التعليق على الموافقات (1427) - 08

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه، وبعد:

فقال المؤلف –رحمه الله-: "المسألة الرابعة: ما تقرر من أمية الشريعة، وأنها جاريةٌ على مذاهب أهلها، وهم العرب، ينبني عليه قواعد:

منها: أن كثيرًا من الناس تجاوزوا في الدعوى على القرآن الحد، فأضافوا إليه كل علمٍ يذكر للمتقدمين أو المتأخرين".

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فقد فهم بعض الناس من قول الله –جلَّ وعلا-: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} [الأنعام:38] أن {شَيْءٍ} هذه كلمة في سياق النفي فتعم كل شيء، فأدخلوا فيه كل شيء، فأدخلوا فيه العلوم الشرعية وهي داخلة، والعقائد، والأحكام، والآداب، وما إلى ذلك مما جاء القرآن لبيانه، وأدخلوا فيه أيضًا علوم الدنيا، فأقحموا فيه علم الطب والهندسة، والطبيعيات، والرياضيات وغير ذلك من العلوم، بل أدخلوا فيه علوم حكم أهل العلم بتحريمها كالتنجيم والكيمياء وما أشبهها، وأدخلوا في ذلك من العلوم شيء لا يحتمله كلام المخلوق فضلاً عن كلام الخالق.

ومن نظر في كتاب (تفسير الجواهر) للطنطاوي جوهري عرف كيف أقحم في القرآن ما ليس منه، وذكر في القرآن ما لا يليق ذكره فيه.

وكلٌّ له منحى في هذا الأمر، فذكر النحويون تفاصيل علم النحو، ودقائق علم النحو وأسرار علم النحو في التفسير، وأهل البلاغة كذلك، وأهل الأدب كذلك، وأهل التاريخ كذلك، كلٌّ ولج إلى تفسير القرآن من خلال تخصصه، ولا شك أن القرآن يحتمل كثيرًا من هذه العلوم.

 فاللغة العربية لا شك أنها تُعين على فهم القرآن، فلا مانع من ذكرها، لكن الإيغال فيها بحيث يُدرج مطولات كتب النحو، ويصير التفسير مصدرًا من مصادر هذا العلم، هو علمٌ مساعد وليس بأصل، وكذلك سائر العلوم، ولجوا إلى الطب من خلال قول الله –جلَّ وعلا-: {وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ} [الأعراف:31] فأدخلوا مباحث علم الطب في هذه الآية.

الهندسة {انطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاَثِ شُعَب} [المرسلات:30] أدخلوا علم الهندسة في هذا من أجل هذه الآية، وأدخلوا الفلك، وأدخلوا جميع العلوم.

المتصوفة ولجوا إلى تصوفهم من خلال التفسير، وحشوا التفاسير بعلوم التصوف القريب والبعيد، وفسروا القرآن على غير مراد الله، ومراد رسوله –عليه الصلاة والسلام-، فمنهم من فسَّر القرآن تفسيرًا إشاريًّا يعني بالإشارة لا بالعبارة الواضحة، ووجد هذا في تفاسير المتصوفة وتفاسير أهل البدع من القرامطة والرافضة وغيرهم والإسماعلية، كلهم ولجوا إلى التفسير من خلال الإشارة، مع الأسف أن مثل الألوسي يُعنى بمثل هذا النوع من التفسير الذي هو التفسير الصوفي بالإشارة.

فلا شك أن مثل هذا التوسع غير مُرضي، ويُنزَّه كلام الله –جلَّ وعلا- عن مثل هذا؛ لأنه نُزِّل {هُدًى لِّلنَّاسِ} [البقرة:185] هدى للناس، كيف يهتدي الناس بكلامٍ ظاهره يُخالف باطنه؟! كيف يُصرف الناس عن الأهم بعلومٍ لا تهم المسلم، ولا تزيده علمًا ولا تقوى ولا خشية لله– جلَّ وعلا- فهذا موضوع هذه المسألة.

"فأضافوا إليه كل علمٍ يذكر للمتقدمين أو المتأخرين من علوم الطبيعيات، والتعاليم، والمنطق، وعلم الحروف، وجميع ما نظر فيه الناظرون من هذه الفنون وأشباهها".

يعني من نظر في (تفسير الجواهر) لا تخلو ورقة من صورة، صورة ذات روح، عرفنا فيما مضى أنه يُقرر أن التصوير مُباح من خلال الأدلة التي من وجهة نظره دلت على ذلك مثل قوله –جلَّ وعلا-: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً} [الأنفال:44]، وأن التقليل لا يُمكن أن يكون على الحقيقة، وإنما هو بالصورة، وعرض –كما قال- هذا الاستنباط على شيخ من شيوخ الأزهر، وقال: هذا يدل على وجوب التصوير لا على جوازه، فأقحم تصاوير حشرات، وأُناس كفار وأعداء للإسلام والمسلمين، ومع ذلك صورهم في الكتاب، ولا شك أن مثل هذا التوسع ليس بمرضي، يُصان كلام الله –جلَّ وعلا- عنه، والله المستعان.

