتقبل من المتقين.

أهل العلم يقررون أن المراد بنفي القبول هنا نفي الثواب المرتب على الصحة، وإلا فالصحة حاصلة، الصلاة صحيحة، بمعنى أنها مجزئة ومسقطة للطلب، فلا يؤمر بإعادتها.

((إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً)) وعلى هذا من تصدق بصدقة مما ينتفع به وهو ليس من النوع الطيب، من النوع الرديء، عندك ثلاثة أنواع من التمر، طيب ومتوسط ورديء، لو تصدقت من هذا الرديء، تصدقت صدقة مطلقة نفل، ممن يستسيغه ويأكله تؤجر أو لا ما تؤجر؟ الله -جل وعلا- يقول: {وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ} [(267) سورة البقرة] لا شك أنه في الزكاة الواجبة لا يجزئ الرديء، ولذا أنت لا تقبله وفاء لدينك؛ لأنه رديء إلا أن تتسامح، أما في الصدقة المطلقة تتصدق على فقير بنوع أقل مما تأكله أنت وأولادك، الصدقة تؤجر عليها؛ لأنه ينتفع بها، ولذا لو أن إنساناً اقتنى ثوباً جديداً وتصدق بالثوب القديم يلام أو لا يلام؟ هو رديء بالنسبة للثوب الجديد، وعلى كل حال، الطيب وما يضاده أمور نسبية.

أما الرديء الذي لا ينتفع به البتة لا تجوز الصدقة فيه؛ لأن هذا بحيث لا ينتفع به هذا استخفاف، أما النوع المفضول -وإن سماه الناس ردئياً- إذا كان ينتفع به فالصدقة به يرتب عليها الثواب ما لم تكن الرداءة به تصل إلى حد بحيث لا يستسيغه من تصدق عليه به، ولذا المأمور بإخراجه في الزكاة من أوساط المال، والوسط من المال بالنسبة للأعلى رديء، وبالنسبة لما دونه طيب، فمثل ما ذكرنا الطيب وما يضاده أمور نسبية، ففي النفقة أو في الصدقة المستحبة، الأمر فيه سعة، إذا كان المتصدق به مما ينتفع به.

عندك كتاب مثلاً مستعمل وأثر الاستعمال عليه ظاهر، واقتنيت نسخة نظيفة تدفع هذه النسخة القديمة إلى غيرك، فهو طيب من جهة باعتبار أنه ينتفع به، هو طيب من هذه الحيثية، أما لو كان من النوع الذي لا يمكن أن ينتفع به فليس بطيب، ويصدق عليه حديث ((إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً)).

أمر الله الرسل وأتباعهم بالطيبات:

((وقد أمر الله المؤمنين بما أمر به المرسلين ... )) فالله -جل وعلا- أمر المرسلين ومن أرسل إليهم؛ لأن الحكم واحد المرسلون وأتباعهم كلهم عبيد لله -جل وعلا-، ترد عليهم الأوامر والنواهي، مما لا تدل الأدلة على اختصاص بهم، "فقال -جل وعلا-: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [(51) سورة المؤمنون] وأمر المؤمنين بذلك {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [(172) سورة البقرة] والمراد بالطيبات هنا الحلال، مما يقابل الخبائث، ومن لازم الحل الطهارة، إذ الخبائث والمستخبثات والمستقذرات والأعيان النجسة يحرم أكلها، كما في قوله -جل وعلا-: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ} [(157) سورة الأعراف].

الأمور والأعيان الموصوفة بـ (الطيبة والخبيثة):

