كتاب الطهارة من المنتقى - (02)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

أما بعد، فيقول المؤلف -رحمه الله- في مقدمة كتابه: (هذا كتاب).

هذا: اسم إشارة، والأصل أن يأتي بعد الحمدلة والصلاة على النبي -عليه الصلاة والسلام- بـ: أما بعد، أن يقول الأصل أن يقول: أما بعد فهذا كتاب؛ لثبوتها عن النبي -عليه الصلاة والسلام- في أكثر من ثلاثين حديثًا، فالإتيان بها في الخطب والمراسلات والكتب في حكم الخطب من السنن، هذا: الإشارة لا بد أن تكون إلى موجود إما في الذهن وإما في الواقع، الأصل الواقع لأن الإشارة بها إلى المحسوسات، يشير تقول هذا، تشير إلى شيء محسوس، وتجوزوا في المعاني فأشاروا إلى ما في الأذهان منها قبل وجودها، فالإشارة في هذا إن كانت المقدمة كُتبت قبل التأليف فتكون إلى ما هو متصور في الذهن، فالمؤلف يعرف ماذا سيكتب وإن كان لا يحيط به تفصيلاً لكنه ما يكتبه إجمالاً مما سيوجد وهو موجود الآن في الذهن لا في الواقع تكون الإشارة له، وإن كانت المقدمة كُتبت بعد تصنيف الكتاب فإنه يشير إلى ما هو موجود في الأعيان.

(هذا كتاب).

مبتدأ وخبر.

(يشتمل).

يعني يحتوي ويضم.

(على جملة).

ليضم جملة من الأحاديث النبوية، جملة: عدد كبير من الأحاديث النبوية تختلف بحسب عدها على سبيل الإجمال أو على سبيل التفصيل حتى بلغت في عد بعضهم إلى خمسة آلاف، بعضهم جعلها أربعة باعتبار أنه يضم بعض الروايات إلى بعض، وعلى كل حال الكتاب أطول المصنفات في أحاديث الأحكام مما صُنف قصدًا لذلك مع التجريد من الأسانيد والطرق، هذا كتاب جامع بحيث له تُتبعت أسانيده وطرقه وألفاظه بلغ عشرات الألوف، فحقيقة يشتمل على يعني ما أُلف مثله في كتب الأحكام، المصنف صنف كتابًا في الأحكام ثم اختصر منه هذا، والذي يظهر أنه صنفه أولاً بالأسانيد وذكر الطرق والألفاظ ثم اختصره في هذا، والجملة التي أشار إليها من أحاديث الأحكام النبوية من الأحاديث النبوية التي ترجع أصول الأحكام إليها أحاط بها إحاطة لا مثيل لها في المصنفات؛ ولذا أثنى العلماء على هذا الكتاب، وبالغوا في الثناء عليه، وإن كان لا يخلو من أحاديث لم يبين درجتها مما انتقد عليه، في البدر المنير ابن الملقن أشاد بالكتاب إشادة لا نظير لها لكنه استدرك استدراكًا في غاية الأهمية، قال إن المؤلف قد لا يبين درجة الحديث من الصحة والحسن والضعف مع وجود الأنواع الثلاثة فيه من الصحيح والحسن والضعيف، وقد ينقل عن كتاب الترمذي والترمذي أشار إلى درجة الحديث أشار إلى صحته مع حسنه أو ضعفه أو غرابته ولم ينقل هذا مع أهميته وتيسره، قال: رواه الترمذي وقال حسن صحيح أو قال حسن غريب أو قال فيه علة أو فيه كذا، وقد ينقل الترمذي تصحيح الحديث عن الأئمة مثل البخاري أو التضعيف عن الأئمة ويتركه المؤلف، ومع ذلك العصمة والإحاطة الشاملة بحيث لا يُنتقد هذه ما هي موجودة في غير المعصوم -عليه الصلاة والسلام-، فهو من ضمن البشر الذين يُستدرك عليهم ما يستدرك، ويكفيه أنه جمع ويسر للعلماء وطلاب العلم ما يبنون عليه الأحكام.

