التعليق على الموافقات (1427) - 05

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه، وبعد:

قال المؤلف –رحمه الله-: "المسألة الحادية عشرة:

مقاصد الشارع في بث المصالح في التشريع أن تكون مطلقةً عامة، لا تختص ببابٍ دون باب، ولا بمحلٍّ دون محل، ولا بمحل وفاقٍ دون محل خلاف".

ما فيه قبل مقاصد الشرع؟

طالب: مقاصد الشارع؟

مقاصد الشارع، يعني لو أن كلامًا صُدِّر بالأصل في مقاصد الشرع أن تكون مطلقةً عامة.

طالب: نعم.

كان يستقيم، أو مقاصد الشرع يُخبر عنها أن تكون...

طالب: مقاصد الشرع؟

الشارع يعني ما فيها إشكال، لكن....

طالب: نعم مقاصد الشرع.

نعم الكلام الذي قرأته صحيح.

طالب: نعم.

وهو الموجود هنا، ويمكن جميع النُّسخ على هذا، لكن عبارة تُوضح المراد أن يُقال: الأصل في مقاصد الشارع في بث المصالح أن تكون مطلقةً، هذا الأصل فيها، لو حُذِفت "أن تكون" استقام الكلام، مقاصد الشارع مطلقةٌ عامة ما فيها إشكال، تركيب الكلام، الكلام واضح، الكلام بصورته الموجودة واضح، يعني معناه: لا يخفى، لكن يبقى أن التركيب يحتاج إلى إعادة، فإما أن يُقال: الأصل في مقاصد الشارع أن تكون مطلقةً عامة أو تُحذف "أن تكون" ولو تصرف في شيء يُحذف، لكن يُنبَّه على مثل هذا، وإلا ما فيه حذف حقيقي بمعنى أننا نمسح ونتصرف في كلام المؤلف لا، يعني لو أبقينا على كلام المؤلف قلنا: مقاصد الشارع في بث المصالح في التشريع مطلقةٌ عامة هذا خبره.

"وبالجملة الأمر في المصالح مطردٌ مطلقًا في كليات الشريعة وجزئياتها.

ومن الدليل على ذلك ما تقدم في الاستدلال على مطلق المصالح، وأن الأحكام مشروعةٌ لمصالح العباد، ولو اختصت لم تكن موضوعةً للمصالح على الإطلاق، لكن البرهان قام على ذلك، فدل على أن المصالح فيها غير مختصة".

نعم المصالح كما قال المؤلف مطلقة عامة، مطلقة بالنسبة للأوصاف، عامة بالنسبة للأفراد، لأفراد هذه المصالح، هذا الأصل فيها، وقد يعتريها ما يقتضي التقييد وما يقتضي التخصيص.

"وقد زعم بعض المتأخرين- وهو القرافي- أن القول بالمصالح إنما يستمر على القول بأن المصيب في مسائل الاجتهاد واحد؛ لأن القاعدة العقلية أن الراجح يستحيل أن يكون هو الشيء والنقيض، بل متى كان أحدهما راجحًا كان الآخر مرجوحًا، وهذا يقتضي أن يكون المصيب واحدًا وهو المفتي بالراجح، وغيره يتعين أن يكون مُخطئًا؛ لأنه مُفتٍ بالمرجوح، فتناقض قاعدة".

فتتناقض.

"فتتناقض قاعدة المصوبين مع القول بالقياس، وأن الشرائع تابعةٌ للمصالح".

نعم القول بتصويب جميع المجتهدين يقتضي أن المصالح موجودة في جميع الأطراف يعني إذا قُلنا: اجتهد الشافعي وأحمد وقبلهما أبو حنيفة ومالك وكلٌّ منهم مُصيب يعني من الأربعة، قلنا: إن المصلحة في قول أبي حنيفة، والمصلحة في قول مالك، والمصلحة في قول الشافعي، والمصلحة في قول أحمد؛ لأن كلهم على الصواب، ومن لازم إصابة القول أن تكون المصلحة مترتبةً عليه، ولا شك أن المصلحة في واحدٍ من هذه الأقوال؛ لأنه لا يُمكن أن تجتمع المصلحة في قول باعتباره راجحًا والمفسدة باعتباره مرجوحًا أو المصلحة في كون القائل به مُصيبًا، والمفسدة في كون القول مرجوحًا، إنما لابد من راجح ومرجوح، لا يُمكن أن تترجح الأقوال على حدٍّ سواء، لابد أن يكون فيها الراجح والمرجوح، إذًا تتعدد المصالح وفي الوقت نفسه تتعدد أيضًا ما يُناقضها من المفاسد، فيكون القول الواحد من هذه الأقوال فيه مصلحة وفيه مفسدة، فيه مصلحة باعتبار أن القائل به مُصيب، وفيه مفسدة باعتبار أن القول مرجوح، فيُمكن أن يُوصف القول بأنه مصلحةٌ مفسدة، وهذ تناقض ولا يسلم من ذلك إلا القول الراجح الذي فيه المصلحة، ويخلو من المفسدة.

 ومر بنا في السابق أن المصلحة المحضة من كل وجه في عموم ما يتعلق بأمور هذه الدنيا من كال وجه أنه لا يُمكن أن توجد، يعني عمل أو قول محض المصلحة لا يُمكن أن يُوجد إلا في الجنة، كما أنه بالمقابل لا يُوجد محض مفسدة إلا في النار –نسأل الله السلامة والعافية-، وهذا ما قرره المؤلف سابقًا.

وعلى كل حال إذا عمل الإنسان بما يترجح لديه وهو من أهل النظر والاجتهاد، فهو على خيرٍ –إن شاء الله تعالى- فإن كان مُصيبًا فله أجران، وإن كان مُخطئًا فله أجرٌ واحد، وهو على خيرٍ على الحالين.

