كتاب بدء الوحي (029)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
هذه الأسئلة تدور كلها حول ما وقع اليوم من اليهود الغاصبين –قاتلهم الله- حِيالَ إخواننا بغزَّة، هذا يقول –يطلب كلمة- عن موضوع الإخوة الفلسطينيين، وما واجب الحكام والعلماء والمسلمين تجاههم، وهذا يقول: اترك كلمة توجيه للأمة. الله المستعان.
والله يا إخوان لا نملك إلا الدعاء، لا نملك إلا الدعاء لهم؛ فالقنوت مشروع وإذا لم يُشرع القنوت في مثل هذا اليوم، فليس له وجهٌ ألبتَّة، وما حصل اليوم نظير ما حصل للقرَّاء السبعين الذين قُتِلوا، فقنتَ النبي –عليه الصَّلاة والسلام- شهرًا يدعو على من قتلهم، هذه قضيَّة مطابقة نظير لما حصل في عهده –عليه الصَّلاة والسَّلام- فعلينا بالدعاء.
وأمَّا ما يتعلق بمسائل الحكام وما يجب عليهم، هذه أمور حقيقة تخصُّهم، والتقصير موجود، التقصير من جميع الفئات، عوام المسلمين قصّروا، علماء المسلمين قصّروا، حكام المسلمين قصَّروا، لكن الذي لا يملكه الإنسان لا يُكلَّف به، فعلى الإنسان أن يُعنى بخويصة نفسه، ومن يستطيع إنقاذه من غيره، يلزمه؛ من باب الأمر والنهي والدعوة إلى الله على بصيرة، هذا الذي يستطيع، أمَّا الذي لا يستطيع، فلا يكلِّف الله نفسًا إلا وُسعها، لكن علينا أن نستغل الدعاء؛
{ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}[غافر:60]، {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ}[النمل:62]، ودعاء السرّ لا شك أنه أقرب إلى الإخلاص من دعاء العلن، لكن هذه سنَّة، القنوت في النوازل سُنَّة، إحياؤها من الشَّرع والتزام ما ورد في النصوص الصحيحة من الأدعية التي ذكرها النبي ودعا بها –عليه الصلاة والسَّلام- بمثل هذه الظروف، وثبتت بها الأحاديث الصحيحة، دعا، بل لعن، ومن تسلَّط على أولياء الله «اللهم قاتل كفرة أهل الكتاب، الذي يصدُّون عن دينك، ويعادون أولياءك»، ودعا للمستضعفين من المسلمين: «اللهم أنجُ فلانًا وفلانًا وفلانًا» يعني: على العموم  وعلى الخصوص.

على كلِّ حال: عموم المسلمين لا يملكون إلا الدعاء، والأمر بيد القادة، والقادة لهم أوضاعهم وظروفهم، لكن عليهم واجب كبير ومسؤولية كبيرة عُظمى أمام الله –سبحانه وتعالى-، والله المستعان.
يعني كانت الأمور تحصل للمسلمين، وكثير، السواد الأعظم من المسلمين لا يدري بها ولا يشعُر بها؛ لأنه ليس هناك وسائل اتصال ولا قنوات أخبار لا مسموعة ولا مرئية، فقد يموت المسلم ما سمع ما يحصل لإخوانه في جهةٍ من الجهات، ولو طالت مدته، الآن: في وقت الحدث، تسمع وتشاهد، تسمع وتشاهد في وقت الحدث، وهذا يزيد في المسؤولية، هذا يزيد في مسؤولية المسلمين، لا سيَّما إن أمكنت مساعدتهم بالنفس والمال فهذا هو الأصل، وإذا حيل بين المسلم وبين ذلك، فإنه لا يملك إلَّا الانطراح والانكسار بين يدي الله –جلَّ وعلا- والأيامُ دُوَل، والسُّنن الإلهية لا تتغير ولا تتبدل، فمن الذي يؤمِّن غيرهم من أن يحصل لهم ما حصل لهم؟

من يؤمِّن المشاهِد أن يُشاهَد ًغدا أو بعد غد؟ فالمسألة ليست سهلة، وإراقة دمٍ مسلم –دم واحد- شأنه عظيم عند الله، يعني: زوال الكعبة أسهل من إراقة دم مسلم، فكيف بالعشرات بل المئات! دماء المسلمين تُراق في كل مكان، ومع ذلك لا نملك إلا أن نتفرَّج، وكثير من المسلمين يبخل عليهم حتى بالدعاء، وبعض المسلمين لا يُوفق للدعاء، قد يكون الإنسان محبوسًا، موثقًا، مصدودًا، عن هذا السِّلاح العظيم: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}[غافر:60]، وعدٌ ممن لا يخلف الميعاد، لكن مع ذلك علينا أن نبذل الأسباب –أسباب القبول-، وعلينا أن نجتهد في انتفاء الموانع من قبول الدعاء؛ لأن الدعاء سبب من الأسباب، والسبب له أسباب، قبول هذا السبب له أسباب، ورده ومنعه له أسباب، ادعُ الله أن يجعلني مستجاب الدعوة، قال:  «أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة».

