شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (068)

 

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أيها الإخوة والأخوات السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً بكم إلى هذه الحلقة ضمن برنامجكم: شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح.

مع بداية هذه الحلقة يسرنا أن نرحب بصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور: عبد الكريم بن عبد الله الخضير، عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، فأهلاً ومرحبًا بكم شيخ عبد الكريم.

حياكم الله وبارك فيكم.

المقدم: لا زلنا مع حديث البراء -رضي الله عنه- في باب الصلاة من الإيمان وقد أسلفتم في حلقة ماضية الحديث عن جملة كبيرة من ألفاظ هذا الحديث، لعلنا نستكمل ما تبقى منها مع الإخوة المستمعين.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

مضى الحديث أو الكلام عن أكثر ألفاظ الحديث، وهنا نقل عن الحافظ ابن رجب -رحمه الله تعالى- يقول: فإن كان التحويل قد وقع في أثناء الصلاة، وقد بنى النبي -صلى الله عليه وسلم- على ما مضى من صلاته إلى بيت المقدس استُدل بذلك على أن الحكم إذا تحوَّل المصلي في أثناء صلاته انتقل إلى ما تحول إليه، وبنى على ما مضى من صلاته، فيدخل في ذلك الأَمَة إذا عتقت في صلاتها وهي مكشوفة الرأس، والسترة قريبة، يعني إذا استترت من بلوغها خبر العِتْق فإن صلاتها حينئذٍ تكون صحيحة، وتبني على ما مضى، والمتيمم إذا وجد الماء في صلاته قريبًا، وقَدِر على الطهارة به، والمريض إذا صلى بعض صلاته قاعدًا ثم قَدِر على القيام، يعني في كل هذه الحالات يبني أخذًا من هذا الحديث على الاحتمال الأول، وهو أن النبي -عليه الصلاة والسلام- وقع في أثناء الصلاة النسخ وقع والنبي -عليه الصلاة والسلام- في أثناء الصلاة، وقد بنى على ما مضى من صلاته -عليه الصلاة والسلام-.

الاحتمال الثاني: يقول: وإن كان التحويل وقع قبل صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- بأصحابه؛ ولكن لم يبلغ غيرهم إلا في أثناء صلاتهم فبنوا، استُدِل به على أن من دخل في صلاته باجتهاد سائغ إلى جهة ثم تبين له الخطأ في أثناء الصلاة أنه ينتقل ويبني.

ويُستدَل به على أن حكم الخطاب لا يتعلَّق بالمكلف قبل بلوغه إياه، يعني شخص يعمل بالمنسوخ ولم يطلع على الناسخ، أفعاله صحيحة اتقى الله ما استطاع، شخص يعمل بالمطلق ولم يعلم بالمقيِّد أعماله صحيحة، شخص يعمل بالعام قبل بلوغه المخصِّص وهكذا؛ لأن الشخص لا يكلف إلا بما علم، هذا إذا كان من أهل العلم، ولا يأتينا من يقول: إن لكل أحد أن يجتهد، ويأتي من يقرأ في الكتب باب الأمر بقتل الكلاب، ويعمل بهذا الحكم، ويأخذ الآلة ويقتل كل ما واجهه من كلب، ثم من الغد يأتي إلى باب: باب نسخ الأمر بقتل الكلاب، هذا ليس من أهل النظر، وليس من أهل الاجتهاد، هذا فرضه سؤال أهل العلم، هذا مقلِّد، نعم إذا تأهل الإنسان عليه أن يعمل بما يؤديه إليه اجتهاده، ولو خفيت عليه بعض النصوص، ولا يعاب الإنسان أنه يخفى عليه بعض النصوص، وإن كانت عند من هو دونه، فقد خفي على عمر -رضي الله عنه- خبر الاستئذان، ويوجد عند أبي موسى، ويوجد عند أبي سعيد وغيرهم، وهكذا.

