التعليق على الموافقات (1432) - 02
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
نعم.
طالب: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعدُ،
فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى- إتمامًا للمسألة السابعة: "فصل: فإذا ثبت هذا وعمل العامل على مقتضى المفهوم من علة الأمر والنهي، فهو جارٍ على السَّنن القويم، موافق لقصد الشارع في ورده وصدره؛ ولذلك أخذ السلف الصالح أنفسهم بالاجتهاد في العبادة، والتحري في الأخذ بالعزائم، وقهروها تحت مشقات التعبد".
يعني ما نظروا إلى أن المسألة أن الدين مبني على اليسر، إنما أخذوا بالعزائم. نعم، الدين سمته اليسر: «إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه»، لكنه أيضًا دين تكاليف، دين واجبات يأثم تاركها، ودين محرمات يأثم مرتكبها، لا يعني أن «الدين يسر» أن الإنسان يتنصل من الواجبات، ويرتكب محرمات ويقول: «الدين يسر»، و«التقوى هاهنا»! أين التقوى؟ التقوى فعل الأوامر واجتناب النواهي. فمع كون أن «الدين يسر» إذا قورن بالأديان السابقة التي فيها آصار وأغلال وتكاليف شاقة، ديننا- ولله الحمد- يسر، ليس فيه ما يشق أو ما لا يستطيعه المكلف، ولذلك تجدون السلف يأخذون بالعزائم، ويحملون على أنفسهم ما يحتملونه من العبادات، لا يقال: إنهم احتملوا شيئًا لا يطيقونه، أبدًا، تحمل ما لا يطاق مستحيل، لكنهم يحتملون من الدين ما يطيقون، والإنسان إذا عود نفسه، ومرَّنها على العبادة والأخذ بالعزيمة أطاق ذلك: «اكلفوا من العمل ما تطيقون».
ما فيه أحد يقول: إنه لا يطيق مثلاً إحدى عشر ركعة بالليلة وترًا، يقول: هذه كثيرة، يللا ركعة، الدين يسر ركعة تكفي. الرسول -عليه الصلاة والسلام- قام من الليل حتى تفطرت قدماه، يقول: هذا متشدد هذا متعنت هذا متطرف مثل ما يقال الآن؟! فالذي يكتب في الصحف ويقال في الوسائل قريب من هذا، يمكن أن ينطبق كلامه على الرسول -عليه الصلاة والسلام-، نسأل الله العافية. ما معنى أن الدين يسر ويقوم حتى تتفطر قدماه؟ لكن أيضًا الدين دين تكاليف، ودين مسابقة، ودين مسارعة، وليس فيه- ولله الحمد- ما لا يشق على الإنسان بحيث لا يطيقه، هذه كلمة حق يريد بها كثير من الناس الباطل، يتنصلون من التكاليف باسم أن الدين يسر، نعم يسر، ما فيه من الآصار والأغلال التي وجدت في الديانات السابقة، ولله الحمد. لكن فيه أيضًا ما يشق على النفس التي لم تألف العبادة، فالنفس التي لم تألف العبادة يشق عليها الركعة والركعتان، يشق عليها؛ لأن النفس ما ألفت، لكن إذا ألفت وتعدت مرحلة الابتلاء إلى مرحلة التلذذ بالعبادة كما هو شأنه -عليه الصلاة والسلام- يرتاح بالصلاة، وكثير من المسلمين.
الآن يريد أن يرتاح من الصلاة! أحيانًا بلسان المقال، لا بلسان الحال، تجدهم طالعين في رحلة أو شيء، وكل واحد ينظر للثاني إذا دخل الوقت تراهم ينظرون، وواحد يقول: نصلي وواحد يقول ننتظر، يقولون هذا بالحرف، يقولون.