 من منا يحقِّق ويدقِّق في أمر المَطعَم؟ الشُّبهات لا يسلم منها كسبٌ اليوم إلا ما قلَّ وندر، الإنسان يطلع على أموره وأحواله بنفسه، ولا يكِل أموره إلى غيره، هذا ممكن، ما بالعهد من قِدَم، شيوخ لنا أدركناهم وأدركنا أنهم شيوخنا، يُجاء لهم بالمريض يرقوه، فيقول واحدٌ منهم: اذهب إلى فلان. لماذا؟ لأن قوته من كسب يده، أهل ورع، وأهل دين، وأهل زهد، طيب أنت؟ ما عرفنا إلا خيرًا، كلَّا، والله، أحيانا الولد يدخل إلى البيت بشيء مما يؤكل من راتبه، ولا ندري ماذا يصنع بالدَّوام، هل يخِلُّ به أو لا يُخِلّ؟ النبيُّ –عليه الصَّلاة والسَّلام- ذكر الرجل يطيل السَّفر أشعث أغبر يمدُّ يديه إلى السماء: يارب، يارب. كل هذه من الأسباب، السفر سبب لإجابة الدعاء، الانكسار والانطراح، ورثاثة الهيئة سبب من أسباب قبول الدعاء، رفع اليدين من أسباب قبول الدعاء، الدعاء بـ: يارب يا رب، كما قرر أهل العلم أنه أقرب الأسماء إلى الإجابة، وقالوا: من دعا الله بقوله: يارب يارب، خمس مرات، أُجيبت دعوته، واستدلوا على ذلك بخواتيم سورة "آل عمران". يقول: يارب يارب، لكن الموانع موجودة؛ مطعمه حرام، مشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذِيَ من حرام، فأنَّى –استبعاد-  أنَّى يُستجاب لذلك؟
نسمع في المواسم العظيمة الأمة كلها تدعو في القنوت، وفي غيره، على مستوى الجماعات والأفراد، ولا يتغيَّر شيء من الواقع، لماذا؟ لأن الموانع متوافرة، والأسباب تكاد تكون معدومة، لكن لا يعني هذا أنه إذا اطَّرد عدمُ الاستجابة أننا لا ندعو، ندعو، ندعو ونصحح، ندعو الله –عز وجل- ونصحِّح أوضاعنا؛ لأنه يُسمع أحيانًا –لاسيما في العام الماضي- استسقى الناس مرارًا مرارًا، تكرر الاستسقاء، وما ينزل شيء من المطر، ويُسمع من بعض من ينتسب لطلب العلم أنه لا داعي لمثل هذا الاستسقاء، وأننا كالمستهزئين بالله أننا ندعو ونحن نحارب الله علنًا بالمعاصي، ونجاهر بالمنكرات، والرِّبا على أشدِّه، وغير ذلك من الأمور التي تمنع من إجابة الدعاء، نقول: هذا استسلام، نقول: هذا الكلام ليس بالصحيح؛ الاستسقاء سبب يُستجلَبُ به المطر، تُطلب به السقيا، لكن الترك ليس بعلاج، العلاج أن تفعل وأن تبذل، وأن تسعى جاهدًا بادئًا بنفسك بتوفير الأسباب -أسباب الإجابة- وبالتخلِّي عن موانع القبول. فأنَّى يستجاب لذلك!
والشُّبهات محيطة محدقة بنا من كلِّ وجه، لا سيَّما في المطعم والملبس والمركب، الإنسان يهمه أن يقع المال في يده من أي وجهٍ كان، نعم، يتورع كثير من المسلمين أن يأخذ حق أو مال مسلم صراحةً علانية، كثير من المسلمين يتورَّع عن هذا، وإن وُجِد من يأخذ المال من غير وجه، لكن هناك أمور ليس لها مالك مباشر مواجه كالتساهل فيما يتعلَّق ببيت المال –مثلًا- والتَّساهل في الوظائف، والتَّساهل في عدم أداء الأمانة  في التعليم وغيره، يتساهلون، وهذا خلل كبير، هذا خلل كبير؛ لأن هذه الشُّبهات إذا تساهل فيها الإنسان سهَّلت عليه ما بعده، تسهِّل عليه ما بعده، أن يتساهل الإنسان في الشبهات، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام لا محالة، ومن منَّا يسلم من الشبهات، ونجد من يفتي بالإقدام والإصرار على الربا، يقول: تعامل ما المانع، تعامل وتخلَّص، ويفتون بالمختلط، ثم بعد ذلك أخرِج النسبة التي يغلب عليك أنها دخلت من غير الوجه الشرعي.

