تعليق على تفسير سورة آل عمران (09)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

نعم.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

قال الإمام ابن كثيرٍ –رحمه الله تعالى-: "قوله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ * وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ} [آل عمران:55-58].

اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي قَوْلِهِ: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران:55] فَقَالَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ: هَذَا مِنَ الْمُقَدَّمِ وَالْمُؤَخَّرِ، تَقْدِيرُهُ: إِنِّي رَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُتَوَفِّيكَ، يعني بعد ذلك.

وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} [آل عمران:55] أَيْ: مُمِيتُكَ.

وَقَالَ مُحَمَّدُ بن إسحاق، عمَّن لَا يُتَّهَمُ".

"عمَّن لَا يَتَّهَمُ" لأنه يقول: حدَّثني من لا أتهم.

"عمَّن لَا يَتَّهَمُ عَنْ وَهْب بْنِ مُنَبِّه، قَالَ: تَوَفَّاهُ اللَّهُ ثَلَاثَ سَاعَاتٍ مِنَ النَّهَارِ حِينَ رَفَعَهُ إِلَيْهِ.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَالنَّصَارَى يَزْعُمُونَ أَنَّ اللَّهَ تَوَفَّاهُ سَبْعَ سَاعَاتٍ ثُمَّ أَحْيَاهُ.

وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ عَنْ إِدْرِيسَ، عَنْ وَهْبٍ: أَمَاتَهُ اللَّهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ بَعَثَهُ، ثُمَّ رَفَعَهُ.

وَقَالَ مَطَرٌ الْوَرَّاقُ: مُتَوَفِّيكَ مِنَ الدُّنْيَا، وَلَيْسَ بِوَفَاةِ مَوْتٍ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: تَوَفِّيهِ هُوَ رَفْعُهُ".

ويكون حينئذٍ المعنى أنه استوفى نصيبه من الدنيا، متوفي: مستوفي {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} [آل عمران:55] لاستيفائك نصيبك من الدنيا ما عدا نزوله في آخر الزمان، يعني أنت استوفيت نصيبك من الدنيا {وَرَافِعُكَ} [آل عمران:55] لا معناه أنه مميتك، ومنهم من يُفسِّر الوفاة هنا بالنوم، ولا شك أن النوم موت جاء التعبير عنه بالموت «الذِي أحْيَانا بَعْدَ مَا أمَاتَنَا».

"وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: الْمُرَادُ بِالْوَفَاةِ هَاهُنَا: النَّوْمُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} [الْأَنْعَامِ:60]، وَقَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الزُّمَرِ: 42]، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول -إِذَا قَامَ مِنَ النَّوْمِ-: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أحْيَانَا بَعْدَمَا أمَاتَنَا» الحديث، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا * وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُم} [النِّسَاءِ:156 -157]".

الآية {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران:55] خبط فيها كثيرٌ من المفسرين وشرَّقوا وغرَّبوا، وبعضهم أثبت الحياة الحقيقية، وأنه لا يزال ميتًا، وتبعًا لذلك نفى نزول المسيح في آخر الزمان، وقد تواترت به الأحاديث؛ لأنه مات. الله –جلَّ وعلا- على كل شيءٍ قدير، حتى لو قلنا: إنه مات موتة حقيقية ورُفِع إلى السماء قادرٌ على أن يُحييه ويُنزله في آخر الزمان.

وممن قال بهذا القول الباطل المخالف للأحاديث الصحيحة محمود شلتوت شيخ الأزهر، ورُدَّ عليه من بعض المحدثين في الهند ألَّف كتابًا أسماه (التصريح بتواتر الأحاديث الواردة في نزول المسيح). وعلى كل حال هو لا يُعتَد به، له مخالفات كثيرة وشذوذات معروفة.

فالمرجَّح عند أهل العلم أن الوفاة وفاة نوم، وجاءت الأدلة من الكتاب والسُّنَّة أن النوم يُطلق عليه وفاة، أنامه ثم رفعه إلى السماء، ووضع شبهه على غيره؛ ولذلك قال: {شُبِّهَ لَهُم} [النساء:157]، كما حصل ليلة الهجرة أن جعل عليًّا ينام في منامه، وقريش محيطة بداره لا يُريدونه أن يُهاجر، فينتشر الإسلام إذا انتقل إلى بلدٍ آخر لتتم محاربتهم له، المقصود أنه خرج من بين أظهرهم وهم يرون، ولكن التراب ذرَّه في أعينهم، فأخذ بأبصارهم، وجلسوا ينتظرون إلى الصباح، ولما خرج فإذا به علي بن أبي طالب، والله المستعان.  

"إِلَى قَوْلِهِ: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا* بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا* وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} [النِّسَاءِ: 157 -159]".

