التعليق على الموافقات (1429) - 04

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

يقول المؤلف الإمام الشاطبي -رحمه الله تعالى- (في النوع الرابع من بيان قصد الشارع في دخول المكلف تحت أحكام الشريعة): المسألة الثالثة: قد تحصَّل إذن أن الضروريات ضربان؛ أحدهما: ما كان للمكلف فيه حظ عاجل مقصود، كقيام الإنسان بمصالح نفسه وعياله، في الاقتيات، واتخاذ السكن، والمسكن واللباس، وما يلحق بها من المتممات، كالبيوع، والإجارات، والأنكحة، وغيرها من وجوه الاكتساب التي تقوم بها الهياكل الإنسانية. والثاني: ما ليس فيه حظ عاجل مقصود، كان من فروض الأعيان كالعبادات البدنية والمالية، من الطهارة، والصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، وما أشبه ذلك، أو من فروض الكفايات، كالولايات العامة، من الخلافة، والوزارة، والنقابة، والعرافة، والقضاء، وإمامة الصلوات، والجهاد، والتعليم، وغير ذلك من الأمور التي شُرعت عامةً لمصالح عامة إذا فُرض عدمها أو تَرْك الناس لها انخرم النظام".

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

لما ذكر المؤلف -رحمه الله تعالى- ما بنى عليه كتابه من بيانه للضروريات والحاجيات والتحسينيات والكماليات، وذكر كثيرًا من متعلقاتها؛ أبان في هذه المسألة أن هذه الضروريات على ضربين، أو على قسمين، أو على نوعين، أو صنفين: منها ما كان للمكلف فيه حظ عاجل مقصود، وهو ما تقوم به حياته، كالأكل والشرب وقيام الإنسان بمصالح نفسه بجميع ما يضمن لها بقاء النوع؛ هذا حظ عاجل ومصلحة مقصودة. ومنها ما لا مصلحة فيه مقصودة، يعني عاجلة في دنياه، وإن كانت مصلحته التي تقربه إلى الله -جل وعلا- وهي أعظم من المصلحة الدنيوية، حاصلة من فروض الأعيان وفروض الكفايات. أما بالنسبة لفروض الكفايات التي تتطلبها المصالح العامة وقيام أمر العامة بها؛ فالأصل أن لا حظ للمكلف فيها، كالرئاسات الولايات، هذه الأصل أن المكلف لا حظ له فيها، إلا على نتائجها إذا أحسن القيام بها. يعني كون الناس يطلبون هذه الرئاسات؛ نظرًا لمصالحها الظاهرة، وفي غبها الضرر المحض لكثير من الناس؛ ولذا جاء النهي عن سؤال الإمارة: «لا تسأل الإمارة»، «يا عبد الرحمن بن سمرة لا تسأل الإمارة»، وهروب السلف من القضاء وغيره من الولايات معروف، لماذا؟ لأن الخطر فيها غالب على الظن.

 نعم، قد ينجو من ينجو وتصير فيه بالنسبة له مصلحة، لكن كثيرًا من الناس قد لا ينجو. بناءً على هذا الظن الغالب نظر الشارع إليها باعتبار أنها ليست من مصلحة المكلف، وهي الضرب الثاني: "ما ليس فيه حظ عاجل مقصود كان من فروض الأعيان كالعبادات البدنية والمالية"، هذه ليس فيها حظ عاجل مقصود. نعم، فيها حظ آجل، وهو أفضل من الحظ العاجل، وذلك لنفرق بين الأول والثاني بالنظر للأوامر الشرعية. الأول قد لا يطلبها الشرع، قد لا يحثك الشارع على الأكل، ولا على طلب المسكن، ما يحضك على ما فيه مصلحة عاجلة تدركها وتلمسها بنفسك. لكن ما فيه مصلحة آجلة، وليست المصلحة العاجلة مقصودة ومرئية لكل أحد، هنا يحثك الشارع على فعل ما ينفعك بأخراك.

فمثلاً لا تجد في النصوص من الحث على قيام بمصالح الأولاد، كما يحثك على بر الوالدين، لماذا؟ لأن النظر في مصالح الأولاد فيه غرائز تدفعك إليه دفعًا، وأما بالنسبة لمصالح الوالدين والبر بهما وصلة الأرحام فإن فيه الأجر العظيم عند الله -جل وعلا-، لكن ليس هناك غريزة في الغالب تدفع إليه كالغريزة التي غُرزت في الإنسان بالنسبة لأولاده، فتجد النصوص تركز على البر، النصوص تركز على صلة الأرحام؛ لأنها بصدد أن تُقطع وبصدد أن يُعق الوالدان نظرًا للمصالح العاجلة المقصودة، بينما ما يتعلق بالأولاد لا يمكن أن يسعى الإنسان في ضرر ولده، ولو حصل الضرر له بنفسه. المؤلف إنما يأتي بهذين الضربين؛ من أجل أن يؤكد على أن الشارع قد يخفف الأوامر في الضرب الأول، ويشدد في الأوامر في الضرب الثاني.

هناك مقاصد مقصودة لكثير من الناس، وهي بالنسبة للناس ليست مقصودة، مثل ما ذكرنا في الولايات: الولايات في الغالب منها عدم السلامة والنجاة والفكاك، وأن يخرج الإنسان منها لا عليه ولا عليه، هذا في الغالب لا يكون. في القليل النادر من يستعملها فيما يرضي الله، ويحقق فيها مصالح العباد، ويسعى في نشر العدل بينهم، هذه عبادة، هذه يؤجر عليها، ويثاب عليها. لكن إذا استعمل هذه الولايات -كما هو الكثير الغالب- في مصالحه الخاصة، ونفوذ أوامره على الناس، وتحقق الشرف الذي ينشده عموم الناس بهذه الولايات، فلا تكون في مصلحته لا في العاجل ولا في الآجل؛ لأن لها في العاجل ضرائب، ولها في الآجل عقوبات.

هذا ما يريد أن يقرره الشارع، المؤلف -رحمه الله تعالى- في هذه المسألة.