 يعني: أقدِم على المحرَّم ثم تخلَّص منه! يعني كأن هذا القائل –وإن كان التنظير لا ينطبق من كل وجه- كأنه قال: ازنِ ثم اعقد! صحّح، والربا عند جمع من أهل العلم أشد من الزنا، وجاء فيه الحديث، وإن كان الأكثر على تضعيفه، لكن بعضهم صحَّحه: «درهم من ربا أشد من ست وثلاثين زنية»، ونجد من يقول: المختلط ما فيه شيء، ومن يسلم من المختلط، ضرورات. ماذا يعني ضرورات! نحن الذين أوجدنا هذه الضرورات، وإلا لو أوصد الباب من أصله ما وُجدت هذه الضرورات، ولا هناك ضرورات، هناك ضرورة للتكاثر من المال من غير وجه؟ ليست هناك ضرورة، "أقدم على الربا ثم تخلص"!! هذا لا يقول به أحد من أهل العلم.
التخلُّص فيما إذا دخل عليك مال لا تعلم به، ثم عرفت أن هذا المال.. نعم تخلص منه، أو دخل عليك هذا المال وأنت تعرف أنه محَرَّم ثم تبت منه، التائب من الذنب كمن لا ذنب له، أمَّا أن تصرّ عليه وتكرِّره وتعاوِده –مرارًا وتكرارًا- على أنه لا شيء فيه من الأصل، ما فيه شيء؛ لأنك تنوي التخلص منه، هذا لا يقول به أحد من العلماء، حتى الحنفية الذين قاسوا المختلط على قولهم في الطهارة، يقولون: الشيء اليسير لا يضر، هل يقول حنفي: تعال يا فلان فبُل قطرات على ثوبي؟! هذا ما يقوله عاقل، لكن إذا حصل تساهلوا في الشيء اليسير من غير قصد، والذي لا يستبرئ من البول يُعذَّب في قبره، كما جاء في الصحيح، أما أن يُقال: أقدم على المُحرَّم، ثم تخلص منه، هذا لا يقول به عالم.
وفرقٌ أن يرد الحرام من غير قصد ثم بعد ذلك يُتخلَّص منه، وبين أن يُقصد الحرام، ويُصر عليه، ويُكرَّر، ثمَّ بعد ذلك نقول: تخلص منه، هذا الكلام غير صحيح، يعني إذا كان الحنفية الذين قاس هذا القائل: يسير الرِّبا على يسير النجاسة، قالوا: إن اليسير معفوٍّ عنه، فلا يمكن أن يقول حنفيٌّ بحالٍ من الأحوال: أو يلطِّخ نفسه بنجاسةٍ يسيرة، ونقول هذه معفو عنها. لكن إذا حصلت، هذا شيء آخر –من غير قصد- على أن أكثر أهل العلم: أن النجاسة متفاوته، ليس حكمها واحد، يسير الدم يُعفى عنه، يسير المذي يُعفى عنه، النجاسات المخففة المُختلف فيها اختلافًا كبيرًا يقولون بالعفو عنها، لكن النجاسات المجمع عليها: مثل البول، ينص الشافعية والحنابلة أنه لا يُعفى عن يسيره حتى ما لا يدركه الطرف، كرؤوس الإبر –لا يُعفى عنه-.
فبهذا نعلم أن الدعاء له أسباب، وله موانع، وله أوقات –أوقات إجابة- جوف الليل، صلاة جوف الليل المشهودة، وأقرب ما يكون العبد إلى ربه وهو ساجد، ندعو في حال السجود في جوف الليل، في الثلث الأخير من الليل وقت النزول الإلهي، وساعة الجمعة، يعني من دخول الإمام إلى الفراغ من الصلاة، وهو آخر ساعة من الجمعة أوقات استجابة، وعشيَّة عرفة نستغلُّها، وغير ذلك من الأوقات التي يستجاب فيها الدعاء الثابت في الصحيح، وكتب الأدعية فيها الشيء الكثير: الأسباب، والموانع، والأوقات، والآداب، هذا أمره عظيم، وشأنه كبير، لكن كثيرًا من الناس لا يُوفق للدعاء، فإذا وُفِّق للدعاء مع بذل الأسباب التي يُجاب بها الدعاء فقد وُفق للإجابة، والإنسان قد يدعو طول عمره بشيء، وفي النِّهاية لا يحصل، هل أنت خسران؟ لستَ بخسران؛ لأن كل من دعا الله –جلَّ وعلا- لابد أن يحصل له واحد من ثلاثة أمور:
إما أن تُجاب دعوته بما طلب.
أو يُدفع عنه من الشرّ ما هو أعظم مما طلب.
أو يُدَّخر له يوم القيامة.
وبعض الناس يستعجل ويستحسر: دعوت دعوت، وما فيه فائدة، مثل ما يُقال عن صلاة الاستسقاء ونحوه. والله المستعان.

يقول: هل نحن قادرون –حاليًّا- على قتال اليهود والنصارى فتقع علينا مسؤولية الترك –ترك القتال- أم نحن عاجزون غير قادرين، فيكون صبرنا مأمورين به في هذه الحال كما كان الرسول –صلى الله عليه وسلَّم- يمرُّ على آل ياسر ويشاهدهم وهم يُعَذَّبون ولا يزيد على أمرهم بالصبر؟

لا شكَّ أنَّ الأفراد عاجزون، والأمة بكاملها ليست بعاجزة؛ لأنها تشكل من حيث العدد ثلث العالم، ومن حيث القوة المادية أكثر من نصف ثروات الأرض عند المسلمين، الأمة بكاملها بمجموعها ليست بعاجزة، ولكن على مستوى الأفراد ومستوى –حتى- الدول، كل دولة بمفردها، وهذا الذي سعى إليه العدو بأن فتَّت الأمَّة وجعلها دويلات بحيث لا تستطيع النهوض بنفسها، ولو بقيت أمَّة واحدة تحت قيادةٍ واحدة ما وقف أمامها شيء، ومع ذلك: المسؤوليات تتفاوت، الذي لا يستطيع أن يدفع عن إخوانه المسلمين، أقلّ الأحوال أن يدعوَ لهم، وشأن الدعاء عظيم.

فيه أسئلة ما تتعلق بالموضوع، لكن لا مانع أن يُنظر فيها؛ لأن الشرح اليوم النفس ما هي متهيأة للشرح؛ لأننا شاهدنا حقيقة، رأينا شيئًا ما رأيناه من قبل، يعني إبادة جماعية، والله المستعان.

طالب: ......

هم أعرف بظروفهم، لكن من خلال النظر نحن لا ندري ما وراءهم، المسألة جاءت بالتدريج، يعني الضَّعف الذي أصاب الأمة لا يتحمَّل مسؤوليته واحد بعينه، بل الجميع من القِدَم، ما هو من الآن؛ لأننا الآن نعيش ضرائب تفريط سابق وما زلنا نعيشه، لكن لا يتحمله شخص جاء في النهاية، لكن على هذا الشخص أن يسعى جاهدًا في رفع شأن هذه الأمَّة، ولو لم يكن ذلك إلَّا باصلاح نفسه وإصلاح شعبه الذي لا يمنعه منه أحد، وهذا كفيل برفع شأن الأمَّة، لكن لا يتحمل المسؤولية شخص جاء متأخرًا، والأسباب تنعقد من مئات السِّنين، لكن مع ذلك على القادة المجودين الآن أن يُصلحوا أنفسهم وشعوبهم، فإذا صلحت الشُّعوب لا شك أن الله يرفع هذه المحنة عن الأمة وهذا الضعف وهذا الذُّل.