الأمور والأعيان التي جاء الشرع بتحريمها من أول الأمر واستمر التحريم أمرها واضح، والأمور التي أباحها الشارع واستمرت الإباحة أمرها أيضاً واضح، تلك خبائث وهذه طيبات، لكن الأعيان التي كان مأذوناً بالانتفاع بها ثم حرمت ماذا عنها في وقت الحل؟ وكيف صار أمرها في وقت التحريم؟ الخمر لما كانت حلال ثم حرمت؟ هل كانت خبيثة من الأصل وإباحتها للحاجة ثم حرمت واستمر خبثها، أو أنها كانت طيبة، ثم انقلبت مع النص مع التحريم إلى أن صارت خبيثة؟ وهي أم الخبائث، وجاء ما يدل على خبثها، لكن ماذا عن الحمر الأهلية التي كانت تؤكل في أول الأمر ثم حرمت؟ هل انقلبت أعيانها من طيبات إلى خبائث؟ أو كانت خبيثة أبيحت للحاجة؟ أو هي طيبة ومنعت للحاجة؟ الآن في قوله -جل وعلا-: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ} [(157) سورة الأعراف] لو ضربنا مثال بالحمر الأهلية كانت مباحة تؤكل، ثم حرمت، هل نقول: أنها من النوع الطيب، باعتبار ما كان؟ أو هي من النوع الخبيث باعتبار الحال أنها محرمة؟ ماذا نقول؟ أو نقول: كانت طيبة ثم صارت خبيثة، والله -جل وعلا- قادر على أن يجعلها طيبة لما كانت مباحة، ثم تنقلب عينها إلى الخبث بعد أن حرمت؟

وإذا أردنا أن نستطرد فبول ما يؤكل لحمه -لتقريب المسألة قليلاً- بول ما يؤكل لحمه دلت الأدلة الصحيحة على طهارته، هي كانت يؤكل لحمها ثم حرمت، فماذا عن بولها؟ أو تبعاً لعينها؟ مثل هذه الأمور من المسائل التي تشكل على كثير من طلاب العلم، فلا بد من توضيح الأمر.

هاه، يعني لما كانت تؤكل فأبوالها وأرواثها يعني كغيرها مما يؤكل كالإبل والغنم أو كانت أبوالها وأرواثها نجسة كالكلاب لأنها لا تؤكل؟ الآن بعد تحريمها بولها طاهر أو نجس؟ نجس، لا أحد يقول بطهارته، يعني إذا اختلفوا بعرقها ولعابها فلم يختلفوا في بولها، وقال عن روثها: ((إنها ركس)) لما أحضره ابن مسعود ليستنجي به النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: ((إنها ركس)) لأنها روثة حمار، هاه يا إخوان ساهموا، هاه يا شيخ.

طالب:. . . . . . . . .

إيه مباحة فهي طاهرة، يعني ما دامت تؤكل فطهارتها من باب أولى؛ لأنه لا يؤكل النجس، ثم انقلبت عينها إلى نجس بعد التحريم، يعني ندور مع النص، وهذا هو الذي يظهر، يعني ندور مع النص.

أسباب القبول والإجابة:

{وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ} [(157) سورة الأعراف] ((إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً)) هذه المقدمة هي سبب للقبول بمعناه الأصلي، الطيب مقبول، وهو أيضاً سبب للقبول، والمحرم وأكل الحرام مانع من القبول، ولذا جاء في آخر الحديث ذكر الرجل ((يطيل السفر، أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء يا رب، يا رب)) هذه من أسباب القبول.

السفر:

((يطيل السفر)) المسافر له دعوة مستجابة، وإطالته أدعى إلى قبول الدعوة لما يتصف به المسافر من الانكسار، وعدم الاستكبار، والتذلل والخضوع إلى الله -جل وعلا-، فإذا طال هذا السفر، طال السبب صار أدعى إلى القبول.

((أشعث أغبر)) والأشعث الأغبر أقرب إلى الانكسار، بخلاف من يهتم بمظهره؛ لأنه أقرب إلى حال أهل الكبر، يعني ما تجد متكبر وهو مستكين في مظهره، إلا إذا كان فيه شيء من الدخن، لأن بعض الناس يظهر للناس أنه متواضع يلبس الأسمال البالية، ويتماوت في مشيته، وبين جنبيه نفس تنوء بحملها البغال، عنده شيء من الكبر -نسأل الله العافية- لكن في الغالب أن الظاهر يدل على الباطن، ولا يعني أن كل من اعتنى بنفسه وبمظهره بالحد الشرعي أنه متكبر، لا، ولذا لما قالوا: إن أحدنا يحب أن يكون ثوبه جميلاً، ونعله جميلاً، قال: ((إن الله جميل، يحب الجمال)) فالجمال محبوب لكن يبقى أنه إذا زاد عن حده صار مذموماً، وجاء في عيشه -عليه الصلاة والسلام- ما يدل على أنه يتوسط في أموره، يدهن ويكتحل، لكن لا يبالغ يترجل، لكنه لا يسرف في ذلك، فخير الأمور أوساطها.