قال: (هذا كتاب يشتمل على جملة من الأحاديث النبوية التي ترجع أصول الأحكام إليها، ويعتمد علماء الإسلام عليها).

مع أنه قد يذكر بعض الموقوفات كما سيأتي في خطبته.

(ترجع أصول الأحكام إليها).

المتفقه قد لا يحتاج إلى شيء من غير هذا الكتاب إلا الشيء القليل والنذر اليسير، حتى قال بعضهم إنه يكفي المجتهد في أحاديث الأحكام، وأشرنا إلى هذا في الدرس الماضي وقلنا إن من أهل العلم من قال إن سنن أبي داود تكفي ومنهم من قال سنن البيهقي ومنهم من ضم الكتابين، لكن هذا الكتاب خلاصة هذه الكتب، البيهقي عشرة أسفار كبار وفيه من العلم ما لا يستغني عنه طالب علم وطريقته في سياق المتون والأسانيد والتعقيب على هذه الأحاديث قل أن يوجد له نظير؛ ولذا قالوا في ترجمة البيهقي: العديم النظير، يعني ما له نظير، وكتاب بحر لا يستغني عنه طالب علم، وعلى كل حال أصحاب الهمم الضعيفة من أوساط المتعلمين وكذلك أصحاب الحافظة التي لا تسعف في الإحاطة بمثل العلوم التي أدرجها البيهقي في كتابه تعوق عن التوجيه لمثل هذا الكتاب، وعلى كل حال فهو كتاب عظيم يُعتمد عليه ويستند عليه، يُنتقد أيضًا البيهقي الإمام البيهقي ينتقد من جهة طول الأسانيد لتأخر البيهقي أربعمائة وثمان وخمسون متوفى، طول الأسانيد طول يحتاج إلى عمر في دراسة الأحاديث، كما أن التأخر عن الأئمة يعني هو يروي عن طريق الأئمة يروي عن طريق الأئمة فمن دون الأئمة البحث فيهم صعب والمصنفات قد لا يوجد فيها كثير من رواة البيهقي فهو من هذه الحيثية فيه صعوبة فيه وعورة، ينتقد أيضًا البيهقي وإن كان خروجًا عن الموضوع: أن البيهقي يروي عن الأئمة ولا يعتمد ألفاظهم فهو يروي عن طريق أيش؟ المستخرجات، فيعزو للبخاري أو يعزو لمسلم وهكذا وهو ما أخذه من الصحيح نفسه، ولذا يوجد بعض الاختلاف بين ألفاظ مروياته وألفاظ الكتب الأصلية، ولذا يقول الحافظ العراقي: واستخرجوا على الصحيح كأبي عوانة ونحوه فاجتنب عزوك ألفاظ المتون لهما إذ خالفت لفظًا ومعنى ربما والأصل يعني البيهقي ومن عزا وليت إذ زاد الحميدي ميز، فإذا قال رواه البخاري يعني أصل الحديث ولا يلزم أن يكون بألفاظه وحروفه، وعلى كل حال هذه موضوعات معروفة لدى طلاب العلم ولا نطيل في ذكرها.

(كتاب يشتمل على جملة من الأحاديث النبوية التي ترجع أصول الأحكام).

والمقصود بالأحكام في الفروع الخاصة بالفروع، وهذا اصطلاح حادث وإلا كل ما جاء عن الشرع حكم شرعي، ولكن إذا أطلقوا الأحكام وكتب الأحكام وأحاديث الأحكام يقصدون بها الفروع.

(ويعتمد علماء الإسلام عليها).

يعتمدون لا شك أن علماء الإسلام عمدتهم ومعولهم على الدليل من الكتاب والسنة.

يقول: (انتقيتها).

الكتاب اسمه: المنتقى.

(انتقيتها).