 الذُّل مضروب إلى يوم القيامة على اليهود، ولن تقووم لهم قائمة بعد أن ضُرِبت عليهم الذِّلَّة والمسكنة إلَّا بحبلٍ من الله وحبلٍ من النَّاس، الحبل من الله –عز وجل- هذا منقطع معروف، لكن بقيَ الحبل من النَّاس، يعني: لو زالت أمريكا يبقى اليهود؟ إن لم يوجد حبل ثانٍ والله ما تبقى ولا يومًا، ليسوا بشيء هم، لكن حبل من الناس ممدود لهم، وهذا سبب بقائهم، وإلا لو زال من يدعمهم زال هذا الحبل، انقطع هذا الحبل من الناس ليسوا بشيء، لا عدد ولا عُدَّة، ليسوا بشيء، مضروب عليهم الذِّلة والمسكنة.

لكن، قد يقول قائل: كيف يمكَّن إخوان القرَّدة والخنازير من خير أمَّةٍ أُخرجَت للناس، فيقتلون منهم ما يقتلون، ويستهترون ويلعبون بأعصابهم لعبًا، هم حَفنة ليسوا بشيء وضُرِبت عليهم الذِّلة والمسكنة وسُلِّطوا على خير أمَّةٍ أُخرجَت للناس؟

سَببُها: انصراف هذه الأمة التي هي خير أمة اُخرجت للناس عن أسباب العزِّ والنصرِ والتمكين، وإلا بالنصِّ القاطع خير أمَّةٍ أُخرجت للناس، وكونهم يُسلَّط عليهم هؤلاء النَّتنِى على هذه الأمَّة من باب إذلال من خالف أمر الله وشرع الله؛ لأنه لو سُلِّط أمَّة قويَّة مثلاً ما يبين الإذلال مثل ما يبين فيما لو سُلِّط..، لو جاء شخص عظيم فقتله عظيم ما فيه إشكال، لكن لو جاء أحقر الناس وقتل أعظمَ الناس، ماذا يصير؟ نكاية ليس وراءها نكاية، وهذا بقدر ما وقع فيه المقتول أو المُسلَّط عليه من المخالَفةِ لأمرِ اللهِ وشرعه، والله المستعان.

ابن كثير –رحمه الله- ذكر قصَّة في تفسير سورة النِّساء، أن خادمًا عند قوم، فسيدته أصابها المخاض –الطَّلْق- فرأى في النَّوم من يقول له: أن سيَّدتك سوف تلدُ بنتًا، وهذا البنت تزني مرَّاتٍ عديدة –ذُكِرَت- كأنه قال: مائة مرَّة، ثم تتزوجها أنت. ما يُرِيد أن يتزوَّج بغيّ، لكن ما الذي حصل؟ لمَّا ولدت قيل له: ائت بالسكِّين من أجلِ قطعِ السُّرَّة، فجاء بالسِّكين فبقر بطن البنت ثمَّ هرب –هرب مدَّة عشرين سنة- إلى بلدٍ عمل فيه بالتِّجارة، فصار من الأغنياء المعدودين المذكورين، صار من الأثرياء المشهورين، ثمَّ رجع إلى بلده باعتبار أن البنت ماتت والقصَّة نُسِيَت، رجع إلى بلده، وأراد أن يتزوج فطلب من امرأةٍ أن تبحث له عن أجمل بنت في البلد، فخطبت له هذه البنت، وهو لا يعرفها، أبوها مات، وأمها ماتت.

المقصود أنه لا يعرفها، فلما دخل عليها رأى أثر شقّ البطن، قال: ما سبب هذا؟ قالت: أيَّام الولادة كان عندنا عبد، فلما جاء بالسِّكين بقر بطني وهرب.

 المقصود: أنه عرف أنه هو، والبنت هي. فقال لها: اصدقيني، هل حصل منك شيء من الزِّنا؟ قالت: نعم، كم العدد؟ قالت: والله ما أدري، لكن شيء ما أحسبه. قال: تبلغ مائة؟ قالت: نعم، تبلغ مائة أو تزيد. لكنها دخلت في قلبه، وأعجبته، وأُعجِب بها، وتعلَّقَ قلبه بها فلم يفارقها. نعم في الرؤيا قيل: له سوف تلد بنتًا، ثم يحصل منها ما حصل من الزنا، ثم تتزوجها أنت، ثم تموت بسبب عنكبوت، فلما تزوجها وتعلَّق قلبه بها وأحبَّها حُبًّا شديدًا ذكر أنها سوف تموت بسبب عنكبوت، فشيَّد لها قصرًا منيفًا منع منه جميع ما يمكن أن يدخل معه حشرة، ما يمكن أن تدخل حشرة، وبينما هو جالس ذات يومٍ مع هذه الزَّوجة، صار الآن رجلًا من الأثرياء، وصار من الجبابرة المعدودين، وصار له شأن، لم يستطع أن يدفع العنكبوت عن هذه المرأة.

 في يوم من الأيام، وبينما هما جالسان نزلت العنكبوت من السَّقف، فقال للمرأة: هذه التي تموتين بسببها، فقامت فداستها بقدمها حتى ماتت، فأُصِيبت بأَكَلَة او بآكِلَة، آكلَة: يعني شيء يأكل اللحم –يعني مثل:  الجزام- في عرقوبها فبدأت شيئًا فشيئًا إلى أن ماتت بسببها، شف الآن: من الذي سُلِّط على هذا الغني، وعلى هذا الثريّ وعلى هذا الجبَّار؟ يعني لو جاء أسد وافترس المرأة ما فيه إشكال، يعني سبب مقبول، لكن عنكبوت! عنكبوت تقضي على أغلى شيء يملكه في الدُّنيا! ولا يستطيع أن يدفع عنها شيئًا، هذا إذلال، غاية الإذلال، وغاية الإخضاع والخنوع، كما سُلِّط إخوان القردة والخنازيل –أذلَّ النَّاس وأخسَّ النَّاس- على خير أمَّةٍ أُخرجَت للناس. والله المستعان.