"ونقل عن شيخه ابن عبد السلام في الجواب أنه يتعين على هؤلاء أن يقولوا: إن هذه القاعدة لا تكون إلا في الأحكام الإجماعية، أما في مواطن الخلاف، فلم يكن الصادر عن الله تعالى أن الحكم تابعٌ للراجح في نفس الأمر، بل فيما في الظنون فقط".

نعم الرجحان إنما هو أمرٌ مبنيٌّ على غلبة الظن لا على القطع؛ لأن الأمور القطعية لا يُختلف فيها، فليس فيها راجح ومرجوح، إنما ما في دليلها من القوة المورثة لغلبة الظنة وما في دلالتها كذلك يترجح القول تبعًا لذلك، فإذا كانت المسألة مبنية على غلبة ظن في ثبوت دليلها وفي دلالته أورث اطمئنانًا في النفس إلى هذا القول وارتياحًا إليه من قِبل المجتهد، فيكون هو الراجح عنده، وهو المتعين عليه العمل به.

نعم قد يلجأ المجتهد إلى العمل بقولٍ مرجوح، وقد يلجأ- وهذا نادرًا- أن يُفتي بقولٍ مرجوح لمصلحةٍ أرجح من الفتوى بالقول بالراجح؛ لظرفٍ أو لأمرٍ ما؛ لأن الناس استغلوا هذا القول الراجح استغلالًا غير مناسب، يعني بعض المسائل يستروح بعض أهل العلم إلى الفُتيا بالقول المرجوح؛ لأن الناس استغلوا القول الراجح في غير ما رُجِّح من أجله؛ ولذلك قد يُلجأ إلى القول الثاني.

على كل حال الأصل أن الإنسان عليه أن يعمل بما يعتقد ويدين الله برجحانه، وسواءً أصاب ما في نفس الأمر أو لم يُصب فليس له أن يطلع على أو ليس... لا يمكن أن يطلع على ما يمكن في حقيقة الأمر، وأن هذا هو الراجح عند الله –جلَّ وعلا-، إنما عنده وسائل توصله إلى غايةٍ مُعينة، وهي القول بترجيح القول من خلال الوسائل والطرق المتبعة عند أهل العلم، نعم.

"بل فيما في الظنون فقط كان راجحًا في نفس الأمر أو مرجوحًا، وسُلِّم أن قاعدة التصويب تأبى قاعدة مراعاة المصالح لتعين الراجح، وكان يقول: يتعين على القائل بالتصويب أن يصرف الخطأ في حديث الحاكم إلى الأسباب، للاتفاق على أن الخطأ يقع فيها، وحمل كلام الشارع على المتفق عليه أولى. هذا ما نُقل عنه".

المصوِّب لجميع الأقوال ولجميع المجتهدين بناءً على أن كلًّ منهم مأجور، فكيف يُؤجر وهو مُخطئ؟ نعم المُخطئ معذور، لكن كيف يُؤجر وهو مُخطئ؟ فحملة هذا على أن الكل مُصيب، الكل مُصيب يلزم عليه أنك تُصوِّب القول ونقيضه، فيلجأ هو أيضًا إلى أن يقول: ليس الخطأ في النقيض، وإنما الخطأ في الأسباب التي أوصلت إلى هذا النقيض مادام سلك الأسباب الشرعية المتبعة شرعًا إذًا حكمه صحيح، ويستوي في ذلك ما كان من جهة الفتوى، وما كان من جهة القضاء.

نفترض أن قاضيًا لديه قضية مدعي ومدعى عليه، وأحضر المدعي الشهود، ورأى القاضي أن هؤلاء الشهود تقوم بهم البينة عدول مرضيون من جهة نظره، وليس بإمكانه أن يشق على ما في قلوب الناس، فيحكم بمقتضى هذه البينة، وحقيقة الأمر أن هذه البينة ليست مُجزئة؛ ولذا يحصل الخلل في النتيجة، الوسيلة التي سلكها شرعية، ما فيها إشكال، الخطأ خالف ما في نفس الأمر، مخالفة ما في نفس الأمر للحكم حكم بأن المدعي له الحق، وفي حقيقة الأمر أن المدعى عليه برئ مما ادُعي عليه به، القاضي سلك القواعد المتبعة الشرعية، وظهرت النتيجة، وهو غير مكلف أن ينظر فيما وراء ذلك، والنبي –عليه الصلاة والسلام- يقول: «إنما أنا بشر، أحكم على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بشيءٍ من حق أخيه، فإنما أقضي له قطعةً من نار، فليأخذها أو يدعها».

 هل نقول: إن الرسول –عليه الصلاة والسلام- إذا وصل إلى هذه النتيجة بالوسائل التي أوجدها الشارع وهو يقضي للمحكوم له بشيءٍ من حق أخيه هل نقول: إن الرسول أخطأ؟ هل نقول: الرسول مُصيب، مُصيب، وهو مُخالف لما في نفس الأمر -عليه الصلاة والسلام-؟ مثل هذا الكلام تجعل عند من يقول من أهل التصويب وهو الذي حداهم وجعلهم يقولون بأن الكل مُصيب، يعني ما وافق ما في نفس الأمر وما خالفه كلهم مُصيبون؛ لأننا لا نستطيع أن نقول: إن الرسول –عليه الصلاة والسلام- أخطأ، وإن قطع للمدعي شيئًا من حق أخيه، وخالف ما في نفس الأمر، وكذلك القضاة من بعده، وفي حكمهم أهل الفتوى، اتبع الطرق والوسائل الشرعية إذًا هو مُصيب.