يقول: ويُستدَل به على أن حكم الخطاب لا يتعلق بالمكلف قبل بلوغه إياه، ويُستدَل به على التقديرين يعني على التقدير الأول أن التحويل وقع في أثناء الصلاة، والتقدير الثاني أن التحويل وقع قبل الصلاة، يقول: ويُستدَل به على التقديرين على قبول خبر الواحد الثقة في أمور الديانات، مع إمكان السماع من الرسول -صلى الله عليه وسلم- بغير واسطة، يعني في عصره -عليه الصلاة والسلام-، النبي -عليه الصلاة والسلام- أرسل من يبلِّغ الناس الدين، أرسل إلى الأطراف من يعلمهم الدين، بعث معاذ إلى اليمن وهو واحد، وبعث فلان وفلان يعلمون الناس الخير، ولزمهم قبول هؤلاء وإن كانوا آحاد، مع إمكان السماع من النبي -عليه الصلاة والسلام- مباشرة بغير واسطة، فمع تعذر ذلك يعني بعد وفاة النبي -عليه الصلاة والسلام- أولى وأحرى، وما يقال من أن هذا يَلزَم منه نسخ المتواتر وهو الصلاة إلى بيت المقدس بخبر الواحد، فالتحقيق في جوابه: أن خبر الواحد يفيد العلم إذا احتفَّت به القرائن؛ فنداء صحابي في الطرُق -انظر القرينة- فنداء صحابي في الطرُق والأسواق بحيث يسمعه المسلمون كلهم بالمدينة ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- بها موجود لا يتداخل من سمعه شك فيه أنه صادق فيما يقوله، وينادي به، هذه قرينة على صدقه، كونه ينادي بأعلى صوته في الأسواق ألا إن القبلة قد حولت، أيضًا هناك قرينة أخرى وهي أقوى.

المقدم: سماع الصحابة والرسول -عليه الصلاة والسلام- له؟

لا، كون الصحابة يعرفون أن النبي -عليه الصلاة والسلام- يتشوَّف إلى تحويل القبلة، يعرفون الصحابة ذلك {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء} [سورة البقرة 144] يعرفون أن الرسول -عليه الصلاة والسلام- يتشوَّف إلى تحويل القبلة، هذه قرينة على قبول خبر مثل هذا.

الأصل في خبر الواحد أنه يفيد الظن، ولا نقول: إن هذه من المسائل التي اعتمدها المبتدعة، ووصلوا بها إلى أهداف ومآرب، نقول: خبر الواحد في الأصل لا يفيد إلا الظن، نعم إذا احتفت به قرينة كما هنا أفاد العلم، وكلام ابن رجب صريح في هذه المسألة، فالتحقيق في جوابه: أن خبر الواحد يفيد العلم إذا احتفت به القرائن، وهذا ما صرح به شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وغيرهم، أن خبر الواحد إذا احتفت به القرائن يفيد العلم، أما كون خبر الواحد لو لم تحتف به قرائن يفيد العلم؟ هذا قال به حسين الكرابيسي وداود الظاهري وبعض أهل العلم، لكن مَن يقول: إن خبر الإمام مالك -رحمه الله- وهو نجم السنن مقطوع بصحته، مجزوم به، أي نسبته في الصدق مائة بالمائة؟ ألا يحتمل أن يخطئ الإمام مالك وينسى؟ يحتمل، إذًا هذا الاحتمال يُنزِل النسبة من مائة إلى تسعين، أو خمسة وتسعين، أو تسعة وتسعين، والمراد بالعلم عند أهل العلم ما تكون نسبته غير محتملة للنقيض، يعني مائة بالمائة، ومع كون خبر الواحد في الأصل يفيد الظن، فإذا احتفت به قرينة أفاد العلم هو مفيد للعمل، سواءً أفاد العلم أو الظن هو موجب للعمل، عند جميع من يُعتَد بقوله من أهل العلم، وبهذا نكون تنصلنا عن ما التزم به المبتدعة من كونه يفيد الظن إذًا لا يفيد علم، ولا يوجِب علم، نقول: كونه يفيد الظن في الأصل إذا احتفت به قرينة أفاد العلم، ومع كونه يفيد الظن موجب للعمل.

يقول: فالتحقيق في جوابه أن خبر الواحد يفيد العلم إذا احتفت به القرائن؛ فنداء صحابي في الطرق والأسواق بحيث يسمعه المسلمون كلهم بالمدينة، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- بها موجود لا يتداخل من سمعه شك فيه أنه صادق فيما يقوله وينادي به، والله أعلم.

يعني عائشة كم استدركت على الصحابة؟! وهم خيار الأمة، ثقاتها، عدول الأمة، حفاظها، كم استُدرِك على ابن عمر! قوله: اعتمر النبي -عليه الصلاة والسلام- في رجب، استُدرِك على أبي هريرة وهو حافظ الأمة، خبر هؤلاء وهم أعيان الأمة، وهم آحاد في الأصل يفيد الظن؛ لماذا؟ لأنه يحتمل النقيض، ما فيه أحد معصوم من الخطأ إلا من عصمه الله -عز وجل­-، وليس في الأمة من هو معصوم إلا رسولها -عليه الصلاة والسلام-.