يقول: نخشى إن سكتنا عن غزّة يتبعها غزَّات، ونحن ساكتون.

على كلِّ حال كل إنسان الذي يستطيعه يفعله، ولا يكلِّف الله نفسًا إلا وسعها.

يقول: هل يلزم المسلمين –في الوقت الحاضر- دعاء القنوت بدون الرجوع إلى أمرٍ من وليِّ الأمر؟
 لا، صدر به الأمر، يعني: المفتي، جاء الناس وتداول طلاب العلم أنه قال: اقنتوا، أنا ما سمعته منه مباشرةً، لكن قال ذلك من نثق به.

نكتفي بهذا، وننظر في درسنا.

الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

قال –رحمه الله تعالى-: وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه –وهو التعبُّد- الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله.

قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك، وقلنا: إنه يتزود برفع الدال عطفا على "يتحنَّث"، أي: يتَّخذ الزاد لهذه الخَلوَة، والزاد: هو الطّعام الذي يستصحبُه المسافر. يقالُ: زوَّدته فتزوَّد. وفيه مشروعية اتِّخاذ الزاد، ولا ينافي التوكُّل، مادام اتَّخذه سيِّد المتوكِّلين، ومعلوم من حاله –عليه الصَّلاة والسَّلام- أنه يدَّخر قوتَه وقتَ أهلِه سنة، كما جاءَ في بعضِ الأحاديث.
وجاء أيضًا في حالِه وعيشه –عليه الصَّلاة والسَّلام- أنَّه يمرُّ أو يُرى الهلال ثمَّ الهلال ثمَّ الهلال ولا يوقَد في بيتِه نار.

المقصود أن اتخاذ الزاد لا ينافي التوَكل.

ووجِد وذكر عن بعض أهل اليمن أنهم يحجُّون بغير زاد ويزعمون أنهم يتوكَّلون، فسئِل بعض الأئمة، فقال: هؤلاء يتوكَّلون على أزوادِ النَّاس، لكن لو لم يُعطَوا ماتوا.

ثمَّ يرجع إلى خديجة –رضي الله عنها- وهي زوجُه، أمُّ المؤمنين خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العُزَّى بن قُصيٍّ بن كلاب، تزوجها رسول الله وهو ابن خمسٍ وعشرين، وهي أم أولاده كلّهم إلا إبراهيم فإنه من ماريَة القبطية، لم يتزوج رسول الله غيرها قبلها، ولا تزوَّج غيرها في حياتها، لم يتزوج عليها في حياتها، يعني: ما جمع بينها وبين غيرها في حياتها.
وتداولت الوسائل من الصُّحف وغيرها امرأة كتبت في السيرة قبل ثلاثة أشهر أو أربعة أشهر ظهر خبرها، وأُفتِيَ بكفرِها، لكن مما قالته: أن النبيَّ –عليه الصَّلاة والسَّلام- لم يتزوَّج على خديجة في حياتها؛ خوفًا على تجارتِهِ وعلى مصدر رزقه، خوفًا على مصدرِ رزقِهِ؛ لأنه لو تزوَّج عليها قطعتِ التِّجارة معه! والله المستعان.

الطالب:............
فيه بقيَّة أزواجه، لكن بالنسبة لأنه لم يتَزوَّج على خديجة.

الطالب:..............
كيف؟

الطالب:.....................
الشيخ: هذا الكتاب، هذا أصل الكتاب، لكن فيما يخصُّ خديجة، قالت: أنه لو تزوج عليها في حياتها قطعت مورد الرزق عنه –عليه الصَّلاة والسَّلام-. هذا كلام قبيح.

أقامت مع رسول الله أربعًا وعشرين سنة وأشهر، ثم توفت –رضي الله عنها- قبل الهجرةِ بثلاث سنين –على الصَّحيح المشهور- وقيل: قبلها بخمس سنين، وقيل: بأربع. وكانت وفاتها بعد وفاةِ أبي طالب بثلاثةِ أيامٍ كما قال النووي. قاله النووي في شرح هذه القطعة من أوائل صحيح البخاري.

وقال: قال أصحابنا وغيرهم أفضل أزواجه –صلى الله عليه وسلَّم- خديجةُ وعائشة –رضي الله عنهما-، واختلفوا في أيتهما أفضل.

في أيتهما أفضل: يعني يمكن أن يكون وجه التفضيل عند من يفضِّل خديجة من وجه، ومن يفضِّل عائشة من وجه، فتُفضَّل خديجة بنصر الدِّين والوقوف مع الدعوة من أول يوم، وهذا شأن عظيم عند الله –عزَّ وجلّ-، وفضلُ عائشة بسبب حفظِ العلمِ ونشرِه للمسلمين، يعني: نظير ما قيل في الأفضل من التَّابعين. الإمام أحمد يقول: أفضل التَّابعين سعيد بن المسيِّب، مع أن النص الصحيح الصَّريح يدلُّ على أنَّ أُوَيْسًا القَرَنِيّ أفضلَ منه، فالتفضيل من هذه الحيثية بالنسبة لحفظِ العلم سعيد، وبالنسبة للفضل الخاص بالرجل من صدق وإخلاص وبر لأمه وتعبد وتأَلُّه يُفضَّل أويس، والأمة بحاجة إلى هذا وإلى هذا، بحاجة ماسَّة إلى من يحفظ العلم، ومن يبلِّغ العلم، وبحاجة إلى من يتصِّف بالصِّدق والإخلاص والعبادة والزهد، نحن نحتاج إلى هذا وهذا.