حتى قال القائل: إن هذا الكتاب فيه كل شيء إلا التفسير، كل شيء كل العلوم فيه إلا التفسير- والله المستعان-.

وفي أثنائه أحيانًا يذكر في الأثناء في ثنايا الكتاب أمورًا وأشياء لا تتصل بالآية، مثلاً يقول في أثناء تفسير آية لا في أوله ولا في آخره يعجب أن هذا الكتاب يُترجم لأهميته إلى لغة البوسنة والهرسك، ويُمنع من دخول بلاد الحرمين؛ لأن الملك عبد العزيز –رحمه الله- أصدر أمرًا بمنع دخوله إلى هذه البلاد، وتعجب كيف يُمنع!! والله المستعان.

"وهذا إذا عرضناه على ما تقدم لم يصح، وإلى هذا فإن السلف الصالح".

نعم لأن هذه العلوم لا تليق بأمية الأمة؛ لأن هذه العلوم لا تُدرك إلا بنظر واستدلال ومُعاناة، والأمة الأمية ما تُدرك مثل هذه الأمور.

"وإلى هذا فإن السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن يليهم كانوا أعرف بالقرآن وبعلومه وما أودع فيه".

ولذا قال العلماء: ما جاءك من التفسير عن الصحابة فالزمه، وإذا جاءك عن التابعين كذلك، إذا جاءك عمن بعدهم فانظر فيه؛ ولذا خير ما يُفسَّر به القرآن القرآن، ثم السُّنَّة، ثم أقاويل السلف من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان ممن سار على هديهم ونهجهم.

"ولم يبلغنا أنه تكلم أحدٌ منهم في شيءٍ من هذا المدعى".

يعني هل تكلم ابن عباس في علوم الطبيعيات، والتعاليم التي هي الرياضيات والهندسة؟ ما تكلموا في هذا، إنما تكلموا فيما ينفع الإنسان من زادٍ يتخذه لمعاده، وينفعه في تحقيق الهدف الذي من أجله خُلق، أما أمور الدنيا فهذه العلوم مثل التجارة والنجارة والصناعة والزراعة وغيرها، يتعلمها الإنسان ليتعيش من ورائها، وليست من العلوم التي تُوصل إلى الله –جلَّ وعلا- إلا إذا اقترن بها نية صالحة لنفع غيره من المسلمين كالزراعة أو الصناعة.

"سوى ما تقدم، وما ثبت فيه من أحكام التكاليف، وأحكام الآخرة، وما يلي ذلك، ولو كان لهم في ذلك خوضٌ ونظر، لبلغنا منه ما يدلنا على أصل المسألة، إلا أن ذلك لم يكن، فدل على أنه غير موجودٍ عندهم، وذلك دليلٌ على أن القرآن لم يُقصد فيه تقريرٌ لشيءٍ مما زعموا، نعم تضمن علومًا هي من جنس علوم العرب، أو ما ينبني على معهودها مما يتعجب منه أولو الألباب، ولا تبلغه إدراكات العقول الراجحة دون الاهتداء بأعلامه والاستنارة بنوره، أما أن فيه ما ليس من ذلك، فلا.

وربما استدلوا على دعواهم بقوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ} [النحل:89].

وقوله: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} [الأنعام:38]".

{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ} [النحل:89] يعني مما يلزم بيانه.

{مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} [الأنعام:38] كذلك مما يحتاجه المسلم في تحقيق الهدف الذي من أجله خُلق مع أنه قيل في الكتاب: إن المراد به اللوح المحفوظ، نعم.

"ونحو ذلك، وبفواتح السور وهي مما لم يُعهد عند العرب".

الحروف المقطعة التي في أوائل السور هذه غير معهودة عند العرب إلا أنها من نوع كلامهم، مفرداتها من نوع كلامهم، والهدف منها الأول تحديهم إذا كان هذا الكلام مُركبًا من الحروف التي تعرفونها وتنطقون بها فأتوا بمثله؛ فهي أُنزلت للتعجيز، ولبيان مقدار التسليم والاستسلام عند من يعتنق هذا الدين، يعني إذا قال: لماذا افتتحت غافر بـ {حم} [غافر:1] ولم تُفتتح الزمر ابتُدأت بـ {تَنزِيلُ} [الزُّمَر:1] وهذه افتتحت بـ {حم} [غافر:1] وبعدها {تَنزِيلُ} [غافر:2]؟ لماذا صار هذا وما صار هذا؟ لماذا لا يُقال في الزمر أيضًا: (حم)؟ لا بد من التسليم لله –جلَّ وعلا-، لماذا هذه افتُتحت بـ {ص} [ص:1]، وهذه افتُتحت بـ {ق} [ق:1]؟ هذا لاختبار انقياد المكلف هل يستسلم ويُسلِّم لله –جلَّ وعلا- أو لا، أو يُعارض؟ فمثل هذه الأمور الله أعلم بمراده بها، هذا أولى ما يُقال فيها، وأن على المسلم أن يستسلم ويُسلِّم قياده لله– جلَّ وعلا-.

