تعليق على تفسير سورة هود من أضواء البيان (07)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

هذا يسأل يقول: هل يُفضَّل على من تزوج حديثًا أن يؤخِّر الولد لسنةٍ أو أكثر؟

الولد من مقاصد النكاح، ومما يُرغِّب فيه الشرع، وعلى هذا يُبَادر به، هذا هو الأفضل.

إذا وُجِد سبب يقتضي ويتطلب التأخير فلا مانع منه، وإن وُجِد ضرر بسبب الحمل، فالضرر يُزال.

وعلى كل حال طلب الولد من مقاصد الشريعة، ومما حثَّ عليه الدين، فالأفضل المبادرة به ما لم يكن ثَمَّ مانع راجح من ضررٍ يتعلق بالأم بسبب الحمل، وحينئذٍ يؤخذ ما يمنع مما هو مباح ولا يترتب عليه ضرر إلى أن يزول الضرر المتعلق بالأم، وما عدا ذلك فالأصل التعجيل.

طالب: في مثل هذه الصورة يُشترط رضا الطرفين ولو كان مثلًا أحدهما لا يرغب في الإنجاب؟

لا بُد من رضا الطرفين.

طالب: هل من حق الرجل يا شيخ أن يمتنع إذا رفضت الزوجة؟

لا لا، ما يمتنع؛ لأنه حق الطرفين.

طالب: ليس من حقه.

نعم.

طالب: وإن أراد الطلاق.

أراد الطلاق؟

طالب: كان في نيته أن يُطلِّق فما أراد الجِماع حتى لا يقع الولد.

إذا كان أراد الطلاق ومتضرر بوجودها يُطلِّق.

طالب: قصده ينوي الطلاق من بداية العقد.

طالب: لا، ليس من بداية العقد من بعد الزواج، ولكن يُهيئ الأمور للطلاق.

يعني وُجِد بينهما أشياء تقتضي الطلاق؟

طالب: نعم.

وهو بدلًا من أن يُبادر ويُطلِّق بدون سبب يفتعل سببًا.

طالب: نعم، فهل له أن يمتنع عن الإنجاب؟

هو إذا رأى أن هذه المرأة لا تليق به، والاستمرار معها قد يضر به في دينه أو في دنياه، وبيَّت أن يُطلِّق فوجود الولد لا شك أنه مُشكِل بالنسبة لمن أراد الفراق من قبل، وما يُدريه أن يكون هذا الولد هو الذي ينفعه في دينه ودنياه، والله المستعان.

نعم.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

قال الشيخ/ محمد الأمين الشنقيطي –رحمه الله تعالى-: "قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} الآية [هود:88] ذَكَرَ اللَّهُ -جَلَّ وَعَلَا- فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَنْ نَبِيِّهِ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، أَنَّهُ أَخْبَرَ قَوْمَهُ: أَنَّهُ إِذَا نَهَاهُمْ عَنْ شَيْءٍ انْتَهَى هُوَ عَنْهُ وَأَنَّ فِعْلَهُ لَا يُخَالِفُ قَوْلَهُ.

وَيُفْهَمُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مُنْتَهِيًا عَمَّا يَنْهَى عَنْهُ غَيْرَهُ، مُؤْتَمِرًا بِمَا يَأْمُرُ بِهِ غَيْرَهُ.

وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ} الآية [البقرة:44]، وقوله: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:3].

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ فِي النَّارِ، فَيَدُورُ بِهَا كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ، فَيَجْتَمِعُ عَلَيْهِ أَهْلُ النَّارِ فَيَقُولُونَ: أَيْ فُلَانُ، أَلَسْتَ كُنْتَ تَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَانَا عَنِ الْمُنْكَرِ؟! فَيَقُولُ: كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ، وَأَنْهَاكُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ».

وَمَعْنَى قَوْلِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ» أَيْ: تَتَدَلَّى أَمْعَاؤُهُ.

وَأَخْرَجَ وَكِيعٌ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَحْمَدُ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْبَزَّارُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي (الْحِلْيَةِ)، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي (شُعَبِ الْإِيمَانِ)، وَغَيْرُهُمْ، عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي رِجَالًا تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ، كُلَّمَا قُرِضَتْ رَجَعَتْ، فَقُلْتُ لِجِبْرِيلَ مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ خُطَبَاءُ مِنْ أُمَّتِكَ، كَانُوا يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا يَعْقِلُونَ» قَالَهُ صَاحِبُ (الدُّرِّ الْمَنْثُورِ) انتهى، وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ:

لَا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِي مِثْلَهُ
 

 

عَارٌ عَلَيْكَ إِذَا فَعَلْتَ عَظِيمُ
 

وَقَدْ أَجَادَ مَنْ قَالَ:

وَغَيْرُ تَقِيٍّ يَأْمُرُ النَّاسَ بِالتُّقَى
 

 

طَبِيبٌ يُدَاوِي النَّاسَ وَهُوَ مَرِيضُ"
 

المشهور في البيت (طبيبٌ يُداوي الناس وهو سقيم).

طالب: نفس الشاعر؟

هو نفس الشاعر من قصيدةٍ واحدة البيت الأول والثاني، وتُنسَب للشافعي- رضي الله عنه وأرضاه، رحمه الله-.