ففرق بين من يقول: أرحنا بالصلاة، وبين من يقول: أرحنا من الصلاة. فالتكاليف ليس فيها عسر، كلها ميسرة. لكن الإشكال أن الجنة حُفت بالمكاره، يعني النفس تكره التكاليف، ولو كانت يسيرة. الآن الواحد في صراع مع نفسه إذا أراد أن ينام هل يوتر بركعة أو يقضيها إذا قام ركعتين من الضحى؟ نزاع، لكن لو طُلب منه أي عمل مما تبغيه نفسه مستعد يحمل الصخور، ولا يقول: هذه مشقة ولا، لماذا؟ لأن فيها دخلًا ماديًّا محسوسًا، لكن أين هذا الدخل من الرصيد المحفوظ عند الله -جل وعلا-، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف. كم يتصور أن يجمع الإنسان قيمة رقبة من ولد إسماعيل؟ كم يبغي من سنة؟ يعني أدركنا الرق قبل إلغائه، والرقيق يباعون على خمسين ألفًا، ستين ألفًا، أيام كانت البيوت بعشرة آلاف، خمسة آلاف، يعني قبل أربعين سنة أو خمسة وأربعين سنة، فكم يحتاج ليجمع قيمة هذا الرقيق؟
«من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، كان كمن أعتق أربعة من ولد إسماعيل»، الأمر يسير ومسهل، بدقيقة واحدة تقال العشر. لكن «حفت الجنة بالمكاره»، تجد كلمة: لا إله إلا الله، أثقل من جبل على كثير من الناس التي ما تعود. رؤي بعض الصالحين في منامه من شيوخنا المعاصرين، فقال: كيف يشبع الناس من لا إله إلا الله، وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له؟ أمور سهلة وميسرة، لكن تحتاج إلى جهاد، وتجد بعض الناس مستعدَّا للقيل والقال باستراحة ومع الأصحاب والإخوان يجلس إلى الفجر، ثم إذا بقي خمس دقائق قال: أوتر بركعة أو ليس هناك من الوقت ما يكفي، والليلة ليلة جمعة ما تخص بقيام، ويترك! صحيح الشيطان يسول ويملي للناس، ويسلبهم أسباب الخير وهم لا يشعرون.
"ولذلك أخذ السلف الصالح أنفسهم بالاجتهاد في العبادة، والتحري في الأخذ بالعزائم، وقهروها تحت مشقات التعبد"، ويكتب من ينتقد سفيان الثوري أو الفضيل بن عياض هؤلاء ماذا؟ هؤلاء يوصفون بالزهد، وما الزهد؟ ما معنى الزهد؟ تعطيل الحياة، هذا الزهد! والله بصحفنا يُكتب هذا. الزهد كيف يُمدح بتعطيل الحياة؟ نقول: هل خُلق للحياة، أو خُلق للآخرة، تحقيق عبودية الله الموصلة إلى جناته ومرضاته، هو ما خلقوا للحياة إلا عند من يقول إن الهدف {وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61] عمارة الأرض على أي وجه كان من حلال أو من حرام، بعض الناس ينادي بهذا، والكتابات طافحة، الروائح منتشرة من هذا النفس.
"ولذا أخذ السلف الصالح أنفسهم بالاجتهاد في العبادة، والتحري في الأخذ بالعزائم، وقهروها تحت مشقات التعبد؛ فإنهم فهموا أن الأوامر والنواهي واردة مقصودة من جهة الآمر والناهي: {لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [يونس: 14]، {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك: 2]". لا بد لطالب العلم أن يضع مثل هذا الكلام نصب عينيه، ما يمر بدون تأمل في غمرات الدعوات في أن الدين يسر، الدين يسر صحيح، الله ما قال لك احمل صخرة زنتها ثلاثمائة كيلو أو مائتا كيلو وأنت ما تستطيع: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286].
طالب: "فإنهم فهموا أن الأوامر والنواهي واردة مقصودة من جهة الآمر والناهي: {لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [يونس: 14]، و{لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك: 2]. لكن لما كان المكلف ضعيفًا في نفسه، ضعيفًا في عزمه ضعيفًا في صبره، عذره ربه الذي علمه كذلك وخلقه عليه".