"وبما نُقل عن الناس فيها، وربما حُكي من ذلك عن عليٍّ بن أبي طالب -رضي الله عنه- وغيره أشياء".

يعني في تفسير الحروف التي هي في فواتح السور نُقل عن علي –رضي الله عنه-، ونُقل عن العباس وغيرهما، لكن ما نُقل عن علي –رضي الله عنه- أسانيده لا تثبت، ضعيفة، ومع ذلك ولج منه من يزعم أنه يقتدي بعلي بن أبي طالب، ويتشيع لعلي بن أبي طالب، ولجوا منه مع هذا النطاق الضيق جدًّا، ولجوا منه ولوجًا واسعًا، وأدخلوا تحته ما لا يحتمله اللفظ.

"فأما الآيات، فالمراد بها عند المفسرين ما يتعلق بحال التكليف والتعبد، أو المراد بالكتاب في قوله: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} [الأنعام:38] اللوح المحفوظ، ولم يذكروا فيها ما يقتضي تضمنه لجميع العلوم النقلية والعقلية.

وأما فواتح السور، فقد تكلم الناس فيها بما يقتضي أن للعرب بها عهدًا، كعدد الجُمَّل الذي تعرفوه من أهل الكتاب، حسبما ذكره أصحاب السير، أو هي من المتشابهات التي لا يعلم تأويلها إلا الله تعالى، أوغير ذلك".

نعم اليهود لهم عناية بحساب الجُمَّل، وتلقاه العرب عنهم؛ ولذا لمَّا نزل قول الله –جلَّ وعلا-: {الم} [البقرة:1] قال اليهود: كيف نُسلم وعمر هذه الأمة سبعون سنة أخذًا من قوله: {الم} [البقرة:1]، تبعًا لحساب الجُمَّل، سبعين سنة؟!! عمر هذه الأمة بكاملها سبعون سنة، كيف ندخل في دينٍ عمره سبعون سنة؟!! فهل بمثل هذا يُعترض على شريعةٍ هي خاتمة الشرائع؟ ومع الأسف أن بعض من ينتسب إلى العلم اقتدى بهم، وبدأ يحسب ويضرب ويجمع في حساب الجُمَّل من خلال ألفاظ وكلمات وجُمل في القرآن، وصار يستدل بها على وقوع حوادث مستقبلية، كما أن بعضهم أخذ أن قيام الساعة يكون سنة ألف وأربعمائة وسبعة، أخذًا من قوله– جلَّ وعلا-: {بَغْتَةً} [الأنعام:31] حسابها في حساب الجُمَّل ألف وأربعمائة وسبعة، فهذا لا شك أنه مما تُلقي من أهل الكتاب، وبه اعُترض على الانقياد لهذا الدين.

"وأما تفسيرها بما لا عهد به، فلا يكون، ولم يدعه أحد مما تقدم".

ممن.

"ممن تقدم، فلا دليل فيها على ما ادعوا، وما يُنقل عن عليٍّ أو غيره في هذا لا يثبت، فليس بجائزٍ أن ينضاف إلى القرآن ما لا يقتضيه، كما أنه لا يصح أن يُنكر منه ما يقتضيه، ويجب الاقتصار في الاستعانة على فهمه على كل ما يُضاف علمه إلى العرب خاصة، فبه يُوصل إلى علم ما أودع من الأحكام الشرعية، فمن طلبه بغير ما هو أداة له، ضل عن فهمه، وتقوَّل على الله ورسوله فيه، والله أعلم، وبه التوفيق".

نعم إذًا من تتطلب العلم الشرعي على غير الجادة المسلوكة عند أهل العلم، ورغم نتائج في علومٌ شرعية بمقدماتٍ غير شرعية كما صنع أهل الكلام هذا لا شك أنه نهاية الضلال، والتقوُّل على الله ورسوله بغير علم.

بنوا نتائج على مقدماتٍ غير شرعية؛ ولذا نفوا ما أثبته الله –جلَّ وعلا-، وأثبتوا ما نفاه، نفوا ما أثبته الله، وأثبتوا ما نفاه، فصادموا النصوص مصادمةً واضحة.

لم يكن بوسعهم أن يُنكروا ما ثبت بالقرآن؛ لأنهم لو أنكروا ما ثبت بالقرآن صراحةً لبادر الناس إلى تكذيبهم وتضليلهم، بل تكفيرهم، عوام الناس يُبادرون، لكنهم تعاملوا مع النصوص على طريقتهم في مقدماتهم ونتائجهم، وحرَّفوا القرآن عن مراد الله –جلَّ وعلا-، وأما بالنسبة للسُنَّة فأمرها بالنسبة لهم سهل المتواتر منها يتعاملون معه مثل القرآن، والآحاد لا يثبت به مثل هذه المباحث من العقائد وغيرها، فضلوا بذلك وأضلوا من تبعهم.