طالب: "فأما الأول: فلما كان للإنسان فيه حظ عاجل، وباعث من نفسه يستدعيه إلى طلب ما يحتاج إليه، وكان ذلك الداعي قويًّا جدًّا، بحيث يحمله قهرًا على ذلك، لم يؤكد عليه الطلب بالنسبة إلى نفسه، بل جعل الاحتراف والتكسب والنكاح على الجملة مطلوبًا طلب الندب لا طلب الوجوب، بل كثيرًا ما يأتي في معرض الإباحة، كقوله: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275]".

لما كان الهدف من خلق الجن والإنس تحقيق العبودية لله -جل وعلا- جاء التأكيد على هذا الهدف، وجاءت الأوامر والنواهي كلها لتحقيق هذا الهدف. لكن الضرب الأول الذي فيه تحقيق ما تقوم به الحياة، هذا ليس بمقصد شرعي. لكن لا يقوم الثاني إلا بالأول، لا يمكن أن يبقى النوع إلا بالأكل والشرب، ولا يبقى النوع إلا بالتناسل، جاء قول الله -جل وعلا-: {وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص: 77]، يعني في مقابل جميع الأوامر والنواهي التي تتعلق بأفعال المكلفين من واجبات ومحرمات ومندوبات ومكروهات. يعني البيع لا تتحقق مصالح الناس إلا بالبيع، قد تكون حاجته ماسة إلى ما بيده أخيه، ويضطر إليه ولا يمكن أن يصل إليه إلا بالبيع، ببذل ثمنه، وحينئذ يقول الله -جل وعلا-: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275].

طيب، العلاج: الناس كلهم يسعون إلى اكتمال الصحة واعتدال الصحة، جاء الأمر: «تداووا»، والأمر عند جمع من أهل العلم للإباحة، ومنهم من يحمله على الاستحباب، وشيخ الإسلام- رحمه الله تعالى- يقول: لا أعلم سالفًا أوجب العلاج، يعني لا أعلم أحدًا من السلف أوجب العلاج. وانظر المستشفيات، لعل الذي يراجعها أكثر من الذين يراجعون المساجد، كله طلبًا للصحة. هذه ما تحتاج إلى أدلة أو نصوص تدفعك إلى أن تعالج. لماذا؟ لأنك تلقائيًّا تطلب السلامة، وتطلب العلاج.

طالب: "وقوله: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10]، وقوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198]، وقوله: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32]، وقوله: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 57]".

يعني الأمر: {فَانْتَشِرُوا}، {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا} [الجمعة: 10]، هذا أمر إباحة عند جماهير أهل العلم، لماذا؟ لأنه بعد حظر، والأمر بعد الحظر -كما هنا- يُحمل على الإباحة، {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] كذلك؛ لأنه بعد حظر يحمل على الإباحة.

ومنهم من يقول: إن الأمر في هذه الأوامر التي تأتي بعد الحظر يرجع إلى ما كان عليه الحكم قبل الحظر: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198]، لأنه مجرد رفع الجناح، هل فيه حث على ابتغاء الفضل والتكسب؟ إنما فيه رفع الإثم، وهذا لا يقتضي الطلب.

طالب: "وما أشبه ذلك، مع أنا لو فرضنا أخذ الناس له كأخذ المندوب بحيث يسعهم جميعًا الترك لأثموا".

نعم؛ لأن هذه حقيقة الواجب على الكفاية، الواجب الكفائي لا بد أن يقوم به من يكفي، فإذا تركه الناس كلهم أثموا، وإذا قام به من يكفي سقط الإثم عن الجميع، وبقي في حق الباقين سنة، يعني لو ترك الناس الصنائع والحرف، لو أجمع الناس على ترك الزراعة، لو أجمع الناس على ترك التكسب والارتزاق بالتجارة، أثموا؛ لأن المصالح الدينية لا تقوم، والضرورات لا تقوم إلا بهذه الأمور، فيأثمون باعتبار الضرر اللاحق بهم وبغيرهم من هذه الحيثية، ولذا قرر أهل العلم أنها من فروض الكفايات.

طالب: "لأن العالَم لا يقوم إلا بالتدبير والاكتساب، فهذا من الشارع كالحَوالة على ما في الجبلة من الداعي الباعث على الاكتساب، حتى إذا لم يكن فيه حظ أو جهة نازع طبعي أوجبه الشرع عينًا أو كفاية، كما لو فُرض هذا في نفقة الزوجات والأقارب، وما أشبه ذلك.
فالحاصل أن هذا الضرب قسمان: قسم يكون القيام..."
.

يعني لو كان النازع الطبعي معارض، فالإنسان ينفق على زوجته، يجب عليه أن ينفق على زوجته، ويجب عليه أن ينفق على ولده. لكن لو نظرنا إلى النصوص في هذا، وجدناها ليست بكثيرة، ليست بكثيرة، موكولة إلى النازع الطبعي الجبلي. هذا في أوساط الناس وخيار الناس، لكن لو نُوزع هذا النازع الجبلي الطبعي بغريزة البخل مثلاً، أو بصفة الشح، لشُدد في هذا المجال، ولأُثم من قصر في نفقة زوجته وأولاده.

فالأصل أن يُترك مثل هذا حتى يوجد ما ينازع ويعارض النازع الطبعي الجبلي. يعني هند امرأة أبي سفيان لما جاءت تشتكي إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- أبا سفيان، وأنه رجل شحيح، الأصل أن أموال الناس محترمة ومعصومة، ولا يجوز التعدي عليها، ولا الأخذ منها إلا بطيب نفس من صاحبها، لكن الرسول -عليه الصلاة والسلام- قال لها: «خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف»، يعني ولو لم يعلم، ولو لم تطب نفسه بذلك، لماذا؟ لأن النازع الطبعي الجبلي المقتضي للنفقة على الأولاد والزوجة معارض بنازع آخر، وهو الشح.

نعم؟

طالب: .....

إذا كانت تحت زوج غني لا ينفق، أو تحت فقير؟

طالب: فقير يا شيخ.

تحت فقير ما فيها إشكال، تحل الصدقة. من الزوج نفسه؟

طالب: ......

لا لا، أيضًا، لا النفقة واجبة عليه.

طالب: ......

وزوجها محتاج؟

طالب: نعم.

على كل حال حديث امرأة ابن مسعود أن النبي -عليه الصلاة والسلام- أمرها أن تعطيه من صدقتها؛ هذا فيه دليل، لكن عامة أهل العلم لا يرون النفقة على الزوجين من قبل أحدهما إلا من باب التصدق لا الزكاة.

