التعليق على الموافقات (1427) - 04
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه، وبعد:
قال المؤلف –رحمه الله-: "المسألة التاسعة: كون الشارع قاصدًا للمحافظة على القواعد الثلاث: الضرورية، والحاجية والتحسينية، لا بد عليه من دليلٍ يستند إليه، والمُستند إليه في ذلك، إما أن يكون دليلاً ظنيًّا أو قطعيًّا، وكونه ظنيًّا باطل، مع أنه أصلٌ من أصول الشريعة".
نعم الدلالات على اعتماد هذه القواعد الثلاث قطعية، الدلالة على اعتماد القواعد الثلاث قطعية بلا شك، وهذه القواعد قطعية الشارع قصدها، وهي المصالح العامة الكلية فمنها الضروري ومنها الحاجي ومنها الكمالي والتحسيني، فهذه لا يشك فيها أحدٌ من المسلمين.
الأدلة التي تستند عليه هذه القواعد الثلاث لا تخلو من أمرين:
إما أن تكون ظنية أو قطعية.
كونها ظنية هذا مستحيل باطل، لماذا؟ لأن القطعي لا يكون مستنده ظنيًّا، قطعي لا يستند إلى ظني؛ لأنه من أين اكتسب القطعية؟ إلا لكون مستنده قطعيًّا، وكونها قطعية وأفرادها كما هو معلوم أخبار آحاد لا تُفيد إلا الظن هذا ما يُريد أن يُقرره المؤلف، لكنها مع كونها أخبار آحاد– أعني مفردات هذه القواعد الثلاث- إلا أنها بمجموع هذه الأفراد تصل إلى القطع بدلاً من أن تكون قضية من القضايا نقلها الواحد أو الاثنان أو الثلاثة لا يُخرجها عن كونها ظنية، لكن هذا الأصل مع أصلٍ آخر يدل عليها بالمعنى، مع أصلٍ ثالث يُقررها بالمعنى هذا هو التواتر المعنوي عند أهل العلم، التواتر المعنوي وهو قطعي.
"بل هو أصل أصولها، وأصول الشريعة قطعية، حسبما تبين في موضعه، فأصول أصولها أولى أن تكون قطعية، ولو جاز إثباتها بالظن، لكانت الشريعة مظنونةً أصلاً وفرعًا".
لأن الفروع مفروغٌ منها أنها عامتها بأدلةٍ ظنية، عامة المسائل الفرعية بأدلةٍ ظنية، ولا يكون من يقول: إن الظن لا يُغني عن الحق شيئًا، الظن مراتب يبدأ من كونه أكذب الحديث إلى كونه لا يُغني من الحق شيئًا، إلى أن يقرب من القطع بحيث يكون هو الغالب على الظن، والاحتمال الراجح، وهذا هو الكثير، وهو المصطلح عليه إلى أن يكون الظن قطعيًّا مفيدًا للعلم الضروري { ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ } [البقرة:46] هذا قطع، لابد من القطع في مثل هذا الظن، ولا يكفي فيه الظن، فدل على أن الظن متفاوت.
والظن الذي يُريده أهل العلم في مثل هذه المواطن، وإن كان لا يُفيد العلم إلا أنه مُلزم مُوجب للعمل، وهو الاحتمال الراجح، فكونه لا يُفيد العلم أي: لا يحتمل النقيض؛ لأنه لم يصل إلى النسبة التي لا تحتمل ذلك بأن تكون مائة بالمائة، يعني إذا كان الاحتمال فوق النصف يعني ستين..سبعين..ثمانين تسعين، كل هذا ظن؛ لأنه الاحتمال الراجح، والظنون متفاوتة، فمنها ما يُطلب معه ما يدعمه، ومنها ما لا يحتاج إلى ذلك إلى أن يصل إلى حد القطع الذي لا يحتمل النقيض.
ولا شك أن الأخبار تتفاوت، الأخبار متفاوتة تبعًا لنقلتها عددًا ووصفًا، فإذا كان مالك مثلاً نجم السُّنن وأحاديثه بالدرجة العليا عند أهل العلم، ومثل هذا ابن شهاب وابن المسيب وغيرهم، لكن ليسوا بمعصومين ألا يحتمل أن يُخطئوا؟ لقد وقع منهم الخطأ هذا الاحتمال هو الذي جعل أخبار هؤلاء لا يُفيد العلم، المسألة مسألة اصطلاح؛ لأن العلم الموجب للعمل شيء، والعلم الذي لا يحتمل النقيض بمعنى أن الإنسان يحلف عليه، ويكون بمنزلة المشاهد في القطعية، يعني إذا أفاد العلم معناه كأنك تراه، ما ينتابك أدنى شك فيه، فمالك حصل منه بعض الأوهام اليسيرة جدًّا، وقُل في خبره أنه يحتمل النقيض بنسبة واحد أو اثنين بالمائة، يعني مطابقته للواقع بنسبة خمسة وتسعين..ستة وتسعين..ثمانية وتسعين ممكن، لكن لا نقول: إنه معصومٌ خبره مائة بالمائة، لكن لو أُضيف إليه آخر أو احتفت بخبره قرينة تدل على مطابقته للواقع انتهى الإشكال، قلنا: أفاد العلم.