يعني هذه المشقات والعزائم التي حمل السلف أنفسهم عليها ليست واجبة على الناس كلهم، لكن من أراد المسابقة والمساعدة يرتكب، والذمة تبرأ بما دون ذلك. لكن هل الإنسان يقنع من دنياه بالقوت، أو يطلب المزيد؟ فلماذا لا يطلب المزيد لآخرته؟
طالب: "فجعل له من جهة ضعفه رفقًا يستند إليه في الدخول في الأعمال، وأدخل في قلبه حب الطاعة، وقواه عليها، وكان معه عند صبره على بعض الزعازع المشوشة والخواطر المشغبة، وكان من جملة الرفق به أن جعل له مجالاً في رفع الحرج عن صدماته، وتهيئة له في أول العمل بالتخفيف، استقبالاً بذلك ثقل المداومة، حتى لا يصعب عليه البقاء فيه والاستمرار عليه".
نعم. في أول الأمر، الإنسان في أول الأمر عليه ألا يشق على نفسه، ولا يرتكب العزيمة في أول الأمر، إنما يأخذ بالتدريج حتى يألف العبادة، ويأنس بها، ويركن إليها، ويتلذذ بها؛ لأنه إذا حمل نفسه على العزيمة في أول الأمر أداه ذلك إلى الترك، و«أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل».
طالب: "فإذا دخل العبد حب الخير، وانفتح له يسر المشقة، صار الثقيل عليه خفيفًا، فتوخى مطلق الأمر بالعبادة بقوله: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} [المزمل: 8]، {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]. فكأن المشقة وضدها إضافيان لا حقيقتان".
"إضافيان لا حقيقيان"، الشيء إما إضافي نسبي، وإما حقيقي كلي، يعني مثل ما يقال في الحصر إما أن يكون إضافيًّا وإما أن يكون نسبيًّا حقيقيًّا، إما أن يكون إضافيًّا وإما أن يكون حقيقيًّا. ومثله هذا: المشقة نسبية تختلف من شخص إلى آخر، والنظرة إلى المكلفين بالنسبة إلى التكاليف أيضًا نسبية، فينظر إلى زيد غير ما ينظر إلى عمرو، مع أنهم أمام التشريع واحد، لكن يبقى كما يقرر أهل العلم: حسنات الأبرار سيئات المقربين، فمن كان عنده من العلم يؤاخذ أكثر ممن لا علم عنده، من عُرف عنه الخير والفضل يؤاخذ بالزلة أكثر ممن ليس كذلك.
طالب: "فكأن المشقة وضدها إضافيان لا حقيقيان كما تقدم في مسائل الرخص، فالأمر متوجه، وكل أحد فقيه نفسه، فإذا كان الأمر والنهي المراد بهما الرفق والتوسعة على العبد، اشتركت الرخص معهما في هذا القصد، فكان الأمر والنهي في العزائم مقصودًا أن يُمتثل على الجملة، وفي الرفق راجعًا إلى جهة العبد، إذا اختار مقتضى الرفق فمثل الرخصة، وإذا اختار خلافه فعلى مقتضى العزيمة التي اقتضاها قوله: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} [المزمل: 8]، وأشباهه".
يعني تجد مجموعة يتنفلون في المسجد، تجد واحدًا يتنفل وهو جالس وهو يستطيع القيام، والثاني يتنفل قائمًا، لكنه يقرأ من قصار السور، والثالث يتنفل يصلي ركعتين بأوساط السور، والرابع يطيل. هذا يقول: رخصة، الرخصة، الذي يصلي وهو جالس صلاته صحيحة ومجزئة للأمر؛ فلا يجلس حتى يصلي ركعتين، ومع ذلك ليس أجره كمن حمل نفسه على العزيمة.
طالب: "فصل: وأما الأوامر والنواهي غير الصريحة فضروب؛ أحدها: ما جاء مجيء الإخبار عن تقرير الحكم، كقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183]، {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ} [البقرة: 233]".
هذه ألفاظها ألفاظ أخبار، في اللفظ خبر، لكنها متضمنة لأوامر ملزمة، بالصيام في الأولى، وبرضاعة الولد في الثانية، وهكذا.
طالب: "{وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء: 141]، {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89]".
كلها ألفاظها ألفاظ أخبار والمراد منها الأوامر.
طالب: "وأشباه ذلك مما فيه معنى الأمر، فهذا ظاهر الحكم، وهو جارٍ مجرى الصريح من الأمر والنهي".