يعني اخترتها.

(من صحيحي البخاري ومسلم).

الصحيح الذي ألفه الإمام البخاري محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري الجعفي مولاهم المتوفى سنة ست وخمسين ومائتين هذا الكتاب الأول وهو أصح الكتب المصنفة بعد كتاب الله -جل وعلا-، أول من صنف في الصحيح محمد وخص بالترجيح، فهو أصح من غيره عند عامة أهل العلم، خالف في هذا نذر يسير كأبي علي النيسابوري فضلوا مسلمًا على البخاري ورجحوه عليه: وبعض أهل الغرب مع أبي علي فضلوا ذا لو نفع، لكنه لم ينفع، والأدلة على تفضيل البخاري على مسلم وغيره من الكتب معروفة مشهورة في كتب أهل العلم مبسوطة مجملة ومفصلة.

(صحيحي البخاري ومسلم).

صحيح البخاري أشهر من نار على علم، محل عناية من الأمة سلفًا وخلفًا، واهتمام الأمة بالبخاري اهتمام لا نظير له، تلقاه عن مؤلفه أكثر من تسعين ألفًا، ونسخه ورواياته لا تكاد تُحصر، وإلى يومنا هذا مع وجود المطابع والحواسب والكتاب يُنسخ ويخط، عجب! التسخير من الله -جل وعلا- والتيسير إلى الآن والكتاب ينسخ، مع وجود المطابع والحواسب وكل ما جاء شيء قالوا انتهى الذي قبله، الأول الاعتماد على الحفظ في الصدور ولا يوجد غيره، ثم بدأ الناس يكتبون شيئًا يسيرًا وجاء النهي عن الكتابة، ثم أُذن فيها وأجمع عليها واعتمدها الناس مع وجود الحفظ، والحفظ لا يزال موجود لكن ما هو مثل ما كان في سلف الأمة وأئمتها، الإمام أحمد يحفظ ألف ألف يعني مليون حديث أكثر من الحواسب كلها، وغيره من يحفظ سبعمائة ألف ومن يحفظ خمسمائة ألف، عجب! والله المستعان. اعتمد الناس على الكتابة وانتشرت واستفاضت واضطر الناس إليها ونفع الله بها نفعًا عظيمًا، لكن الحفظ ضعف. ثم بعد ذلك جاءت هذه الحواسب وقالوا انتهى كل شيء لا حفظ ولا خط ولا نسخ ولا شيء أبد، ولكن الدين محفوظ، الحفاظ موجودون والحفظة يكثرون ولله الحمد والكتابة موجودة، صحيح أن هذه الآلات التي حدثت فيما بعد صار لها أثر على الكتابة وعلى جودة الكتابة وعلى تضييع أصول الكتابة، صار اللي يبغى شيء كتبه في هذا الجوال وروح، صار ما يعرف يكتب، كثير منهم ما يعرف يكتب، والله المستعان.