يعني إذا نزل يؤمنون به؛ لأنه لا يقبل إلا الإسلام، لا يقبل يهودية ولا نصرانية، ما يقبل إلا الإسلام أو السيف، ومع ذلك يضع الجزية بمعنى أنه يُلغيها، ولا يُقال: هذا نسخ؛ لأنه لا يمكن أن ينسخ ما ثبت بشريعته –عليه الصلاة والسلام-؛ لأنه يأتي مقررًا لشريعة محمد –صلى الله عليه وسلم-، وإنما يكون هذا من باب الحكم المؤقت، يسري هذا الحكم إلى نزول المسيح فيُلغيه بالنص الثابت عن النبي –عليه الصلاة والسلام- بحكم الله –جلَّ وعلا-، فهذا لا إشكال فيه -إن شاء الله تعالى-، ولا يتحسس منه إلا من في قلبه مرض، كل هذه أمور متفِقة يُفسِّر بعضها بعضًا، يضع الجزية، ويكسر الصليب، ويقتل الخنزير، فيؤمنون به النصارى وغيرهم {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} [النِّسَاءِ:159] من اليهود والنصارى {إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النِّسَاءِ:159] قبل موته يعني إذا نزل، قبل موته الحقيقي الذي قضاه الله وكتبه على جميع الخلق.

طالب: ..............

لا، {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النِّسَاءِ:159] قبل موته الحقيقي، إذا نزل وألغى الأديان كلها بما ذلك النصرانية، ولا يقبل إلا الإسلام والسيف آمنوا، مع أن نزول المسيح من العلامات الكبرى من العلامات الثلاث التي {لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا} [الأنعام:158] الدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، فيكون نزول المسيح قبل هذه العلامات الثلاث؛ لأنه يقبل منهم الإسلام.

"وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: {قَبْلَ مَوْتِهِ} [النِّسَاءِ:159] عَائِدٌ عَلَى عِيسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَيْ: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا يُؤْمِنُ  بِعِيسَى".

(إن) هذه نافية ما من أحدٍ من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به بدليل الاستثناء بعدها.

"إِلَّا يُؤْمِنُ بِعِيسَى قُبَلَ مَوْتِ عِيسَى، وَذَلِكَ حِينَ يَنْزِلُ إِلَى الْأَرْضِ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ".

يعني سيأتي بيانه في آخر سورة النساء.

"فَحِينَئِذٍ يُؤْمِنُ بِهِ أَهْلُ الْكِتَابِ كُلُّهُمْ؛ لِأَنَّهُ يَضَعُ الْجِزْيَةَ، وَلَا يَقْبَلُ إِلَّا الْإِسْلَامَ".

يعني ينزل بشريعة محمد –صلى الله عليه وسلم ويكون من أمته، ويكون من أمة محمد، وتجاوز بعضهم وقال: إنه يحكم –من الحنفية كثيرٌ منهم معروف بالتعصب- أنه إذا نزل يحكم بمذهب أبي حنيفة، وقال بعضهم في شرح المُلا علي القاري على (الشفاء) يقول: إنه يتزوج جُهنية، وكل هذا لا أصل له.

طالب: ...............

نعم؟

طالب: ................

ما أدري.

طالب: ...............

من هذه الأمة الإيمان به معروف.

"وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، قال: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قال: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قال: حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ تعالى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} [آل عمران:55] يَعْنِي وَفَاةَ الْمَنَامِ، رَفَعَهُ اللَّهُ فِي مَنَامِهِ. قَالَ الْحَسَنُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِلْيَهُودِ: «إنَّ عِيسَى لمَ يَمُتْ ، وَإنَّه رَاجِع إلَيْكُمْ قَبْلَ يَوْمِ الْقَيامَةِ».

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [آل عمران:55] أَيْ: بِرَفْعِي إِيَّاكَ إِلَى السَّمَاءِ، {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:55]، وَهَكَذَا وَقَعَ؛ فَإِنَّ الْمَسِيحَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَمَّا رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَى السَّمَاءِ تَفَرَّقت أَصْحَابُهُ شيَعًا بَعْدَهُ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِمَا بَعَثَهُ اللَّهُ بِهِ عَلَى أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَابْنُ أُمَتِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ غَلَا فِيهِ فَجَعَلَهُ ابْنَ اللَّهِ، وَآخَرُونَ قَالُوا: هُوَ اللَّهُ. وَآخَرُونَ قَالُوا: هُوَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ.