بل قال جمع من أهل العلم: إن ما جاء على هذه الصفة يراد به الأمر لفظه لفظ الخبر، والمراد منه الأمر أبلغ في الأمر؛ لأنه كأنه يبين أن هذه حقيقة المسلم، فينبغي أن يُخبر عنه بهذا بدلاً أن يؤمر به، هذه حقيقته وما طُبع وما جُبل عليه هذا، فلا يحتاج مع ذلك إلى أن يؤمر أو ينهى، فيكون أبلغ في الأمر والنهي.
طالب: "والثاني: ما جاء مجيء مدحه أو مدح فاعله في الأوامر، أو ذمه أو ذم فاعله في النواهي، وترتيب الثواب على الفعل في الأوامر، وترتيب العقاب في النواهي، أو الإخبار بمحبة الله في الأوامر، والبغض والكراهية أو عدم الحب في النواهي. وأمثلة هذا الضرب كقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} [الحديد: 19]، وقوله: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} [الأعراف: 81]، وقوله: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ} [النساء: 13]، { {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا} [النساء: 14]، وقوله: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِي} [آل عمران: 134]، وقوله: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام: 141]، {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر: 7]، {وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر: 7]، وما أشبه ذلك. فإن هذه الأشياء دالة على طلب الفعل في المحمود، وطلب الترك في المذموم، من غير إشكال. والثالث: ما يتوقف عليه المطلوب، كالمفروض في مسألة: ما لا يتم الواجب إلا به".
"ما لا يتم الواجب إلا به"، كإمساك جزء من الليل؛ لأنه لا يتم استيعاب النهار إلا بإمساك جزء من الليل، وغسل جزء من الرأس تبعًا لغسل الوجه.
طالب: "وفي مسألة: الأمر بالشيء هل هو نهي عن ضده؟ وكون المباح مأمورًا به، بناءً على قول الكعبي، وما أشبه ذلك من الأوامر والنواهي التي هي لزومية للأعمال لا مقصودة لأنفسها. وقد اختلف الناس فيها وفي اعتبارها، وذلك مذكور في الأصول، ولكن إذا بنينا على اعتبارها فعلى القصد الثاني لا على القصد الأول؛ بل هي أضعف في الاعتبار من الأوامر والنواهي الصريحة التبعية، كقوله: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9]؛ لأن رتبة الصريح ليست كرتبة الضمني في الاعتبار أصلاً".
المؤلف يقرِّر أن ما جاء من الأوامر والنواهي على سبيل الإخبار لا على سبيل الأمر والنهي، يقرر أنه أضعف، كما تقدم تقريره في الدلالات الأصلية والتبعية، وهذا تقدم، ومثَّلنا له فيما تقدم بـ«افعلي ما يفعل الحاج، غير ألا تطوفي بالبيت»، دلالة النص على قراءة القرآن للحائض. هذه ليست أصلية، إنما هي تبعية. ومثل دلالة «مثلكم ومثل من قبلكم كمثل من استأجر أجيرًا على أن وقت العصر من مصير ظل كل شيء مثله»، وهذا تقدم تقريره. وليس في الحديثين ما يدل على ما ذهبوا إليه صراحة، وإنما دلالة ضمنية، يعني يُلجأ إليها عند عدم معارض، فإذا وُجد معارض لم يُلتفت إليها. مع أن الشاطبي -رحمه الله- يرى أنها ملغاة من الأصل، ولا اعتبار بها.
طالب: .........
في ماذا؟
طالب: .........
مع؟
طالب: .........
مثل: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183].
طالب: .........
لا لا ما يلزم، لا لا التنظير غير مطابق. أنا قلت: إن بعض أهل العلم يرى أن سياق الأمر بلفظ الخبر أو النهي بلفظ الخبر أبلغ، لماذا؟ لأنه يصور المسلم بهذه الحالة، أنه مجتنب هذا الأمر أصلاً، فلا يحتاج إلى أن يؤمر به أو ينهى عنه.
طالب: "وقد مر في كتاب المقاصد أن المقاصد الشرعية ضربان: مقاصد أصلية ومقاصد تابعة، فهذا القسم في الأوامر والنواهي مستمد من ذلك، وفي الفرق بينهما فقه كثير، ولا بد من ذِكر مسألة تقررها في فصل يبين ذلك، حتى تُتخذ دستورًا لأمثالها في فقه الشريعة بحول الله".