فخبر الواحد في أصله لا يُفضي إلا الظن، لكنه إذا احتف به قرينة أفاد العلم بحيث لا يحتمل النقيض؛ لأن الاحتمال الضعيف في خطئه ارتفع في مقابل هذه القرينة.
"لكانت الشريعة مظنونةً أصلاً وفرعًا، وهذا باطل، فلا بد أن تكون قطعية، فأدلتها قطعيةٌ بلا بُد.
فإذا ثبت هذا، فكون هذا الأصل مستندًا إلى دليلٍ قطعي مما يُنظر فيه، فلا يخلو أن يكون عقليًّا أو نقليًّا.
فالعقلي لا موقع له هنا؛ لأن ذلك راجعٌ إلى تحكيم العقول في الأحكام الشرعية، وهو غير صحيح، فلا بد أن يكون نقليًّا".
"العقلي لا موقع له هنا" يعني: مع خلو المسألة من الدليل، أما إذا وجد الدليل النقلي، وطابقه ووافقه الدليل العقلي فهو مُعتبر عند أهل العلم إذا وُجِد الدليل النقلي الذي هو أصل المسألة والمعوَّل عليه في المسائل الشرعية دليل النقلي، لكن إذا وُجِد ما يسنده من دليلٍ عقلي فلا شك أن العقل له مدخل في مثل هذا، وإن كان المعوَّل أولاً وآخرًا على الدليل النقلي، فلا يُعتمد على الدليل العقلي استدلالاً استقلالاً كما يقول المعتزلة، ولا يُلغى العقل بالكلية كما يقول الأشعرية.
"والأدلة النقلية، إما أن تكون نصوصًا جاءت متواترة السند، لا يُحتمل منها التأويل على حال أو لا".
لأنه إن لم تكن متواترة السند فليست قطعية، بل تكون ظنية وإن احتمل متنها التأويل على حال، وإن كانت في ثبوتها قطعية إن احتمل متنها التأويل على حال صارت دلالتها ظنية، فمثلاً في قول الله –جلَّ وعلا-: { ﮊ ﮋ ﮌ} [الكوثر:2] منهم من استدل بالآية على وجوب صلاة العيد، الآية ثبوتها قطعي، لكن دلالتها على صلاة العيد ظنية، إذًا ما تثبت بمثل هذا؛ لأنه يحتمل التأويل على كلام المؤلف –رحمه الله-.
"فإن لم تكن نصوصًا، أو كانت ولم ينقلها أهل التواتر، فلا يصح استناد مثل هذا إليها؛ لأن ما هذه صفته لا يُفيد القطع، وإفادة القطع هو المطلوب".
المفردات مفردات المسائل الداخلة في هذه القواعد تثبت بمثل هذا، لكن إثبات القاعدة العامة لا تثبت بمثل هذا، مفردات القاعدة تثبت بأدلةٍ ظنية كما هو الأصل، ويجب العمل بها، لكن قواعد كلية مثل هذه القواعد الثلاث لابد أن يكون مستندها قطعيًّا ولو بمجموع الأدلة الظنية التي ثبتت بها فروعها، يعني ثبت الفرع بدليلٍ ظني، وثانٍ ثبت بدليلٍ...وثالث إذًا مجموع هذه الأدلة صارت من التواتر المعنوي وهو مفيدٌ للقطع.
"وإن كانت نصوصًا لا تحتمل التأويل ومتواترة السند، فهذا مفيدٌ للقطع، إلا أنه متنازعٌ في وجوده بين العلماء".
يعني يتنازع يُنازع بعض العلماء في وجود المتواتر، ومن أهل الحديث من يقول: لا وجود له ألبتة، ابن حجر يُقرر أنه موجود وجوده وجود كثرة لاسيما المعنوي لاسيما التواتر المعنوي، ويُقرره شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله تعالى- يُفيد أن التواتر موجود، ويُفيد القطع، فقد أثبت فضائل أبي بكر –رضي الله تعالى عنه- بالدليل لقطعي من الأحاديث المتواترة تواترًا معنويًّا، وفضائل عمر، وأما المتواتر توتر لفظي فيُمثل له شيخ الإسلام، كما يُمثل غيره من أهل العلم بحديث من كذب «من كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار» هذا متواتر تواترًا قطعيًّا تواترًا من حيث الثبوت، ومن حيث الدلالة قطعي الدلالة وقطعي الثبوت.