"وَمَعْلُومٌ أَنَّ عَمَلَ الْإِنْسَانِ بِمَا يَنْصَحُ بِهِ غَيْرَهُ أَدْعَى لِقَبُولِ غَيْرِهِ مِنْهُ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:

فَإِنَّكَ إِذْ مَا تَأْتِ مَا أَنْتَ آمِرٌ
 

 

بِهِ تَلْفَ مَنْ إِيَّاهُ تَأْمُرُ آتِيَا"
 

وهذا ما يُسمى بالدعوة بالقدوة، الرسول –عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- كان خُلقه القرآن، فما ينزل عليه من القرآن من أمر أو نهي أو أدب أو غيرها من الفنون وفروع علوم القرآن كلها أول من يُطبِّق الرسول- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-.

وجاء في خطبة حجة الوداع حينما وضع الربا –عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: «وأولُ ربًا أضعُه رِبَانَا ربا العباسِ، وأولُ دمٍ أضعُه دمُ ابن ربيعةَ بنِ عبدِ المطلبِ»، يعني بدأ بأقرب الناس إليه، فهذا الذي يجعل الناس يأتمرون وينتهون ويُبادرون بالإقلاع عن المنهي عنه، والإسراع إلى المأمور به.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} [هود:91] بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ نَبِيَّهُ شُعَيْبًا عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَنَعَهُ اللَّهُ مِنَ الْكُفَّارِ، وَأَعَزَّ جَانِبَهُ بِسَبَبِ الْعَوَاطِفِ الْعَصَبِيَّةِ، وَالْأَوَاصِرِ النَّسَبِيَّةِ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ هُمْ كُفَّارٌ.

وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُتَمَسِّكَ بِدِينِهِ قَدْ يُعِينُهُ اللَّهُ، وَيُعِزُّهُ بِنُصْرَةِ قَرِيبِهِ الْكَافِرِ، كَمَا بَيَّنَهُ تَعَالَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ".

وقد جاء في الحديث الصحيح: «إنَّ اللهَ ليُؤيِّدُ هذا الدِّينَ بالرجلِ الفاجرِ»، وفي روايةٍ: «الكافر» وقد نصر النبي –عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- بعمه أبي طالب وذاد عنه.

"كَقَوْلِهِ فِي صَالِحٍ وَقَوْمِهِ: {قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ} الآية [النمل:49] فَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَا قُدْرَةَ لَهُمْ عَلَى أَنْ يَفْعَلُوا السُّوءَ بِصَالِحٍ- عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- إِلَّا فِي حَالِ الْخَفَاءِ، وَأَنَّهُمْ لَوْ فَعَلُوا بِهِ ذَلِكَ خَفَاءً وَسَرِقَةً لَكَانُوا يَحْلِفُونَ لِأَوْلِيَائِهِ الَّذِينَ هُمْ عَصَبَتُهُ أَنَّهُمْ مَا فَعَلُوا بِهِ سُوءًا، وَلَا شَهِدُوا ذَلِكَ، وَلَا حَضَرُوهُ؛ خَوْفًا مِنْ عَصَبَتِهِ. فَهُوَ عَزِيزُ الْجَانِبِ؛ بِسَبَبِ عَصَبَتِهِ الْكُفَّارِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى لِنَبِيِّنَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى} [الضحى:6] أيْ: آوَاكَ بِأَنْ ضَمَّكَ إِلَى عَمِّكَ أَبِي طَالِبٍ.

وَذَلِكَ بِسَبَبِ الْعَوَاطِفِ الْعَصَبِيَّةِ، وَالْأَوَاصِرِ النَّسَبِيَّةِ، وَلَا صِلَةَ لَهُ بِالدِّينِ الْبَتَّةَ، فَكَوْنُهُ -جَلَّ وَعَلَا- يَمْتَنُّ عَلَى رَسُولِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِإِيوَاءِ أَبِي طَالِبٍ لَهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ قَدْ يُنْعِمُ عَلَى الْمُتَمَسِّكِ بِدِينِهِ بِنُصْرَةِ قَرِيبِهِ الْكَافِرِ.

وَمِنْ ثَمَرَاتِ تِلْكَ الْعَصَبِيَّةِ النَّسَبِيَّةِ قَوْلُ أَبِي طَالِبٍ:

وَاللَّهِ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ بِجَمْعِهِمْ
 

 

حَتَّى أُوَسَّدَ فِي التُّرَابِ دَفِينَا
 

فَاصْدَعْ بِأَمْرِكَ مَا عَلَيْكَ غَضَاضَةٌ
 

 

أَبْشِرْ بِذَاكَ وَقَرَّ مِنْهُ عُيُونَا
 

وَقَوْلُهُ أَيْضًا:

وَنَمْنَعُهُ حَتَّى نُصْرَعَ حَوْلَهُ
 

 

وَنُذْهَلَ عَنْ أَبْنَائِنَا وَالْحَلَائِلِ
 

وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ نَبِيُّ اللَّهِ لُوطٌ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَيْسَ لَهُ عَصَبَةٌ فِي قَوْمِهِ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ ظَهَرَ فِيهِ أَثَرُ عَدَمِ الْعَصَبَةِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهُ: {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود:80]".

ونَصفُه من الله –جلَّ وعلا- لا من خَلقه؛ لأنه ليس له عصبة، ولذا جاء في الحديث الصحيح: «يَرْحَمُ اللَّهُ لُوطًا، لقَدْ كانَ يَأْوِي إلى رُكْنٍ شَدِيدٍ» يُريد بذلك الله -جلَّ وعلا-.