وَقَدْ حَكَى اللَّهُ مَقَالَاتِهِمْ فِي الْقُرْآنِ، ورَدَّ عَلَى كُلِّ فَرِيقٍ، فَاسْتَمَرُّوا كَذَلِكَ قَرِيبًا مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ، ثُمَّ نَبَغ لَهُمْ ملك مِنْ مُلُوكِ الْيُونَانِ، يُقَالُ لَهُ: قُسْطَنْطِينُ، فَدَخَلَ فِي دِينِ النَّصْرَانِيَّةِ، قِيلَ: حِيلَة لِيُفْسِدَهُ، فَإِنَّهُ كَانَ فَيْلَسُوفًا، وَقِيلَ: جَهْلَاً مِنْهُ، إِلَّا أَنَّهُ بَدّل لَهُمْ دِينَ الْمَسِيحِ وَحَرَّفَهُ، وَزَادَ فِيهِ وَنَقَصَ مِنْهُ، وَوُضِعَتْ لَهُ الْقَوَانِينُ، وَالْأَمَانَةُ الْكَبرى -الَّتِي هِيَ الْخِيَانَةُ الْحَقِيرَةُ- وَأُحِلَّ فِي زَمَانِهِ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ، وصَلّوا لَهُ إِلَى الْمَشْرِقِ، وَصَوَّرُوا لَهُ الْكَنَائِسَ".

"وَصَوَّرُوا لَهُ الْكَنَائِسَ والمعابد والصوامع" ما عندك؟

طالب: لا.

"وَزَادُوا فِي صِيَامِهِمْ عَشَرَةَ أَيَّامٍ".

طالب: فيها بعدها بسطر "إِلَّا أَنَّهُ بَنَى لهم من الكنائس والمعابد والصوامع".

كلها موجودة.

نعم.

"وَزَادُوا فِي صِيَامِهِمْ عَشَرَةَ أَيَّامٍ مِنْ أَجْلِ ذَنْبٍ ارْتَكَبَهُ، فِيمَا يَزْعُمُونَ. وَصَارَ دِينُ الْمَسِيحِ دِينَ قُسْطَنْطِينَ إِلَّا أَنَّهُ بَنَى لهم من الكنائس والمعابد والصوامع والديارات مَا يَزِيدُ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ مَعْبَدٍ، وَبَنَى الْمَدِينَةَ الْمَنْسُوبَةَ إِلَيْهِ، وَاتَّبَعَهُ الطَّائِفَةُ المَلْكِيَّة مِنْهُمْ. وَهُمْ فِي هَذَا كُلُّهُ قَاهِرُونَ لِلْيَهُودِ، أيَّدهم اللَّهُ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ أَقْرَبُ إِلَى الْحَقِّ منهم، وإن كان الجميع كفارًا، عَلَيْهِمْ لَعَائِنُ اللَّهِ".

المدينة المنسوبة إليه هي القسطنطينية التي ورد أنها تُفتَح في آخر الزمان، والفتح الذي حصل في عهد بني عثمان ليس هو المقصود في الحديث؛ لأنها تُفتَح بالتكبير.

"فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَكَانَ مَنْ آمَنَ بِهِ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْحَقِّ -كَانُوا هُمْ أَتْبَاعَ كُل نَبِيٍّ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ-، إِذْ قَدْ صَدَّقُوا الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ العربي، خَاتَمَ الرُّسُلِ، وَسَيِّدَ وَلَدِ آدَمَ".

سيد ولد آدم على الإطلاق.

"الَّذِي دَعَاهُمْ إِلَى التَّصْدِيقِ بِجَمِيعِ الْحَقِّ، فَكَانُوا أَوْلَى بِكُلِّ نَبِيٍّ مِنْ أُمَّتِهِ، الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ عَلَى مِلَّتِهِ وَطَرِيقَتِهِ، مَعَ مَا قَدْ حَرّفوا وَبَدَّلُوا.

ثُمَّ لَوْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَكَانَ قَدْ نَسَخَ اللَّهُ شَرِيعَةَ جَمِيعِ الرُّسُلِ بِمَا بَعَثَ بِهِ مُحَمَّدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنَ الدِّينِ الْحَقِّ، الَّذِي لَا يُغَيَّرُ وَلَا يُبَدَّلُ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، وَلَا يَزَالُ قَائِمًا مَنْصُورًا ظَاهِرًا عَلَى كُلِّ دِينٍ، فَلِهَذَا فَتَحَ اللَّهُ لِأَصْحَابِهِ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا، وَاجْتَازُوا جَمِيعَ الْمَمَالِكِ، وَدَانَتْ لَهُمْ جميعُ الدُّوَلِ، وَكَسَرُوا كِسْرَى، وقَصروا قَيْصَرَ، وَسَلَبُوهُمَا كُنُوزَهما، وَأُنْفِقَتْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، كَمَا أَخْبَرَهُمْ بِذَلِكَ نَبِيُّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ -عَزَّ وَجَلَّ- فِي قَوْلِهِ: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي} الْآيَةَ [النُّورِ:65]".

{يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور:55]، مما يدل على أن الأمن مربوط بالتوحيد {وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور:55]، فلا أمن بلا إيمان ولا توحيد.