الصحيحان صحيح البخاري ومسلم هما أصح الكتب بعد كتاب الله عند الأمة قاطبة، وأما قول الشافعي -رحمه الله-: ما على أو ما تحت السماء أو ما على أديم الأرض أصح من كتاب مالك، فكان هذا قبل وجود الكتابين، فالاتفاق حاصل على أن البخاري ومسلم أصح الكتب، والنزاع في المفاضلة بينهما لا من حيث الصحة فالصحة عامة أهل العلم كما أشرنا على تفضيل البخاري، والنذر اليسير الذين فضلوا مسلم قد يعتبر خلافهم مثل العدم: فضلوا لو نفع، ما نفع تفضيلهم، ولكن لو فُضل مسلم من جهة أخرى لا ترجع إلى الصحة كما قال القائل: تشاجر قوم في البخاري ومسلم إلي وقالوا أي ذين تقدموا؟ فقلت: لقد فاق البخاري صحة وفاق في حسن الصناعة مسلم. يعني حسن الصناعة في الظاهر؛ لأنك ترجع إلى مسلم وتجد الحديث الذي تريده بيسر وسهولة بجميع رواياته الموجودة في الصحيح، فالرجوع إليه سهل. وفي البخاري من حيث الترتيب وتسطير الأحاديث واستنباط الأحكام منها الذي هو الثمرة العظمى من التأليف، الاستنباط هو الثمرة العظمة، البخاري لا يدانيه كتابه وفقهه في تراجمه، ومسلم مجرد من التراجم هذا الأصل فيه، وكثير من طلاب العلم يبحثون عن الأحاديث وهي مخرجة في الصحيح فلا يجدونها قبل وجود الآلات التي تعطيك ما تريد وإن كان ضررها أكثر من نفعها لأنك إذا أغلقت الآلة عدت عاميًّا، والعلم كما قال الإمام مسلم عن يحيى بن أبي كثير: لا يستطاع العلم براحة الجسم، طلعت حديث وطبقت الكتاب وأيش تذكر منه؟ بينما لو أنت استخرجته بنفسك وتعبت عليه، بعض الحفاظ جزم بأن حديث ضباعة بنت الزبير لا يوجد في صحيح البخاري، وقد خرجه في الاستثناء في الحج خرجه البخاري، لماذا قال لا يوجد في صحيح البخاري؟ لأن الأصل أن يضعه البخاري -رحمه الله تعالى- في كتاب المناسك أو في كتاب الإحصار الفوات والإحصار، وضعه في كتاب النكاح: «إني أريد الحج وأجدني شاكية»، تعرض على النبي -عليه الصلاة والسلام- تسأله يعني ماذا تصنع؟ قال: «حجي واشترطي فإن لك على ربك ما استثنيتِ». البخاري الذي يكرر الحديث أحيانًا في عشرين موضعًا ما كرره ولا مرة في كتاب الحج هذا -رحمة الله عليه-؛ لأنك إذا تعبت عليه وبحثت عنه تقرأ الكتاب من أوله إلى آخره لتجد مثل هذا الحديث، وضعه في كتاب النكاح لماذا؟ لأن ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب بنت عم النبي -عليه الصلاة والسلام-، هل يوجد أشرف من هذا النسب؟ إلا ما كان من ذريته -عليه الصلاة والسلام-، وضعه في كتاب النكاح قال: وكانت تحت المقداد، المقداد بن الأسود مولى، وترجم عليه: باب الأكفاء في الدين. هذه ميزة للبخاري، دعنا من أوساط المتعلمين والمبتدئين وغيرهم هاذول يترقون حتى يصلوا إلى هذه المرحلة، لكن الكبار من يربيهم على مثل هذه الدقة إلا مثل هذه التصرفات.

المقصود أن الصحيحين أصح الكتب، ونسمع في الآونة الأخيرة الطعن في البخاري بالذات، وأشرنا في الدرس الماضي إلى شيء من هذا؛ لأنه إذا طعن في البخاري وقبل الطعن فيه يسير سهل أن يطعن فيما دونه كما ذكرنا في الطعن في أبي هريرة دون المقلين من الصحابة، هذا كله في الدرس الماضي.

(انتقيتها من صحيحي البخاري ومسلم).

البخاري توفي سنة مائتين وستة وخمسين، ومسلم مائتان وواحد وستين. البخاري مولى ومسلم عربي من قُشير.

(ومسند الإمام أحمد بن حنبل).