"فصل: ومنها: أنه لا بد في فهم الشريعة من اتباع معهود الأميين، وهم العرب الذين نزل القرآن بلسانهم، فإن كان للعرب في لسانهم عُرفٌ مستمر، فلا يصح العدول عنه في فهم الشريعة، وإن لم يكن ثَم عُرفٌ، فلا يصح أن يجرى في فهمها على ما لا تعرفه.

وهذا جارٍ في المعاني والألفاظ والأساليب، مثال ذلك أن معهود العرب أن لا ترى الألفاظ تعيدًا عند محافظتها على المعاني".

تعبدًا.

طالب: تعبدًا؟

نعم.

"وإن كانت تراعيها أيضًا، فليس أحد الأمرين عندها بملتزم، بل قد تبني على أحدهما مرة، وعلى الآخر أخرى، ولا يكون ذلك قادحًا في صحة كلامها واستقامته".

يقول: "فإن كان للعرب في لسانهم عُرفٌ مستمر" القرآن نزل بلغتهم فإن كان لهم عُرفٌ واصطلاحٌ مستمر، وما يُعرف بالحقيقية اللغوية فلا يصح العدول عنه في فهم الشريعة؛ لأن الشريعة القرآن والسُّنَّة بلسانٍ عربي، فلا يصح العدول، لكن إذا وُجِد حقيقة لغوية، ووجِد للشرع حقيقة تختلف مع هذه الحقيقة اللغوية لا تختلف اختلافًا كليًّا يعني: تباينًا، وإنما تداخل بأن تكون الحقيقة اللغوية أعم وهذه أخص، والغالب أن الحقائق اللغوية مع الشرعية، الشرعية تجيء بزيادة قيود على الحقيقة اللغوية.

فمن الذي يُقدَّم في النص الشرعي؟ مثلاً الأمر بالوضوء مما مست النار في أول الأمر، والأمر بالوضوء من لحم الإبل، بعضهم يقول: نعمل بالحقيقة اللغوية التي هي مجرد غسل الفم واليدين؛ لأنه له دسومة، فنكتفي بالحقيقة اللغوية، فهل نعمد إلى اللغة ونأخذ حقيقتها في مثل في شرح هذه الاصطلاحات الشرعية أو نقول: المُعوَّل في هذا على الحقيقة الشرعية والقرآن والسُّنَّة إنما جاءا لبيان الشرع؟ لا شك أن الأخص يقضي على الأعم بلا إشكال.

إذا كان للكلمة الواحدة أكثر من حقيقة شرعية، يعني له حقيقة لغوية، وله حقيقة عرفية، وله حقيقة شرعية، فالمُعوَّل على الحقيقة الشرعية، إذا كان للكلمة الواحدة أكثر من حقيقة شرعية، فإن السياق هو الذي يُرجِّح هذه الحقيقة أو هذه الحقيقة كالمفلس «أتدرون من المفلس؟» قالوا: المفلس من لا درهم له ولا متاع، ثم عرَّف المفلس، وقد يكون عنده الملايين.

وفي قوله –عليه الصلاة والسلام-: «من وجد ماله عند رجلٍ قد أفلس، فهو أحق به» هذه حقيقة شرعية، والأولى حقيقة شرعية، لكن هذه لها سياقها ولها ما يدل عليها، وهذه لها سياقها وما يدل عليها، وإلا فالأصل أن الحقائق الشرعية مقدمة؛ لأنها أخص لاسيما في النصوص الشرعية.

وقد يأتي في بعض النصوص ما يُراد به الحقيقة اللغوية؛ لأن السياق يأباه، يأبى الحقيقة الشرعية، وهذا يحتاج إلى خبرة ودُربة في معرفة اللغة ومعرفة الحقائق الثلاث.

"ولا يكون ذلك قادحًا في صحة كلامها واستقامته، والدليل على ذلك أشياء:

أحدها: خروجها في كثيرٍ من كلامها عن أحكام القوانين المطَّردة، والضوابط المستمرة، وجريانها في كثيرٍ من منثورها على طريق منظومها، وإن لم يكن بها حاجة، وتركها لما هو أولى في مراميها، ولا يُعد ذلك قليلاً في كلامها ولا ضعيفًا، بل هو كثيرٌ قوي، وإن كان غيره أكثر منه".