"والقائل بوجوده مقرٌّ بأنه لا يوجد في كل مسألةٍ تفرض في الشريعة، بل يوجد في بعض المواضع دون بعض، ولم يتعين أن مسألتنا من المواضع التي جاء فيها دليلٌ قطعي".
يعني لو طولِب شخص بأن يُورد من الوقائع أو من لفظه –عليه الصلاة والسلام- ما يثبت به القطع بالنسبة لحِل الخبز مثلاً أو على أن صلاة الظهر أربع ركعات من الأحاديث المضافة إلى النبي –عليه الصلاة والسلام- هل يستطيع أن يُثبت هذا التواتر من لفظه –عليه الصلاة والسلام- أو أن هناك وقائع وحوادث وتواتر العمل والتوارث عند هذه الأمة بما فيها سلفها وأئمتها، كل هذا يُفيد القطع؛ ولذا لو قال شخص: أنا لا أُثبت الأحكام بدليلٍ ظني، ولا أعتقد أن هناك فرقًا بين صلاة الصبح والظهر يكفر أم ما يكفر؟ يكفر؛ لأن الدلالة قطعية، وإن لم تكن بالدليل اللفظي وإنما هي بدليل تواتر العمل والتوارث بدأً من سلف هذه الأمة وأئمتها من الصحابة، ثم التابعين ومن بعدهم؛ لأنه قد يقول قائل مثلاً استدلالاً بمثل هذا الكلام: أنه وُجد بعض البدع توارثها الناس طبقةً بعد طبقة منذ قرون منذ ألف سنة مثلاً كالمولد، وتوارثها الناس وعملوها، نقول: هذا التوارث مقطوعٌ رأسه، رأسه مَن؟ القرون الثلاثة المفضلة الصحابة والتابعون كبار الأمة وخيارها وسادتها ما عندهم هذا العمل، نعم لو عمله أبو بكر، ثم عمر، ثم توالت الصحابة ، ثم التابعون، ثم من بعدهم إلى يومنا هذا قلنا: متواتر تواتر عمل وتوارث؛ لأنه ليس هذا الكلام على إطلاقه لابد أن يتسلسل هذا العمل والتوارث من صاحب الرسالة إلى يومنا هذا.
"والقائل بعدم وجوده في الشريعة يقول: إن التمسك بالدلائل النقلية إذا كانت متواترةً موقوفٌ على مقدماتٍ عشر كل واحدةٍ منها ظنية، والموقوف على الظني لا بد أن يكون ظنيًّا، فإنها تتوقف على نقل اللغات وآراء النحو، وعدم الاشتراك، وعدم المجاز، وعدم النقل الشرعي أو العادي، وعدم الإضمار، وعدم التخصيص للعموم، وعدم التقييد للمطلق، وعدم الناسخ، وعدم التقديم والتأخير، وعدم المعارض العقلي، وجميع ذلك أمورٌ ظنية".
يستدل بهذا كله من ينفي وجود الدليل القطعي في الشريعة، يقول: ما يوجد دليل قطعي؛ لأنه إن وجدته من حيث الأسانيد وكثرة أسانيده فلابد أن يكون متنه معتمدًا على هذه القواعد نقل اللغات وعدم الاشتراك، يعني هذا اللفظ مشترك أو غير مشترك، قد يقول فلان: إنه مشترك، والثاني يقول: غير مشترك، وإذا وُجِد الخلاف أفاد القطع أم الظن؟ لا يُفيد قطعًا إذا وُجد الخلاف في كلمة، ومثله عدم المجاز، واحد يثبت، وواحد ينفي، ومثل ذلك بقية هذه المسائل، منهم من يقول: إنه مُقيد، ومنهم من يقول: إنه مُخصص، ومنهم من يقول:....فإذا وُجِدت هذه الإشكالات اعترى المتن ما يعتريه من ظن دلالته، فالذي يُريد أن يُنبِّش يجد، لكن هل لهذه الخلافات حقيقة موجودة عند أهل العلم، أو يبتكرها المُخالف؟ يعني هل قال بأن هذا مشترك أو قال: إنه غير مشترك، من أهل العلم الذين يُعتد بقولهم أو أن هذه مجرد افتراضات؟ نقول: لا شك أن بعض النصوص قطعية بلا إشكال ولا ريب، والأمور المعروفة من الدين بالضرورة لا يعتريها هذه الاحتمالات، ما عُرِف من الإسلام بالضرورة، ما عُرِف من دين الإسلام بالضرورة لا يُمكن أن تعتريه هذه الاحتمالات، وإن أمكن تصور هذه الاحتمالات.