نعم هو مُصيب في الوسيلة، لكن ما أصاب في الغاية؛ لأنها ما طابقت، والرسول –عليه الصلاة والسلام- وهو المعصوم المؤيد بالوحي يقول: «فإنما أقتطع له من حق أخيه» فليس من حقه، فدل على أنه يقع الخطأ في حكم الحاكم سواءً كان في القضاء أو في الفُتيا، وهذا خطأ والمُخطئ معذور، بل مأجور له أجرٌ واحد، والرسول –عليه الصلاة والسلام- إذا حكم بمثل هذا الحكم، واقتطع للمدعي من حق أخيه المدعى عليه فإنما هو بذلك ليسُن ويُشرِع للقضاة من بعده، وإلا فهو مؤيدٌ بالوحي، بالإمكان أن ينزل جبريل، ويقول: المدعي كذاب، وشهوده شهود زور، هذا سهل يعني، لكنه يصنع ذلك –عليه الصلاة والسلام- ويجتهد، وقد يقتطع للمدعي من حق أخيه المدعى عليه للتشريع، كما أنه سها في الصلاة ليسن، ونام عن الصلاة تشريع وتسلية لأمته من بعده. وإلا فالمقرر أنه –عليه الصلاة والسلام- تنام عيناه، ولا ينام قلبه، فكيف نام عن صلاة الصبح ولا أوقظه إلا حر الشمس، إنما هو من أجل التشريع.

 ولو قُدِّر أنه –عليه الصلاة والسلام- ما حصل له ذلك- لكان كثيرٌ من أهل التحري والحرص يتقطعون أسى إذا فاتهم شيء من الصلوات، ولو بعذر، لكن حصل منه –عليه الصلاة والسلام- تسليةً لهم، وسها في صلاته، ونسي –عليه الصلاة والسلام-؛ ليسن ويُشرِع، وكذلك يحكم بالوسائل المتبعة ليسُن للقضاة الطريقة، وليس عليهم أكثر من ذلك.

"ويظهر أن القاعدة جاريةٌ على كلا المذهبين؛ لأن الأحكام على مذهب التصويب إضافية، إذ حكم الله عندهم تابعٌ لنظر المجتهد، والمصالح تابعةٌ للحكم أو متبوعةٌ له، فتكون المصالح أو المفاسد في مسائل الخلاف ثابتةٌ".

ثابتةً.

"فتكون المصالح أو المفاسد في مسائل الخلاف ثابتةً بحسب ما في نفس الأمر عند المجتهد وفي ظنه".

يقول: "حكم الله عندهم تابعٌ لنظر المجتهد" يعني حكم القاضي للمدعي ببينته بوسائله التي سلكها، وهو في حقيقة الأمر غير مُحق، مُبطل، فالحق فيما حكم به له، ويحل له أن يأكل ما اقتُطع له من حق أخيه، ولو عرف في نفسه أنه ليس بمحق، وهذا قولٌ معروف عند الحنفية، فإذا حكم القاضي للمدعي أو المدعى عليه، واقتطع له من حق أخيه فإنه يجوز له أكله؛ لأن حكم الله تابع للاجتهاد، يعني أُلزم بوسائل شرعية سلكها، ليس عنده أكثر من ذلك، ولو عرف أن ما ادعاه ليس له.

 وبعضهم يتوسع في مسائل الفروج أكثر من الأموال، بل بعضهم من يمنع أكل مال أخيه في الأموال، ويُبيح ذلك في الفروج إذا حكم القاضي بأن هذه زوجتك ولو كنت تعلم في قرارة نفسك أنها ليست زوجتك مادام حكم لك القاضي انتهى الإشكال، حكم لك القاضي بهذا المال كُل؛ لأن حكم الله تابع للاجتهاد، لكن هذا القول صحيح أم خطأ؟ خطأ؛ لأنه مصادم للنص «فإنما أقتطع له قطعةً من نار، فليأخذها أو يدعها» فأمر تهديد هذا، وليس بأمر إلزام أو إباحة على الأقل، لا، فحكم الله –جلَّ وعلا- هو ما في نفس الأمر، نعم حكم القاضي صحيح ونافذ، لكنه لا يُبيح للإنسان أن يأكل مال غيره بمجرد الحكم.

"ولا فرق هنا بين المخطئة والمصوبة، فإذا غلب على ظن المالكي أن ربا الفضل في الخُضر والفواكه الرطبة جائز، فجهة المصلحة عنده هي الراجحة، وهي كذلك في نفس الأمر في ظنه؛ لأنها عنده خارجةٌ عن حكم الربا المحرم".

نعم الخُضر والفواكه التي لا تُكال ولا تُدخر، وليس فيها علة الربا، من يقصر العلة على هذا فلا مانع أن يجري فيها التفاضل، ويجري فيها النسئ؛ لأنها ليست ربوية، ولا يأثم بذلك إذا فعله؛ لأن هذا هو ما أداه إليه اجتهاده، وإن كان مُقلدًا، فعمل بقول من تبرأ به الذمة كمالك انتهى الإشكال المصلحة هذا، ولا يتردد في هذا، لكن القول الثاني كذلك، وإذا نظرنا إلى القولين فلابد أن يكون أحدهما راجحًا، والآخر مرجوحًا، فالراجح هو الذي فيه تتحقق المصلحة، والمرجوح هو الذي فيه المفسدة، وإن كانت ليست بمفسدة محضة ولا مصلحة محضة؛ لأنه لو كانت مصلحة محضة ما اختُلف فيها أو مفسدة محضة ما اختُلف فيها، لكن بالنسبة المكلف ترجحت المصلحة عند هذا، وترجحت المفسدة عند هذا، فأباح هذا، ومنع هذا، نعم.