طالب: "فالحاصل أن هذا الضرب قسمان: قسم يكون القيام بالمصالح فيه بغير واسطة، كقيامه بمصالح نفسه مباشرةً. وقسم يكون القيام بالمصالح فيه بواسطة الحظ في الغير، كالقيام بوظائف الزوجات والأولاد، والاكتساب بما للغير فيه مصلحة، كالإجارات، والكراء، والتجارة، وسائر وجوه الصنائع والاكتسابات، فالجميع يطلب الإنسان بها حظه فيقوم بذلك حظ الغير، خدمةً دائرةً بين الخلق، كخدمة بعض أعضاء الإنسان بعضًا حتى تحصل المصلحة للجميع".

يعني الأصل أن الإنسان ينظر في حظه هو، وقد لا ينظر في حظ غيره، فالذي استغنى عن سلعة من السلع، كالسيارة مثلاً أو البيت، وعرضها للبيع، ما الذي ينظر إليه أولاً وآخرًا؟ هل ينظر لأمر أنه قد يأتي من يحتاج هذه السيارة فيشتريها، أو من يحتاج هذا البيت فيشتريه، فيكون نظره الأول لغيره؟ أو ينظر إلى قيمة هذه السيارة أو قيمة هذا البيت نظرًا لحظ نفسه؟ يعني الإنسان حينما يستغني عن سلعة، لا يدور في باله وخلده أنه قد يأتي مسلم يستفيد من هذه الآلة أو من هذا البيت أو من هذه السيارة، إنما نظره أولاً وآخرًا منصب إلى مصلحته، وهو أنه يبيعها بقيمة ليستفيد من هذه القيمة. لكن أمور الحياة رتبها الله -جل وعلا- على هذا الاعتبار وهذا الأساس، كقيام وظائف الجسم بعضها ببعض.

طالب: "ويتأكد الطلب فيما فيه حظ الغير على طلب حظ النفس المباشر، وهذه حكمة بالغة، ولما كان النظر هكذا، وكانت جهة الداعي كالمتروكة إلى ما يقتضيه، وكان ما يناقض الداعي ليس له خادم، بل هو على الضد من ذلك أكدت جهة الكف هنا بالزجر والتأديب في الدنيا، والإيعاد بالنار في الآخرة، كالنهي عن قتل النفس والزنا، والخمر، وأكل الربا، وأكل أموال اليتامى وغيرهم من الناس بالباطل والسرقة، وأشباه ذلك، فإن الطبع النازع إلى طلب مصلحة الإنسان ودرء مفسدته يستدعي الدخول في هذه الأشياء".

يقول: هذه المعاصي وهذه الجرائم قد يُخيل للإنسان أن مقارفتها من مصلحته، أو أن تركها ليس من مصلحته العاجلة المقصودة، وحرمانه منها قد تسول له نفسه أنه حرمان مما ينفعه في دنياه؛ ولذلك أُكدت عليها الأوامر والزواجر ورتبت عليها الحدود ووُعد عليها وأُوعد عليها في الآخرة عل الناس أن يزدجروا ويرتدعوا.

طالب: "وعلى هذا الحد جرى الرسم الشرعي في قسم الكفاية من الضرب الثاني أو أكثر أنواعه، فإن عز السلطان، وشرف الولايات، ونخوة الرياسة، وتعظيم المأمورين للآمر؛ مما جُبل الإنسان على حبه، فكان الأمر بها جاريًا مجرى الندب لا الإيجاب، بل جاء ذلك مقيدًا بالشروط المتوقع خلافها، وأُكد النظر في مخالفة الداعي، فجاء كثير من الآيات والأحاديث في النهي عما تنزع إليه النفس فيها، كقوله تعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26]، إلى آخرها".

قد يقول قائل وهو يسمع هذا الكلام: إن نصب الولاية والوالي والإمام والقاضي، هذه مرغوب عنها في الشرع، فلا داعٍ لوجودها، وجودها فرض من فرائض الدين، ولا تقوم المصالح إلا بها، يعني نصب خليفة لا بد منه، من فرائض الدين، إمام يؤم الناس في الصلاة لا بد منه، قاضٍ يفصل بين الناس في منازعاتهم لا بد منه؛ هذا بالنسبة للعموم.

يبقى النظر في الأفراد في فلان وعلان، من توافرت فيه الشروط قد يتعين عليه هذا الأمر ويجب قبوله، إذا وُجد أكثر من واحد تتساوى فيهم هذه الصفات يكون من فروض الكفايات، إذا قام بها أحدهم كفى. طلبها من قِبل من لا يُخشى، من لا يُؤمن معه السلامة منها لا يجوز، من يُخشى منه ألا يحقق الهدف الشرعي من شرعية هذا الأمر لا يجوز بحال. ولذلك يأتي شخص يُطلب منه أن يكون قاضيًا أو واليًا أو أميرًا على جهة من الجهات، فيطلب النصيحة، فإذا طلب نصيحة من شخص ما، فعليه أن ينصح له وأن ينصح لعامة الناس، فإذا كانت الشروط تتوافر فيه نصحه بأن يقبل، بغض النظر عن مصلحته الخاصة. يعني لو قيل للشخص نفسه الناصح هذا، تقول: لماذا لا ُتولى القضاء أنت؟ قال: واللهِ ما أتولى القضاء. لكن لو يأتي دونه في المنزلة، ويرى فيه الأهلية والكفاءة، نصحه بأن يقبل هذه الوظيفة؛ إيثارًا للمصلحة العامة على المصلحة الخاصة.

كثيرًا ما يحصل، يأتي طالب العلم المؤهل الذي يُظن فيه أنه يحقق الهدف من هذا المنصب الموكول إليه، يُؤكَّد عليه، بل قد يقال له: إنك تأثم إذا لم تقبل؛ إيثارًا للمصلحة العامة، وإن تضرر هو بنفسه؛ لأنه إذا تعارضت المصالح العامة مع مصالح خاصة قُدمت العامة. أما إذا وُجد من يقوم به بهذا العمل غيره، فقيل له: السلامة لا يعدلها شيء، كما كان يفعله كثير من السلف.