يعني مثلاً الدلالة على أن صلاة الظهر أربع مثلاً مشى عليها أهل العلم من الصحابة إلى يومنا هذا، ولو بحث شخص مثلاً في ألفاظ هذه لابد أن يجد؛ لأن كل لفظٍ من الألفاظ في لغة العرب ما يحتمل أكثر من معنى.
وقُل مثل هذا في الرواة إذا تتابع الأئمة على رواية هذا الخبر ورووه من طرق متعددة وكثيرة، وتلقوه بالقبول، احتفت القرائن بثبوته، وأفاد القطع، ولو وجدنا في بعض طرقه ورواته من تُكلِّم فيه بكلامٍ مرجوح؛ لأن الآن الشبهات فُتحت على أبوابها، وما من حديث إلا وقد تجد في إسناده من يُتكلم فيه لاسيما في بعض طرقه، إن سلم هذا الطريق من الراوي بالطبقة الأولى أول الرواة بالنسبة للمصنِّف- شيخ المصنِّف- شاهده قد لا يسلم، وإذا سلم شيخ المصنِّف فالذي يليه في هذا الطريق أو الطريق أو الثالث، المقصود أن الذي يُنبِّش يُوجِد شُبهًا ولا شك أنه سوف يجد.
سمعنا من يتكلم في حديث ابن أم مكتوم، حديثٍ في الصحيح مُخرَّج، وتلقته الأمة بالقبول، ثم بعد ذلك جاء من يقول: إن بعض رواته فيه كلام، يعني أحاديث الصحيحين المقرر عند أهل العلم أنها تُفيد القطع؛ لأن الأمة تلقت الصحيحين بالقبول سوى أحرف يسيرة تكلم فيها بعض الحفاظ، أعني من الأحاديث، يعني مائتي حديث، لكن لو أجريت الكلام في هذا الراوي، ثم في جميع رواة الصحيحين يبلغون حوالي ستمائة راوٍ تُكلِّم فيهم من رواة الصحيحين، وجمعت مرويات هؤلاء الستمائة لقلت: نصف الصحيحين يمكن أن يتكلم فيها، والحفاظ ما تكلموا إلا في مائة أو مائتي حديث فقط من اثنى عشر ألفًا وثلاثة عشر ألف حديث، وهذه لا شيء، مع أن هذا الكلام يعني الصواب في الغالب مع الشيخين، هل الذي تكلم في الرواة من خلال الكتب معرفته بالرواة كمن خالطهم وعاشرهم، وعرف ما حفظوه وضبطوه وأتقنوه من الأحاديث؛ لأن الراوي قد يكون فيه كلام بالنسبة لبعض أحاديثه، بالنسبة لبعض شيوخه، وهذا لا يُدرك الذي تكلم مُتأخر، ما يُدرك شيئًا، بينما الأئمة قرروا أن هذا الراوي مُتكلم فيه، لكن بالنسبة للحديث الفلاني فقط لا لجميع أحاديثه، تكلموا فيه بالنسبة لشيخه الفلاني أو إذا روى عنه فلان.
هذه أمور لا يُدركها من يتكلم على الأحاديث اليوم، لاسيما من كان هدفه إبطال الأحاديث، فمثل هذا لا يُمكن أن يُوفَّق لمعرفة حقيقة الحال، إذا كان هذا الهدف؛ لأنه يأتي ويُلوِّح يقول: هذا كلامكم أنتم، كلام أئمة الجرح والتعديل، ماذا تقول في أبي حاتم مثلاً؟ قال في الراوي فلان كذا، نقول: أبو حاتم على العين والرأس، لكن هل أنت تستغل كلامه لنصر السُّنَّة أو لرد السُّنَّة؟ هل وظيفتك وظيفة العالم المدافع عن دين الله أو وظيفتك وظيفة المنافق الذي يُريد أن يقدح في الدين؟
فيُنظر إلى هؤلاء بعين البصيرة يأتي من يتكلم في حديث ابن أم مكتوم والعلماء كلهم تلقوه بالقبول، ما قدح فيه أحد؛ لأن في طريقه واحدًا من الرواة تُكلِّم فيه، لكن وما يدريك أن مُسلمًا انتقى من أحاديثه، هذه طريقة الأئمة قد يكون فيه كلام، لكن تُوبع على هذا الحديث وانتقى هذا الإمام من أحاديثه، أو يكون هذا الراوي متكلمًا فيه بالنسبة لراوٍ مثلاً اختلط شيخه مختلط، فإذا روى عنه هذا الشخص صارت روايته قبل الاختلاط مثلاً أو بعد الاختلاط وهو مما تُوبع عليه، أو مما شُك فيه هل كان بعد أو قبل، ووجد ما يرفع هذ الاحتمال، فلابد أن يكون هناك شفوف في النظر، ويكون هناك اطلاع واسع على كلام أهل العلم في الأحاديث وفي الرواة، يعني إذا تُكلِم في راوٍ معناه أن كل رواته مرفوضون؟ ما يلزم، وإذا كان الأمر كذلك فليس لكل أحدٍ أن يتكلم في الأحاديث -والله المستعان-.
