التوسع والاختصار في الشروح

في فضل علم السلف: "إن من فضل عالمًا على آخر بكثرة كلامه فقد أزرى بسلف هذه الأمة"، وكانوا مما يكرهونه تشقيق المسائل، وفي المثل: "من كثر كلامه كثر سقطه وزلَله". وهذه مسألة قد تشكل على كثير من المعلمين والمتعلمين، والمعلمون في هذه العصور متورطون فيها، يعني: مثل صنيعنا ساعة ونصف في حديث واحد وتجد من يستطيع أن يتكلم على الحديث بخمس دقائق، فهل هذا مما يُمدَح أو مما يُذَم؟ يعني: صنيعنا واقع في الممدوح أو في المذموم؟ هل نقول: هذا تشقيق مسائل لا فائدة منها وتضييع أوقات وتضييع جهود، وبدلاً من أن تشرح الأربعين النووية في دورة واحدة تحتاج إلى دورات؟ ونسمع من يشرح الأربعين في يومين، وقد وضعت دورة لبعض المشايخ على أن تشرح الأربعين في مدة خمسة أيام، فشرحها الشيخ في ثلاثة أيام واعتذر عن يومين وانتهى. يعني: هل نقول: إن هذه القلة مطلقا هي صنيع السلف والإسهاب والتطويل هو صنيع الخلف، يعني إذا قارنا كلام الإمام أحمد بكلام شيخ الإسلام ابن تيمية مثلاً، الإمام أحمد يجيب عن المسألة بجملة، وقد يجيب بكلمة "يعجبني" أو "لا يعجبني"، وشيخ الإسلام يجيب عن فتوى بمائتين وثلاثين صفحة، يقول: "كتبت الجواب وصاحب السؤال مستوفز يريده"، يعني: ما جلس على الأرض فكتب هذا الجواب طبع بمائتين وثلاثين صفحة من الفتاوى، فكتاب الحموية جواب، والتدمرية جواب، والواسطية جواب. هل نقول: إن هذا من التطويل الذي لا ينفع ومن تشقيق المسائل؟ أو نقول: لما احتاج الناس إلى التفصيل ألجأ أهل العلم إلى التفصيل وكانوا يذعنون لمجرد الكلام من العالم في السابق العالم الموثوق به إذا قال: يعجبني أو لا يعجبني انتهى الإشكال، لكن الآن إذا قال: يعجبني، يكفي؟ ما يكفي، فاحتاج الناس إلى التفصيل، فاضطر أهل العلم إلى التفصيل.

هل يقال: إن شيخ الإسلام ليس على طريقة السلف؟ طريقة السلف هذه قد يتذرع بها من لا يكلف نفسه عناء المراجعة أو عناء البحث في الكتب، أو يستطيع أن ينهي الكتب أو يسمع أكبر قدر من الكتب ويعلق على هذه القراءات بكلمة أو كلمتين، ويقول: إنه على طريقة السلف. يعني قد يتذرع بمثل هذا الكلام الكسول، ولا يُظَن بشخص بعينه، فإذا نظرنا إلى العلم المبارك مثلاً علم الشيخ ابن باز مثلا، يقرأ عليه حديث يعلق عليه بخمس دقائق، وهكذا الحديث الثاني، ويشرح ثلاثة وأربعة وخمسة أحاديث في جلسة واحدة ولا تستغرق شيئًا، بعد صلاة العصر ربع ساعة يعلق على خمسة أحاديث، ولا شك أن هذه طريقة السلف، وعلم مبارك ومعوله على الكتاب والسنة، لا أحد يشك في هذا. لكن إذا احتاج طلاب العلم إلى التفصيل والتنظير في المسائل وتوضيح المسائل بكثرة الأمثلة، هل نقول: إن هذا من تشقيق المسائل الداخل في الحديث؟ مثال ذلك شيخ الإسلام احتاج في وقته إلى بسط المسائل، الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- يبسط المسائل، هل نقول: إن هذا من البسط وتشقيق المسائل المذموم، أو من التوضيح المطلوب لما احتاج طلاب العلم إلى مثل هذا التوضيح؟

ولذلك الإنسان قد تراوده أحيانا الفكرة أنه يجمل في كثير من المسائل ويرجع الطلاب إلى المصادر، ويقول: اقرؤوا في شروح الأربعين وتستفيدون، ونتكلم على الحديث في خمس دقائق، وننتهي من الأربعين بسرعة، والنفس لا شك أنها توجس ريبة من بعض التصرفات التي نرتكبها والإبعاد في النجعة والأمثلة والاستطرادات قد تكون عائقًا عن تحصيل بعض العلم، لكن الله -جل وعلا- يعلم أن الباعث لذلك هو إفادة طلاب العلم لا أكثر ولا أقل.

لكن مع ذلك نجد في كلام ابن رجب -رحمه الله- سواء كان في فضل علم السلف أو في شرح الأربعين ما نقع في مخالفته أحيانًا، ونسأل الله -جل وعلا- العفو.