طالب: "وفي الحديث: «لا تطلب الإمارة؛ فإنك إن طلبتها باستشراف نفس وُكلت إليها»، أو كما قال. وجاء النهي عن غلول الأمراء، وعن عدم النصح في الإمارة، لما كان هذا كله على خلاف الداعي من النفس، ولم يكن هذا كله دليلاً على عدم الوجوب في الأصل".

يعني وجود غلول الأمراء مثلاً، هل نقول: تُلغى الإمارة؛ لأن في هذه المعصية؟ يقول: "وجاء النهي غلول الأمراء"، يعني: هدايا العمال غلول، و"عدم النصح في الإمارة" مما يحدث من الأمراء من قديم الزمان إلى آخره، أنه يؤثِر مثلاً القريب، ويؤثر العزيز لديه بمنصب قد يكون النصح خلاف ذلك، يعني يُولَّى غيره. وهذا حصل من الصدر الأول، يعني من القرن الأول حاصل هذا، وما حصل من الذين نقموا على عثمان -رضي الله عنه- إلا أنه خص بعض بني أمية ببعض الولايات، والأصل أن يُولى غيرهم؛ هذا كلام الناقمين عليه، وظهر فيمن بعده أكثر.

على كل حال عدم النصح في الإمارة وغلول الأمراء التي هي هدايا العمال، لا يعني أن هذا الطلب الشرعي الواجب الذي لا تقوم المصالح إلا به أنه يلغى. يعني إذا وُجد مفسدة مغمورة في بحار مصالح، يُلغى الأمر من أجل هذه المفسدة؟ أبدًا. الدين دين تحصيل مصالح ودرء مفاسد بقدر الإمكان. يعني أي مرفق من المرافق، هل نقول: تلغى المستشفيات لما فيها من المنكرات والناس في أمس الحاجة إليها؟ نقول: لا تُلغى، لكن يحاول بقدر الإمكان تخفيف هذه المنكرات. طيب، حصل أخطاء معدودة من رجال مثلاً الحسبة، أو من أئمة المساجد، أو من المؤذنين، أو من معلمي الجامعات مثلاً، هل نقول: تلغى هذه المرافق؛ لوجود هذه الأخطاء؟ أبدًا، تعالج هذه الأخطاء، ويبقى الأمر كما هو، تُحصل المصالح، وتدرأ المفاسد، بقدر الإمكان، ولذلك قال: "وجاء النهي عن غلول الأمراء، وعدم النصح في الإمارة، لما كان هذا كله على خلاف الداعي من النفس، ولم يكن هذا كله دليلاً على عدم الوجوب في الأصل".

 يعني هذا ما يقضي على الحكم الشرعي الأصلي، بل الشريعة كلها دالة على أنها في مصالح الخلق من أوجب الواجبات. هذه الأمور من أوجب الواجبات.

 تصور بلدًا ما فيه والٍ، ما فيه خليفة، ما فيه ولي أمر، ما فيه سلطان، ماذا ستكون الحال؟ لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم، لا بد من ولي يأخذ بزمام الأمور، ويقود الناس، الأصل أن يكون على كتاب الله وسنة رسوله، وعلى هذا تكون البيعة، وقد يُخل بهذا الأصل في بعض المسائل وفي بعض القضايا لنوازع نفسية ونوازع جبلية؛ هذه لا تقضي على المصلحة العامة. لكن مع ذلك يوجه وينصح، يسدى له النصح فيما يحقق المصالح، ولا يترتب عليه مفاسد، وكلام المؤلف ظاهر في هذا.

طالب: "بل الشريعة كلها دالة على أنها في مصالح الخلق من أوجب الواجبات. وأما قسم الأعيان، فلما لم يكن فيه حظ عاجل مقصود، أُكد القصد إلى فعله بالإيجاب، ونفيه بالتحريم، وأُقيمت عليه العقوبات الدنيوية، وأعني بالحظ المقصود ما كان مقصود الشارع بوضعه السبب الباعث عليه، وغير المقصود وهو ما لم يكن مقصودًا للشارع بوضعه السبب، فإنا نعلم أن الشارع شرع الصلاة وغيرها من العبادات لا لنُحمد عليها، ولا لننال بها في الدنيا شرفًا وعزًّا أو شيئًا من حطامها، فإن هذا ضد ما وُضعت له العبادات، بل هي خالصة لله رب العالمين، {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر: 3]".

يعني أصل العبادة ما شُرع إلا لله -جل وعلا-: {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر: 3]، لكن قد يعتري مثلاً إمامًا من الأئمة لا أصل الصلاة، الصلاة سيصلي سيصلي سواء كان إمامًا أو مأمومًا أو صوته جميل أو صوته أقل، هو يصلي، أصل الصلاة مقصود، المقصود من الصلاة حاصل. لكن قد يدخل عليه الشيطان من أبواب أخرى: من باب حسن الصوت أو ضبطه للحفظ أو ما أشبه ذلك؛ هذا لا شك أنه فيه خلل في صلاته خلل، لكن لا يقضي على أصل الأمر المطلوب الذي هو الصلاة. وعلى هذا قد يوجد، وقد وُجد خطيب من الخطباء أثر في الناس، ونفع به في قطاع كبير، ورجع كثير من العصاة، وانتبه كثير من الغافلين، ثم بعد ذلك داخل نفسه شيء من الرياء؛ لكثرة ما يسمع من المدح، ولتأثيره في الناس، والشيطان من أعظم مداخله إلى القلوب من هذه الأبواب. هل الأفضل أن يترك العمل، أو يستمر ويجاهد؟

طالب: يستمر ويجاهد.