الإمام أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني إمام أهل السنة الذي تعرض للمحنة وصبر عليها توفي سنة مائتين وواحد وأربعين سنة إحدى وأربعين ومائتين، ومسنده كتاب عظيم جليل فيه من الأحاديث ما ليس في غيره من الكتب الأصول، قالوا في ترجمته إنه اشتمل على أربعين ألف حديث، لكن مع الطباعة الحديثة والترقيم بالآلات ثلاثين ألف وينقص شيء يسير عن الثلاثين، لكن القدر المختلف فيه الربع بين الثلاثين والأربعين، مما يدل على أن المتقدمين لا يعنيهم العدد ولا يجعلون الاهتمام به مما تُصرف فيه الأوقات، بدل ما يعد أحاديث هذا الكتاب يحفظ مائة حديث، بدل ما يعد حديث المسند يمكن يحفظ مائتين ثلاثمائة حديث، هذا اللي يهمهم؛ ولذلك قالوا في الصحيح في البخاري إنه سبعة آلاف ومائتين وسبعين أو ستين، وإذا عُد بالنسبة للروايات صحيح، قالوا: المكرر ثلاثة آلاف فيصفو منه أربعة آلاف وزيادة، والمكرر فوق ثلاثة ألوفًا ذكروا... إلى آخره. وابن حيدر لما عده بالعدد الدقيق بعد أن شرحه وذكر كل ما في كتاب من كتبه من الأحاديث المرفوعة والموقوفة قاله على التحرير ألفان وخمسمائة وحديثان فقط، كم ذهب؟ ألف وخمسمائة بدون تكرار، وهذا جار على قاعدتهم، مسألة الدقة في هذه الأمور لا يولونها أي عناية بخلاف المتأخرين، المتأخرون يضبطون هذه الأمور سواء كان الحساب بأيديهم أو بآلاتهم. شيخ من شيوخ اليمن أشكل عليه القراءة في تفسير الجلالين بدون وضوء، الجلالين مختصر، وذهب إلى القاعدة التي تقول إن الحكم للغالب فإن كان القرآن هو الغالب لا بد من وضوء وإن كان التفسير هو الغالب تجوز قراءته بدون وضوء، من جماعاتكم هاه؟ ذهب فعد حروف التفسير وحروف القرآن بشوف أيهم أكثر علشان إما يتوضأ أو ما يتوضأ، قال: فإلى المزمل العدد واحد حروف القرآن مثل حروف التفسير، ومن المدثر إلى آخر القرآن زاد التفسير قليلاً، وأنا ما أدري عن هذه الدقة لكن العهدة عليه.

المقصود أن المتأخرين اعتنوا بشيء من القشور وغفلوا عن اللب، مع أن في الأمة خير كثير إلى قيام الساعة ولله الحمد، لكن من قارن المتأخرين بالمتقدمين عرف الفرق والبون الشاسع، قال الحافظ الذهبي في ترجمة الإسماعيلي: من عرف حال هذا الرجل جزم يقينًا أن المتأخرين على يأس تام من لحاق المتقدمين. المتقدمون تفرغوا للعلم والدين وأمور الدنيا كلها ما انفتحت ولا انفتح عليهم شيء والحرص والهمة وكل شيء موجود متوافر، والمتأخر ....... الضعف يزيد لكثرة الشواغل وقلة الدواعي، والله المستعان.

مسند الإمام أحمد فيه الصحيح والكثير الغالب، وفيه الحسن وهو كذلك كثير، وفيه الضعيف وهو قليل، وحكم بعضهم على أحاديث يسيرة بأنها موضوعة، أول ما قيل تسعة ثم زيد خمسة فصارت أربعة عشر، ثم زيدت إلى العشرين، وأجاب عنها ابن حجر في القول المسدد في الذب عن المسند، وحكم ابن حجر وقبله شيخ الإسلام بأنه لا يوجد موضوع في مسند أحمد. وبعضهم قال إن الموضوع الذي يقصد واضعه وضعه غير موجود لأن فيه من الوضَّاع الذين يتعمدون الوضع. وفيه أحاديث يسيرة يختلف فيها العلماء ويتنازعون، وعلى كل حال المسند من أعظم دواوين الإسلام، والحافظ ابن كثير كما يدل عليه تصرفاته في تفسيره وفي غيره من مؤلفاته يدل على أنه يحفظ المسند حفظًا.