عندنا كما مرَّ بنا في الألفيَّة الأسود بن يزيد، ويزيد بن الأسود، الأسود بن يزيد النخعي: إمام من أئمة المسلمين في العلم، ويزيد بن الأسود الجُرّشِي من العُبَّاد المشهورين استسقى به معاوية فسُقُوا فورًا. الأمة تحتاج إلى هذا وإلى هذا، تحتاج إلى مثل خديجة، وتحتاج إلى مثل عائشة، تحتاج إلى مثل سعيد، وتحتاج إلى مثل أويس، وتحتاج إلى مثل الأسود بن يزيد، وتحتاج إلى مثل يزيد بن الأسود، فوجوه التَّفضيل مختَلِفة.

قد يقول قائل: إن سعيدًا نفعه متعدٍّ، وأويس نفعه قاصر على نفسه، والإجماع قائم، أو كالإجماع على أن النَّفع المتعدي أفضل من القاصر، لكن هذا ليس على إطلاقه؛ الصلاة أفضل من الزكاة، والصلاة نفعها قاصر، والزَّكاة نفعها متعدٍ، فلا إطلاق في مثله.
يُنظر إلى هذا الذي نفعه قاصر، يعني هل معناه أن الأمَّة لا تنتفعُ به، وإن كان نفعه قاصرًا؟ مثل هذا إذا دعا وأُجِيب الأمة لا تنتفع؟ قد يكون نفعه أفضل من المتعدِّي.

وفي الصحيح من حديث عليٍّ مرفوعًا: «خير نسائها مريم، وخير نسائها خديجة»، وفي البخاري في  حديثه عن جبريل أنه قال للنبي –عليه الصلاة والسَّلام-: «هذه خديجة، فإذا أتتك فاقرأ عليها السَّلام من ربي، وبشرها ببيت في الجنَّةِ من قصبٍ لا صخَب فيه ولا نصب».

الطالب:..............
الشيخ: نعم، نعم، يقول: ما امتازت به خديجة لم يشرَكْها فيه أحد؟ نصر الدَّعوةِ من أول يوم، معلوم أنَّ الأيام الأولى في الشِّدة ليست مثل الأيَّام الأخيرة، لم يشرَكها فيه أحد، بينما ما امتازت به عائشة لها من يُشارِكها، لكن مع ذلك استقلَّت بأمور لا توجد عند غيرها –رضي الله عن الجميع-.

يقول: ثمَّ قبل أن ينزع إلى أهله ويتزوَّد إلى ذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزوَّدُ لمثلها.
أي: لمثلِ اللَّيالي في رجوعه –عليه الصلاة والسلام- إلى خديجة، يعني ما استمرّ، ما أخذَ قوتَ سنة، وجلس في غار حراء سنة مثلاً، رجوع النبي –عليه الصَّلاة والسَّلام- إلى زوجه دليلٌ على أنَّ الانقطاع الدائم عن الأهلِ ليس من السُّنَّة.

النبيّ –عليه الصلاة والسَّلام- آلى شهرًا –أي: حلف- أن لا يدخل على نسائه شهرًا، فلما مضت –مضى اليوم التَّاسع والعشرون- دخل على نسائه، وقالت له عائشة: أنك آليتَ شهرًا، قال: الشَّهر تسعٌ وعشرون، ما آلى أكثر من ذلك، ويكفي في هذه المدة من الزَّجر والتأديب.
بعض النَّاس عنده من الغلظة والشِّدة إذا غضب على ولده أو على زوجه صرمه –أو على أخيه- صرَمه مدى الحياة.

وأعرف اثنين من الكبار –وعندهما شيء من العلم- بلغتِ الهجرةُ بينهما أربعين سنة لا يسَلِّم أحدهما على الآخر، ولا يزور أحدهما الآخر، لكنَّ الله ختم لهما بخير، يعني: بعد الأربعين حصل ما حصل من اللقاء والنَّدم والأسف على ما مضى، والأعمالُ بالخواتيم، لكن سبحان الله كيف يستطيع الإنسان أن يصبر أربعين سنة! والله المستعان.

الطالب:...............
الشيخ: لا ما فيه شيء أكثرهم يقولون بالتفكُّر، وتقدم هل هو متعبَّد بشريعة مَن قبله، تقدم هذا الدرس الماضي.

يقول –رحمه الله-: ثم يرجع إلى خديجة فيتزوَّد لمثلها حتَّى جاءه الحق، وهو في غار حراء فجاءه الملك.

حتى جاءه الحق: وهو الوحي من الله –جلَّ وعلا- بواسطة جبريل –عليه السَّلام- وفي التَّفسير من الصحيح: حتَّى جاءه الحق، أي: بَغتَه، يعني: بغَتَه، يُقال: فجِئَ يفجَأُ، بكسر الجيم في الأوَّل، وفتحها في المضارع، وفجَأَ يفجَا بالفتح فيهما.

وهو في غار حراء: هذه الجملة حاليَّة.

فجاءه الملَك: حتى جاءه الحقّ، فجاءه الملَك، يعني: فجاءه الحق على يد من؟ قبل الحق أو بعده؟ بواسطته.