طالب: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67] ... الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟

بلا شك وإلا فأبو لهب آذى النبي –عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وهو عمه.

"وَهَذِهِ الْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ تَنْفَعُهُمْ عَصَبِيَّةُ إِخْوَانِهِمُ الْكَافِرِينَ".

الأصل العداوة بين المؤمن والكافر، هذا هو الأصل، لكن كون الكافر يكون قريبًا لهذا المؤمن ويعطف عليه فهذا من تسخير الله –جلَّ وعلا- له.

"وَلَمَّا نَاصَرَ بَنُو الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ بَنِي هَاشِمٍ، وَلَمْ يُنَاصِرْهُمْ بَنُو عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَبَنُو نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، عَرَفَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِبَنِي الْمُطَّلِبِ تِلْكَ الْمُنَاصَرَةَ الَّتِي هِيَ عَصَبِيَّةٌ نَسَبِيَّةٌ لَا صِلَةَ لَهَا بِالدِّينِ، فَأَعْطَاهُمْ مِنْ خُمُسِ الْغَنِيمَةِ مَعَ بَنِي هَاشِمٍ، وَقَالَ: «إِنَّا وَبَنِي الْمُطَّلِبِ لَمْ نَفْتَرِقْ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ»، وَمَنَعَ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ، وَبَنِي نَوْفَلٍ مِنْ خُمُسِ الْغَنِيمَةِ، مَعَ أَنَّ الْجَمِيعَ أَوْلَادُ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيٍّ.

وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ فِي بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ وَبَنِي نَوْفَلٍ:

جَزَى اللَّهُ عَنَّا عَبْدَ شَمْسٍ وَنَوْفَلًا
 

 

عقُوبَةَ شَرٍّ عَاجِلٍ غَيْرَ آجِلِ
 

بِمِيزَانِ قِسْطٍ لَا يَخِيسُ شَعِيرَةً
 

 

لَهُ شَاهِدٌ مِنْ نَفْسِهِ غَيْرُ عَائِلِ
 

لَقَدْ سَفَهَتْ أَحْلَامُ قَوْمٍ تَبَدَّلُوا
 

 

بَنِي خُلْفٍ قَيْضًا بِنَا وَالْغَيَاطِلِ
 

بني خُلف يعني: من يُخلفوننا ما التزموه ووعدوه.

طالب: ............

"بني خَلفٍ قيضًا" ممكن.

اقرأها على هذا.

"لَقَدْ سَفَهَتْ أَحْلَامُ قَوْمٍ تَبَدَّلُوا
 

 

بَنِي خَلفٍ قَيْضًا بِنَا وَالْغَيَاطِلِ
 

وَالْغَيَاطِلُ (بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ)، وَمُرَادُ أَبِي طَالِبٍ بِهِمْ: بَنُو سَهْمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ هُصَيْصِ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ -الْقَبِيلَةُ الْمَشْهُورَةُ مِنْ قَبَائِلِ قُرَيْشٍ-، وَإِنَّمَا سُمُّوا الْغَيَاطِلَ؛ لِأَنَّ قَيْسَ بْنَ عَدِيِّ بْنِ سَعْدِ بْنِ سَهْمٍ الَّذِي هُوَ مِنْ سَادَاتِ قُرَيْشٍ الْعِظَامِ، وَهُوَ الَّذِي يَعْنِيهِ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ بِقَوْلِهِ يُرَقِّصُ ابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ وَهُوَ صَغِيرٌ:

كَأَنَّهُ فِي الْعِزِّ قَيْسُ بْنُ عَدِيٍّ
 

 

فِي دَارِ سَعْدٍ يَنْتَدِي أَهْلَ النَّدَى
 

تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ كِنَانَةَ تُسَمَّى (الْغَيْطَلَةَ) وَهِيَ أُمُّ بَعْضِ أَوْلَادِهِ. فَسُمِّيَ بَنُو سَهْمِ الْغَيَاطِلَ؛ لِأَنَّ قَيْسَ بْنَ عَدِيٍّ الْمَذْكُورَ سَيِّدُهُمْ.

فَهَذِهِ الْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ قَدْ يُعِينُ الْمُؤْمِنَ بِالْكَافِرِ لِتَعَصُّبِهِ لَهُ، وَرُبَّمَا كَانَ لِذَلِكَ أَثَرٌ حَسَنٌ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ مِنَنِ اللَّهِ عَلَى بَعْضِ أَنْبِيَائِهِ الْمُرْسَلِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ، وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدَّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ»، وَفِي الْمَثَلِ: اجْتَنِ الثِّمَارَ وَأَلْقِ الْخَشَبَةَ فِي النَّارِ.

فَإِذَا عَرَفْتَ دَلَالَةَ الْقُرْآنِ عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ قَدْ يَنْتَفِعُ بِرَابِطَةِ نَسَبٍ وَعَصَبِيَّةٍ مِنْ كَافِرٍ، فَاعْلَمْ أَنَّ النِّدَاءَ بِالرَّوَابِطِ الْعَصَبِيَّةِ لَا يَجُوزُ؛ لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَجُوزُ لَهُ الدُّعَاءُ بِـ (يَا لَبَنِي فُلَانٍ) وَنَحْوِهَا".

وهي التي سمَّاها النبي –عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- دعوة الجاهلية، وهي التي وصفها –صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بأنها مُنتنة وأمر بتركها.