الترك ليس بعلاج، بل عليه أن يستمر في النصح والتوجيه والنفع، لكن عليه أن يجاهد. وكذلك الإمام صاحب الصوت الحسن، وكذلك المعلم الذي له أتباع وحضور؛ لأن بعض الناس يقول: واللهِ خلاص أنا خشية الافتتان أترك. نقول: يا أخي، الترك ليس بعلاج، العلاج في أن تستمر وتحسس هذه النية، وتتفقدها، وتحرص على إصلاحها بقدر الإمكان، وهذه شكوى من كثير من الطلاب، طلاب العلم في الدراسات النظامية، يقول: دخلت في كلية شرعية وأمامي مغريات، أمامي شهادة، وأمامي أسرة، وأمامي متطلبات حياة، وأمامي كذا وكذا، لا بد من ملاحظتها. وكل هذا قادح خادش في القصد الأصلي الذي هو طلب العلم لله -جل وعلا-، هذا قادح. يقول: أترك أم ما أترك؟

نقول: الترك ليس بعلاج، اجتهد، واحرص على تصحيح النية، وتابع الطلب. ويؤثَر عن بعض السلف أنه قال: طلبنا العلم لغير الله فما زال بنا حتى صار لله -جل وعلا-. يعني الإنسان في مبدأ أمره في شبابه في بناء شخصيته وتكوينها قد يتأثر بالمدح، لكن إذا تكاملت شخصيته، وتم بناؤه قد لا يؤثر فيه المدح، يعني في بداية الطلب قد تكون النية مدخولة، ليقال أو ليُرى أو ليمدح أو كذا، لكن بعد ذلك كما قالوا: فما زال بنا حتى صار العلم لله وحده. لكن هل معنى هذا أننا نسترسل في هذا، ولا نجاهد؛ رجاء أن تنقلب النية لله؟ لا، لا بد من المجاهدة.

طالب: "وهكذا شُرعت أعمال الكفاية لا لينال بها عز السلطان، ونخوة الولاية، وشرف الأمر والنهي".

لأن هذا الشرف من أضر الأمور على الإنسان، وفيه حديث عند الترمذي وغيره: «ما ذئبان جائعان أرسلا في زريبة غنم بأضر لها من حب المال -أو حب الشرف والمال- لدين الرجل»، هذه قاتلة، هذه مقاتل بالنسبة للدين: حب المال، تجد كثيرًا من الناس يبيع دينه بعرض من الدنيا، «يبيع دينه بعرض من الدينا»، جاء بذلك الحديث الصحيح في مسلم وغيره: «تكون فتن كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا، ويمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا، يبيع دينه بعرض من الدنيا»، وجاء في بعض الروايات: «بعرض يسير»، وقد يقول قائل: هذا ما باعه بعرض يسير، هذه ملايين وقصور وما أدري كم. نعم، إذا كان بعرض يسير ما يساوي أن الإنسان يبيع دينه، لكن إذا كان العرض كبيرًا، هل هذا مبرر لهذا؟ لا، لا، الدنيا كلها لا شيء، لا شيء الدنيا، كلها لا شيء بالنسبة للآخرة، متاع الدنيا كله قليل، و«ركعتا الصبح خير من الدنيا وما فيها»، و«الدنيا لا تزن عند الله جناح بعوضة»، فلو حيزت الدنيا كلها بحذافيرها، في مقابل أن يبيع شيئًا يسيرًا من دينه، لا تقوم له الدنيا بأسرها.

طالب: بعض الإخوة......

نعم، هذه مسألة، أولاً إن مسألة طلب يوسف -عليه السلام- هي في شرع من قبلنا، وهذا من الأجوبة على طلبه.

الأمر الثاني: أنه إذا كان الإنسان تتوافر فيه الصفات، ويأنس من نفسه أنه لا يتغير بعد ذلك؛ لأن المناصب تُغير، وأن لديه من صدق التعامل مع الله -جل وعلا- ما يعينه على الثبات، هذا يمكن أن يطلب، لا سيما إذا لم يكن في الباب غيره، يعني ما يوجد في المجال من يحسن هذا العمل إلا هو. ويبقى أن الإنسان عليه أول ما ينظر إلى مصلحة نفسه قبل مصلحة غيره، ولذا نجد بعض القضايا المطروحة الآن من باب المزاحمة، تجد الإنسان يُعرض عليه عمل فيه شيء من الخلل، قد يزاول فيه بعض المنكرات، يَضطره هذا العمل إلى مزاولة بعض المنكرات، هل نقول: إنك تدخل في هذا العمل؛ لتزاحم الأشرار، ولو لم تكن فيه أنت أيها الرجل الخير الصالح، لشغله شخص يمكن أن يستغله فيما هو أعظم من ذلك. يعني مسألة باب المزاحمة؟

 يعني شيخ الإسلام يقول: للإنسان أن يدخل في الأمر المحرم؛ لتخفيفه، يعني مثل الضرائب والمكوس محرمة، لكن لو أن الإنسان دخل بنية التخفيف، قال: الأصل أن يؤخذ من الناس نسبة مائة بالمائة، وأنا أحاول أن أخففها إلى عشرة بالمائة. هذه العشرة بالمائة محرمة، لكنها أخف من مائة بالمائة. بعض الناس يلحظ هذا ويقول له: ادخل وزاحم. الشيخ محمد رشيد رضا في فتاويه، جاءه فتوى من علماء الهند تحت الولاية البريطانية، علماء الهند قالوا: إن الولاية طلبت قضاة مسلمين، وهم يلزمون بالقانون الإنجليزي، فقالوا: إن دخلنا خف الشر، أفضل من أن يتولاه غيرنا، وإن لم ندخل سلمنا بأنفسنا، ويمكن أن يتولى شخص يسوم الناس سوء العذاب، ويزيد الطين بلة. هذا القانون وضعي ثم بعد ذلك يطبق على غير وجهه ويظلم الناس، فنريد أن نخفف، سألوا الشيخ محمد رشيد رضا فوجههم إلى القبول، قال: اقبلوا ولو كانت الولاية كافرة بريطانية، ولو كان القانون وضعيًّا، لكن بقدر الإمكان أصلحوا.

لكن الذي أعتقده وأدين الله به: أن الإنسان لا يدخل أي مدخل فيه عليه خلل أو يسأل عنه يوم القيامة؛ لأن هذه مزلة أقدام، أن تدخل بنية الإصلاح، ثم بعد ذلك ترى نفسك متورطًا بأمور لا تستطيعها، وقد تُعاقب، إذا تجاوزت أمورًا، ولو كانت يسيرة تُعاقب بأمور عظيمة.  