"فالمقدم على التفاضل فيها مقدمٌ على ما هو جائز، وما هو جائز لا ضرر فيه لا في الدنيا ولا في الآخرة، بل فيه مصلحةٌ لأجلها أُجيز، وإذا غلب على ظن الشافعي أن الربا فيها غير جائز، فهي عنده داخلةٌ تحت حكم الربا المحرم، وجهة المصلحة عنده هي المرجوحة لا الراجحة، وهي كذلك في نفس الأمر على ما ظنه، فلا ضرر".

طالب: عندك فيه ولا فلا، ففيه ضررٌ أم فلا؟

على ما ظنه فالضرر.

طالب: فالضرر؟

نعم، "فالضرر لاحقٌ به في الدنيا وفي الآخرة".

"فالضرر لاحقٌ به في الدنيا وفي الآخرة، فحكم المصوب ههنا حكم المخطئ

وإنما يكون التناقض واضعًا إذا عُد الراجح مرجوحًا من ناظرٍ واحد، بل هو من ناظرين، ظن كل واحدٍ منهما العلة التي بُني عليها الحكم موجودةً في المحل بحسب ما في نفس الأمر عنده وفي ظنه، لا ما هو عليه في نفسه؛ إذ لا يصح ذلك إلا في مسائل الإجماع، فههنا اتفق الفريقان، وإنما اختلفا بعد، فالمخطئة حكمت بناءً على أن ذلك الحكم هو ما في نفس الأمر عنده وفي ظنه، والمصوبة حكمت بناءً على أن لا حكم في نفس الأمر، بل هو ما ظهر الآن، وكلاهما بانٍ حكمه على علةٍ مظنون بها أنها كذلك في نفس الأمر.

ويتفق ههنا من يقول باعتبار المصالح لزومًا أو تفضلاً، وكذلك من قال: إن المصالح والمفاسد من صفات الأعيان، أو ليست من صفات الأعيان، وهذا مجالٌ يحتمل بسطًا أكثر من هذا، وهو من مباحث أصول الفقه، وإذا ثبت هذا، لم يفتقر إلى الاعتذار الذي اعتذر به ابن عبد السلام، وارتفع إشكال المسألة، والحمد لله.

وتأمل، فإن الجويني نقل اتفاق المعتزلة على القول بالتصويب اجتهادًا وحكمًا، وذلك يقتضي تصور اجتماع قاعدة التصويب عندهم مع القول بالتحسين والتقبيح العقلي، وأن ذلك راجعٌ إلى الذوات، فكلام القرافي مُشكلٌ على كل تقدير، والله أعلم".

إذا كان النظر إلى قضيةٍ معينة من واحد فلابد أن يُؤديه نظره إلى أن المُصيب واحد، وإذا كان النظر من أطراف هي أطراف النزاع في هذه القضية فكلٌّ يدعي الصواب، ومن ترجَّح لديه قول صار هو الصواب، وهو المصلحة، وهو مُصيب عند نفسه باعتبار أن اجتهاده المبني على الوسائل الشرعية وافق الحق مادام اجتهد وبذل وسعه، وهو من أهل الاجتهاد، ونظر في الأدلة من خلال القواعد المتبعة عند أهل العلم فهو مُصيب، لكن النصوص تدل على أن هناك مُصيبًا، وأن هناك مُخطئًا، أحدهما مُصيب وغيره مُخطئ، والحديث يدل على ذلك في الفتوى وفي القضاء، «إذا اجتهد الحاكم فأصاب وإن اجتهد فأخطأ»، وحديث الخطأ مشهور ومعروف، وذكرناه آنفًا، فيدل على أنه قد يُخطئ في قضائه، والحديث الأول يدل على أنه يُخطئ في فتواه، وفي اجتهاده في باب الفتوى.

فلا داعي لمثل هذا التطويل حقيقةً، وهي وُجدت في الأصول، ومحل النزاع لابد أن يتحرر، فالنظر إلى هذه الأقوال تصويبًا وتخطئةً إن كانت من شخصٍ واحد فلابد أن يحكم بأن الإصابة في جهةٍ واحدة؛ لأنك إن حكمت على القول ونقيضه بحكمٍ واحد تناقضت؛ لأن القول لابد أن يُحكم عليه بما يُناسبه، وأن يُحكم على نقيضه بما يُناقض حكمه، إذا قال واحد: واجب أو حلال، والثاني قال: حرام، فترجحت عندك جانب الإباحة، فكيف تُصوب جانب الإباحة، وتُصوب أيضًا جانب التحريم؟ هذا تناقض، أما إذا كان النظر إلى هذه الأقوال من أطراف من أكثر من طرف، فلا شك أن كل واحد يُصوب قوله، وما يترجح لديه إذا كان من أهل الاجتهاد.

"المسألة الثانية عشرة:

إن هذه الشريعة المباركة معصومة، كما أن صاحبها -صلى الله عليه وسلم- معصوم، وكما كانت أمته فيما اجتمعت عليه معصومة، ويتبين ذلك بوجهين:

أحدهما: الأدلة الدالة على ذلك تصريحًا وتلويحًا، كقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون}[الحجر:9] وقوله { كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ}[هود:1].

وقد قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ}[الحج:52]، فأخبر أنه يحفظ آياته ويُحكمها حتى لا يخالطها غيرها، ولا يداخلها التغيير ولا التبديل، والسُّنَّة وإن لم تذكر، فإنها مبينةٌ له ودائرةٌ حوله، فهي منه وإليه ترجع في معانيها، فكل واحدٍ من الكتاب والسُّنَّة يعضد بعضه بعضًا، ويشد بعضه بعضًا، وقال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا}[المائدة:3]".