"ومن المعترفين بوجود من اعترف بأن الدلائل في أنفسها لا تفيد قطعًا، لكنها إذا اقترنت بها قرائن مشاهدةٌ أو منقولةٌ، فقد تفيد اليقين، وهذا لا يدل قطعًا على أن دليل مسألتنا من هذا القبيل؛ لأن القرائن المفيدة لليقين غير لازمةٍ لكل دليل، وإلا لزم أن تكون أدلة الشرع كلها قطعية، وليس كذلك باتفاق، وإذا كانت لا تلزم، ثم وجدنا أكثر الأدلة الشرعية ظنية الدلالة أو المتن والدلالة معًا، ولاسيما مع افتقار الأدلة إلى النظر في جميع ما تقدم دل ذلك على أن اجتماع القرائن المفيدة للقطع واليقين نادر على قول المقرين بذلك، وغير موجودٍ على قول الآخرين".
أما كونه نادرًا فليس بصحيح، القرائن التي تدل على أن الأحاديث المحفوظة المقطوع بثبوتها هذه ليست نادرة، فتلقي الأمة للصحيحين مُفيدٌ للقطع عند أهل العلم في أحاديث الصحيحين، ولم يستثنوا من ذلك إلا الأحاديث التي تكلم فيها الدارقطني ونحوه، وهي لا تتجاوز مائتي حديث، والبقية كلها قطعية عند أهل العلم هذه من جهة.
من القرائن أن يكون الحديث مرويًّا في دواوين الإسلام بطرقٍ متباينة سالمة من القواد،ح ولو لم يكن في الصحيحين، هذا أيضًا قرينة تدل على أنه محفوظٌ قطعًا، ومن القرائن التي تدل على أن الخبر صحيح بالنسبة إلى النبي –عليه الصلاة والسلام- بما لا مجال للشك فيه، بل بما يُفيد الظن واليقين كون الأحاديث مسلسلة برواية الأئمة، فالاحتمال الذي أوردناه بالنسبة لمالك إذا كان الحديث رواه عنه الإمام الشافعي، وأخطأ فيه الإمام مالك يُوافقه الشافعي؟ لا يُمكن، افترض أن الإمام مالك أخطأ والشافعي أخطأ ورواه عنه مثل أحمد مثلاً يُوافق على الخطأ؟ لا يُمكن؛ ولذا لا تجد اثنين من الأئمة عدلوا راويًا ضعيفًا أو وثقوا ثقة وتفردوا بذلك لابد أن يُوجد مُخالف لهما.
"فثبت أن دليل هذه المسألة على التعيين غير متعين، ولا يُقال: إن الإجماع كافٍ، وهو دليلٌ قطعي؛ لأنَّا نقول: هذا أولاً: مفتقرٌ إلى نقل الإجماع على اعتبار تلك القواعد الثلاث شرعًا، نقلاً متواترًا عن جميع أهل الإجماع، وهذا يعسر إثباته، ولعلك لا تجده، ثم نقول ثانيًا: إن فُرض وجوده، فلا بد من دليلٍ قطعي يكون مستندهم".
لأن الإجماع لابد له من مستند، الإجماع اتفاق مجتهدي الأمة في عصر من العصور لابد أن يكون له مستند من الكتاب أو السُّنَّة، وعلى هذا القطعي على ما تقدم تقريره لا يستند إلى ظني، فهو مُستند على حديثٍ ظني، وحينئذٍ لا يثبت الإجماع؛ لأن مستنده ظني، نقول: هذا الكلام ليس بشيء؛ لأنهم إذا اتفقوا على العمل بهذا الحديث وإن كان أصله ظنيًّا ولم يثبت إلا بطريق واحدة، نقول: الخبر اكتسب القطعية؛ لأن الأمة تلقته بالقبول، وحينئذٍ يكون قطعيًّا لا ظنيًّا.
"ويجتمعون على أنه قطعي، فقد يجتمعون على دليلٍ ظني، فتكون المسألة ظنيةً لا قطعية، فلا تُفيد اليقين؛ لأن الإجماع إنما يكون قطعيًّا على فرض اجتماعهم على مسألةٍ قطعيةٍ لها مستند قطعي، فإن اجتمعوا على مستندٍ ظنيٍّ، فمن الناس من خالف في كون هذا الإجماع حُجَّة، فإثبات المسألة بالإجماع لا يتخلص، وعند ذلك يصعب الطريق إلى إثبات كون هذه القواعد معتبرةً شرعًا بالدليل الشرعي القطعي".