يعني مثل ما مثلنا سابقًا أن الإنسان قد يدخل من باب تخفيف الشرع، ودفع أمور أعظم مما وقع فيه، هو داخل على بينة أنه سوف يرتكب محرمًا، لكنه يسير بالنسبة للمحرمات المظنونة التي وراء هذا المحرم، فإن قبل ارتكب هذا المحرم المتيقن، لكنه يسير بالنسبة للمحرمات الكبيرة، لكنها مظنونة. وذكرت مرارًا أنه يمكن أن يستدل بقصة موسى مع الخضر: القتل الذي حصل للغلام محقق، ومع ذلك وُصف بكونه {نُكْرًا} [الكهف: 74]، وخرق السفينة وغرق أهلها مجموعة، هذا واحد، وسمي {نُكْرًا} [الكهف: 74]، ومجموعة، لكنها مظنون موتهم بخرق السفينة قيل: {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} [الكهف: 71]، وأهل العلم يختلفون أيهما أشد الإمر أو النكر؟ لكن الحديث الصحيح قالوا: هذه أشد، يعني قتل الغلام المتحقق، مع أنه هناك أمر مظنون وهو غرق جميع من في السفينة، وغرقهم أشد من قتل الواحد. فعلينا أن نتقي المحرمات وإن كانت يسيرة، لا نجرؤ على ارتكابها بناء على أن وراءها أمور أعظم منها؛ لأن الأمر المحقق لا يقابله أمر مظنون، وقد تعاقب بالمظنون؛ لأنك ارتكبت المحقق.

وعلى كل حال مثل هذه الأمور وقضايا تحدث لها نظائر، يعني يمكن أن تُدرس في وقتها من قِبل أهل العلم الذين لديهم خبرة واطلاع على الواقع، مقدار هذا الظن المترقب؛ لأن الظن يتفاوت، يعني قد يصل إلى نسبة تسعة وتسعين بالمائة هذا الظن، وحينئذ إذا كان كبيرًا أكبر بكثير من الظن المتيقن فلا مانع من درئه ودفعه، لكن هذه الأمور متفاوتة، ونسب الظن تتفاوت.

طالب: .......

أمر إلهي، لكن في الأصل قبل أن يقول هذا الكلام بمَ أجاب؟ بمَ قال له موسى وهو نبي رسول يوحى إليه؟

طالب: .......

هذا وحي بالنسبة للخضر، لكن بالنسبة لاجتهاد موسى وهو من أولي العزم هذا نكر وهذا إمر، أنت افترض أنه مع شخص آخر، ركب شخص ما أُمر بهذا الأمر، فقتل غلام؛ لأنه يتوقع أنه يحصل منه ما يصدر، أو بنى ذلك على رؤيا مثلاً أو رؤى قالت: إن هذا الغلام مفسد، لا بد من القضاء عليه. يقال: ليس هناك وحي انتهينا منه. لكن لو حصل مثل هذا، أو قلنا في سفينة مجموعة ألف شخص، السفينة حمولتها أقل بقليل، يعني الحمولة المقررة أقل مما على ظهرها، فأرادوا أن يجعلوا الحمولة موافقة لما صُممت عليه، فأرادوا أن يلقوا بعض الأشخاص في البحر؛ لئلا يغرق البقية. الآن إلقاء هؤلاء الأشخاص معصية محققة، وغرق الباقين معصية مظنونة؛ لأنه قد يقرر لهذه السفينة أو لهذه الباخرة حمولة مثلاً مائة طن مثلاً، وتحمل مائة وعشرة، ما المانع من باب الاحتياط؟ ونحن نقول: ما دامت مائة لا بد أن تكون مائة، هذا هو الأصل، ويخفف منها لتكون حمولتها مطابقة للواقع؛ لئلا يتضرر جميع من فيها، هل نلقي بعض الأشخاص كما حصل ليونس -عليه السلام-؟

يعني لو زادت عندنا، ما نقول باخرة، يعني تحتمل الزيادة قليلاً، خلوها مثلاً لنش حمولته عشرة ركاب، ركب أحد عشر، فصار يموج بهم وخطر يموتون كلهم، وقال ربان اللنش: لازم أن نرمي واحدًا، ساهموا وخرجت على واحد ومات هذا الذي ألقوه، ونجا الباقي. هل هذا عمل شرعي مثل ما حصل ليونس؟ لا بد من نظر المصالح العامة والخاصة، والمصلحة العامة مقدمة على الخاصة، هذا في الخاصة. لكن لا بد أن تكون المصلحة العامة محققة كما أن المصلحة الخاصة محققة.

طالب: "وهكذا شُرعت أعمال الكفاية لا لِيُنالَ بها عز السلطان ونخوة الولاية وشرف الأمر والنهي، وإن كان قد يحصل ذلك بالتبع، فإن عز المتقي لله في الدنيا وشرفه على غيره لا ينكر، وكذلك ظهور العزة في الولايات موجود معلوم ثابت شرعًا من حيث يأتي تبعًا للعمل المكلف به، وهكذا القيام بمصالح الولاة من حيثُ لا يقدح في عدالتهم حسبما حده الشارع غير منكر ولا ممنوع، بل هو مطلوب ومتأكد، فكما يجب على الوالي القيام بمصالح العامة، فعلى العامة القيام بوظائفه من بيوت أموالهم إن احتاج إلى ذلك، وقد قال تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ} [طه: 132]، وقال: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2، 3]، وفي الحديث: «من طلب العلم تكفل الله برزقه»".

وهذا الحديث الذي أورده المؤلف ضعيف كما هو معلوم.

طالب: "إلى غير ذلك مما يدل على أن قيام المكلف بحقوق الله سبب لإنجاز ما عند الله من الرزق".
يعني مما يلحق بما مضى ما يسأل عنه كثيرًا، وهو الالتحاق بالبرلمانات في البلدان التي تحكم بغير ما أنزل الله، كثير من الأخيار في هذه البلدان يقولون: ندخل في البرلمان ونؤثر في القرارات، ونزاحم الأشرار، أفضل من أن تُترك لهم المجالات كلها. وهذا ما فيه شك أنه يُوجِد عند المجتهد تردد
ًا، ومن أهل العلم من يفتيه بالدخول، ويزاحم هؤلاء الأشرار، ويقلل الشر بقدر الإمكان، ويسعى في نشر الخير ورفع الظلم عن المظلومين، وإقرار والحفاظ على أمور المسلمين بقدر ما يستطيع. ومنهم من يقول: الأصل أن تطلب نجاتك قبل نجاة غيرك، وأهم ما على الإنسان أن ينجو بنفسه، ثم بعد ذلك يبحث عن نجاة غيره، والدخول في هذه الأماكن لا شك أنه يُعرض الإنسان لشيء من الخلل من التنازل، تجد هذه البرلمانات مختلطة، تجد فيها أمورًا تُعرض مخالفة مصادمة للشرع. فعلى الإنسان أن يسعى في خلاص نفسه قبل أن يسعى في خلاص غيره.