مقتضى الآية الأولى في حفظ القرآن أن تُحفظ السُّنَّة؛ لأنها هي المُبينة له، والموضحة له، وهي المفسرة له، فمن مقتضى حفظه أن تُحفظ السُّنَّة، ومن مُقتضى عصمة الأمة ألا تُفرِّط بشيءٍ من دينها كسُنَّة نبيها؛ لأن الشُّبه التي تُثار أن الأمة ضيعت السُّنَّة، الإمام أحمد يحفظ سبعمائة ألف حديث، أين هي؟ نقول: الأمة معصومة من أن تُفرِّط في شيءٍ من دينها، ولا يُوجد حديث مما يحتاجه الناس بحيث لا يُغني عنه غيره وقد ضاع على الأمة بكاملها، لابد أن يُوجد عند بعضها، لابد وأن يكون قد استدل به من احتاجه من أهل العلم، وهذه السبعمائة ألف لو بحثنا عنها في دواوين الإسلام ما وجدنا ولا عُشر هذه الكمية، لكنهم يعدون الطرق أحاديث، وربما كان في المسألة الواحدة مائة حديث تتوارد على حكمٍ واحد، فإذا حُفظ هذا الحكم بحديثٍ واحد انتهى الإشكال، ما يلزم حفظ البقية؛ ولذا قد يقول قائل: الرسول –عليه الصلاة والسلام- خطب بحديث الأعمال بالنيات عل المنبر، وعمر خطب به على المنبر، فلم يُحفظ إلا من طريق عمر، ولم يُحفظ عن عمر إلا من طريق علقمة.

كيف ضيع الناس كلهم، مئات حضروا الخطبة وضيعوها؟ نقول: لا، ما ضيعوها، وهي موجودة ومحفوظة، لكن لمَّا تأدت السُّنَّة بغيرهم، وهذا من فروض الكفاية، وقد قام به بعض مَن يكفي يكفي.

فالدين محفوظ والأمة معصومة من أن تُفرط في شيءٍ من دينها.

"حكى أبو عمروٍ الداني في (طبقات القراء) له عن أبي الحسن بن المنتاب، قال:

كنت يومًا عند القاضي أبي إسحاق إسماعيل بن إسحاق، فقيل له: لمَ جاز التبديل على أهل التوراة، ولم يجز على أهل القرآن؟ فقال القاضي: قال الله -عزَّ وجل- في أهل التوراة: {بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ}[المائدة:44]، فوكل الحفظ إليهم، فجاز التبديل عليهم، وقال في القرآن: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون}[الحجر:9] فلم يجز التبديل عليهم، قال علي: فمضيت إلى أبي عبد الله المحاملي، فذكرت له الحكاية، فقال: ما سمعت كلامًا أحسن من هذا".

ذكرنا مرارًا أن الحافظ البيهقي –رحمه الله تعالى- في (دلائل النبوة) ذكر أن يهوديًّا دعاه القاضي يحيى بن أكثم إلى الإسلام فلم يُسلم، وبعد سنة جاء مُعلنًا إسلامه، فسأله: ما السبب أنك تأخرت لمدة سنة؟ قال: تأخرت لأني اشتغلت، بما اشتغلت؟ قال: نسخت نُسخًا من التوراة وحرَّفت فيها وقدَّمت وأخَّرت، وزِدت ونقصت، فعرضتها على اليهود، فاشتروها وعملوا بها، ثم فعلت مثل ذلك في نُسخ من الإنجيل، وفعلوا مثل ما فعل اليهود، ثم فعلت ذلك في نُسخ من القرآن، فلمَّا عرضتها في السوق رموها في وجهي، فجزمت أن هذا الدين حق، وهو الثابت وهو الباقي، ثم ذهب إلى يحيى بن أكثم، وأعلن إسلامه، يحيى بن أكثم لمَّا سمع هذا عرضه في حجه على سفيان بن عُيينة، قال: هذا ما يحتاج كلامًا هذا في القرآن، وأورد الآيات {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ }[الحجر:9]، {بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ}[المائدة:44].

نعم وُكِل إليهم الحفظ فما حفظوا، وأما القرآن فقد تكفَّل الله بحفظه.

"وأيضًا ما جاء من حوادث الشُّهب أمام بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومنع الشياطين من استراق السمع لما كانوا يزيدون فيما سمعوا من أخبار السماء، حيث كانوا يسمعون الكلمة فيزيدون معها مائة كذبة أو أكثر، فإذا كانوا قد منعوا من ذلك في السماء، فكذلك في الأرض، وقد عجزت الفصحاء اللُّسن عن الإتيان بسورة من مثله".

اللُّسن.

"وهو كله من جملة الحفظ، والحفظ دائمٌ إلى أن تقوم الساعة، فهذه الجملة تدلك على حفظ الشريعة وعصمتها عن التغيير والتبديل".

قد يقول قائل في آية الحج: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ}[الحج:52]يقول: قصة الغرانيق التي حسَّنها جمعٌ من أهل العلم، ابن حجر يقول: لها طرق تدل على أن لها أصلاً، والشيخ/ محمد بن عبد الوهاب –رحمه الله- أثبتها في كتاب السيرة، وجمع من أهل العلم، لكن المُرجَّح أنها باطلة، ولا تثبت، بل موضوعة حكم ببطلانها جمعٌ غفير من أهل العلم من المتقدمين والمتأخرين، والشيخ/ الألباني –رحمه الله- له (نصب المجانيق لنسف قصة الغرانيق)، النبي –عليه الصلاة والسلام- كان يقرأ في سورة النجم، فأُدخِل في كلامه على ما جاء في هذه القصة المختلقة، فكيف تأتي العصمة، وكيف يأتي الحفظ والشيطان زاد؟! فهذا يدل على أنها مختلقة موضوعة لا أساس لها من الصحة؛ لأن المؤلف أوردها دلالةً على الحفظ.