"فلِهَذَا لَمَّا كَانُوا هُمُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْمَسِيحِ حَقًّا سَلَبُوا النَّصَارَى بِلَادَ الشَّامِ، وأَجْلَوهم إِلَى الروم، فلجأوا إِلَى مَدِينَتِهِمُ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، وَلَا يَزَالُ الْإِسْلَامُ وَأَهْلُهُ فَوْقَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَقَدْ أَخْبَرَ الصَّادِقُ المصدوق –صلى الله عليه وسلم- أمَّته بأن آخرهم سيفتحون القسطنطينية، ويستفيؤون مَا فِيهَا مِنَ الْأَمْوَالِ، وَيَقْتُلُونَ الرُّومَ مَقْتلة عَظِيمَةً جِدًّا، لَمْ يَرَ النَّاسُ مِثْلَهَا وَلَا يَرَوْنَ بَعْدَهَا نَظِيرَهَا".

العثمانيون يرون أن الفتح قد تم في عهد محمد الذي يُسمونه الفاتح؛ من أجل هذا.

"وَقَدْ جَمَعْتُ فِي هَذَا جُزْءًا مُفْرَدًا، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ} [آل عمران:55] أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ، {فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ. فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [آل عمران:56] وَكَذَلِكَ فَعَلَ تَعَالَى بِمَنْ كَفَرَ بِالْمَسِيحِ مِنَ الْيَهُودِ، أَوْ غَلَا فِيهِ وَأَطْرَاهُ مِنَ النَّصَارَى؛ عَذبهم فِي الدُّنْيَا بِالْقَتْلِ وَالسَّبْيِ وأخْذ الْأَمْوَالِ وَإِزَالَةِ الْأَيْدِي عَنِ الْمَمَالِكِ، وَفِي الدَّارِ الْآخِرَةِ عَذابُهم أَشَدُّ وَأَشَقُّ، {وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ} [الرَّعْدِ:34].

{وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ} [آل عمران:57] أَيْ: فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فِي الدُّنْيَا بِالنَّصْرِ وَالظَّفَرِ، وَفِي الْآخِرَةِ بِالْجَنَّاتِ الْعَالِيَاتِ {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران:57]".

"وَكَذَلِكَ فَعَلَ تَعَالَى بِمَنْ كَفَرَ بِالْمَسِيحِ مِنَ الْيَهُودِ، أَوْ غَلَا فِيهِ وَأَطْرَاهُ مِنَ النَّصَارَى؛ عَذبهم فِي الدُّنْيَا بِالْقَتْلِ وَالسَّبْيِ وأخْذ الْأَمْوَالِ وَإِزَالَةِ الْأَيْدِي عَنِ الْمَمَالِكِ".

قد يقول قائل: إن النصارى اليوم هم المتحكمون في العالم، وإن كان اليهود على قِلتهم يتحكمون في النصارى. لكن الأصل أن الحكم لله –جلَّ وعلا- يؤتيه من يشاء، والأصل أن من استقام على دينه هو المُمكَّن في الأرض، لكن لما تخلى كثيرٌ من المسلمين عن دينهم وتعاليم ربهم، واكتفوا بالتبعية لغيرهم وصِلوا إلى هذا الحد من الذُّل الذي ضُرِب عليهم؛ بسبب تخليهم عن دينهم، فسار النصارى واليهود يتحكمون فيهم رغم كثرتهم، ولكنهم غثاء كغثاء السيل، قالوا: أمن قلةٍ يا رسول الله؟ قال: «لا»، العدد اليوم مليار ونصف مسلمين أو زادوا أيضًا، «وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ»، والله المستعان.

طالب: ..............   

نعم هذا الأصل إلى يوم القيامة، هذا الأصل في الإسلام، الإسلام ما هو الدعوة ليست الدعوة هل مليار ونصف كم يصفو منهم؟ كما أخبر النبي –عليه الصلاة والسلام- «غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ»، كثيرٌ منهم لا يعرف من الإسلام إلا اسمه، يعني في الوثيقة التي معه مسلم، كثيرٌ منهم ما يدري ما هو الإسلام، واحد صلى معنا بمسجدنا الأول، وانتُقِد بأنه ما يدري ماذا يقول ولا يُصلي ولا يركع ولا يسجد، سأله واحد قال له: أنت مسلم؟ قال: بابا مسلم، أظنه يعني الكفيل وليس أباه، تذكره يا أبا عبد الله؟

طالب: ...............

من رعية هذا الرجل.

طالب: ...............

نعم مسئول، والله المستعان.

"ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ} [آل عمران:58] أَيْ: هَذَا الَّذِي قَصَصْنَاه عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ فِي أَمْرِ عِيسَى وَمَبْدَأِ مِيلَادِهِ وَكَيْفِيَّةِ أَمْرِهِ، هُوَ مِمَّا قَالَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَوْحَاهُ إِلَيْكَ وَنَزَّلَهُ عَلَيْكَ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، فَلَا مِرْيَةَ فِيهِ وَلَا شَكَّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ مَرْيَمَ: {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ* مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [مَرْيَمَ:34-35] وَهَاهُنَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ * فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ} [آل عمران:59-63].