يعني مثال توضيحي لما سبق.
طالب: "فصل: الغصب عند الفقهاء هو التعدي على الرقاب، والتعدي مختص بالتعدي على المنافع دون الرقاب".
يعني فرق بين الغصب والتعدي، "الغصب هو التعدي على الرقاب، والتعدي مختص بالتعدي على المنافع دون الرقاب"، لكن الأمثلة التي تُذكر في كتاب الغصب في كتب الفقه أو باب الغصب من كتب الفقه، خاصة بالرقاب ولَّا في كل شيء؟
طالب: في كل شيء.
في كل شيء، اللهم إلا إذا كان القصد من قوله "الرقاب" ما له جرم يمكن أن يُغصب، ويستأثر به الغاصب، ويفر به ويجحده، دون المنافع. لعل هذا مراده، يعني من سكن دارًا لزيد، ويعترف أنها لزيد وقال: إنه أجرني إياها، أو وهبني منفعتها. هذا غاصب منفعة، متعدٍّ على منفعة، لا يقال: غاصب. لكن من قال: هذه الدار لي وهي لزيد؟
طالب: غاصب.
نعم. غصب الرقبة وهو غاصب لا متعدٍّ، وبهذا يتضح كلامه.
طالب: "فإذا قصد الغاصب تملك رقبة المغصوب، فهو منهي عن ذلك، آثم فيما فعل من جهة ما قصد، وهو لم يقصد إلا الرقبة، فكان النهي أولاً عن الاستيلاء على الرقبة. وأما التعدي على المنافع، فالقصد فيه تملك المنافع دون الرقبة، فهو منهي عن ذلك الانتفاع من جهة ما قصد، وهو لم يقصد إلا المنافع، لكن كل واحد منهما يلزمه الآخر بالحكم التبعي، وبالقصد الثاني لا بالقصد الأول. فإذا كان غاصبًا فهو ضامن للرقاب لا للمنافع، وإنما يضمن قيمة الرقبة يوم الغصب، لا بأرفع القيم".
غصب دابة، ثم حُكم عليه أو تاب فأرجعها إلى صاحبها، يُرجع معها قيمة أجرتها فيما لو أُجرت في هذه المدة؟ إذا كان صاحبها يؤجرها قبل الغصب لحمل أمتعة الناس، الآن هو غصب الرقبة، وتعدى على المنفعة، هل يُلزم برد ما تسبب فيه من تعطيلها عن الأجرة أو لا؟
طالب: لا......
على كلامه: لا.
طالب: ينظر إلى القصد الأول.
نعم. الذي هو الغصب..
طالب: أحسن الله إليك،.......
هذا مصب كلام المؤلف، نعم هو متعدٍّ، ولكن لا يرد غير المغصوب.
طالب: "لأن الانتفاع تابع، فإذا كان تابعًا صار النهي عن الانتفاع تابعًا للنهي عن الاستيلاء على الرقبة؛ فلذلك لا يضمن قيمة المنافع، إلا على قول بعض العلماء بناءً على أن المنافع مشاركة في القصد الأول. والأظهر أن لا ضمان عليه؛ لعموم قوله -عليه الصلاة والسلام-: «الخراج بالضمان»، وسبب ذلك ما ذُكر من أن النهي عن الانتفاع غير مقصود لنفسه، بل هو تابع للنهي عن الغصب، وإنما هو شبيه بالبيع وقت النداء، فإذا كان البيع مع التصريح بالنهي صحيحًا عند جماعة من العلماء؛ لكونه غير مقصود في نفسه، فأولى أن يصح مع النهي الضمني. وهذا البحث جارٍ في مسألة: ما لا يتم الواجب إلا به، هل هو واجب أم لا؟ فإن قلنا: غير واجب، فلا إشكال، وإن قلنا: واجب، فليس وجوبه مقصودًا في نفسه، وكذلك مسألة: الأمر بالشيء هل هو نهي عن ضده؟ والنهي عن الشيء هل هو أمر بأحد أضداده؟ فإن قلنا بذلك فليس بمقصود لنفسه، فلا يكون للأمر والنهي حكم منحتم إلا عند فرضه بالقصد الأول، وليس كذلك.