"وَقَدْ ثَبَتَ فِي (صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ) مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي تِلْكَ الدَّعْوَةِ: «دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ»، وَقَوْلُهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «دَعُوهَا» يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ تَرْكِهَا؛ لِأَنَّ صِيغَةَ (افْعَلْ) لِلْوُجُوبِ إِلَّا لِدَلِيلٍ صَارِفٍ عَنْهُ، وَلَيْسَ هُنَا دَلِيلٌ صَارِفٌ عَنْهُ، وَيُؤَكِّدُ ذَلِكَ تَعْلِيلُهُ الْأَمْرَ بِتَرْكِهَا بِأَنَّهَا مُنْتِنَةٌ، وَمَا صَرَّحَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْأَمْرِ بِتَرْكِهِ وَأَنَّهُ مُنْتِنٌ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ تَعَاطِيهِ".

ولذا جاء في الصيد إذا وُقِف عليه بعد مدة رماه بسهمٍ فأصابه، فبحث عنه فلم يجده إلا بعد مدة، قال النبي –عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: «كُلْهُ ما لَمْ يُنْتِنْ» فمثل هذا لا يؤكل، ولعل المراد بذلك أنه يُنتن نتنًا شديدًا، وإلا فالنتن اليسير الذي يستسيغه بعض الناس لا بأس به، كما قال النبي –عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- أضافه يهوديٌّ كما جاء في الحديث الصحيح أضافته امرأةٌ على خبز شعيرٍ وإهالةٍ سنخة، يعني: مُنتنة.

"وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ النِّدَاءُ بِرَابِطَةِ الْإِسْلَامِ الَّتِي هِيَ مِنْ شِدَّةِ قُوَّتِهَا تَجْعَلُ الْمُجْتَمَعَ الْإِسْلَامِيَّ كُلَّهُ كَأَنَّهُ جَسَدُ إِنْسَانٍ وَاحِدٍ، فَهِيَ تَرْبِطُكَ بِأَخِيكَ الْمُسْلِمِ كَرَبْطِ أَعْضَائِكَ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، قَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِنَّ مَثَلَ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ الْوَاحِدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى».

وَإِذَا تَأَمَّلْتَ قَوْلَهُ تَعَالَى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:22] تَحَقَّقْتَ أَنَّ الرَّوَابِطَ النَّسَبِيَّةَ تَتَلَاشَى مَعَ الرَّوَابِطِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]، وقال: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:71].

وَلَا يَخْفَى أَنَّ أَسْلَافَنَا مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ إِنَّمَا فَتَحُوا الْبِلَادَ وَمَصَّرُوا الْأَمْصَارَ بِالرَّابِطَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، لَا بِرَوَابِطَ عَصَبِيَّةٍ، وَلَا بِأَوَاصِرَ نَسَبِيَّةٍ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} الآية [هود:107] قَيَّدَ تَعَالَى خُلُودَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ بِالْمَشِيئَةِ".

المقرر في عقيدة أهل السُنَّة والجماعة أن الجنة والنار مخلوقتان، وأنهما باقيتان أبد الآبدين، وأن أهل النار خلودهم فيها دائم ولا موت، وكذلك أهل الجنة.

فما معنى الاستثناء هنا {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود:107]؟ سيُجيب عنه الشيخ رحمه الله. 

"قَيَّدَ تَعَالَى خُلُودَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ بِالْمَشِيئَةِ، فَقَالَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود:107] ثُمَّ بَيَّنَ عَدَمَ الِانْقِطَاعِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا، فَقَالَ فِي خُلُودِ أَهْلِ الْجَنَّةِ: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود:108] {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} [ص:54].

وَقَالَ فِي خُلُودِ أَهْلِ النَّارِ: {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} [الإسراء:97] وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّمَا تَقْتَضِي التَّكْرَارَ بِتَكَرُّرِ الْفِعْلِ الَّذِي بَعْدَهَا.

وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ إِيضَاحًا تَامًّا فِي كِتَابِنَا (دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ) فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأنعام:128]، وَفِي سُورَةِ النَّبَإِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} [النبأ:23]".

"قوله تعالى: {قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأنعام:128] هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ يُفْهَمُ مِنْهَا كَوْنُ عَذَابِ أَهْلِ النَّارِ غَيْرَ بَاقٍ بَقَاءً لَا انْقِطَاعَ لَهُ أَبَدًا وَنَظِيرُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ* خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود:106-107]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} [النبأ:23].

وَقَدْ جَاءَتْ آيَاتٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَذَابَهُمْ لَا انْقِطَاعَ لَهُ كَقَوْلِهِ: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [النساء:57]. 

وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا مِنْ أَوْجُهٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود:107] مَعْنَاهُ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ عَدَمَ خُلُودِهِ فِيهَا مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنَ الْمُوَحِّدِينَ.

وَقَدْ ثَبَتَ فَي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ النَّارِ يَخْرُجُونَ مِنْهَا وَهُمْ أَهْلُ الْكَبَائِرِ مِنَ الْمُوَحِّدِينَ، وَنَقَلَ ابْنُ جَرِيرٍ هَذَا الْقَوْلَ عَنْ قَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ وَأَبِي سِنَانٍ وَخَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَغَايَةُ (مَا) فِي هَذَا الْقَوْلِ إِطْلَاقُ (مَا) وَإِرَادَةُ (مَنْ) وَنَظِيرُهُ فِي الْقُرْآنِ: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء:3].