يَقُولُ تَعَالَى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ} [آل عمران:59] فِي قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، حَيْثُ خَلَقَهُ مِنْ غَيْرِ أَبٍ {كَمَثَلِ آدَمَ} [آل عمران:59]، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَهُ مِنْ غَيْرِ أَبٍ وَلَا أُمٍّ، بَلْ {خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:59]، فالَّذِي خَلَقَ آدَمَ قَادِرٌ عَلَى خَلْقِ عِيسَى بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى".

لأن آدم خُلِق من غير أبٍ ولا أم، وعيسى وُلِد من أم بدون أب، وهذا أقرب إلى التصور، فخلق عيسى أقرب وأحرى أن يُوجِد ولو لم يكن له أب، فالله على كل شيءٍ قدير، والذي يُنكِر أو يرمي أمه بما رُميت به من الفاحشة ينظر في آدم، يعني تشك في أن الله يخلق من أم، ولا تشك في الذي يخلق بلا أبٍ ولا أم؟ والله المستعان.

النصارى وهم يُناظرون الباقلاني وينقلون ما رُميت به عائشة من الإفك، وهو معروف بقوة الحُجة، قال: إذا ترمون عائشة وهي ذات زوج ولم تأتِ بولد، أيهما أولى بالرمي؟ هو ما يعتقد هذا، لكن من باب الإلزام أولى بالرمي من امرأةٍ تأتي بولد وليست بذات زوج، هو ما يعتقد هذا، لكن من باب الإلزام لهم كما نقول، تُنكرون أن يخلق الله ولدًا من أمٍ بلا أب، لماذا لا تُنكرون أن يخلق الله مخلوًقا بدون أمٍ ولا أب؟ ما فيه أحد يُنكر خلق آدم، وأنه لا من أم ولا من أب، فمن باب الإلزام يُذكَر مثل هذا الكلام، وإن كان الكلام كفرًا، يعني لو كان يعتقده الباقلاني هذا صار مُنِكرًا لكلام الله، لكنه لا يعتقده، ولكن يُلزِم النصارى به.      

"وَإِنْ جَازَ ادِّعَاءُ الْبُنُوَّةِ فِي عِيسَى؛ لكَوْنِهِ مَخْلُوقًا مِنْ غَيْرِ أَبٍ، فَجَوَازُ ذَلِكَ فِي آدَمَ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى، وَمَعْلُومٌ بِالِاتِّفَاقِ أَنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ، فَدَعْوَاهَا فِي عِيسَى أَشَدُّ بُطْلَانًا وَأَظْهَرُ فَسَادًا".

لما مر الباقلاني على نفر من النصارى قال بعضهم لبعضٍ: هذا شيطان، قال: جئت لأؤزكم أزًّا، ماذا جعلهم؟ كفارًا.  

"وَلَكِنَّ الرَّبَّ –حلَّ جلاله- أَرَادَ أَنْ يُظْهِرَ قُدْرَتَهُ لِخَلْقِهِ، حِينَ خَلَق آدَمَ لَا مِنْ ذَكَرٍ وَلَا مِنْ أُنْثَى؛ وَخَلَقَ حَوَّاءَ مِنْ ذَكَرٍ بِلَا أُنْثَى، وَخَلَقَ عِيسَى مِنْ أُنْثَى بِلَا ذَكَرٍ، كَمَا خَلَقَ بَقِيَّةَ الْبَرِيَّةَ مَنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ مَرْيَمَ: {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ} [مَرْيَمَ:21].

وَقَالَ هَاهُنَا: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [آل عمران:60] أَيْ: هَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْحَقُّ فِي عِيسَى، الَّذِي لَا مَحِيدَ عَنْهُ وَلَا صَحِيحَ سِوَاهُ، وَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى آمِرًا رَسُولَهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يُبَاهِلَ مَنْ عَانَدَ الْحَقَّ فِي أَمْرِ عِيسَى بَعْدَ ظُهُورِ البيانِ: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ} [آل عمران:61] أَيْ: نَحْضُرُهُمْ فِي حَالِ الْمُبَاهَلَةِ".

بعض المفتونين من الكتبة كتب ليُقرر أن الاختلاط شرعي، وأنه لا شيء فيه، واستدل بآية المباهلة {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ} [آل عمران:61] قالوا: هذا اختلاط، قاتلهم الله.

"{ثُمَّ نَبْتَهِلْ} [آل عمران:61] أَيْ: نَلْتَعِنْ {فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران:61] أَيْ: مِنَّا أَوْ مِنْكُمْ.

وَكَانَ سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْمُبَاهَلَةِ وَمَا قَبْلَهَا مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هُنَا فِي وفد نجران النصارى حين قَدِمُوا فَجَعَلُوا يُحَاجّون فِي عِيسَى، وَيَزْعُمُونَ فِيهِ مَا يَزْعُمُونَ مِنَ الْبُنُوَّةِ وَالْإِلَهِيَّةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ صَدْرَ هَذِهِ السُّورَةِ رَدًّا عَلَيْهِمْ، كَمَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَار".