أما إذا كان متعديًا، فضمانه ضمان التعدي لا ضمان الغصب، فإن الرقبة تابعة، فإذا كان كذلك صار النهي عن إمساك الرقبة تابعًا للنهي عن الاستيلاء على المنافع، فلذلك يضمن بأرفع القيم مطلقًا، ويضمن ما قل، وما كثر. وأما ضمان الرقبة في التعدي، فعند التلف خاصة، من حيث كان تلفها عائدًا على المنافع بالتلف، بخلاف الغصب في هذه الأشياء".
في حالة ما إذا لم يغصب الرقبة، إنما تعدى على المنفعة، هو لا يضمن الرقبة ولو نزلت قيمتها؛ لأن المنظور إليه في هذا التصرف هو التعدي على المنفعة لا على الرقبة، فليس بغاصب.
طالب: إلا إذا أتلفها؟
إذا تلفت ضمنها.
طالب: "ولو كان أمرهما واحدًا لَما فرَّق بينهما مالك ولا غيره، قال مالك في الغاصب والسارق: إذا حبس المغصوب أو المسروق عن أسواقه ومنافعه ثم رده بحاله لم يكن لربه أن يُضمنه، وإن كان مستعيرًا أو متكاريًا ضَمِنَ قيمته".
يعني بعض أصحاب أرباب الحيل يأتي إلى السوق سوق السيارات مثلاً قبيل غروب الشمس، والسيارة الناس يتهافتون عليها مرغوبة، لما غابت الشمس وتفرق الناس صار يفاوض، هو اشترى، وما فارق مجلس العقد، من أجل إذا تفرق الناس ما يجد من يزيد عليه ولا وجد الذي سامها قبلها، صار يفاوض بثمن أقل. هذا تعدٍّ، لكن ماذا يضمن؟ الذي فرَّق الناس عن السلعة تعدّى على صاحبها، هل هو متعدٍّ على رقبتها أو على منفعتها؟ هو متعدٍّ على القيمة قيمتها، وقيمتها في مقابل رقبتها. فماذا يضمن؟
طالب: .........
يعني يُلزم؟ يقول: واللهِ ما تفرقنا، إلى الآن لم نزل في خيار المجلس، يقول: أنا في خيار المجلس أنا ما بعد.
طالب: .........
بنقيض. نعم.
طالب: "وهذا التفريع إنما هو على المشهور في مذهب مالك وأصحابه، وإلا فإذا بنينا على غيره فالمأخذ آخر، والأصل المبني عليه ثابت. فالقائل باستواء البابين ينبني قوله على مآخذ؛ منها: القاعدة التي يذكرها أهل المذهب وهي: هل الدوام كالابتداء؟ فإن قلنا: ليس الدوام كالابتداء، فذلك جارٍ على المشهور في الغصب".
الدوام هل هو كالابتداء؟ الاستمرار هل هو كالابتداء؟ استمرار النكاح هل هو كابتدائه؟ لا، ليس كاستمراره. يبقى شيء متردد بينهما: الرجعة، يعني النكاح في حال الإحرام لا يجوز، استمرار النكاح في حال الإحرام لا شيء فيه، يقال: فارق مراتك، لا. لكن الرجعة هل تلحق بابتدائه أو باستمراره؟ ومثله من بيده طير، صيد، ملكَه قبل أن يُحرم: هذا استمرار، لكن ملكه بعد إحرامه: هذا ابتداء. فهل الرجعة تُلحق بالابتداء أو بالدوام والاستمرار؟
طالب: .........
الرجعية هي زوجة، ما دامت في العدة فهي زوجة، فالذي يظهر أن الرجعة لا تأخذ حكم العقد.
طالب: "فالضمان يوم الغصب، والمنافع تابعة، وإن قلنا: إنه كالابتداء، فالغاصب في كل حين كالمبتدئ للغصب، فهو ضامن في كل وقت ضمانًا جديدًا، فيجب أن يضمن المغصوب بأرفع القيم، كما قال ابن وهب وأشهب وعبد الملك، قال ابن شعبان: لأن عليه أن يرده في كل وقت، ومتى لم يرده كان كمغتصبه حينئذ. ومنها: القاعدة المتقررة، وهي أن الأعيان لا يملكها في الحقيقة إلا باريها تعالى، وإنما للعبد منها المنافع، وإذا كان كذلك فهل القصد إلى ملك الرقاب منصرف إلى ملك المنافع أم لا؟".