الثَّانِي: أَنَّ الْمُدَّةَ الَّتِي اسْتَثْنَاهَا اللَّهُ هِيَ الْمُدَّةُ الَّتِي بَيْنَ بَعْثِهِمْ مِنْ قُبُورِهِمْ وَاسْتِقْرَارِهِمْ فِي مَصِيرِهِمْ قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا.

الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ: {إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأنعام:128] فِيهِ إِجْمَالٌ وَقَدْ جَاءَتِ الْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ مُصَرِّحَةً بِأَنَّهُمْ خَالِدُونَ فِيهَا أَبَدًا، وَظَاهِرُهَا أَنَّهُ خُلُودٌ لَا انْقِطَاعَ لَهُ، وَالظُّهُورُ مِنَ الْمُرَجِّحَاتِ فَالظَّاهِرُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمُجْمَلِ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ.   

وَمِنْهَا: أَنْ (إِلَّا) فِي سُورَةِ «هُودٍ» بِمَعْنَى: سِوَى مَا شَاءَ اللَّهُ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى مُدَّةِ دَوَامِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.

وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَأَنَّهُ يَأْتِي عَلَى النَّارِ زَمَانٌ لَيْسَ فِيهَا أَحَدٌ.

وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: لَيَأْتِيَنَّ عَلَى جَهَنَّمَ زَمَانٌ تَخْفِقُ أَبْوَابُهَا لَيْسَ فِيهَا أَحَدٌ، وَذَلِكَ بَعْدَمَا يَلْبَثُونَ أَحْقَابًا.

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهَا تَأْكُلُهُمْ بِأَمْرِ اللَّهِ.

قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: الَّذِي يَظْهَرُ لِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ، أَنَّ هَذِهِ النَّارَ الَّتِي لَا يَبْقَى فِيهَا أَحَدٌ يَتَعَيَّنُ حَمْلُهَا عَلَى الطَّبَقَةِ الَّتِي كَانَ فِيهَا عُصَاةُ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا جَزَمَ بِهِ الْبَغَوِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ، لِأَنَّهُ يَحْصُلُ بِهِ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ، وَإِعْمَالُ الدَّلِيلَيْنِ أَوْلَى مِنْ إِلْغَاءِ أَحَدِهِمَا.

وَقَدْ أَطْبَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى وُجُوبِ الْجَمْعِ إِذَا أَمْكَنَ، أَمَّا مَا يَقُولُهُ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَنَّ النَّارَ تَفْنَى وَيَنْقَطِعُ الْعَذَابُ عَنْ أَهْلِهَا، فَالْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ تَقْتَضِي عَدَمَ صِحَّتِهِ، وَإِيضَاحُهُ أَنَّ الْمَقَامَ لَا يَخْلُو مِنْ إِحْدَى خَمْسِ حَالَاتٍ بِالتَّقْسِيمِ الصَّحِيحِ، وَغَيْرُهَا رَاجِعٌ إِلَيْهَا.

الْأُولَى: أَنْ يُقَالَ بِفَنَاءِ النَّارِ، وَأَنَّ اسْتِرَاحَتَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ بِسَبَبِ فَنَائِهَا.

الثَّانِيَةُ: أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمْ مَاتُوا وَهِيَ بَاقِيَةٌ.

الثَّالِثَةُ: أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمْ أُخْرِجُوا مِنْهَا وَهِيَ بَاقِيَةٌ.

الرَّابِعَةُ: أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمْ بَاقُونَ فِيهَا إِلَّا أَنَّ الْعَذَابَ يَخِفُّ عَلَيْهِمْ.

وَذَهَابُ الْعَذَابِ رَأْسًا وَاسْتِحَالَتُهُ لِذَا لَمْ نَذْكُرْهُمَا مِنَ الْأَقْسَامِ، لِأَنَّا نُقِيمُ الْبُرْهَانَ عَلَى نَفْيِ تَخْفِيفِ الْعَذَابِ، وَنَفْيُ تَخْفِيفِهِ يَلْزَمُهُ نَفْيُ ذَهَابِهِ وَاسْتِحَالَتُهُ لِذَا فَاكْتَفَيْنَا بِهِ لِدَلَالَةِ نَفْيِهِ عَلَى نَفْيِهِمَا، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ يَدُلُّ الْقُرْآنُ عَلَى بُطْلَانِهِ.

أَمَّا فَنَاؤُهَا فَقَدْ نَصَّ تَعَالَى عَلَى عَدَمِهِ بِقَوْلِهِ: {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} [الإسراء:97]، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود:107] فِي خُلُودِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَخُلُودِ أَهْلِ النَّارِ وَبَيَّنَ عَدَمَ الِانْقِطَاعِ فِي خُلُودِ أَهْلِ الْجَنَّةِ بِقَوْلِهِ: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود:108]، وبقوله: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} [ص:54]، قوله: {مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل:96]، وَبَيَّنَ عَدَمَ الِانْقِطَاعِ فِي خُلُودِ أَهْلِ النَّارِ بِقَوْلِهِ: {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} [الإسراء:97].

فَمَنْ يَقُولُ إِنَّ لِلنَّارِ خَبْوَةً لَيْسَ بَعْدَهَا زِيَادَةُ سَعِيرٍ، رُدَّ عَلَيْهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ (كُلَّمَا) تَقْتَضِي التَّكْرَارَ بِتَكْرَارِ الْفِعْلِ الَّذِي بَعْدَهَا، وَنَظِيرُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} الآية [النساء:56].