يقول: "وكانت اليهود قد أعجبهم" أي الرسول -عليه الصلاة والسلام-، "إذ كان يصلي قِبَل بيت المقدس، وأهل الكتاب" عطف على اليهود، قال الكرماني: فإما أن يراد به العموم فهو عام عُطِف على خاص، أهل الكتاب يشمل اليهود والنصارى فهو عام، كانت اليهود وأهل الكتاب من باب عطف العام على الخاص، أي جميع أهل الكتاب، أو المراد به النصارى فقط، فيكون من عطف خاص على خاص، وجُعلوا تابعة، يعني تابعين لليهود؛ لأنه لم تكن قِبْلَتهم؛ لأن بيت المقدس لم تكن قبلة النصارى، إنما جعلوا على سبيل التبعية لليهود، إعجابهم بهذا كان على سبيل التبعية لليهود، ويحتمل أن تكون الواو بمعنى (مع) تكون الواو واو المعية، ومعناه: كان يصلي نحو بيت المقدس مع أهل الكتاب، وهذا هو الأظهر لو صحت رواية النصب.

قال ابن حجر: وقيل: المراد النصارى؛ لأنهم من أهل الكتاب، وفيه نظر؛ لأن النصارى لا يصلون لبيت المقدس، فكيف يعجبهم؟! قال الكرماني: كان إعجابهم بطريق التبعية لليهود، يقول ابن حجر: قلت: وفيه بُعْد لأنهم أشد الناس عداوة لليهود، كيف يعجبهم ما يعجب اليهود، يعني هم أشد الناس عداوة في اليهود.

يقول العيني: قلت: سبحان الله! إن هذا عجب شديد! كيف لم يتأمل هذا كلام الكرماني بتمامه حتى نظَّر فيه؟! فإنه لما قال: المراد به النصارى فقط، قال: وجُعِلوا تابعة لأنه لم تكن قبلتهم، بل إعجابهم كان بالتبعية لليهود، على أن نفس عبارة الحديث يشهد بإعجاب النصارى أيضًا؛ لأن قوله: وأهل الكتاب إذا كان عطفًا على اليهود يكونون داخلين فيما وُصِف به اليهود، فالنصارى من جملة أهل الكتاب، فهم أيضًا داخلون.

يعني الإعجاب حاصل للنصارى، سواء قلنا: إن المراد بأهل الكتاب النصارى فقط، أو اليهود والنصارى، فإعجاب النصارى حاصل حاصل؛ لأنه إما أن يراد إما أن يكون أهل الكتاب من اللفظ العام الذي يراد به الخصوص وهم النصارى، أو اللفظ العام الباقي على العموم الشامل لليهود والنصارى، وحينئذٍ الإعجاب حاصل، وابن حجر قال: وفيه بُعْد لأنهم كانوا أشد الناس عداوة لليهود.

أقول: هم مع عداوتهم لليهود إلا أنهم يتَّحدون ضد العدو المشترَك، مع عداوة النصارى لليهود واليهود للنصارى يتَّحدون ضد العدو المشترَك، وهو الإسلام وأهله، كما هو مشاهَد على مَرِّ التاريخ، يعني إذا كانت القضايا فيما بينهم بينهم عداوة، لكن إذا كانت القضايا فيما بين بعضهم مع المسلمين يتحد اليهود والنصارى، يتحد طوائف الكفر كلها للقضاء على الإسلام.

"فلما ولى النبي -عليه الصلاة والسلام- وجهه قِبَل البيت الحرام أنكروا" يعني اليهود "ذلك" فنزلت: {سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ} [سورة البقرة 142] ولما مات رجال من الصحابة قبل أن تحوَّل القبلة شكُّوا وقالوا: ما ندري ما نقول فيهم؟ يعني ناس من الصحابة، والصلاة ركن الإسلام الأعظم بعد الشهادتين، ماتوا ولم يصلوا الصلاة التي هي مجزئة في الوقت الحاضر بعد نسخ القبلة الأولى، يعني الصلاة بعد نسخ القبلة إلى بيت المقدس صحيحة أو باطلة؟ باطلة، إذًا صلاتهم باعتبار النسخ.

المقدم: باطلة.

نعم، إذا نظرنا إليها من هذه الحيثية، هم شكُّوا، وهذا من حرصهم على إخوانهم -رضي الله عن الجميع- شكُّوا وقالوا: ما ندري ما نقول فيهم؟ فأنزل الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [سورة البقرة 143] أي بالقبلة المنسوخة أو صلاتكم إليها، مع أن الإيمان بالقِبْلة المنسوخة يعني التصديق، وعرفنا فيما تقدم وفيما سيأتي أن المراد بالإيمان هنا الصلاة مع أن بعض الشراح قال: أي بالقِبْلة المنسوخة، لكن جماهير أهل العلم على أن المراد بالإيمان هنا الصلاة.

قال الإمام البخاري بعد رواية الحديث مسندًا: قال زهير: حدثنا أبو إسحاق عن البراء في حديثه هذا أنه مات على القِبْلة قبل أن تحوَّل رجال وقُتِلوا، فلم نَدْرِ ما نقول فيهم؟ فأنزل الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [سورة البقرة 143].