الله -جل وعلا- هو المالك الحقيقي لكل شيء، لكن لو طبقنا هذا على أفراد المسائل وآحادها: أنه لا مالك إلا الله والعبد له المنفعة، ما ضُمن الغاضب ولا المتلف إلا ما يقابل النافع، وأما الرقبة فالعبد يملك، العبد، لا أقول الرقيق؛ المكلف وغيره يملك، فيملك الرقبة، وإن كان ملكه تابعًا لملك الله -جل وعلا- وإطلاق الملك التام تجوز، فالملك التام لله -جل وعلا-، لكن صاحب العين يملكها إذا ملكها ملكًا شعريًّا معتبرًا فتضمن رقبتها إذا أُتلفت.
طالب: أحسن الله إليكم.......
نعم؛ لأن هذا أخص؛ لأنه لا يملك، إذا كان يملك من السلع ما يستطيع التصرف فيها كيفما شاء، فإنه لا يملك نفسه ولا بعض نفسه، فلا يملك التبرؤ.
طالب: "فإن قلنا: هو منصرف إليها؛ إذ أعيان الرقاب لا منفعة فيها من حيث هي أعيان، بل من حيث اشتمالها على المنافع المقصودة، فهذا مقتضى قول من لم يفرق بين الغصب والتعدي في ضمان المنافع. وإن قلنا: ليس بمنصرف، فهو مقتضى التفرقة. ومنها: أن الغاصب إذا قصد تملك الرقبة فهل يتقرر له عليها شبهة مِلك بسبب ضمانه لها أم لا؟ فإن قلنا: إنه يتقرر عليها شبهة مالك".
"مِلك".
طالب: "شبهة مِلك، كالذي في أيدي الكفار من أموال المسلمين، كان داخلاً تحت قوله -عليه الصلاة والسلام-: «الخراج بالضمان»، فكانت كل غلة، وثمن يعلو أو يسفل، أو حادث يحدث للغاصب وعليه بمقتضى الضمان، كالاستحقاق والبيوع الفاسدة. وإن قلنا: إنه لا يتقرر له عليها شبهة مِلك، بل المغضوب على ملك صاحبه؛ فكل ما يحدث من غلة ومنفعة فعلى ملكه فهي له، فلا بد للغاصب من غرمها؛ لأنه قد غصبها أيضًا".
ومثل هذا يقال: مال بيت المال، هل نقول: إن كل مسلم له منه نصيب، فلا تقطع السرقة بسببه؛ لأن له شبهة ملك؟ في هذا الباب، وهذا عند جمع من أهل العلم، ومنهم من يقول: إن التعدي على بيت المال أشد على التعدي على الأموال الخاصة؛ لأن فيه إضعافًا للولاية مع كونه سرقة، وأيضًا لكثرة خصومه، فإذا اغتصب وسرق من مال خاص خصمه واحد، وأما إذا سرق من مال مشترك فإن خصومه أكثر، ومنهم من يشدد في بيت المال في هذه المسألة أكثر من الأموال الخاصة، ومنهم من يقول: إن له شبهة ملك، فلا تقطع فيه اليد.
طالب: .........
واللهِ على حسب الظروف والأحوال، إذا كان الوضع بسبب أو بصدد حاجة ماسة إلى مزيد من الحزم والضبط خوفًا من الضياع، فهذا لا بد أن يُنظر إليه على أنه من حق الوالي، يَنظر إليه تبع المصلحة؛ ولذلك عمر لم يقطع عام الرمادة.
طالب: .........
نعم، لكن ليس هو الذي يقرر حاجته أو يقرر إعطاءه من هذا المال العام.
طالب: "وأما ما يحدث من نقص، فعلى الغاصب بعدائه؛ لأن نقص الشيء المغضوب إتلاف لبعض ذاته، فيضمنه كما يضمن المتعدي على المنافع؛ لأن قيام الذات من جملة المنافع، هذا أيضًا مما يصح أن ينبني عليه الخلاف.