يعني "وجريانها في كثيرٍ من منثورها على طريق منظومها" يعني: يأتي في لغة العرب عندهم قواعد ثابتة، لكن هذه القواعد لها ما يخرج عنها، القواعد يقعدونها سواءً كانت في النحو أو في الصرف أو في غيرها من العلوم، لكن لها ما يخرج عنها كما أن القواعد الفقهية لها من الفروع ما يخرج عنها، فتجدهم يأتون بكلمةٍ مصروفة فتُمنع من الصرف وإن كانت في النثر، الأصل أن مثل هذا الخروج لا يكون إلا في ضرورة الشعر قد يخرجون عنها، ثم يُخرَّج هذا على أنه لغة عند بعض العرب دون بعض.

المقصود أن "في كثيرٍ من منثورها على طريق منظومها" فيُخرجون المنثور الذي خرج عن القاعدة المتبعة عندهم ويُعاملونه معاملة المنظوم، لكن هذا القليل النادر، نعم قد يُوجد في القرآن بعض ما يُخالف قواعد اللغة، لكن الأصل أن تُرد اللغة إلى القرآن، ومنها من بعض هذه المخالفات ما لا يعود الخلاف فيه إلى الإعراب، وإنما يعود فيه إلى الرسم فقط.

"والثاني: أن من شأنها الاستغناء ببعض الألفاظ عما يُرادفها أو يقاربها، ولا يعد ذلك اختلافًا ولا اضطرابًا إذا كان المعنى المقصود على استقامة، والكافي من ذلك نزول القرآن على سبعة أحرف، كلها شافٍ كاف، وفي هذا المعنى من الأحاديث وكلام السلف العارفين بالقرآن كثير، وقد استمر أهل القراءات على أن يعملوا بالروايات التي صحت عندهم مما وافق المصحف، وأنهم في ذلك قارئون للقرآن من غير شكٍ ولا إشكال، وإن كان بين القراءتين ما يعده الناظر ببادئ الرأي اختلافًا في المعنى؛ لأن معنى الكلام من أوله إلى آخره على استقامة لا تفاوت فيه بحسب مقصود الخطاب، كـ: {مَالِكِ} [الفاتحة:4] و(ملك)".

الاختلاف بين القراءتين في مثل: "{مَالِكِ} [الفاتحة:4] و(ملك)" (تبينوا تثبتوا) الاختلاف من وجهٍ دون وجه، فبعضهم يُرجِّح {مَالِكِ} [الفاتحة:4] لأن المِلك الذي اسم الفاعل منه مالك أخص، وتصرفه في ملكه أقوى، ومنهم من يُرجِّح ملك؛ لأن المَلك ملكه أعم وأشمل، فاعتبار{مَالِكِ} [الفاتحة:4] أقوى، وباعتبارٍ آخر (ملك) أقوى، باعتبار العموم {مَالِكِ} [الفاتحة:4] أقوى؛ لأن له التصرف فيمن تحت يده في الحدود الشرعية، فالملك له ولاية على الجميع، وأمره مُطاع بالنسبة للجميع، لكن الملك الخاص أقوى من المِلك العام، يعني لو تصورونا ملكًا على بلد من البلدان أو على إقليم من الأقاليم هم تحت رعايته، وتحت ولايته، وهم في الجملة يملكهم، وتجب عليهم طاعته، لكن مُلك هذا الملك لِما تحتويه بيوتهم نافذ أم ما هو نافذ؟ غير نافذ، لكن باعتبار العموم ملكه أقوى من ملك الأفراد، وباعتبار الخصوص خصوص ما يملكون ملكهم أقوى منه، فترُجح هذه القراءة على تلك والعكس، وهذه حُجة من يُرجِّح {مَالِكِ} [الفاتحة:4]على (ملك) أو العكس.

فالاختلاف من وجهٍ دون وجه لا يُقال: إن (ملك) مُصادمة لقراءة {مَالِكِ} [الفاتحة:4] أبدًا، (تثبتوا وتبينوا) لا فرق بينهما إلا من حيث أمور يسيرة جدًّا، وهكذا في الكلمات التي فيها الترادف الكلمات المترادفة، منهم من أهل العلم من يُثبت الترادف وأن هذه الكلمة تقوم مقام هذه الكلمة من كل وجه، ومنهم من ينفي الترادف، ويقول: التطابق والترادف من كل وجه ممنوع؛ وأنه لابد من خلاف أو اختلاف ولو شيء يسير بين اللفظتين.

فهذه القراءات التي وردت مثل: "{مَالِكِ} [الفاتحة:4] و(ملك)" نقول هنا: "لأن معنى الكلام من أوله على استقامة لا تفاوت فيه بحسب مقصود الخطاب" لا يختلف بحسب المقصود الخطاب "كـ{مَالِكِ} [الفاتحة:4] و(ملك)" {وَمَا يَخْدَعُونَ} [البقرة:9] (وما يُخادعون) سواءً كانت المُخادعة من طرف واحد أو من طرفين فقد يُراد بها المُفاعلة، قد تأتي يُراد بها من طرفٍ واحد، فلا فرق حينئذٍ بين القراءتين.