طالب: "فصل: فقد تحصل من هذا أن ما ليس فيه للمكلف حظ بالقصد الأول يحصل له فيه حظه بالقصد الثاني من الشارع، وما فيه للمكلف حظ بالقصد الأول يحصل فيه العمل المبرأ من الحظ. وبيان ذلك في الأول ما ثبت في الشريعة أولاً من حظ نفسه وماله، وما وراء ذلك من احترام أهل التقوى والفضل والعدالة، وجعلهم عمدةً في الشريعة في الولايات والشهادات وإقامة المعالم الدينية وغير ذلك، زائدًا إلى ما جُعل لهم من حب الله وحب أهل السماوات لهم، ووضع القبول لهم في الأرض، حتى يحبهم الناس ويكرموهم ويقدموهم على أنفسهم، وما يُخَصُّون به من انشراح الصدور، وتنوير القلوب، وإجابة الدعوات، والإتحاف بأنواع الكرامات، وأعظم من ذلك ما في الحديث مسندًا إلى رب العزة: «من آذى لي وليًّا فقد بارزني بالمحاربة»".

يعني النوع الأول الذي فيه المصلحة مقصودة، المصلحة للمكلف مقصودة مثل ما نفعه ظاهر في دنياه من أكل وشرب ونكاح وبيع وشراء وغير ذلك، والثاني مصلحته غير مقصودة. إذا اعتنى الإنسان بالمصالح المقصودة وما يقيم حياته، تجد ميزانه عند الناس بقدر إحسانه إليهم، إن أحسن إليهم أحبوه وعظموه وبجَّلوه، وإلا وجوده مثل عدمه. لكن من نظر إلى الضرب الثاني وما كانت مصلحته غير مقصودة، فاتجه إلى الله -جل وعلا- وعمل بأوامره واجتنب نواهيه؛ هذه غير مقصودة في أمور الدنيا التي تقيم وتحافظ على بقاء النوع، يعني مثل ما شرح هو من فروض الأعيان وفروض الكفايات. لكن إذا غفل عن المصلحة المقصودة إلى المصلحة غير المقصودة حصل له أمور مما أشار إليه: "وبيان ذلك في الأول ما ثبت في الشريعة أولاً من حفظ نفسه وماله، وما وراء ذلك من احترام أهل التقوى والفضل والعدالة"، تجد هناك مصالح، أولاً من التجأ إلى الله وائتمر بأوامره واتقى الله -جل وعلا- أحبه الله، وأحبه أهل السماوات، وأحبه أهل الأرض، ونشر ذكره في الأرض، فأحبه الناس وقدموه وعظموه. لكن يبقى أنه إن كان قصده من عمله حب الناس وحب الظهور والشرف عليهم، فهذا لا شك أنه ضرر محض بالنسبة له، ويكون عمله وبالًا عليه، وفي ذلك حديث الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار: المتصدق والمجاهد والعالِم، كلهم ليقال، هؤلاء أول من تسعر بهم النار.

لكن من عمل هذه الأمور مخلصًا لله -جل وعلا-، فإن الله -جل وعلا- يقذف في قلوب العباد محبته، سواء كانوا من أهل الأرض أو من أهل السماء، ويوضع له القبول حتى يحبه الناس ويكرموه ويقدموه على أنفسهم، ولو استطاعوا أن يفدوه في المضايق لفدوه، وهذا ينطبق عليه حديث: «من آذى»، وفي رواية: «من عادى لي وليًّا فقد بارزني بالمحاربة». فليحذر الذين يقعون في أعراض أهل العلم ويكتبون عنهم في المنتديات ويلوكونهم بألسنتهم في المجالس، لا سيما من عُرف بالعلم والعمل على الجادة المعروفة عند سلف هذه الأمة وأئمتها، والكلام فيهم الآن كثير، ووجود المواقع والإنترنت والساحات وما أدري أيش، هذه مشكلة؛ لأنه كل يوم يطلع لنا كتابة تقدح في عالم من أهل العلم، ثم بعد ذلك يجاهر بذلك في القنوات ويذم فلان وعلان، وهم أحسبهم والله حسيبهم من أهل العلم والفضل، والرسول -عليه الصلاة والسلام- في الحديث القدسي يقول على لسان ربه -جل وعلا-: «من آذى»، وفي رواية: «من عادى لي وليًّا فقد بارزني بالمحاربة»، والله المستعان.

طالب: "وأيضًا، فإذا كان من هذا وصفه قائمًا بوظيفة عامة لا يتفرغ بسببها لأموره الخاصة به في القيام بمصالحه ونيل حظوظه، وجب على العامة أن يقوموا له بذلك".

نعم، هذا، ولي الأمر مثلاً انشغل عن الكسب، فواجب على عامة الناس أن يؤمنوا له ما يكفيه، ويتمثل ذلك في بيت المال إذا وُجد، وقد كان أبو بكر -رضي الله عنه- في عهد النبي -عليه الصلاة والسلام- يتكسب، وليس له فرض من بيت المال، لكن لما تفرغ للخلافة فُرض له ما فُرض من بيت المال، وهكذا الخلفاء من بعده، وهكذا من يتولى ولاية تمنعه من التكسب له ولعياله.

طالب: "وجب على العامة أن يقوموا له بذلك، ويتكلفوا له بما يُفرغ باله للنظر في مصالحهم، من بيوت أموالهم المرصدة لمصالحهم، إلى ما أشبه ذلك مما هو راجع إلى نيل حظه على الخصوص، فأنت تراه لا يعرى عن نيل حظوظه الدنيوية في طريق تجرده عن حظوظه، وما له في الآخرة من النعيم أعظم. وأما الثاني: فإن اكتساب الإنسان لضرورياته...".