ومنها أن يقال: هل المغضوب إذا رُد بحاله إلى يد صاحبه يُعد كالمتعدي فيه؛ لأن الصورة فيهما معًا واحدة، ولا أثر لقصد الغصب إذا كان الغاصب قد رد ما غصب استرواحًا من قاعدة مالك في اعتبار الأفعال دون النظر إلى المقاصد وإلغائه الوسائط، أم لا يعد كذلك؟ فالذي يشير إليه قول مالك هنا أن للقصد أثرًا، وظاهر كلام ابن القاسم: أن لا أثر له، ولذلك لما قال مالك في الغاصب أو السارق إذا حبس الشيء المأخوذ عن أسواقه ثم رده بحاله لم يكن لربه أن يُضمنه، وإن كان مستعيرًا أو متكاريًا ضَمِنَ قيمته، قال ابن القاسم: لولا ما قاله مالك لجعلت على السارق مثل ما جعل على المتكاري".
وقد يقال بالعكس، الغاصب والسارق أشد من المستعير والمتكاري؛ لأن الغاصب والسارق أخذ المال لا عن طيب نفس من صاحبه، والمستعير والمتكاري أخذ المال عن طيب نفسه، لا شك أنه وإن حبسه وعطل منافعه إلا أن ضرره بفعله أقل.
طالب: "فهذه أوجه يمكن إجراء الخلاف في مذهب مالك وغيره عليها، مع بقاء القاعدة المتقدمة على حالها، وهي أن ما كان من الأوامر أو النواهي بالقصد الأول فحكمه منحتم، بخلاف ما كان منه بالقصد الثاني، فإذا نظر في هذه الوجوه بالقاعدة المذكورة ظهر وجه الخلاف، وربما خرجت عن ذلك أشياء ترجع إلى الاستحسان، ولا تنقض أصل القاعدة، والله أعلم.
واعلم أن مسألة الصلاة في الدار المغصوبة إذا عُرضت على هذا الأصل، تبين منه وجه صحة مذهب الجمهور القائلين بعدم بطلانها".
لانفكاك الجهة على حد قولهم؛ لأن الجهة منفكة.
طالب: "ووجه مذهب ابن حنبل وأصبغ وسائر القائلين ببطلانها".
لأن البقعة المغصوبة مما لا بد منه لأداء الصلاة، فهي شرط لأدائها، لا يمكن أن تؤدى إلا ببقعة، ولذلك يشترط طهارتها، وإذا عاد النهي إلى شرط المنهي عنه فإنه يلزم منه البطلان المشروط.
طالب: "وقد أذكرت هذه المسألة مسألة أخرى ترجع إلى هذا المعنى، وهي المسألة الثامنة".
قف على هذا.
اللهم صل على محمد.
طالب: .........
نعم.
طالب: .........
ماذا فيه؟
طالب: .........
لا لا، المقاصد معتبرة، لكن صريح الأمر والنهي حرفي لا بد من تطبيقه.
فيه مسألة، وهي مسألة: من أعتق شقصًا له في عبد، فإن كان له مال أُلزم بعتق الباقي، وإلا يُستسعى العبد. هذا تقدم، يعني في الذكر المشهور وأورده النووي -رحمه الله- في قوله- عليه الصلاة والسلام-: «إذا قال العبد: اللهم إني أصبحت أشهدك، وأشهد حملة عرشك وملائكتك وجميع خلقك أني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت، وأن محمدًا عبدك ورسولك»، إذا قالها أربع مرات عتق من النار، وإذا قالها ثلاثًا عتق بقدره، وإذا قالها اثنتين عتق نصفه، وهكذا. ألا يمكن أن يقال مع زيادة فضل الله -جل وعلا- أن من نسي واحدة أو اثنتين مثل ما قيل في العبد؟ هذه لطيفة أوردها النووي ما يُرجى من فضل الله -جل وعلا- أنه يعتق كاملاً، كما جاء في حكم من أعتق شقصًا له في عبد أُلزم بعتق الباقي، وفضل الله أوسع. ومثل هذا يعدُّه أهل العلم من مُلح العلم، وإن لم يكن من متينه.
اللهم صلِّ على محمد.