(ومسند الإمام أحمد بن حنبل، وجامع أبي عيسى الترمذي).

محمد بن عيسى بن سَورة. وما أدري لماذا قدم المؤلف جامع الترمذي على سنن أبي داود، مع أن أبا داود يشاركه في المذهب، أبو داود تلميذ الإمام أحمد وشرطه كما قال شيخ الإسلام مثل شرط الإمام أحمد في مسنده، وأبو عيسى الترمذي فيه أحاديث منكرة لكنها يسيرة، محمد بن عيسى الترمذي، وجامع الترمذي قالوا: فيه ثلاثة عشر فنًّا من فنون الحديث وهو من خير ما يتفقه عليه طالب العلم في الفقه والحديث. وهو يروي الحديث بسنده ويحكم عليه وينقل أحكام الأئمة وفقه الأئمة ويذكر شواهد الحديث في كل حديث يقول: وفي الباب عن فلان وفلان وفلان، هذه شواهد للحديث تقويه. استشكل جمعه بين الصحة والحسن، كثيرًا ما يقول: هذا حديث حسن صحيح، أو يقول: حسن غريب، أو يقول: حسن صحيح غريب، إلى آخر ما هو موجود في كتابه. أما قوله: حسن صحيح، فاستشكله جمع من أهل العلم لأن الجمع بين الصحة والحسن فيه إشكال، إذ الحكم عليه بالحسن حكم عليه بالأدنى، والحكم عليه بالصحة حكم عليه بالأعلى، وهو حديث واحد، مثلما تقول: فلان جيد جدًّا ممتاز، أيشلون؟ يجي هذا؟ لكن أجابوا على هذا بأجوبة بلغت ثلاثة عشر قولاً عند أهل العلم، ابن حجر اعتمد أن الحديث إذا كان مروي من غير طريق فإن بعض طرقه صحيح وبعضها حسن، وبعضهم قال إذا كان له طريق واحد فمرد هذا التردد إلى اختلاف العلماء فيه فمنهم من يصححه ومنهم يحسنه، إلى أقوال كثيرة مسبورة في كتب علوم الحديث. وقوله: وفي الباب عن فلان وفلان وفلان هذه شواهد الحديث وقد عني بها العلماء، والحافظ العراقي له مصنف اسمه اللباب في تخريج ما قال فيه الترمذي وفي الباب، والشراح تعرضوا لهذا.

(وكتاب السنن لأبي عبد الرحمن النسائي، وكتاب السنن لأبي داود السجستاني).

أبو عبد الرحمن النسائي المتوفى سنة ثلاث وثلاثمائة، وقدمه على السنن لأبي داود لأن العلماء بالغوا في مدحه والثناء عليه، والنسائي نفسه ذكر أنه لم يُخرج إلا ما صح، مع أن هذه قد تخالف شيئًا من الواقع الموجود في كتابه، النسائي صنف السنن والمراد بها الكبرى ثم اجتبى منها واختصر منها السنن الذي هو المجتبى، والمجتبى المختصر هو المقصود عند أهل العلم إذا أُطلق في كتب الرجال وفي كتب الأطراف يقصدون به السنن الصغرى، وإذا أرادوا أو خرجوا شيئًا من الكبرى بينوه قالوا: أخرجه النسائي في الكبرى، وعلى كل حال كتاب النسائي واحتياط النسائي وشدة النسائي معروفة عند أهل العلم، لكن إذا نظرت إلى الواقع وجدت فيه ما يخالف هذا الكلام وإن كان قليلاً يسيرًا.

هو متوفى سنة ثلاثمائة وثلاثة، وأبو داود توفي سنة خمسة وسبعين ومائتين أو ثلاث وسبعين، يعني بينهما ثلاثون سنة، وأنا أعجب من المصنف وهو حنبلي وألف في فروع الحنابلة وينتمي إلى مذهب أحمد ويشاركه أبو داود في ذلك وهو من كبار الآخذين عن الإمام أحمد، أبو داود، مما يدل على نبذ التعصب، المؤلف ما عنده تعصب.