نعود إلى الحديث: ((أشعث أغبر)) من طول السفر، وهذا أقرب إلى الضعف والاستكانة والانكسار بين يدي الله -جل وعلا-، لاستشعار الحاجة والفاقة؛ لأنه بعيد عن أهله وعشيرته، بعيد عن أمواله، فهو محتاج، الحاجة عليه ظاهرة، وهذه من دواعي إجابة الدعاء.

رفع اليدين في الدعاء:

((يمد يديه إلى السماء)) ورفع اليدين في الدعاء تواترت به الأحاديث، وألف فيه المؤلفات، والله -جل وعلا- يستحيي أن يرد اليدين إذا رفعهما العبد إليه صفراً، وثبت عن النبي -عليه الصلاة والسلام- أنه رفع يديه، وبالغ في رفعهما حتى يرى بياض إبطيه، وحتى وصل الحد إلى أن تكون ظهورهما إلى السماء، فرفع اليدين مشروع عند الدعاء بالنصوص الثابتة، والدلائل القاطعة، وإن قال بعض السلف: أنه لا يشرع، وقال لمن رآه يرفع يديه: "ثكلتك أمك، من تتناول بهما؟ " من التابعين رأى داعي يرفع يديه قال: "ثكلتك أمك من تتناول بهما؟ " لكن مثل هذا القول يعول عليه مع صحة النصوص؟ أبداً، مثل هذا يضرب به عرض الحائط.

فرفع اليدين من أسباب قبول الدعاء، يا رب يا رب، وجل الأدعية القرآنية بهذه الصيغة، يا رب، ربنا، وفي آخر سورة آل عمران كررت كم؟ خمس مرات؟ هاه {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ * رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ ... } [(190 - 194) سورة آل عمران] خمس مرات، واستنبط بعض المفسرين أن من كرر الدعاء بهذه الصيغة خمس مرات يستجاب له، أخذاً من هذه الآيات؛ لأنها عقبت بقوله -جل وعلا-: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم} [(195) سورة آل عمران] يعني من كرر ربنا خمس مرات يستجاب له، وجاء في خبر لكنه ضعيف تكرارها أربع أو ثلاث، المقصود أن هذه الصيغة من أسباب قبول الدعاء عند أهل العلم، وأكثر الأدعية جاءت بها، رب اغفر لي، رب ارحمني، وهكذا جاءت في نصوص الكتاب والسنة بهذه الصيغة، فهي من دواعي القبول، يا رب، يا رب، هذه الصيغة المكررة ما الذي يمنعه من القبول؟ ما الذي يمنعه من إجابة الدعوة؟

تحري الحلال في المأكل والمشرب والملبس:

أكل الحرام، شرب الحرام، لبس الحرام، التغذية بالحرام، ((ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له؟! )) استبعاد، كيف يستجاب لمثل هذا؟ الذي يتقلب في الحرام في جميع تصرفاته كيف يستجاب له؟ فصدر الحديث يدل على بذل السبب، سبب القبول وآخر الحديث يدل على أنه لا بد من انتفاء المانع من القبول، ولذا الأسباب وحدها لا تؤتي ثمارها ما لم تكن الموانع منتفية، فلا بد مع توافر الأسباب انتفاء الموانع، فآخر الحديث يشهد لأوله، فالحرص على طيب الكسب وطيب المطعم، وطيب المشرب، وطيب الملبس سبب للقبول، لكن هل يستقل هذا السبب بالقبول، أو لا بد من انتفاء المانع؟

والسبب عند أهل السنة والجماعة جعله الله -جل وعلا- سبباً وجعل فيه تأثير، فالله -جل وعلا- هو المسبب وهو الذي جعل التأثير، ولا يستقل السبب بالتأثير كما تقول المعتزلة: أن السبب يستقل بالتأثير، وليس وجود السبب كعدمه كما تقول الأشعرية، يقولون: أن السبب وجوده مثل عدمه، ولذا يقررون في كتبهم أنه ليس هذا من باب الإلزام، بل صرحوا به، قالوا: أنه يجوز أن يرى الأعمى -وهو في الصين- البقة وهو في الأندلس، صغار البعوض أعمى في الصين في أقصى المشرق، يرى صغار البعوض -البقة- وهي في الأندلس، تراهم يا إخوان أصحاب عقول أصحاب ذكاء، لكن لما بعدوا عن النصوص وخلي بينهم وبين عقولهم أتوا بمثل هذه المضحكات، وإلا أدنى عاقل يقول لك أعمى في الصين يرى بقة في الأندلس؟!