وَأَمَّا مَوْتُهُمْ فَقَدْ نَصَّ تَعَالَى عَلَى عَدَمِهِ بِقَوْلِهِ: {لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا} [فاطر:36]، وقوله: {لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا} [طه:74]، وقوله: {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} [إبراهيم:17].

وَقَدْ بَيَّنَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ الْمَوْتَ يُجَاءُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي صُورَةِ كَبْشٍ أَمْلَجٍ فَيُذْبَحُ، وَإِذَا ذُبِحَ الْمَوْتُ حَصَلَ الْيَقِينُ بِأَنَّهُ لَا مَوْتَ، كَمَا قَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «وَيُقَالُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ بِلَا مَوْتٍ».

وَأَمَّا إِخْرَاجُهُمْ مِنْهَا فَنَصَّ تَعَالَى عَلَى عَدَمِهِ بِقَوْلِهِ: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة:167]، بقوله: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} [السجدة:20]، وبقوله: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [المائدة:37].

وَأَمَّا تَخْفِيفُ الْعَذَابِ عَنْهُمْ فَنَصَّ تَعَالَى عَلَى عَدَمِهِ بِقَوْلِهِ: {وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} [فاطر:36]، وقوله: {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا} [النبأ:30]، وقوله: {لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} [الزخرف:75]، وقوله: {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} [الفرقان:65]، وقوله: {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} [الفرقان:77]، وقوله: {فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ} [البقرة:86]، وقوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [المائدة:37]، وَلَا يَخْفَى أَنَّ قَوْلَهُ: {وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} [فاطر:36]، وقوله: {لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ} [الزخرف:75] كلَاهُمَا فِعْلٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، فَحَرْفُ النَّفْيِ بِنَفْيِ الْمَصْدَرِ الْكَامِنِ فِي الْفِعْلِ فَهُوَ فِي مَعْنَى لَا تَخْفِيفَ لِلْعَذَابِ عَنْهُمْ، وَلَا تَفْتِيرَ لَهُ، وَالْقَوْلُ بِفَنَائِهَا يَلْزَمُهُ تَخْفِيفُ الْعَذَابَ وَتَفْتِيرُهُ الْمَنْفِيَّانِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ بَلْ يَلْزَمُهُ ذَهَابُهُمَا رَأْسًا، كَمَا أَنَّهُ يَلْزَمُهُ نَفْيُ مُلَازَمَةِ الْعَذَابِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا بِقَوْلِهِ: {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} [الفرقان:77]".

{لِزَامًا} يعني: ملازمًا لهم كما يُلازم الغريم غريمه.

"وَقَوْلِهِ: {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} [الفرقان:65] وَإِقَامَتِهِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا بِقَوْلِهِ: {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [المائدة:37].

فَظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَاتِ عَدَمُ فَنَاءِ النَّارِ الْمُصَرَّحُ بِهِ فِي قَوْلِهِ: {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} [الإسراء:97] وَمَا احْتَجَّ بِهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَنَّهُ لَوْ فُرِضَ أَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ بِعَدَمِ فَنَائِهَا أَنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ فَنَاءَهَا لِأَنَّهُ وَعِيدٌ، وَإِخْلَافُ الْوَعِيدِ مِنَ الْحَسَنِ لَا مِنَ الْقَبِيحِ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ أَنَّهُ لَا يُخْلِفُ وَعْدَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ لَا يُخْلِفُ وَعِيدَهُ، وَأَنَّ الشَّاعِرَ قَالَ:

وَإِنِّي وَإِنْ أَوْعَدْتُهُ أَوْ وَعَدْتُهُ
 

 

لَمُخْلِفُ إِيعَادِي وَمُنْجِزُ مَوْعِدِي
 

فَالظَّاهِرُ عَدَمُ صِحَّتِهِ لِأَمْرَيْنِ:

 

الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يَلْزَمُهُ جَوَازُ أَلَّا يَدْخُلَ النَّارَ كَافِرٌ، لِأَنَّ الْخَبَرَ بِذَلِكَ وَعِيدٌ، وَإِخْلَافُهُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَا بَأْسَ بِهِ.

الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى صَرَّحَ بِحَقِّ وَعِيدِهِ عَلَى مَنْ كَذَّبَ رُسُلَهُ حَيْثُ قَالَ: {كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ} [ق:14].

وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي مَسْلَكِ النَّصِّ مِنْ مَسَالِكِ الْعِلَّةِ أَنَّ الْفَاءَ مِنْ حُرُوفِ التَّعْلِيلِ كَقَوْلِهِمْ: سَهَا فَسَجَدَ، أَيْ سَجَدَ لِعِلَّةِ سَهْوِهِ، وَسَرَقَ فَقُطِعَتْ يَدُهُ أَيْ لِعِلَّةِ سَرِقَتِهِ، فَقَوْلُهُ: {كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ} [ق:14] أَيْ: وَجَبَ وُقُوعُ الْوَعِيدِ عَلَيْهِمْ لِعِلَّةِ تَكْذِيبِ الرُّسُلِ، وَنَظِيرُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ} [ص:14].

وَمِنَ الْأَدِلَّةِ الصَّرِيحَةِ فِي ذَلِكَ تَصْرِيحُهُ تَعَالَى بِأَنَّ قَوْلَهُ لَا يُبَدَّلُ فِيمَا أَوْعَدَ بِهِ أَهْلَ النَّارِ حَيْثُ {قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ* مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [ق:28-29].