"والثاني: الاعتبار الوجودي الواقع من زمن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الآن، وذلك أن الله -عزَّ وجل- وفر دواعي الأمة للذب عن الشريعة والمناضلة عنها بحسب الجملة والتفصيل.

أما القرآن الكريم، فقد قيض الله له حفظةً بحيث لو زيد فيه حرفٌ واحد لأخرجه آلافٌ من الأطفال الأصاغر، فضلاً عن القراء الأكابر.

وهكذا جرى الأمر في جملة الشريعة، فقيض الله لكل علمٍ رجالاً حفظه على أيديهم، فكان منهم قوم يذهبون الأيام الكثيرة في حفظ اللغات والتسميات الموضوعة على لسان العرب، حتى قرروا لغات الشريعة من القرآن والحديث، وهو الباب الأول من أبواب فقه الشريعة، إذ أوحاها الله إلى رسوله على لسان العرب".

نعم حفظ هذه المفردات ومعانيها وما يشهد لها من أقوال العرب شعرًا ونثرًا لا شك أنه من حفظ الدين، ومن هنا تأتي أهمية معرفة اللغة بجميع فروعها، فلا علم إلا بعد معرفة اللغة، كثير من طلاب العلم يُزهدون في هذا الباب، لكن القرآن بلسانٍ عربيٍّ مُبين، والرسول -عليه الصلاة والسلام- عربي، فلا يُمكن أن يُعرف الدين إلا من خلال لغة العرب، فقيض الله –جلَّ وعلا- هؤلاء الذين أتعبوا أنفسهم وعاشوا في البراري والقفار بين القبائل العربية التي لم تتأثر بالاختلاط، اختلاط العرب بغيرهم، وحفظوا وضبطوا، فقد قيل: إن الأصمعي يحفظ ستة عشر ألف قصيدة، يعني منها ما هو في مائتي بيت مثلاً أو أكثر أو أقل، يعني ملايين الأبيات، يحفظون من أجل حفظ الشريعة، والشعر ديوان العرب، فلابد من عناية طالب العلم به؛ لأنه به يحفظ المفردات ويحفظ معانيها، ويقرأ في شروح الدواوين يستفيد ويقرأ في جميع فروع العربية.

 ولا شك أن حفظ هذا الأمر من حفظ الدين، وهذا هو الباب الأول، هذا هو المفتاح الذي تُفتح به النصوص، شخص لا يعرف فروع علوم العربية لا يُمكن أن يطلب العلم على الجادة المتبعة، ويصل إلى غايةً يُريدها وتُريدها منه أمته أن يكون مُعوَّلاً عليه فيما بعد لابد أن يُعنى طالب العلم بلغة العرب.

"ثم قيض الحق سبحانه رجالاً يبحثون عن تصاريف هذه اللغات في النطق فيها رفعًا ونصبًا، وجرًّا وجزمًا، وتقديمًا وتأخيرًا، وإبدالاً وقلبًا، وإتبًاعا وقطعًا، وإفرادًا وجمعًا، إلى غير ذلك من وجوه تصاريفها في الإفراد والتركيب، واستنبطوا لذلك قواعد ضبطوا بها قوانين الكلام العربي على حسب الإمكان، فسهل الله بذلك الفهم عنه في كتابه، وعن رسوله -صلى الله عليه وسلم- في خطابه".

نعم، وهذه تتناول مفردات اللغة التي يُسمونها متن اللغة، وفقه اللغة، والنحو، والصرف، والمعاني، والبيان، والبديع، والوضع، والاشتقاق.

كمل يا شيخ.

طالب: نعم.

كمل كمل، الآن عددنا تسعة.

طالب:........

نعم.

طالب:........

المعاني، والبيان، والبديع هذه البلاغة انتهت.

طالب: النحو والصرف.

أنا ماذا ذكرت؟ متن اللغة الذي هو المفردات، وفقه اللغة، والنحو، والصرف، والمعاني، والبيان، والبديع، والوضع، والاشتقاق.

طالب: والأسلوبيات الأسلوب.

لا، هذه تتدخل في علوم البلاغة، المقصود أنها اثنا عشر، والعروض أيضًا.

طالب: العروض معدود؟

نعم.

على كل حال لو واحد اهتم بالعشرة هذه تكفيه، تكفيه هذه العشرة، وفي كل واحدٍ منها مؤلفات، كل شيء متيسر، وكل شيء موجود ومشروح، والحمد لله، يعني ما فيه طلب العلم أدنى عسر ولا مشقة في أيامنا هذه، لكن علينا أن نعمل.

"ثم قيض الحق سبحانه رجالاً يبحثون عن الصحيح من حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعن أهل الثقة والعدالة من النقلة، حتى ميزوا بين الصحيح والسقيم، وتعرفوا التواريخ وصحة الدعاوى في الأخذ لفلانٍ عن فلان، حتى استقر الثابت المعوَّل به".

المعمول به.

"المعمول به من أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكذلك جعل الله العظيم لبيان السُّنَّة عن البدعة ناسًا من عبيده بحثوا عن أغراض الشريعة كتابًا وسُنَّة، وعما كان عليه السلف الصالحون، وداوم عليه الصحابة والتابعون، وردوا على أهل البدع والأهواء، حتى تميز اتباع الحق عن اتباع الهوى".

أو أتباع "تميز أتباع الحق عن أتباع الهوى".

طالب: أتباع؟

نعم.

يعني تميز أهل السُّنَّة عن المبتدعة وغيرهم من الطوائف، وللمؤلف –رحمه الله تعالى- الشاطبي في كتابه (الاعتصام) القدح المُعلى في هذا الباب، يعني عليه أشياء يسيرة، لكنه في هذا الباب في بيان البدع وكشفها كلامٌ في غاية الجودة.