أقول الأسباب لا شك أن لها أثراً جعله الله -جل وعلا- فيها، نضرب مثال في فصل الشتاء في البرد الشديد يلبس الإنسان من الثياب ما يجزم أو يغلب على ظنه أنه يقيه البرد، نعم، قد يصاب بمرض مع وجود هذا السبب، هذا سبب ومحسوس وجعله الله -جل وعلا- سبباً، سبب عادي، لكن قد تترتب عليه آثار وقد تتخلف، هل يقول قائل: أن من يلبس الثياب في الشتاء ويحتاط لنفسه بآلات التدفئة مثل شخص اغتسل بثيابه وبرز إلى الشارع أو إلى البر، هناك فرق أو لا ما فيه فرق في الشتاء؟ فيه فرق كبير، هذا بذل السبب وهذا فرط، والسبب نافع بإذن الله -جل وعلا-، فالله -جل وعلا- جعل في الأسباب تأثيراً، لكنها لا تستقل بالتأثير بدليل أنه قد توجد هذه الأسباب ويصاب الإنسان بما وضعت هذه الأسباب من أجل دفعه.

قد يؤتى الإنسان من شدة حرصه، يعني شخص بذل السبب وما فرط في رعاية صحته، اعتنى بأكله الأكل المناسب لجسمه ولسنه بالقدر المطلوب، الذي يقرر الأطباء أنه في الغالب ينفع ولا يضر، وعلى صلة مستمرة بالأطباء والتحاليل باستمرار أسبوعياً -هذه المسألة واقعة- شخص محتاط لنفسه، ويحلل في كل أسبوع من أجل زاد كذا نقص كذا، هذا بذل السبب، لكن ما الذي حصل بعد كم أسبوع؟ قال له الأطباء: إنك مصاب بسرطان الدم، طيب وين احتياطاتك؟ ووين أسبابك؟ وكم من شخص مفرط .. لكن لا يعني أن الأسباب لا تأثير لها، الأسباب لها تأثير، وقد أمرنا بفعل الأسباب، وترك الأسباب قدح في العقل، والاعتماد عليها قدح في الشرع، لا شك أن الأكل ((أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة)) سبب في استجابة الدعوة، ولا بد من انتفاء الموانع، قد يوجد السبب وينتفي المانع، ويتخلف الأثر، قد يدعو الإنسان مع توافر الأسباب وانتفاء الموانع ولا تستجاب دعوته؟ الأسباب متوافرة والموانع منتفية، ما أجيبت الدعوة؛ لأن الله -جل وعلا- وعده إما أن يجيب دعوته، أو يدفع عنه من الشر أعظم مما دعا به، أو تدخر له هذه الدعوة يوم القيامة أحوج ما يكون إليها، وبعض الناس يقول: الدعاء لا قيمة له، والله -جل وعلا- يقول: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [(60) سورة غافر] بعض من ينتسب إلى التصوف يقول: الدعاء لا قيمة له، فإذا كان الله -جل وعلا- قد قدر لي هذا الشيء لا بد أن يحصل دعوت أو لم أدع، وإذا لم يقدر لي فإنه لن يحصل لي دعوت أو لم أدع، نقول: ومع ذلك ادع، أنت مأمور ببذل ما أمرت به، وليست النتائج بيدك، ولا الإطلاع على ما في اللوح المحفوظ بيدك، أنت مأمور بالدعاء ادع، ولذا لا يطرد هذا المبدأ عندهم، هذا المبدأ لا يطرد عندهم، تقول له: يا أخي ليش تتزوج؟ قال: أريد الولد، قلت له: لا يا أخي لا تتزوج إن كان مكتوب لك أولاد بيجون، وإن كان ما كتب لك أولاد لو تنكح مائة امرأة ما جايك عيال، يقول: لا يا أخي لا بد من بذل الأسباب، طيب وين الأسباب الثانية، نعم، فيضطرب مذهبه في هذا.