نقول: إذا ثبت الإجماع الحقيقي الذي هو قول مجتهدي العصر، إذا ثبت هذا الإجماع فلا شك أنه قطعي، والدليل الذي استند إليه قطعي، ولو لم نقف على الدليل. أجمع أهل العلم على أن ما تغير لونه أو طعمه أو رائحته بلون النجاسة أو طعمها أو ريحها أنه نجس، إنَّا ما نعرف دليلًا يستند إليه هذا الإجماع إلا بحديث أبي أُمامة «إلا أن تغير طعمه أو لونه أو ريحه»، وهذا ضعيفٌ باتفاق الحُفاظ، لكن هل يجرؤ أحد أن يقول: إن الماء إذا تغير بلون النجاسة ليس بنجس والإجماع قائم؟ لا يمكن أن يجرؤ مسلم على هذا.
نعم دعاوى الإجماع، الدعاوى التي يدعيها بعض العلماء في نقل الإجماع مع أن الخلاف موجود هذه بالفعل تفت في عضد الإجماع؛ لأنه إذا وجدنا مخالفًا فأين الإجماع وإن ادعاه من ادعاه، إذا وجدنا المخالف؟ والشوكاني –رحمه الله- يقول: هذه الدعاوى تجعل طالب العلم لا يهاب الإجماع؛ لأنه وجد الخلاف كثيرًا، بل ممن نقل الإجماع نقل الخلاف بنفسه، فمثل هذا حقيقةً يفت في عضد الإجماع، لكن ليس معناه مثل ما قال الشوكاني لا يهاب الإجماع، بلا لابد أن يكون لدى طالب العلم هيبة للإجماع، إذا نُقل، ولو نُقل المخالف، وإذا نُقل قول الأكثر فلابد أن يتحرى في ترجيح غيره أشد التحري، ولو كان قول الأكثر وعُرف المخالف.
"وإنما الدليل على المسألة ثابتٌ على وجهٍ آخر هو روح المسألة، وذلك أن هذه القواعد الثلاث لا يرتاب في ثبوتها شرعًا أحدٌ ممن ينتمي إلى الاجتهاد من أهل الشرع، وأن اعتبارها مقصودٌ للشارع.
ودليل ذلك استقراء الشريعة، والنظر في أدلتها الكلية والجزئية، وما انطوت عليه من هذه الأمور العامة على حد الاستقراء المعنوي الذي لا يثبت بدليلٍ خاص، بل بأدلةٍ منضافٍ بعضها إلى بعض، مختلفة الأغراض، بحيث ينتظم من مجموعها أمرٌ واحدٌ تجتمع عليه تلك الأدلة، على حد ما ثبت عند العامة جود حاتم، وشجاعة علي -رضي الله عنه- وما أشبه ذلك".
ما أشبه ذلك مما يُعرف عند أهل العلم بالتواتر المعنوي.
"فلم يعتمد الناس في إثبات قصد الشارع في هذه القواعد على دليلٍ مخصوص، ولا على وجهٍ مخصوص، بل حصل لهم ذلك من الظواهر والعمومات، والمطلقات والمقيدات، والجزئيات الخاصة، في أعيانٍ مختلفة، ووقائع مختلفة، في كل بابٍ من أبواب الفقه، وكل نوعٍ من أنواعه، حتى ألفوا أدلة الشريعة كلها دائرةٌ على الحفظ على تلك القواعد، هذا مع ما ينضاف إلى ذلك من قرائن أحوالٍ منقولةٍ وغير منقولة.
وعلى هذا السبيل أفاد خبر التواتر العلم، إذ لو اعتبر فيه آحاد المخبرين، لكان إخبار كل واحدٍ منهم على فرض عدالته مفيدًا للظن".
نعم لو نظرنا إلى مفردات هذه الوقائع لأمكن تضعيفها كل خبرٍ على حدا، يعني من نظير ذلك الأعواد إذا جمعت مائة عود مثلاً تستطيع تكسيرها واحدًا واحدًا، لكن إذا ضممت بعضها إلى بعض وربطها برابط لا تستطيع أن تكسرها، وهكذا الأخبار إذا انضاف بعضها إلى بعض، يأتيك من يقول: قدِم زيد، وهذا الشخص يعني خبره لا تُعطيه من النسبة أكثر من أربعين بالمائة، ثم يأتي واحد مثله، يقول: قدِم زيد، لا شك أن الخبر مازال ما يُمكن يطلع إلى ثمانين ولو كان بمنزلته تُعطيه عشرة مثلاً؛ ليكون خمسين، فيصل إلى حد الشك لِما في نفسك تجاه هذين الرجلين؛ لأنك جربتهم، عندهم أوهام، وعندهم عدم ضبط، وعندهم اشتباه، أحيانًا يقول: قدِم، وقدِم واحد يُشبهه أو ما أشبه ذلك، ثم يأتي ثالث ورابع وخامس وعاشر، ولو كانوا بمثل هذه المثابة إلا أنهم مجتمعون تجد نفسك ملزمة بالتصديق، وهذا مراد أهل العلم بإفادة الخبر أو مجموع الأخبار العلم.