"وبعث الله تعالى من عباده قراء أخذوا كتابه تلقيًا من الصحابة، وعلموه لمن يأتي بعدهم حرصًا على موافقة الجماعة في تأليفه في المصاحف، حتى يتوافق الجميع على شيءٍ واحد، ولا يقع في القرآن اختلافٌ من أحدٍ من الناس.

ثم قيض الله تعالى ناسًا يناضلون عن دينه، ويدفعون الشُّبه ببراهينه، فنظروا في ملكوت السماوات والأرض، واستعملوا الأفكار، وأذهبوا عن أنفسهم ما يشغلهم عن ذلك ليلاً ونهارًا، واتخذوا الخلوة أنيسًا، وفازوا بربهم جليسًا، حتى نظروا إلى عجائب صنع الله في سماواته وأرضه، وهم العارفون من خلقه، والواقفون مع أداء حقه، فإن عارض دين الإسلام معارض، أو جادل فيه خصمٌ مناقض، غيروا في وجه شبهاته بالأدلة القاطعة، فهم جند الإسلام وحماة الدين.

وبعث الله من هؤلاء سادةً فهموا".

 عندنا غبَّروا.

طالب: نعم.

"غبَّروا في وجه شبهاته" هكذا.

طالب: عبَّروا؟

بـ الغين غبَّروا.

طالب: هنا غيروا في هذه النسخة، ماذا في عندك؟

غبَّروا.

طالب: غبَّروا؟

نعم.

"وبعث الله من هؤلاء سادةً فهموا عن الله وعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فاستنبطوا أحكامًا فهموا معانيها من أغراض الشريعة في الكتاب والسُّنَّة، تارةً من نفس القول، وتارةً من معناه، وتارةً من علة الحكم، حتى نزَّلوا الوقائع التي لم تُذكر على ما ذُكِر، وسهلوا لمن جاء بعدهم طريق ذلك، وهكذا جرى الأمر في كل علمٍ توقف فهم الشريعة عليه أو احتيج في إيضاحها إليه".

نعم، وهذا من حفظ الشريعة أن قيض الله –جلَّ وعلا- لكل فرعٍ من فروعها من يُعنى به ويجتهد في دفع ما يُلصق به.

"وهو عين الحفظ الذي تضمنته الأدلة المنقولة، وبالله التوفيق".

ما جاء هنا صاحب سُبل السلام؟

طالب:........

ما جاء، كمل كمل.

"المسألة الثالثة عشرة:

كما أنه إذا ثبت قاعدةٌ كليةٌ في الضروريات أو الحاجيات أو التحسينيات، فلا ترفعها آحاد الجزئيات، كذلك نقول: إذا ثبت في الشريعة قاعدةٌ كليةٌ في هذه الثلاثة أو في آحادها، فلا بد من المحافظة عليها بالنسبة إلى ما يقوم به الكلي وذلك الجزئيات، فالجزئيات مقصودةٌ معتبرةٌ في إقامة الكلي أن لا يتخلف الكلي فتتخلف مصلحته المقصودة بالتشريع، والدليل على ذلك أمور:

منها: ورود العتب على التارك في الجملة من غير عذر، كترك الصلاة، أو الجماعة، أو الجمعة، أو الزكاة، أو الجهاد، أو مفارقة الجماعة لغير أمرٍ مطلوبٍ أو مهروبٍ عنه، كان العتب وعيدًا أو غيره، كالوعيد بالعذاب، وإقامة الحدود في الواجبات، والتجريح في غير الواجبات، وما أشبه ذلك.

ومنها: أن عامة التكليف من هذا الباب".

التكاليف.

"لأنها دائرةٌ على القواعد الثلاث، والأمر والنهي فيما قد جاء حتمًا".

القواعد الثلاثة التي يدور حولها الكلام من بداية هذا الجزء وهي الضروريات وصدَّر بها المسألة، والحاجيات والكماليات التي هي التحسينيات.

"وتوجه الوعيد على فعل المنهي عنه منها أو ترك المأمور به، من غير اختصاصٍ ولا محاشاة، إلا في مواضع الأعذار التي تُسقط أحكام الوجوب أو التحريم، وحين كان ذلك كذلك، دل على أن الجزئيات داخلةٌ مدخل الكليات في الطلب والمحافظة عليها".

يعني لولا المطالبة بالجزئيات لما استقر الطلب بالكليات؛ لأن الكليات عبارة عن مجموع هذه الجزئيات، فإذا تخلى أو تأخر الطلب لهذه الجزئيات انتهت الكلية.

"ومنها: أن الجزئيات لو لم تكن معتبرةً مقصودةً في إقامة الكلي، لم يصح الأمر بالكلي من أصله؛ لأن الكلي من حيث هو كلي لا يصح القصد في التكليف إليه، لأنه راجع لأمرٍ معقولٍ لا يحصل في الخارج إلا في ضمن الجزئيات".

نعم لا يُمكن وجوده في الأعيان إلا من خلال جزئياته، أما وجوده في الأذهان يُتصوَّر، يُتصوَّر قاعدة كلية في الذهن، لكن وجودها في الأعيان لا يُمكن أن توجد بكليتها وعامتها إلا بأن توجد أفرادها وجزئياتها.

"فتوجه القصد إليه من حيث التكليف به توجهٌ إلى تكليف ما لا يطاق، وذلك ممنوع الوقوع كما سيأتي -إن شاء الله- فإذا كان لا يحصل إلا بمحصول الجزئيات".

إلا بحصول.

طالب: إلا؟

بحصول.