"كـ: {مَالِكِ} [الفاتحة:4] و(ملك) {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم} [البقرة:9] (وَمَا يُخادعون) {إِلاَّ أَنفُسَهُم} [البقرة:9] {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا} [العنكبوت:58] (لَنُثَوِّينَّهُمْ) {مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا} [العنكبوت:58] إلى كثيرٍ من هذا".

الطبعة الجديدة المُحققة ما جعل هناك فرقًا بين اللفظتين {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ} [العنكبوت:58] في الموضعين مع أنها في الأولى: {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ} [العنكبوت:58] كالقراءة المعروفة، والثانية: (لَنُثَوِّينَّهُمْ) والمباءة والمثوى بمعنىً واحد.

"لأن جميع ذلك لا تفاوت فيه بحسب فهم ما أُريد من الخطاب، وهذا كان عادة العرب.

ألا ترى ما حكى ابن جني عن عيسى بن عمر، وحكي عن غيره أيضًا، قال: سمعت ذا الرُّمة ينشد:

وَظَاهِرْ لَهَا مِنْ يَابِسِ الشَّخْتِ وَاسْتَعِنْ

 

 

عَلَيْهَا الصَّبَا وَاجْعَلْ يَدَيْكَ لها سترا

 

فقلت: أنشدني: من بائس، فقال: (يابس وبائس) واحد.

فأنت ترى ذا الرمة لم يعبأ بالاختلاف بين البؤس واليبس، لما كان معنى البيت قائمًا على الوجهين، وصوابًا على كلتا الطريقتين، وقد قال في رواية أبي العباس الأحول: البؤس واليبس واحد، يعني: بحسب قصد الكلام لا بحسب تفسير اللغة".

نعم البؤس من الشدة، الشدة والصلابة، واليابس شديدٌ صلب بخلاف الرطب، فيجتمعان في معنىً واحد وإن كان لكل واحد منهما معنىً يخصه، فإذا أراد المتكلم ما يجتمعان فيه فسواءٌ قال: بائس أو يائس ما في فرق، وإن أراد ما يختلفان فيه، فلا شك أنه لابد أن يُحدد مراده، نعم.

"وعن أحمد بن يحيى، قال: أنشدني ابن الأعرابي:

وموضع زيرٍ لَا أُرِيدُ مَبِيتَهُ

 

 

كَأَنِّي بِهِ مِنْ شِدَّةِ الرَّوْعِ آنِسُ

 

فقال له شيخٌ من أصحابه: ليس هكذا أنشدتنا (وموضع ضيق) فقال: سبحان الله! تصحبنا منذ كذا وكذا".

وموضع زير؟

طالب: وموضع زيرٍ.

لا، النسخة المُحققة وبزينٍ.

طالب: زيرٍ؟

زينٍ بالنون، ومعلق يقول: كذا في الأصل، وهو الصواب، وهكذا أورده ابن جني في (الخصائص) وابن منظور، وتُصحف في النسخ المطبوعة من (الموافقات) إلى "زيرٍ" بياءٍ آخر الحروف وراء، ولذا كتب "د" -يعني الشيخ/ دراز- في الهامش: المعنى المناسب للضيق في الزير أنه الدن.

"فقال: سبحان الله! تصحبنا منذ كذا وكذا، ولا تعلم أن الزير والضيق واحد!!

وقد جاءت أشعارهم على رواياتٍ مختلفة، وبألفاظٍ متباينة، يُعلم من مجموعها أنهم كانوا لا يلتزمون لفظًا واحدًا على الخصوص، بحيث يُعد مرادفه أو مقاربه عيبًا أو ضعفًا، إلا في مواضع مخصوصةٍ لا يكون ما سواه من المواضع محمولاً عليه، وإنما معهودها الغالب ما تقدم".

نعم تجد في كتب اللغة الكلمة الواحدة لها أكثر من عشرة معانٍ أو عشرين معنى، وقد يُراد بها في هذا السياق هذا المعنى، ويُراد بها في هذا السياق هذا المعنى، وفي سياقٍ ثالث يُراد بها معنىً ثالث وهكذا؛ ولذا يُقرر أهل العلم أنه لا يتكلم في غريب الحديث إلا من له خبرة ودُربة بالحديث واطلاع واسع على الأحاديث، مع معرفته بلغة العرب؛ لأنه قد يعرف لغة العرب وليس له اطلاع على الأحاديث، فلا يدري ما الذي يُحدده السياق من المعاني، وقد يكون مُطلعًا على الكتب والأسانيد والألفاظ لكنه ليست له خبرة بلغة العرب، فلا يستطيع تحديد المراد بدقة.

"والثالث: أنها قد تُعمل بعض أحكام".

تُهمل.

طالب: تُعمل؟

تُهمل بالهاء.