"فلا يكون اجتماعهم يعود بزيادةٍ على إفادة الظن، لكن للاجتماع خاصية ليست للافتراق، فخبرٌ واحدٌ مفيدٌ للظن مثلاً، فإذا انضاف إليه آخر قوي الظن، وهكذا خبرٌ آخر وآخر، حتى يحصل بالجميع القطع الذي لا يحتمل النقيض، فكذلك هذا، إذ لا فرق بينهما من جهة إفادة العلم بالمعنى الذي تضمنته الأخبار.
وهذا بُيِّن في كتاب المقدمات من هذا الكتاب.
فإذا تقرر هذا، فمن كان من حملة الشريعة الناظرين في مقتضاها، والمتأملين لمعانيها، سهُل عليه التصديق بإثبات مقاصد الشارع في إثبات هذه القواعد الثلاث.
المسألة العاشرة:
هذه الكليات الثلاث إذا كانت قد شُرعت للمصالح الخاصة بها، فلا يرفعها تخلف آحاد الجزئيات".
يعني النظر في هذه القواعد الثلاث على العموم؛ ولذا قد تكون المصلحة لعموم الناس في كذا، لكن ينفرد من الناس من تكون مصلحته أو المصلحة العامة من إدراجه في هذه القاعدة خلاف ذلك، لكن تطبيق هذه القواعد لابد منه، فبعض الناس الأصل في السفر أنه مشقة؛ ولذلك شُرِعت فيه الرخص، لكن قد يقول بعض الناس: أنا أريح لي أن أسافر، لماذا؟ لأنه في حال الإقامة في مشقةٍ عظيمة عمل شاق، ومدير متعنت، وأسرة فيها شقاق ونزاعـ، وإذا سافر ارتاح، نقول: لا تترخص؛ لأن هذا أريح لك؟ يتخلف بعض القضايا عن هذه القواعد العامة، لكن تبقى القواعد قواعد عليه وعلى غيره.
الأصل في الكفارات مثلاً أن العتق مُقدَّم لو كان هذا الشخص العتق لا يردعه، ولا يزجره، هل نُفتيه بالصيام مثلاً؛ لأنه يرتدع بالصيام؟ أبدًا؛ ولذا انتُقد وخُطئ الذي أفتى الملك بالصيام وهو قادرٌ على العتق، فهذه القواعد وإن كانت قواعد عامة إلا أن بعض الجزئيات تتخلف عنها.
"ولذلك أمثلة: أما في الضروريات، فإن العقوبات مشروعةٌ للازدجار، مع أنَّا نجد من يُعاقب فلا يزدجر عما عوقب عليه، ومن ذلك كثير".
لأن المعارض أقوى من هذا الزجر، المعارض والدافع لارتكاب هذه العقوبة أقوى من هذا الزجر، والشرع حينما جاء بالحدود لم يجعلها قابلة للنقاش، الحدود يشترك فيها جميع الناس على حدٍّ سواء، فالسارق تُقطع يده، سرق ربع دينار أو مليار دينار ما فيه فرق، تُقطع يده، فقد يقول قائل: هذا الذي سرق هذه المبالغ كثيرة يقدم يده الثانية أو رجله؛ لأنها -على ما يقول- تسوى القطع، لكن إن سرق ربع دينار يسرق ثانية؟
فيقول هنا: "فإن العقوبات مشروعةٌ للازدجار، مع أنَّا نجد من يُعاقب فلا يزدجر عما عوقب عليه" قد يكون تُسول له نفسه مثلاً زنى فجُلد أو شرب فجُلد، ثم يقول: يشرب مرة ثانية، لعله لا يُطلع عليه، وتدعوه نفسه الأمارة للشرب فلا يذدجر، لكن الغالب أنه إذا كان سوي العقل، ومتدينًا بهذا الدين وإن نازعته نفسه في بعض الأوقات إلا أنه لابد أن يرتدع.
"وأما في الحاجيات، فكالقصر في السفر، مشروعٌ للتخفيف وللحوق المشقة، والملك المترفه لا مشقة له، والقصر في حقه مشروع، والقرض أُجيز للرفق بالمحتاج مع أنه جائزٌ أيضًا مع عدم الحاجة".