جاءه الملك: يعني جبريل –عليه السَّلام- روى ابن سعد بإسناده أن نزول الملَك عليه في غار حراء يوم الإثنين لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان، ولرسول الله –صلَّى الله عليه وسلَّم- يومئذٍ أربعون سنة. أربعون سنة وستّة أشهر؛ لأن ميلاده في ربيع، والوحي نزل عليه في رمضان، {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ}[البقرة:185]، {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}[القدر:1]، يقول الكرماني في شرحه: هنا فيه إشكال "حتى جاءه الحق وحتى جاءه الملك، العطف في الأصل يقتضي المغَايَرَة- يقول الكرماني: فإن قلتَ: مجيءُ الملك ليس بعد مجيء الوحي، بل هو نفسه، مجيءُ الملك ليس بعد مجيء الوحي، بل هو نفسه، إذِ المُرَاد بمجيء الوحي مجيءُ حاملِ الوحي، مجيء حامل الوحي، أي: فما معنى الفاء التعقيبية؟ لأن مقتضى العطف بالفاء: أن يكون مجيء الملَك بعد مجيء الوحي، لكنه من غير فصل، مباشرةً.

 يقول الكرماني: قلتُ هذه الفاء تُسمَّى بالفاء التَّفسيريَّة، الفاء التَّفسيريَّة نحو قوله تعالى: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}[البقرة:54]؛ لأن توبتهم إنَّما كانت بقتلِ النَّفس؛ إذِ القتل نفس التوبة –على أحد التّفاسير- وتُسمَّى: الفاء التَّفصيليَّة أيضا، الفاء التفصيليَّة، يعني هناك إجمال ثمَّ تفصيل، وتُسمَّى الفاء التَّفصيليَّة أيضا؛ لأن مجيء الملك إلى آخره تفصيلٌ للمجمل الذي هو مجيء الحقِّ، ولا شكَّ أن َّ المُفصَّل هو نفس المجمل، يعني لو كان الإجمال بأحرف يسيرة ثم جاء التَّفصيل بالبسط بكلام واضح ومفصل، وفيه شيء من الطول، أطول من المُجمل، إذا فُسِّرت كلمة بكلمة هل نقول: هذا تفصيل، أم نقول: تفسير؟ تفسير ليس فيه تفصيل، لكن إذا ذُكِرَ إجمالا ثمَّ بُيِّن بشيءٍ من الوضوح، ثم ذُكرت أقسامه وأنواعه وأضربه، إن كان له شيء من ذلك، نقول: هذا تفصيل مجمل وبيانٌ له، لكن تفسير كلمة بكلمة، هل نقول: إن التحنُّث هو التعبُّد تفسير أم تفصيل؟ تفسير.

قال: تُسمَّى بالفاءِ التَّفسيريَّة، وتُسمَّى الفاء التفصيليَّة.

ننظر: حتى جاءه الحق فجاءه الملَك، هل نقول: إن قوله "فقال إقرأ" «ما أنا بقارئ» هو تفصيل لما تقدَّم من قوله: جاءه الحق، أو نقول: إن قوله: «قال: ما أنا بقارئ. فقال: اقرأ» تفصيلٌ ثانٍ بعد تفسير، أو تفصيل بعدَ تفسير؟؟

هناك "فاء" يسمُّونها "الفصيحة"، وهي: التي تتضمن شرطًا مقدَّرا، هو ثلاثة أقسام: اسم، وفعل،  وحرف جاء لمعنى، فالاسم: يصلح أن يكون تفصيلية، تفسيرية، فصيحة، كما يقولون؛ لأنه يقدَّر إذا كان الأمر كذلك فما أنواعها أو تفصيلها أو تفسيرها يسمونها: فصيحة.
هنا قال: وتُسمّى الفاءُ التفصيلية أيضًا؛ لأن مجيء الملك إلى آخره تفصيلٌ لمجمل الذي هو مجيء الحق،  ولا شك أنَّ المُفصل هو نفس المجمل، ولا شك أن المُفصَّل هو نفس المجمل، لكن إذا كان بقدره يسمى تفسيرًا لا يُسمَّى تفصيلًا، أما إذا بسط ووضح وبُين فإنه حينئذ يكون تفصيل.

 وفي رواية مسلمٍ: «فجِئه الحق»، بكسر الجيم من الفجأة، أي: جاءه الحق بغتةً ومفاجئةً؛ فإنه لم يكن متوقعًا للوحي، فإنه لم يكن متوقعًا للوحي، فجأة، يعني من غير مواطأة، والناس يقولون: إذا التقى شخصان من غير موعد قال: مصادفة، مصادفة؛ لأنه من غير تخطيط ومن غير سابق علم واتفاق، مصادفة، وبعضهم يستنكر هذه الكلمة؛ باعتبار أنه لا يقع شيء إلا بتقدير الله –جل وعلا- هذا لا إشكال فيه بالنسبة للخالق، أما بالنسبة للمخلوق تحصل مصادفة، يحصل شيء ما حسب له حسابًا، يفجؤه أمر. وهنا: في رواية مسلم «فجِئه»، بكسر الجيم «فجِئه الحق»،من الفجأة، أي: جاء الحق فجأة وبغتة، فإنه لم يكن متوقعًا للوحي.
لكن هذا وقت نزول "اقرأ" وقبل نزول "اقرأ" أوَّل ما بدئ به رسول الله –صلى الله عليه وسلم- من الوحي: الرؤيا الصالحة، وأيضًا: رأى أو سمع صوتًا يناديه: يا محمد يا محمد، هناك أمور، وتوطيئات، وإرهاصات، لكن قد لا تصل إلى حد أن يفهم أو يقر في ذهنه، في قلبه، أنه يوحى إليه، ويكون رسولاً من عند الله –جل وعلا- هذه مقدمات وإرهاصات، ولذا قال
: فجاءه الحق، فجِئه الحق، من غير سابق علم.

قال الطيبي: معنى "حتى جاءه الحق": حتى جاءه أمر الحق وهو: الوحي، ورسول الحق وهو: جبريل –عليه الصلاة والسلام- «فقال: إقرأ»، فقال: اقرأ.