الإمام المؤلف –رحمه الله- مُحدِّث وحافظ، ويعرف منزلة محمد بن إسحاق، وأنه مرمي بسوء الحفظ، وأنه ليس من الطبقة التي يُصحَّح لها، فكيف يصفه بالإمامة؟ هو إمامٌ في فنه الذي هو المغازي، وإن كان فيه ما فيه من كلامٍ لأهل العلم في الحديث والحفظ؛ ولذلك ضعَّفه كثيرٌ منهم، قال الإمام مالك: دجالٌ من الدجاجلة، وغيره يرى أنه يُحسَّن له، لا يصل إلى درجة الصحيح، لكن يُحسَّن له لاسيما فيما يُحسنه من هذه المغازي والأخبار والسير، ومعروفٌ عند أهل العلم أن الإنسان قد يتجه إلى شيء يكون إمامًا فيه، ويبقى في غيره فيه انتقاد وكلام مثل ابن إسحاق في السير إمام، لكن يبقى أنه في الرواية مضعَّف عند أهل العلم، وإن اتجه بعضهم إلى أنه يُمكن أن يُحسَّن له، ومع ذلك عاصم بن أبي النجود في القراءة إمام، ومع ذلك في الرواية فيه كلام، أبو حنيفة في الفقه الإمام الأعظم وفي الرواية سيئ الحفظ.

طالب: ..............

هذا رأي مالك، لكن ما وُوفق على هذا.

"قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي سِيرَتِهِ الْمَشْهُورَةِ وَغَيْرُهُ: وقَدم عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَفْدُ نَصَارَى نَجْران، سِتُّونَ رَاكِبًا، فِيهِمْ أربعة عَشرَ رجلا من أشرافهم يؤول أَمْرُهُمْ إِلَيْهِمْ".

يعني يرجع، مع الأسف أن هذه المختصرات لسيرة ابن إسحاق، وسيرة ابن هشام التي فيها الروايات وفيها الطرق والوجوه هذه المختصرات حالت دون القُراء ودون الأصول، فتجدهم يرجعون إلى هذه المختصرات؛ لأنهم لا يطيقون كثرة الطرق والتكرار، فيقتصرون على المختصرات دون غيرها، والله المستعان.

"وَهُمْ: الْعَاقِبُ، وَاسْمُهُ عَبْدُ الْمَسِيحِ، وَالسَّيِّدُ، وَهُوَ الأيْهَم، وَأَبُو حَارِثَةَ بْنُ عَلْقَمَةَ أخو بكر بن وائل، وأوس بن الْحَارِثِ، وَزَيْدٌ، وَقَيْسٌ، وَيَزِيدُ، وَنَبِيهٌ، وَخُوَيْلِدٌ، وَعَمْرٌو، وخالد، وعبد الله، وَيُحَنَّس.

وأمْرُ هؤلاء يؤول إِلَى ثَلَاثَةٍ مِنْهُمْ، وَهُمُ: الْعَاقِبُ وَكَانَ أَمِيرَ الْقَوْمِ وَذَا رَأْيِهِمْ وَصَاحِبُ مَشُورَتِهِمْ، وَالَّذِي لَا يَصْدُرُونَ إِلَّا عَنْ رَأْيِهِ، وَالسَّيِّدُ وَكَانَ ثمالهم وَصَاحِبَ رَحْلهم ومُجتمعهم".

كان ثِمالهم؟

طالب: وعالمهم.

هو عالمهم "وكان ثِمالهم" أيضًا لكن أنا ما عندي، ومعروف أن الثِّمال هو الذي يقضي حوائجهم ويُرجَع إليه لقضاء حوائجهم، كما قال أبو طالب في النبي –عليه الصلاة والسلام- في لاميته المشهورة:

وأبْيَض يُسْتَسْقَى الغَمَام بِوَجْهِه
 

 

ثُمَال اليَتَامَى عِصْمَة للأرَامِلِ
 

"وَأَبُو حَارِثَةَ بْنُ عَلْقَمَةَ وَكَانَ أسْقُفهم وحَبْرَهم وَإِمَامَهُمْ وَصَاحِبَ مَدَارِسِهِمْ، وَكَانَ رَجُلًا مِنَ الْعَرَبِ مِنْ بَنِي بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ، وَلَكِنَّهُ تَنَصَّر، فَعَظَّمَتْهُ الرُّومُ وَمُلُوكُهَا وَشَرَّفُوهُ، وَبَنَوْا لَهُ الْكَنَائِسَ وأخْدَموه، لِمَا يَعْلَمُونَهُ مِنْ صَلَابَتِهِ فِي دِينِهِمْ".