(وكتاب السنن لابن ماجه القزويني).

وهو أضعف السنن وأقلها شأنًا، وفيه أحاديث كثيرة جدًّا زائدة على السنن، وفيه فقه وتراجم بأحكام فقهية كثيرة جدًّا يتميز بها ابن ماجه وإن اختلف العلماء في عده السادس من الكتب، فإذا قيل الكتب الستة، الكتب الخمسة: البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي، هذه أصول الإسلام التي لم يفتها إلا النذر اليسير، لكن أول من عد ابن ماجه من الستة ابن طاهر المقدسي في كتابه الأطراف وفي كتابه شروط الأئمة جعل السادس ابن ماجه، وقبله منهم من يجعل الدارمي ومنهم من يجعل الموطأ، الموطأ جعله ابن الأثير هو السادس، وقبله رزين العبدري جعله هو السادس. على كل حال الخلاف في السادس معروف عند أهل العلم، والكتب الخمسة والبخاري ومسلم بالذات قال ابن الأخرم: وقلما عند ابن الأخرم قد فاته ابن الأخرم منه قد فاته، يعني فات الصحيحين، يقول الحافظ العراقي: ورد لكن قال يحيى البر، النووي، لم يفت الخمسة إلا النذر، يعني القليل، لم يفت الخمسة إلا النذر الشيء اليسير الخمسة إذا جمعت وقد جمعت في مصنفات واستفيد منها فائدة عظيمة الآن الجمع، وأضيف إليها السادس كل على مذهبه في هذا السادس. ثم جُردت الزوائد من الكتب الأخرى وأضيفت إليها، فاجتمع الخير العظيم من هذا الجمع وأفيد منه، ولكن يبقى أن الرجوع إلى الأصول هو الأصل، الرجوع لأن الذين جمعوا ما ذكروا جميع التراجم وجميع الأسانيد وجميع الألفاظ وإلا ما فعلوا شيئًا، صار كتاب مطول. فالذين جمعوها على طريق الاختصار ما ذكروا التراجم مع مسيس الحاجة إليها، التراجم هي فقه الأئمة، فقه أهل الحديث في تراجمهم في مصنفاتهم. والأسانيد والتصرف في الأسانيد من قبل الأئمة أمر عجب، الإمام مسلم ما الذي دعاه إلى أن ينقل عن يحيى بن أبي كثير في كتاب مواقيت الصلاة: لا يستطاع العلم براحة الجسم، لما ذكر الروايات بأسانيدها بطرق مذهلة قال: لا يستطاع العلم براحة الجسم، لا تستطيع، أيها الطالب إذا قرأت مثل هذا الكلام لا تظن أنك تدرك مثل هذه الأمور وأنت مرتاح، لا بد أن تتعب.

يقول -رحمه الله-: (وكتاب السنن لابن ماجه القزويني).

توفي سنة ثلاث وسبعين أو خمس وسبعين، من أقران أبي داود، والترمذي تسع وسبعين، كلهم متقاربون ما عدا النسائي اللي توفي بعد الثلاثمائة.

يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: (واستغنيت بالعزو إلى هذه المسانيد عن الإطالة بذكر الأسانيد).