على كل حال الله -جل وعلا- كما في الحديث طيب لا يقبل إلا ما كان طيباً، فعلى الإنسان أن يحرص ألا يدخل في جوفه إلا ما يجزم بحله من جهة، وأن يكتسب المال من حله، وأن ينفقه في وجوهه الشرعية؛ فالشخص المخلط الذي لا يحتاط لنفسه في الكسب سواء كان من أهل المعاملات التجارية الذي ترد الشبهات على عقوده وقد يتجاوزها إلى المحرمات وهو مخلط في كسبه، مثل هذا على خطر من هذا الحديث، وقل مثل هذا في الموظف الأجير الذي لا يؤدي الدوام على الوجه المتفق عليه، كثير من الناس تجده من الأخيار ودائماً يلهج بذكر الله وشكره ودعائه والانكسار بين يديه، لكن ما تجاب دعوته، لكن لا يخطر بباله أنه يأكل الحرام، فالأجير إذا فرط بشيء مما اتفق معه عليه، صار مقابل هذا التفريط غير مباح محرم، نعم هناك أمور جرى العرف على التسامح فيها، يعرف المسئولون أن هذه أمور لا بد أن تقع، ولا يحاسبون عليها؛ لأن الإنسان لا بد أن يحصل له ما يحصل لكن لا يكون عادة وديدن إذا حصل له ذلك يبادر في بذل الأسباب التي تعينه على أداء عمله على أكمل وجه.

المال الذي فيه شبهة، ليس بمحرم صريح، وليس بحلال صحيح، بل هو من الأمور التي بين هذه وهذه من المشتبهات، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: إنه يجوز أن تسدد به الديون، لكن لا يؤكل؛ لأن الأكل وإدخال الجوف ما لا يعلم حله أثره على القلب، ثم بالتالي القلب يؤثر على الجوارح فكأن الشيخ -رحمه الله تعالى- في المال الذي فيه شبهة ليس المال المحرم، الذي فيه شبهة يجيز سداد الديون منه، شخص يأخذ من الصدقات والزكوات ويمر به مسكين هل له أن يتصدق عليه، أو نقول: إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً؟ أهل العلم يقولون: الشيء اليسير الذي يرد به المسكين ولا يؤثر في معيشته ومعيشة من يمون لا يحدث خلل فيه، يقولون: للفقير أن يتصدق به، ويرجى له ثوابه -إن شاء الله تعالى-، وممن نص على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-.

إذا أراد أن يحج فعليه كما يقول أهل العلم: أن يتحرى الكسب الطيب، ليكون حجه مبروراً مقبولاً، ويجتنب ما فيه شبهة، فضلاً عن الأمور المحرمة؛ لأن الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة، لكن هل مثل هذا الكلام يقال لشخص معاملاته ليست على الطريقة الشرعية، إما بغش وخداع وحيل أو ربا أو ما أشبه ذلك من عقود محرمة، ثم بعد ذلك إذا جاء الحج يحرص أن يعقد صفقة صحيحة نظيفة ليحج بها؟ هل له ذلك؟ أو نقول: جل ماله محرم، فالذي يغلب على الظن عدم القبول.

إذا حججت بمال أصله سحت ... فما حججت ولكن حجت العيرُ

فعلى الإنسان أن يحرص على طيب المكسب، وأن يحرص أيضاً على الإنفاق، إنفاق الأموال في وجوهها المشروعة؛ لأن من الناس من يحرص ويحتاط للكسب، لكنه عند الإنفاق يتساهل فلا بد من أخذ المال من حله وإنفاقه في وجهه؛ لأن الشارع نهى عن إضاعة المال {وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ} [(5) سورة النساء] ونهى عن ((قيل وقال، وكثرة السؤال وإضاعة المال)) فالمال محترم في شريعة الإسلام، وحفظه مما جاء الشرع بالتأكيد عليه كحفظ النفس والعرض والدين من الضرورات، ((ومن قتل دون ماله فهو شهيد)).

 

وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.