"أنها قد تُهمل بعض أحكام اللفظ وإن كانت تعتبره على الجملة، كما استقبحوا العطف على الضمير المرفوع المتصل مطلقًا، ولم يفرقوا بين ما له لفظٌ وما ليس له لفظ، فقبُح (قمت وزيد)، كما قبُح (قام وزيد)، وجمعوا في الردف بين (عمودٍ ويعود) من غير استكراه، وواو عمود أقوى في المد، وجمعوا بين (سعيدٍ وعمود) مع اختلافهما، وأشباه ذلك من الأحكام اللطيفة التي تقتضيها الألفاظ في قياسها النظري، لكنها تُهملها وتُوليها جانب الإعراض؛ وما ذلك إلا لعدم تعمقها في تنقيح لسانها".

أما بالنسبة للعطف على الضمير المرفوع المتصل، فمنعوه منعوا العطف على الضمير المتصل المرفوع إلا بفاصل.

وإن علا ضمير الرفع المتصل عطفت

 

 

فافصل بالضمير المنفصل

 

(قام هو وزيد) (قمت أنا وزيد) وهكذا. أو فاصلٍ ما (قمت في الدرس وزيد) (في يوم الجمعة وزيد) المقصود أنه لابد من فاصل.

أو فاصلٍ ما وبلا فصلٍ يرد

 

 

في النظم فاشيًا وضعفه اعتقد

المقصود أن العطف على ضمير الرفع المتصل لابد فيه من أن يُفصل بينهما بفاصل.

"وجمعوا في الردف بين (عمودٍ ويعود)" يعني إذا أرادوا إيراد كلمات مترادفة أو كلمات مسجوعة فإنهم يأتون بمثل هذا يجعلون آخر الجملة هي عمود والثانية يعود "من غير استكراه".

"واو عمود أقوى في المد" لا يلتفتون لمثل هذه الأمور، وإن كانت أقوى في المد أو أضعف.

"وجمعوا بين (سعيدٍ وعمود) مع اختلافهما" لا شك أن اللفظ نظمه يختلف بين (سعيد وعمود) إلا أنه باعتبار أن الرابط الدال سوغ عندهم أن يقفوا على سعيد في الجملة الأولى وعمود في الثانية.

ولذلك تجدون في تسمية الكتب أحيانًا تجد الانتقاء جيدًا في اسم الكتاب وفي سجعه، وأحيانًا تجدون فيه شيئًا من الخلل؛ لأنه إما مشوا على "عمود ويعود من غير استكراه" أو "جمعوا بين سعيد وعمود" فنظروا إلى الحرف الأخير وإن لم يكن وزن الكلمتين واحدًا.

طالب: مقصود الردف أعجاز الشعر أم المتعاطفين في جملة؟

هذا وهذا، كلاهما.

"والرابع: أن الممدوح من كلام العرب عند أرباب العربية ما كان بعيدًا عن تكلف الاصطناع، ولذلك إذا اشتغل الشاعر العربي بالتنقيح اختُلف في الأخذ عنه".

لأنه إذا اختلف في التنقيح اللفظي غفل عن المعنى، فإذا كانت له عناية بالألفاظ ضعف من ناحية المعنى فاختُلف في الأخذ عنه، وهذا واضح أن من له عناية باللفظ بالظاهر لابد أن يحصل عنده الخلل في الباطن، قد يُوجد من يجمع الله له بين الأمرين، يكون اللفظ في أعلى درجات البلاغة والفصاحة، والمعنى من أوفى المعاني وأجلِّها.

المقصود أن مثل هذه مسألة الاستيعاب كون الإنسان يستوعب الظاهر والباطن في الغالب ما يُمكن؛ ولذلك لنا ملحظ لبعض المالكية يُرددون سؤالًا، يقول: أيهما أفضل الشخص الذي يكثر السهو عنده في الصلاة أو الشخص الذي لا يكثر عنده السهو أيهما أفضل؟ بعضهم استروح أن الذي يكثر عنده السهو في الصلاة أفضل من الذي لا يكثر عنده السهو، لماذا؟ لأن الذي يكثر عنده السهو غفل عن الظاهر واشتغل بالباطن، والذي لا يسهو في صلاته انتبه إلى الظاهر وغفل عن الباطن، وهذه أشار إليها القرطبي في تفسيره في تفسير سورة الماعون {الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُون} [الماعون:5] نعم.

"فقد كان الأصمعي يُعيب الحطيئة، واعتذر عن ذلك بأن قال: وجدت شعره كله جيدًا، فدلني على أنه كان يصنعه، وليس هكذا الشاعر المطبوع، إنما الشاعر المطبوع الذي يرمي بالكلام على عواهنه".

ومع ذلك يكون جيدًا، الشاعر المطبوع الذي يرمي بالكلام على عواهنه ويكون جيدًا؛ لأن من الناس من يرمي بالكلام على عواهنه ويطلع ردي هل هذا شاعر مطبوع؟ ليس بشاعرٍ مطبوع، فكلامهم هذا ليس على إطلاقه، يعني معناه أن الناس لا يهتمون يُلقون بالكلام على عواهنه بغض النظر عن الجودة والرداءة، لا، لابد من الجودة، الجودة هي الأصل.