وَيُسْتَأْنَسُ لِذَلِكَ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ تعالى: {وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ} [لقمان:33] إلى قوله: {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [لقمان:33]، وقوله: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} [الطور:7] فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْوَعِيدَ الَّذِي يَجُوزُ إِخْلَافُهُ وَعِيدُ عُصَاةِ الْمُؤْمِنِينَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ بَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48].

فَإِذَا تَبَيَّنَ بِهَذِهِ النُّصُوصِ بُطْلَانُ جَمِيعِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ تَعَيَّنَ الْقِسْمُ الْخَامِسُ الَّذِي هُوَ خُلُودُهُمْ فِيهَا أَبَدًا بِلَا انْقِطَاعٍ وَلَا تَخْفِيفٍ بِالتَّقْسِيمِ وَالسَّبْرِ الصَّحِيحِ.

وَلَا غَرَابَةَ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ خُبْثُهُمُ الطَّبِيعِيُّ دَائِمٌ لَا يَزُولُ، فَكَانَ جَزَاؤُهُمْ دَائِمًا لَا يَزُولُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ خُبْثَهُمْ لَا يَزُولُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا} [الأنفال:23]، فقوله: {خَيْرًا} نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ فَهِيَ تَعُمُّ، فَلَوْ كَانَ فِيهِمْ خَيْرٌ مَا فِي وَقْتٍ مَا لَعَلِمَهُ اللَّهُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام:28] وُعَوْدُهُمْ بَعْدَ مُعَايَنَةِ الْعَذَابِ، لَا يُسْتَغْرَبُ بَعْدَهُ عَوْدُهُمْ بَعْدَ مُبَاشَرَةِ الْعَذَابِ؛ لِأَنَّ رُؤْيَةَ الْعَذَابِ عِيَانًا كَالْوُقُوعِ فِيهِ لَا سِيَّمَا وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:22]، وقال: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا} الآية [مريم:38].

وَعَذَابُ الْكُفَّارِ لِلْإِهَانَةِ وَالِانْتِقَامِ لَا لِلتَّطْهِيرِ وَالتَّمْحِيصِ، كَمَا أَشَارَ لَهُ تَعَالَى بِقَوْلِ: {وَلا يُزَكِّيهِمْ} [البقرة:174]، وبقوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [آل عمران:178] وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى".

سورة النبأ {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} [النبأ:23].

طالب: ............

في أول الكلام ما يدل عليه.

"قوله تعالى: {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} [النبأ:23] تَقَدَّمَ وَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَهُ هُوَ وَالْآيَاتِ الْمُشَابِهَةِ لَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود:107] مَعَ الْآيَاتِ الْمُقْتَضِيَةِ لِدَوَامِ عَذَابِ أَهْلِ النَّارِ بِلَا انْقِطَاعٍ كَقَوْلِهِ: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [النساء:57]، فِي سُورَةِ (الْأَنْعَامِ) فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} الآية [الأنعام:128]، فَقَدْ بَيَّنَّا هُنَاكَ أَنَّ الْعَذَابَ لَا يَنْقَطِعُ عَنْهُمْ وَبَيَّنَّا وَجْهَ الِاسْتِثْنَاءِ بِالْمَشِيئَةِ، وَأَمَّا وَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَحْقَابِ الْمَذْكُورَةِ هُنَا مَعَ الدَّوَامِ الْأَبَدِيِّ الَّذِي قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَيْهِ فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:

الْأَوَّلُ: وَهُوَ الَّذِي مَالَ إِلَيْهِ ابْنُ جَرِيرٍ وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدِي لِدَلَالَةِ ظَاهِرِ الْقُرْءَانِ عَلَيْهِ هُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} [النبأ:23] مُتَعَلِّقٌ بِمَا بَعْدَهُ، أَيْ: {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} فِي حَالِ كَوْنِهِمْ {لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا* إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا} [النبأ:24-25] فَإِذَا انْقَضَتْ تِلْكَ الْأَحْقَابُ عُذِّبُوا بِأَنْوَاعٍ أُخَرَ مِنْ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ غَيْرَ الْحَمِيمِ وَالْغَسَّاقِ. وَيَدُلُّ لِهَذَا تَصْرِيحُهُ تَعَالَى بِأَنَّهُمْ يُعَذَّبُونَ بِأَنْوَاعٍ أُخَرَ مِنْ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ غَيْرَ الْحَمِيمِ وَالْغَسَّاقِ فِي قَوْلِهِ: {هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ* وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ} [ص:57-58].

وَغَايَةُ مَا يَلْزَمُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَدَاخُلُ الْحَالِ وَهُوَ جَائِزٌ حَتَّى عِنْدَ مَنْ مَنَعَ تَرَادُفَ الْحَالِ كَابْنِ عُصْفُورٍ وَمَنْ وَافَقَهُ، وَإِيضَاحُهُ أَنَّ جُمْلَةَ: {لا يَذُوقُونَ} حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ اسْمِ الْفَاعِلِ الْمُسْتَكِنِّ، وَنَعْنِي بِاسْمِ الْفَاعِلِ قَوْلَهُ: {لابِثِينَ} الَّذِي هُوَ حَالٌ، وَنَظِيرُهُ مِنْ إِتْيَانِ جُمْلَةِ فِعْلٍ مُضَارِعٍ مَنْفِيٍّ بِلَا حَالًا فِي الْقُرْءَانِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل:78] أَيْ فِي حَالِ كَوْنِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ.

الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْأَحْقَابَ لَا تَنْقَضِي أَبَدًا، رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، وَقَالَ: إِنَّهُ أَصَحُّ مِنْ جَعْلِ الْآيَةِ فِي عُصَاةِ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ خَالِدُ بْنُ مَعْدَانَ.

الثَّالِثُ: أَنَّا لَوْ سَلَّمْنَا دَلَالَةَ قَوْلِهِ: {أَحْقَابًا} عَلَى التَّنَاهِي وَالِانْقِضَاءِ، فَإِنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا فُهِمَ مِنْ مَفْهُومِ الظَّرْفِ وَالتَّأْبِيدِ مُصَرَّحٌ بِهِ مَنْطُوقًا وَالْمَنْطُوقُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمَفْهُومِ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ، وَقَوْلُ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي عُصَاةِ الْمُسْلِمِينَ، يَرُدُّهُ ظَاهِرُ الْقُرْءَانِ لِأَنَّ اللَّهَ قَالَ: {وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا} [النبأ:28] وَهَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ".

انتهى؟

طلب: انتهى يا شيخ.

المقرر عند أهل السُّنَّة والجماعة القول ببقاء الجنة والنار وعدم الفناء، أما الجنة فمحل إجماع، وأما النار فنُسِب لبعض أهل العلم من أهل السُّنَّة القول بفنائها؛ للأدلة المشتبهة التي وردت في كلام الشيخ وورد الجواب عنها.

وممن نُسِب إليه القول شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، وما فيه شيء صريح من كلامهما، ابن القيم ذكر أدلة الفريقين من غير ترجيح، وشيخ الإسلام في بعض الفتاوى التي وُجِد ما يُناقضها ويُعارضها فيه شيءٌ من ذلك، لكن مع ذلك القول المقرر المحقق عند أهل السُّنَّة الذي تدل عليه الآيات والأحاديث أنهما باقيتان، وأنهم خالدون مخلَّدون إلى أبد الآباد.

الشيخ المؤلف محمد الأمين الشنقيطي ذُكِر له مناظرة نُسِبَت إليه مع الشيخ/ محمد بن إبراهيم آل الشيخ في قاعة المدرسين أو في غرفة المدرسين في كلية الشريعة بوجود الشيخين وغيرهما من شيوخ كلية الشريعة في مناظرةٍ علامات النكارة عليها ظاهرة.

أظهرت الشيخ/ محمد بن إبراهيم أنه لا يعرف شيئًا ولا يُدرك شيئًا، وأنه إذا قيل له شيء استسلم بدون مناقشة، هذا ما عُرِف عن الشيخ.

الأمر الثاني: أنه نُسِب للشيخ/ محمد بن إبراهيم أنه يقول بفناء النار، هذا ليس بصحيح أيضًا.

 ولذا يقول السائل: ذكر أحد طلاب الشيخ/ محمد الأمين في كتابٍ له مناظرة بينه وبين الشيخ/ محمد بن إبراهيم في أبدية النار، وأن الشيخ/ محمد بن إبراهيم كان يقول بفنائها، ثم رجع عن ذلك بعد المناظرة، وقد سُئل عددٌ من طلاب الشيخ/ محمد بن إبراهيم عن هذه القصة فاستنكروها واستبعدوا وقوعها.

وأنا ممن يستبعد، وأرى أن لا نصيب لها من الصحة، ولا حظ لها من النظر، الشيخ/ محمد الأمين إمام عالم متمكن مستحضر للأدلة، لكن الشيخ/ محمد بن إبراهيم إذا لم نقل مثله فليس بدونه، يعني في استحضار الأدلة، واستحضار الأقوال، والاطلاع الواسع على أقوال أهل العلم وحفظه في كُتب أهل السُّنَّة والجماعة هذا أمر ليس بالسهل، والذي يقرأ هذه المناظرة يقول: الشيخ/ محمد بن إبراهيم أقل من صغار الطلاب؛ لأن صغار الطلاب عندهم شيء يدفعون به، الشيخ ما دفع بشيء.

فالذي يظهر –والله أعلم- عدم صحتها، بل الذي أكاد أجزم به.

اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك.

طالب: كلام شيخ الإسلام ابن تيمية محمول على ...........

هو محمول عليه، لكن كلامه ما هو بصريح وواضح في الفناء. 

طالب: في بعض المساجد يقوم بعض الناس فيعرض حاجته، فبعض الأئمة يقوم أما الجماعة ينهره، ويقول: رح لآخر المسجد، ويذكر له حديث الرسول -عليه الصلاة والسلام- وما فيه من النهي عن سؤال الحاجة في المسجد، فهل هذا التصرف يا شيخ تصرف صحيح أم هو .............

القوم الذين جاؤوا مجتابي النمار عرضوا حاجتهم سواء بالقول أو بالهيئة أما النبي صلى الله عليه وسلم-. على كل حال عندك: {وأما السائل فلا تنهر}، فنهره لا يجوز، كونك تشيره عليه وخاصة إذا قام بعد الصلاة وشوش على الناس أثناء الأذكار، بأن يجلس في آخر المسجد، فهذا هو الأصل، بدون نهر.

طالب: أحسن الله إليك.

بارك الله فيك.