طالب: إلا بحصول؟

"إلا بحصول الجزئيات، فالقصد الشرعي متوجهٌ إلى الجزئيات.

وأيضًا، فإن المقصود بالكلي هنا أن تجري أمور الخلق على ترتيبٍ ونظامٍ واحد لا تفاوت فيه ولا اختلاف، وإهمال القصد في الجزئيات يرجع إلى إهمال القصد في الكلي، فإنه مع الإهمال لا يجري كليًّا بالقصد، وقد فرضناه مقصودُا، هذا خُلف".

يعني كونه لا يجري، وكونه يجري هذا تناقض.

"فلا بد من صحة القصد إلى حصول الجزئيات، وليس البعض في ذلك أولى من البعض، فانحتم القصد إلى الجميع، وهو المطلوب، فإن قيل: هذا يعارض القاعدة المتقدمة أن الكليات لا يقدح فيها تخلف آحاد الجزئيات".

التخلف هذا إما أن يكون لبعض الجزئيات مُطردًا بمعنى أن هذه الجزئية، وإن كانت مُشابهة لجزئيةٍ أخرى تندرج تحت هذه القاعدة بدليلٍ شرعي المماثلة موجودة، والتخلف لدليلٍ شرعي، فتكون القاعدة حينئذٍ أغلبية، ولا تكون كلية أو تكون القاعدة كلية ويتخلف بعض أفرادها لعذر، وحينئذ تستمر القاعدة كلية، وتخلف بعض أجزائها لعذرٍ مقبول شرعًا لا يُخل بكون القاعدة كلية.

فمثلاً الأمور بمقاصدها قاعدة كلية، لكن حينما يُقال للموسوس الذي أداه وسواسه في النية إلى ترك الصلاة، ألا يُمكن أن يُقال له: اترك النية صلِّ بدون نية؟ الشخص الذي يقول: كل عقدة من عقد الأصابع يحتاج إلى نية، وهذه النية تُكرر مرارًا أسمعها نفسي وأسمعها غيري من أجل أن يشهدوا أني نويت لكل عقدة من الأصابع في الوضوء، مثل هذا يُقال له: توضأ بدون نية، تخلَّف لعذر، تخلَّف هذا الفرد من أفراد هذه القاعدة لعذر، ولا يُخل هذا بكون القاعدة كلية، أما كون بعض الأفراد تتخلف عن التحاقها بالقاعدة بدليلٍ شرعي تكون القاعدة حينئذٍ أغلبيةً، ولا تكون كلية.

"فالجواب: أن القاعدة صحيحة، ولا معارضة فيها لما نحن فيه".

معارضةَ "ولا معارضةَ فيها".

"ولا معارضةَ فيها لما نحن فيه فإن ما نحن فيه معتبرٌ من حيث السلامة من العارض المعارض، فلا شك في انحتام القصد إلى الجزئي".

يعني الجزئي السالم عن المعارض، أما الجزئي المشتمل على مُعارض، فإن هذا يبقى حكمه خارجًا عن القاعدة.

"وما تقدم معتبرٌ من حيث ورود العارض على الكلي، حتى إن تخلف الجزئي هنالك، إنما هو من جهة المحافظة على الجزئي في كليةً من جهة أخرى، كما نقول: إن حفظ النفوس مشروع وهذا كليٌّ مقطوعٌ بقصد الشارع إليه، ثم شُرع القصاص حفظًا للنفوس، فقتل النفس في القصاص محافظةٌ عليها بالقصد، ويلزم من ذلك تخلف جزئي من جزئيات الكلي المحافظ عليه".

نعم؛ لأن المحكوم عليه بالقتل قصاصًا هو فردٌ من أفراد القاعدة في الأصل -القاعدة العامة-، لكن قتله من باب المحافظة على القاعدة العامة؛ ولذا يقول الله –جلَّ وعلا-: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون}[البقرة:179] ولا يُمكن أن تتم هذه الحياة إلا بالقصاص.

"ويلزم من ذلك تخلف جزئي من جزئيات الكلي المحافظ عليه، وهو إتلاف هذه النفس؛ لعارضٍ عرض وهو الجناية على النفس، فإهمال هذا الجزئي في كليةً من جهة المحافظة على جزئي في كليةٍ أيضًا، وهو النفس المجني عليها، فصار عين اعتبار الجزئي في كليةٍ".

في كليٍّ.

طالب: في كليٍّ؟

نعم.

"فصار عين اعتبار الجزئي في كليٍّ هو عين إهمال الجزئي".

طالب: ضابط هو عينَ.

نعم، خبر صار، خبر صار وهو ضمير فصل لا محل له من الإعراب.

"لكن في المحافظة على كليه".

طالب: كليِّه بالهاء.

لا.

طالب: كلي بالياء؟

لكن في المحافظة على كليةً، على كليِّه.

"على كليِّه من وجهين".

طالب: وجاءت الأولى على كليِّه؟

لا لا.

طالب: يعني الأولى كلي والثاني كليِّه؟

نعم.

"من وجهين، وهكذا سائر ما يرد من هذا الباب، فعلى هذا تخلف آحاد الجزئيات عن مقتضى الكلي إن كان لغير عارضٍ، فلا يصح شرعًا، وإن كان لعارضٍ، فذلك راجعٌ إلى المحافظة على ذلك الكلي من جهةٍ أخرى، أو على كليٍّ آخر، فالأول يكون قادحًا تخلفه في الكلي، والثاني لا يكون تخلفه قادحًا".

نعم فالأول يكون قادحًا تخلفه في الكلي، فلا يكون كليًّا إنما يكون أغلبيًّا، وأما النوع الثاني فلا يقدح، فتبقى القاعدة كلية عامة شاملة لجميع أفرادها، والله أعلم.

 

وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

"