من المقطوع به أن النبي –عليه الصلاة والسلام- كان أميًّا لا يقرأ ولا يكتب، فكيف يُقال له: اقرأ، وهو لا يقرأ ولا يكتب؟

قالوا: هذا الأمر لمجرد التنبيه والتيقظ؛ لأجل أن يُلقي باله لما يُتلى عليه، لمجرد التنبيه والتيقٌظ لما سيلقى إليه؛ لأنه –عليه الصلاة والسلام- كان أميًّا لا يقرأ ولا يكتب.

ويحتمل –كما قالوا- أن يكون الأمر على بابه من الطلب، فيستدل به على تكليف ما لا يطاق في الحال، وإن قُدِر عليه بعد، يحتمل أن يكون من باب أو على بابه من الطَّلب: اقرأ، تُراد الاستجابة حقيقةً، قال: فيكون من باب التكليف بما لا يُطاق؛ لأنك تكلف شخصًا لا يقرأ أن يقرأ، كما لو كلَّفته حمل صخرة لا يطيق، وإن قدر عليه بعد؛ لأنه يتصوَّر أن يُؤمر الذي لا يقرأ بالقراءة باعتبار أن يكون في ضمن هذا الأمر حث على تعلم القراءة، أي: لما تقول لشخص لا يقرأ: اقرأ، لا تريد الجواب في الحال، لكن تريد منه أن يتعلم القراءة والكتابة ليقرأ ويكتب، قال –عليه الصلاة والسلام- في رواية «قلتُ».

الطالب:..............
حتى وإن كان من حفظه، فهو ما يحفظ
شيئًا في الحال ما يحفظ شيئًا، لكن لو بعد هذه القصة أُلقيت عليه السورة فحفظها، ثم قيل له بعد ذلك: اقرأ لقرأ، لكن الإشكال في وقت قوله: اقرأ، لا يقرأ.

الطالب:.....................
الله أعلم، هذا ما ذُكر، لكن مع ذلك لا شك أن قوله: اقرأ، في أول الأمر، يُراد به: التنبيه والتيقظ لما سيُلقى عليه، يعني: هذه مقدمة لما سيلقى إليه.

قال –عليه الصلاة والسلام- في رواية، «قلتُ: ما أنا بقارئ» وفي رواية: «ما أحسن أن أقرأ» ما أحسن أن أقرأ، في رواية: «ماذا أقرأ؟» ماذا أقرأ؟

في شرح الكرماني قال: كلمة "ما" نافية، وقِيل: استفهامية وهو غلط؛ لدخول الباء في خبرها؛ لأن "ما" بمعنى "ليس"  هنا، وبعد "ليس" غالبًا جر بالخبر؛ لأن خبرها يجر بالباء، ومثلها "ما" فتكون نافية وليست استفهامية، قال: وهو غلط؛ لدخول الباء بخبرها، واحتج من قال: بأنها استفهامية، بأنه جاء في رواية: «ما أقرأ»، وهذه أيضا كما سيأتي في كلام النووي ليس فيها دليل، ما أقرأ، تكون نافية، يعني: أنا ما أقرأ، يخبر عن نفسه بأنه لا يقرأ، لكن جاء في رواية: «ماذا أقرأ؟»أ وجاء في بعضها: «كيف أقرأ؟» ما يدلُّ على أنها استفهامية.

يقول النووي في شرحه: لفظة "ما" هنا نافية، معناها: لا أحسن القراءة، هذا هو الصحيح، والذي عليه الجمهور، وقيل: هي استفهامية، وهو ضعيف. أو غلط؛ لدخول الباء في خبرها، واحتج من قال: استفهامية، بأنه جاء في رواية «ما أقرأ» يقول النووي: ولا دلالة فيه؛ لأنه يجوز أن تكون "ما" هنا نافية أيضا. والله أعلم.

يقول القسطلاني في شرحه: وأجيب أنها استفهامية بدليل رواية أبي الأسود في مغازيه عن عروة أنه قال: «كيف أقرأ؟» كيف: حرف استفهام، على خلاف بينهم على حرف أو اسم.
«كيف أقرأ» وفي رواية عبيد بن عمير عند ابن إسحاق: «ماذا أقرأ؟» ماذا أقرأ، وبأن الأخفش جوَّز دخول الباء على الخبر المثبت، جوَّز دخول الباء على الخبر المثبت، قال ابن مالك: في بحسبك زيدٌ، أن زيدًا مبتدأ مؤخر؛ لأنه معرفة، وحسبك: خبر مقدم؛ لأنه نكرة والباء زائدة فيه، فإذا قلنا إن "ما" نافية، وهي مثل: "ليس" يقترن خبرها بالباء، وإذا قلنا إنها استفهامية لا يقترن خبرها بالباء مع أنه جاء في بعض الروايات مكانها أداة استفهام، والقصة واحدة، فيجوز، ولها وجه أن تكون استفهامية.

الطالب:............

كيف؟

الطالب:...........
إذا ضعفت لا عبرة بها، ترجَّح الصَّحيح.

فيه مسألة وهي مسألة شائكة، وفيها النص في البخاري، وعامة أهل العلم على أنها لابد من تأويلها، وهي مسألة ما جاء في صلح الحديبية، أن النبي –عليه الصلاة والسلام- لما طُلب منه أن يمحو محمد رسول الله إلى اسمه: محمد بن عبد الله، فتردد علي وهو كاتب –رضي الله عنه وأرضاه- فأخذ النبي –عليه الصلاة والسلام- القلم وكان لا يُحسن الكتابة فكتب: من محمد بن عبد الله، إثبات الكتابة له –عليه الصلاة والسلام- في هذه الرواية الصحيحية في البخاري، لا شك أن فيها إشكالاً كبيرًا، ومع ذلك سيأتي الكلام عليها بالتفصيل، ورأي الباجي، رأي الباجي وردود أهل العلم عليه، إن شاء الله تعالى. والله أعلم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبِه أجمعين.

"