نعم.

طالب: لو قام رجل......

على كلام المؤلف ومن يرى ذلك، أنه إذا لم يكن هناك بيت مال مثلاً، فله أن يفرض على كل شخص أو على عموم الناس أو على تجارهم أو على...، وعلى الوالي أيضًا أن يؤمن ذلك ولو من أموال الناس، على رأي المؤلف، وهو يختار مثل هذا القول. وبعضهم يقول: لا، الأمور العامة إنما يصرف فيها من بيت المال، ثم بعد ذلك تبقى المسألة للتبرع بدون فرض، يقال: إنني بحاجة إلى كذا، من غير فرض على الناس.

طالب: "وأما الثاني: فإن اكتساب الإنسان لضرورياته في ضمن قصده إلى المباحات التي يتنعم بها ظاهر، فإنَّ أَكْلَ المستلذات، ولباس اللينات، وركوب الفارهات، ونكاح الجميلات قد تضمن سد الخلات والقيام بضرورة الحياة، وقد مر أن إقامة الحياة من حيث هي ضروري لا حظ فيه. وأيضًا، فإن في اكتسابه بالتجارات وأنواع البِيَاعات والإجارات وغير ذلك مما هو معاملة بين الخلق قيامًا بمصالح الغير، وإن كان في طريق الحظ، فليس فيه من حيث هو حظ له يعود عليه منه غرض إلا من جهة ما هو طريق إلى حظه، وكونه طريقًا ووسيلةً غير كونه مقصودًا في نفسه، وهكذا نفقته على أولاده وزوجته وسائر من يتعلق به شرعًا من حيوان عاقل وغير عاقل".

مثال العاقل المماليك من الذكور والإناث، العبيد والإمام. وغير العاقل من البهائم.

طالب: "وسائر ما يُتوسل به إلى الحظ المطلوب، والله أعلم. فصل: وإذا نظرنا إلى العموم والخصوص في اعتبار حظوظ المكلف".

قد يقول قائل: إنه يتعلق به واجبات خارجة عن حاجته هو وولده ومتعلقاته من حيوان عاقل وغير عاقل، قد يكون، قد يجب عليه ما يتعلق بغير عاقل من الجمادات. لكن لا يجب عليه لذاته إلا لبقاء ما أُمر بحفظه من مال، لا يقول شخص مثلاً: أنا والله مستعد أني أغير الزيت الخمسة آلاف، العشرة آلاف أو عشرين، ما هو مشكلة إن انتهكه، وبدلاً من أن تكون حمولة هذه السيارة خمسة أطنان أحملها عشرة، هي لا تتأمل، لا يجوز أن تكلف الدابة ما لا تطيق، لكن السيارة حديد، لي أن أكلفها ما لا تطيق. نقول: منعه من جهة أنه إتلاف للمال، لا لأنها نفس رطبة تجب مراعاتها.

طالب: "وإذا نظرنا إلى العموم والخصوص في اعتبار حظوظ المكلف بالنسبة إلى قسم الكفاية، وجدنا الأعمال ثلاثة أقسام: قسم لم يعتبر فيه حظ المكلف بالقصد الأول على حال، وذلك الولايات العامة والمناصب العامة للمصالح العامة. وقسم اعتُبر فيه ذلك، وهو كل عمل كان فيه مصلحة الغير في طريق مصلحة الإنسان في نفسه، كالصناعات والحرف العادية كلها، وهذا القسم في الحقيقة راجع إلى مصلحة الإنسان واستجلاب حظه في خاصة نفسه، وإنما كان استجلاب المصلحة العامة فيه بالعرض".

نعم، من أنشأ مصنعًا أو زرع أرضًا، هل الباعث له مصلحة الغير أو مصلحة النفس؟

طالب: مصلحة النفس.

المحقق المقرر أنه مصلحة نفسه، لكن إن استصحب مصلحة الغير مع مصلحته أُجر على ذلك، وإن لم يستصحب ذلك فإنه لا يأثم بذلك.

طالب: "وقسم يتوسط بينهما، فيتجاذبه قصد الحظ ولحظ الأمر الذي لا حظ فيه، وهذا ظاهر في الأمور التي لم تتمحض في العموم وليست خاصةً، ويدخل تحت هذا ولاية أموال الأيتام والأحباس والصدقات والأذان، وما أشبه ذلك، فإنها من حيث العموم يصح فيها التجرد من الحظ، ومن حيث الخصوص وأنها كسائر الصنائع الخاصة بالإنسان في الاكتساب يدخلها الحظ، ولا تناقض في هذا، فإن جهة الأمر بلا حظ غير وجه الحظ؛ فيؤمر انتدابًا أن يقوم به لا لحظ، ثم يُبذل له الحظ في موطن ضرورة أو غير ضرورة، حين لا يكون ثَم قائم بالانتداب، وأصل ذلك في والي مال اليتيم قوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6]. وانظر ما قاله العلماء في أجرة القسام والناظر في الأحباس والصدقات الجارية، وتعليم العلوم على تنوعها، ففي ذلك ما يوضح هذا القسم".

نعم، إن وُجد من يقوم بهذه الأمور بغير أجرة لم يُعدل إلى من طلبها بأجرة. لكن إذا لم يوجد من يتولى مال اليتيم إلا بأجرة، فإنه لا مانع من أخذه الأجرة ودفع الأجرة إليه وملاحظة لحظ نفسه، لكن الأصل أن يُنظر فيها إلى حظ الغير.

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

* * *

جاء فيه كلام بعض الإخوان يقول: قلتم: وقد قال النبي -عليه الصلاة والسلام- في الحديث القدسي على لسان ربه، فهل لله سبحانه...؟

هذه سبقة لسان؛ لأنه حديث قدسي، يعني تكلم الله به، وتجوز روايته بالمعنى، وهو من لفظ النبي -عليه الصلاة والسلام-، وحكمه من هذه الحيثية حكم الحديث النبوي: لا يُتعبد بتلاوته ولا يُطلب لفظه كما يُطلب لفظ القرآن، وإنما يُروى بالمعنى كما هو واقع الأحاديث القدسية، وبإضافته إلى الرب -جل وعلا- قيل له حديث إلهي أو حديث رباني أو حديث قدسي.

 

اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

"