هذه المسانيد ما مر علينا إلا مسند واحد وهو مسند أحمد، فكيف يقول: (هذه المسانيد)؟ صحيح البخاري الجامع الصحيح المسند، وصحيح مسلم الجامع الصحيح المسند، كلها مسند، وسنن أبي داود مسند، الترمذي مسند، ابن ماجه والنسائي كلها أسانيد، بمعنى أنها الكتب الأصول التي تُذكر فيها الأسانيد، فالمسند كما يطلق على الكتاب المرتب على الرواة من الصحابة كمسند أحمد، ويطلق على الكتب المروية بالأسانيد، والتقسيم عند أهل العلم الترتيب والتقسيم يُقدم الصحاح وهذا بلا شك لا نزاع فيه، ثم يقدمون السنن، ثم بعد السنن يذكرون المسانيد، يقول الحافظ العراقي: ودونها، يعني السنن، لما تكلم على سنن أبي داود والترمذي والنسائي وشروطهم وما قيل فيها قال: ودونها، يعني دون السنن، ودونها في رتبة ما جُعل على المسانيد فيدعى الجفلة كمسند الطيالسي وأحمد وعده للدارمي انتقد. مسند الطيالسي المرتب على أسماء الصحابة، مرويات الصحابة، وأحمد كذلك. وعده للدارمي انتقد؛ لأنه مرتب على الأبواب فكيف يقال مسند؟ أجابوا عن ذلك بأن الدارمي ذُكر في ترجمته من تاريخ بغداد أنه ألف المسند، فلعله يقصده.

يقول: (واستغنيت بالعزو إلى هذه المسانيد عن الإطالة بذكر الأسانيد).

ثم قال -رحمه الله-: (والعلامة لما رواه البخاري ومسلم: أخرجاه).

هذه طريقته في التخريج يقول لما رواه البخاري ومسلم: أخرجاه، يعني البخاري ومسلم، واصطلاح غيره على أن ما اتفق عليه البخاري ومسلم يقال له: متفق عليه، ولكن له اصطلاح خاص سيأتي ذكره.

(ولبقيتهم).

يعني ممن ذُكر من السبعة إذا أخرجه البخاري ومسلم بقوله: (أخرجاه، ولبقيتهم: رواه الخمسة) الذين هم أحمد والترمذي والنسائي وأبو داود وابن ماجه، خمسة.

(ولهم سبعتهم)، يعني السبعة، الخمسة مع البخاري ومسلم، (رواه الجماعة).

يقول: (ولأحمد مع البخاري ومسلم: متفق عليه).

وهذا اصطلاح خاص به، وغيره لا يضيفون إلى البخاري ومسلم أحدًا كما أضاف الإمام أحمد هو.

قال: (ولا مشاحة في الاصطلاح).

وهذه كلمة دارجة عند أهل العلم أنه لا مشاحة في الاصطلاح، ولكن تصرفاتهم تدل على أن بعض الاصطلاحات يشاحح فيها، إذا ما تقرر في علم من العلوم شيء وتواطأ الناس عليه وأهله متفقون عليه ثم يأتي شخص ليصطلح اصطلاحًا خاصًّا يخالف به الناس يشاح. الناس متفقون وهذا الذي جاءت به النصوص على أن أخا الأب عم وأخا الأم خال، لو جاء واحد وقال أنا أبي أسمي الخال عم والعم خال، نقول له: لا مشاحة في الاصطلاح؟ لكن لو قال أنا أسمي والد الزوجة عم أو أسميه خال، قلنا: لا مشاحة في الاصطلاح؛ لأنه لا يغير من الواقع شيء ولا يغير أحكام، ولم يتفق الناس عليه، بعض الناس يسميه خال وبعضهم يسميه عم. فمثل هذه الأمور ينبه عليها وهي كثيرة وقد تكلمنا عليها في مناسبات كثيرة وعلى أمثلتها.

(وفيما سوى ذلك أسمي من رواه منهم، ولم أخرج فيما عزوته عن كتبهم إلا في مواضع يسيرة)، خرَّج مثلاً للدارقطني والبيهقي وابن أبي شيبة وسعيد بن منصور وغيرهم، ويصرح بالنسبة إلى من روى عنه منه (إلا في مواضع يسيرة).

يقول: (وذكرت في ضمن ذلك يسيرًا من آثار الصحابة رضي الله عنهم).

فعلى القول بالاحتجاج بقول الصحابي هذا أمر معروف ومألوف أن تُذكر أقوالهم... الله أكبر الله أكبر.