أما كونه جائزًا على حدٍّ سواء، يعني أنه مُباح متساوي الطرفين فلا؛ لأنه من أخذ أموال الناس بالتكثر، هذا القرض من باب أخذ أموال الناس بالتكثر، فهو مرجوح.
"وأما في التحسينات، فإن الطهارة شُرعت للنظافة على الجملة مع أن بعضها على خلاف النظافة كالتيمم".
نعم قد يقول قائل: الطهارة من الحدث إنما شُرِعت لتنظيف هذه الأعضاء التي تُباشر هذه المؤثرات، فلماذا التيمم، التيمم يزيد أنت تغسل أطرافك عن الغبار وتزيد غبارًا أنت؟ نقول: إذا ثبت الشيء عن الشرع فلا كلام لأحد، يعني ما يلزم أن العقل يُدرك كل العلل والحِكم والمصالح.
"فكل هذا غير قادحٍ في أصل المشروعية؛ لأن الأمر الكلي إذا ثبت كليًّا، فتخلف بعض الجزئيات عن مقتضى الكلي لا يخرجه عن كونه كليًّا، وأيضًا فإن الغالب الأكثري معتبرٌ في الشريعة اعتبار العام القطعي؛ لأن المتخلفات الجزئية لا ينتظم منها كليٌّ يعارض هذا الكلي الثابت.
هذا شأن الكليات الاستقرائية، واعتُبر ذلك بالكليات العربية".
طالب: العربية هكذا؟
نعم.
"فإنها أقرب شيءٍ إلى ما نحن فيه؛ لكون كل واحدٍ من القبيلين أمرًا وضعيًّا لا عقليًّا".
نعم المسائل العربية ليست عقلية وليست شرعية، وإنما هي عرفيةٌ وضعية على الخلاف في مبدأ اللغات، هل هي توقيف أو توفيق أو تلفيق، يعني من هذا وهذا أو توقف ما يدري ما أصلها، فالأقوال فيها أربعة، لكن هذا القول بأنها توفيقية، يعني أن الله –جلَّ وعلا- وفَّق الناس فتكلموا بها.
"وإنما يتصور أن يكون تخلف بعض الجزئيات قادحًا في الكليات العقلية، كما نقول: ما ثبت للشيء ثبت لمثله عقلاً، فهذا لا يمكن فيه التخلف ألبتة، إذ لو تخلف لم يصح الحكم بالقضية القائلة: ما ثبت للشيء ثبت لمثله".
نعم لأنه لو لم يثبت للمثل لما صار مثلاً عقلاً، يعني لما صار مِثل إذا قررت أن هذا الشخص مثل فلان والمثلية تعني المطابقة، ثم قلت لفلان كذا من وصيتك، فلابد أن يكون لمثله مثل ما أوصيت لفلان، وإلا لما صار مثلاً له، لتخلفت المثلية هذا من حيث العقل، وهذه عندهم كلية.
"فإذا كان كذلك، فالكلية في الاستقرائيات صحيحة، وإن تخلف عن مقتضاها بعض الجزئيات".
طالب: مثل القاعدة التي مرت في الكتاب الماضي.
نعم.
طالب: أن القواعد الكلية لا يخرمها نوادر التخلف أو الشواذ؟
لا هو القواعد الكلية لا يتخلف فرع من فروعها، لكن الأغلبية؟ فيها تخلف.
طالب:......
لكن هنا مثلاً في الكليات العربية لو مثلاً الفاعل مرفوع عندهم، يتخلف عنها شيء؟ كونه يتخلف مثل خرق الثوب المسمار يُؤثر في القاعدة؟ هذا لا يُؤثر أبدًا، لا يُؤثر هذا ولا يُلتفت إليه.
"وأيضًا فالجزئيات المتخلفة قد يكون تخلفها لحكمٍ خارجةٍ عن مقتضى الكلي، فلا تكون داخلةً تحته أصلاً، أو تكون داخلةً لكن لم يظهر لنا دخولها، أو داخلة عندنا، لكن عارضها على الخصوص ما هي به أولى، فالملك المترفه قد يُقال: إن المشقة تلحقه، لكنا لا نحكم عليه بذلك لخفائها، أو نقول في العقوبات التي لم يزدجر صاحبها: إن المصلحة ليست الازدجار فقط، بل ثَم أمرٌ آخر وهو كونها كفارة؛ لأن الحدود كفارات لأهلها، وإن كانت زجرًا أيضًا على إيقاع المفاسد، وكذلك سائر ما يُتوهم أنه خادم للكلي.
فعلى كل تقدير لا اعتبار بمعارضة الجزئيات في صحة وضع الكليات للمصالح".
يكفي يكفي.
اللهم صلِّ على محمد.