مثل أصحاب الأديان يفرحون بمن يأتيهم من الأديان الأخرى ويُقدمونه ويُعظمونه؛ لأنه مكسب لهم، وعظَّموه قبل أن يعرفوا ما عنده من رأي وبصيرة وخبرة ودُربة مجرد ما التحق بهم عظَّموه، كما قال رئيسهم في قصة الثلاثة الذين خُلِّفوا ثم كعب جاءه كتابٌ من ملك النصارى وقال: الحق بنا نواسِك – يُريده أن يتنصَّر-، عرفنا أن صاحبك هجرك فالحق بنا نواسِك، يقول: فسجَّرت بها التنور -رضي الله عنهم وأرضاهم-.   

"وَقَدْ كَانَ يَعْرِفُ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَشَأْنَهُ وَصِفَتَهُ مِمَا عَلِمَهُ مِنَ الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ جَيِّدًا، وَلَكِنِ حمله جَهْلُهُ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ فِي النَّصْرَانِيَّةِ؛ لِمَا يَرَى مِنْ تَعْظِيمِهِ فِيهَا وجاهه عِنْدَ أَهْلِهَا".

هذا الكلام هل هو متسق؟ "وَقَدْ كَانَ يَعْرِفُ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَشَأْنَهُ وَصِفَتَهُ لِمَا عَلِمَهُ مِنَ الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ" يعني قبل أن يتنصَّر؟

طالب: ..............

كلهم يعرفون هذا، ليس له ميزة بعدما تنصَّر، لكن الكلام فيه ازدراء هم فرحوا به لما تنصَّر ترك دينه وتنصَّر، ويكفيهم هذا، أما كونه يعرف أمر رسول الله وصفته وشأنه وكذا كلهم يعرفون من خلال كُتبهم.

وما الذي حملهم على عدم الإيمان به؟

الحسد.  

"قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: قَدِموا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم- المدينة فَدَخَلُوا عَلَيْهِ مَسْجِدَه حِينَ صَلَّى الْعَصْرَ، عَلَيْهِمْ ثِيَابُ الحبرَات: جُبَب وأردية، فِي جَمَال رِجَالِ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ. قَالَ: يَقُولُ بَعْضُ مَنْ رَآهُمْ مِنَ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: مَا رَأَيْنَا بَعْدَهَمْ وَفْدًا مِثْلَهُمْ. وَقَدْ حَانَتْ صَلَاتُهُمْ، فَقَامُوا فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دَعُوهم»، فَصَلَّوْا إِلَى الْمَشْرِقِ.

قَالَ: فَكَلَّمَ رَسُول اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْهُمْ أَبُو حَارِثَةَ بْنُ عَلْقَمَةَ، وَالْعَاقِبُ عَبْدُ الْمَسِيحِ، والسَّيِّدُ الْأَيْهَمُ، وَهُمْ مِنَ النَّصْرَانِيَّةِ عَلَى دِينِ الْمَلِكِ، مَعَ اخْتِلَافِ أَمْرِهِمْ، يَقُولُونَ: هُوَ اللَّهُ، وَيَقُولُونَ: هُوَ وَلَدُ اللَّهِ، وَيَقُولُونَ: هُوَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ".

يعني بعضهم يقول كذا، وبعضهم يقول كذا، وبعضهم يقول كذا، فاختلفوا في أمر المسيح- عليه السلام-.

نعم.

"تَعَالَى اللَّهُ عَنْ قولهم عُلُوًّا كَبِيرًا، وَكَذَلِكَ قَوْلُ النَّصْرَانِيَّةِ، فَهُمْ يَحْتَجُّونَ فِي قَوْلِهِمْ: هُوَ اللَّهُ بِأَنَّهُ كَانَ يُحْيِي الْمَوْتَى، ويُبْرئُ الأسقامَ، وَيُخْبِرُ بِالْغُيُوبِ".

ويُبرئ الأكمه والأبرص والأسقام.

"وَيَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ، ثُمَّ يَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا، وَذَلِكَ كُلُّهُ بِأَمْرِ اللَّهِ تعالى، وَلِيَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ".

وزيادة في الفتنة، افتتان بعض الناس من أجل هذا، الله –جلَّ وعلا- يُجري بعض الأشياء؛ ليُثبِّت أقوامًا، ويفتن أقوامًا.

"وَيَحْتَجُّونَ فِي قَوْلِهِمْ بِأَنَّهُ ابْنُ اللَّهِ، يَقُولُونَ: لَمْ يَكُنْ لَهُ أَبٌ يُعْلَمُ، وَقَدْ تَكَلَّمَ فِي الْمَهْدِ بِشَيْءٍ لَمْ يَسمعه أَحَدٌ مِنْ بَنِي آدَمَ قَبْلَهُ.