لكن إذا اختلفت جودة الظاهر مع الباطن، فالباطن أولى بالمراعاة الذي هو المعنى.

ولذلك تسمعون الخطباء، وتسمعون العلماء في دروسهم، وتسمعون الأدباء وغيرهم منهم من يُرزق بيانًا، ويأخذ العقول والألباب، ويملك الأسماع ببيانه، لكن إذا فتشت تجد فائدة وراء هذا الكلام؟ قليلة، وبعض الناس ما يُعطى بيانًا، لكنه يُعطى علمًا ثابتًا راسخًا، فمثل هذا هو الذي يُحرص عليه، لكن إذا جمع الله بين الأمرين فنور على نور.

"جيده على رديئه، وما قاله هو الباب المنتهج، والطريق المهيع عند أهل اللسان، وعلى الجملة، فالأدلة على هذا المعنى كثيرة، ومن زاول كلام العرب وقف من هذا على علم.

وإذا كان كذلك، فلا يستقيم للمتكلم في كتاب الله أو سُنَّة رسول الله أن يتكلف فيهما فوق ما يسعه لسان العرب، وليكن شأنه الاعتناء بما شأنه أن تعتني العرب به، والوقوف عند ما حدته".

نعم يكون في كلامه تابعًا للعرب الذين أُنزل القرآن بلغتهم لا يكون تابعًا لغيرهم ممن تأثر باللغات الأخرى والبيئات الأخرى ولو كان كلامهم يستهوي السامع، لكن إنما عنايتنا باللغة إنما هي من أجل خدمة الكتاب والسُّنَّة، فالذي يُحقق لنا هذا الهدف هو سلوكنا طريق العرب ونهجهم.

ولذا كثرت الدعاوى في الاعتماد على كتب المتقدمين، وعدم النظر في اصطلاحات المتأخرين في العلوم الاصطلاحية كلها، فتجدوا مثلاً في النحو، نقول: لا تمشوا على الجادة المطروقة أجرومية، قطر، ألفية، كل هذا اصطلاح متأخر ويعوقك عن تحصيل هذا العلم، اطلع فوق، اقرأ في كتاب سيبويه، اقرأ في (الخصائص) لابن جني، اقرأ للمتقدمين؛ لكي تعرف كيف تتعامل مع القرآن، لكن الإشكال أن اصطلاحات المتقدمين يعسر ضبطها وهضمها على المتأخرين، المتأخرون رُبوا على شيء ومشوا عليه، فربطهم بكتب المتقدمين مَن يُدرك بعض الاصطلاحات في النحو التي يذكرها سيبويه مثلاً أو حتى الطبري في تفسيره؟ إذا أعرب كلمة قال تفسير، ما معنى تفسير؟ آحاد المتعلمين يعرف أن إعراب هذه الكلمة تفسير ما معناه؟ تمييز نعم، لكن من يعرف من آحاد المتعلمين لابد أن يقرأ في كتب المتأخرين فإذا ضبط الفن على طريقتهم يقرأ في كتب المتقدمين، وهذا في كل العلوم، بعضهم يقول: عليك برسالة الشافعي، اترك كتب الأصول المعقدة التي دخل فيها من علم الكلام ما دخل.

ومسألة علوم الحديث والدعوة إلى الرجوع للكتب...معروفة هذه، لكن أنا أعتقد أن رمي الكلام على عواهنه على آحاد المتعلمين هذا تضييع.

أيضًا في البلاغة يقول: تلخيص وحواشٍ وتلخيص، ما هذا؟ هذا عذاب لطالب العلم، عليك أن تطلع فوق تقرأ في (أسرار البلاغة) و(دلائل الإعجاز) وكتب المتقدمين، تترك هذه الكتب، لكن كيف تفهم تلك الكتب؟ يا أخي يقول لك: إذا أراد الجرجاني أن يُقرر لك مسألة في البلاغة تحتاج تقرأ نصف الكتاب، بينما هي عند صاحب التلخيص أو حتى عند صاحب المفتاح أو( شروح التلخيص) هي موجودة بسطر يقرر لك ويشرح لك ويذكر لك المثال، ثم بعد ذلك إذا تأهلت وعرفت تصورت العلم تصورًا ولو على وجه، يعني ما يلزم منك التصور الكامل، اقرأ ما شئت.

فلا شك أن كتب المتقدمين هي الأصل، والمتأخرون عالة على المتقدمين، لكن ينبغي أن نكون على الجادة التي سار عليها أهل العلم في تحصيلهم، فإذا أتقنا كتب المتأخرين نصعد إلى كتب المتقدمين؛ لأنهم هم الأصل.

اللهم صلِّ على محمد.