وَيَحْتَجُّونَ على قَوْلِهِمْ بِأَنَّهُ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ، بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: فَعَلْنَا، وَأَمَرْنَا، وَخَلَقْنَا، وَقَضَيْنَا".

يعني جمع الضمير، يقولون: لو كان واحدًا قال: فعلت، ما قال: فعلنا، وفي صحيح البخاري في تفسير سورة: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ} [القدر:1] في نفس الصحيح يقول: والعرب تؤكد فعل الواحد بضمير الجمع {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ} [القدر:1]، والمُنزِّل هو الله –جلَّ وعلا-، قال: والعرب تؤكد فعل الواحد بضمير الجمع.

"فَيَقُولُونَ: لَوْ كَانَ وَاحِدًا مَا قَالَ إِلَّا فعلتُ وقضيتُ وأمرتُ وخلقتُ؛ وَلَكِنَّهُ هُوَ وَعِيسَى ومَرْيَم وفي كُلِّ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ قَدْ نَزَلَ الْقُرْآنُ.

فَلَمَّا كَلَّمَهُ الحَبْران قَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «أسْلِمَا» قَالَا قَدْ أَسْلَمْنَا. قَالَ: «إنَّكُمَا لَمْ تُسْلِمَا فأسْلِما» قَالَا: بَلَى، قَدْ أَسْلَمْنَا قَبْلَكَ. قَالَ: «كَذَبْتُمَا، يمْنَعُكُمَا مِنَ الإسْلامِ ادعَاؤكُما لِلَّهِ وَلَدًا، وَعِبَادَتُكُمَا الصَّلِيبَ وأكْلُكُمَا الخِنزيرَ» قَالَا: فَمَنْ أَبَوْهُ يَا مُحَمَّدُ؟ فَصَمَتَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْهُمَا فَلَمْ يُجِبْهُمَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ، وَاخْتِلَافِ أَمْرِهِمْ، صَدْرَ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ إِلَى بِضْعٍ وَثَمَانِينَ آيَةً مِنْهَا.

ثُمَّ تَكَلَّم ابْنُ إِسْحَاقَ عَلَى تفسيرها إِلَى أَنْ قَالَ: فَلَمَّا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْخَبَرُ مِنَ اللَّهِ، والفَصْلُ مِنَ الْقَضَاءِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ، وَأُمِرَ بِمَا أُمِرَ بِهِ مِنْ مُلَاعَنَتِهِمْ إنْ رَدّوا ذَلِكَ عَلَيْهِ، دَعَاهُمْ إِلَى ذَلِكَ؛ فَقَالُوا: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، دَعْنَا نَنْظُرْ فِي أَمْرِنَا، ثُمَّ نَأْتِيكَ بِمَا نُرِيدُ أَنْ نَفْعَلَ فِيمَا دَعَوْتَنَا إِلَيْهِ".

لأنهم يعرفون أنهم لو باهلوا الرسول –عليه الصلاة والسلام-، والقاعدة المطردة أنه لا يبقى لمباهلٍ كاذب بعد سنة ذِكر لا ولد ولا شيء.

"فَانْصَرَفُوا عَنْهُ، ثُمَّ خَلَوْا بِالْعَاقِبِ، وَكَانَ ذَا رَأْيِهِمْ، فَقَالُوا: يَا عبدَ الْمَسِيحِ، مَاذَا تَرَى؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ يَا مَعْشَرَ النَّصَارَى لَقَدْ عرَفْتم أَنَّ مُحَمَّدًا لنبيٌّ مُرْسَلٌ، وَلَقَدْ جَاءَكُمْ بالفَصْل مِنْ خَبَر صَاحِبِكُمْ، وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّهُ مَا لاعَن قَوْمٌ نَبِيًّا قَطُّ فَبَقِيَ كَبِيرُهُمْ، وَلَا نَبَتَ صَغيرهم، وَإِنَّهُ لَلِاسْتِئْصَالُ مِنْكُمْ إِنْ فَعَلْتُمْ، فَإِنْ كُنْتُمْ قَدْ أَبَيْتُمْ إِلَّا إِلْفَ دِينِكُمْ وَالْإِقَامَةَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْقَوْلِ فِي صَاحِبِكُمْ، فوادعُوا الرجلَ وَانْصَرِفُوا إِلَى بِلَادِكُمْ.

فَأَتَوُا النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالُوا: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، قَدْ رَأَيْنَا أَلَّا نُلَاعِنَكَ، وَنَتْرُكَكَ عَلَى دِينِكَ، ونرجعَ عَلَى دِينِنَا، وَلَكِنِ ابْعَثْ مَعَنَا رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِكَ تَرْضَاهُ لَنَا، يَحْكُمُ بَيْنَنَا فِي أَشْيَاءَ اخْتَلَفْنَا فِيهَا في أَمْوَالِنَا، فَإِنَّكُمْ عِنْدَنَا رِضًا".

قف على هذا.

اللهم صل وسلِّم على سيدنا محمد.