قال ابن رجب: لم يذكر أكثر المفسرين في هذا خلافًا، يعني أن المراد بالإيمان الصلاة، وأن المراد بالإيمان هاهنا الصلاة؛ فإنها علم الإيمان، وأعظم خصاله البدنية.

يقول النووي -رحمه الله-: في هذا الحديث فوائد كثيرة، ستأتي -إن شاء الله تعالى- مفرقة في أبوابها، منها: ما تُرجِم له، وهو كون الصلاة من الإيمان، وقد اتفق المفسرون وغيرهم على أن المراد: وما كان الله ليضيع صلاتكم، ومنها: استحباب إكرام القادم أقاربه بالنزول عليهم دون غيرهم، كان أول ما قدم المدينة نزل على أجداده، أو قال: أخواله من الأنصار، فنزل على أقاربه، وهذا -مع الأسف الشديد- كثير من حال الناس اليوم على خلاف هذا، تجده يُؤْثِر زملاءه وأصدقاءه وأصهاره أحيانًا على أقاربه، يُؤْثِرهم على أقاربه، فيَنزِل عندهم، وتكون زياراته للأقارب لِمَامًا، يعني عكس المطلب الشرعي، يكون الأصل عند الأقارب والزيارة لهم بالدرجة الأولى، ولا يمنع أن يزور من يحبه في الله.

ومنها: أن محبة الإنسان الانتقال من حال من الطاعة إلى أكمل منه ليس قادحًا في الرضا، بل هو محبوب، هنا وكان يعجبه أن تكون قِبْلته قِبَل البيت، القِبْلة الأولى شرع في وقتها، لكن كان النبي -عليه الصلاة والسلام- يعجبه، يعني يحب أن تكون القِبْلة إلى البيت الحرام، إلى الكعبة، فقال أهل العلم: إن محبة الإنسان الانتقال من حال من الطاعة إلى أكمل منه، يعني لا شك أن الكعبة أكمل من بيت المقدس، ليس قادحًا في الرضا، بل هو محبوب.

ومنها: جواز النسخ، نسخ القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، نسخ بلا شك، وهذا جائز بإجماع من يعتد بقوله من أهل العلم، بل إجماع المسلمين، وأنه لا يلزم منه البداء، كما تقول اليهود ومن ينحو منحاهم من أهل الزيغ.

يقول -رحمه الله-: وأنه لا يثبت في حق المكلف النسخ لا يثبت في حق المكلَّف حتى تبلغه؛ لأن أهل المسجد وأهل قباء صلوا إلى بيت المقدس بعض صلاتهم بعد النسخ، لكن قبل بلوغه إليهم.

المقدم: لكن -أحسن الله إليكم- لو قُدِّر أن شخصًا أحب طاعة معينة لم تفرض أكمل من طاعة هو عليها هذا لا يستقيم مع توقف الوحي والتشريع.

الآن استقر، استقر التشريع، ما عاد فيه نسخ، لا يوجد نسخ الآن.

المقدم: لكن أقصد حتى مجرد المحبة لا يجوز.

عليه أن يرضى ويسلِّم الآن، ولا يسخط ما أنزل الله، ولا يكره، ولا يتبرَّم، بل عليه أن يرضى ويسلِّم، وأنه لا يثبت يعني النسخ في حق المكلف حتى تبلغه؛ لأن أهل المسجد وأهل قباء صلوا إلى بيت المقدس بعض صلاتهم بعد النسخ لكن قبل بلوغه إليهم.

ومنها: أن الصلاة الواحدة تجوز إلى جهتين بدليلين، فيؤخذ منه أن من صلى بالاجتهاد إلى جهة، ثم تغير اجتهاده في أثناء الصلاة فظن القبلة في جهة أخرى، ولم يتيقن ذلك يتحوَّل إلى الجهة الثانية، ويبني على ما مضى من صلاته، ويجزيه، وإن كانت إلى جهتين أو ثلاث أو أربع.

يقول النووي: حتى لو صلى الظهر إلى الجهات الأربع، كل ركعة إلى جهة بالاجتهاد أجزأه، وهذا هو الصحيح عند أصحابنا، ولهم فيه تفصيل وتفريع، واختلاف كثير.

يقول النووي -رحمه الله-: وقد استدل به جماعة على قبول خبر الواحد، ولا يسلَّم لهم؛ لأن الاستدلال به، لأن هذا الواحد احتفت قرائن بخبره، فأفاد العلم؛ لأن القوم كانوا متوقِّعين تحويل القبلة، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- بقربهم وغير ذلك من القرائن، والله أعلم.

استدل به جماعة على قبول خبر الواحد، خبر الواحد مقبول عند جميع من يُعْتَد به من أهل العلم، ولا يشترط لقبول الخبر تعدد الرواة، ولذا يقول ناظم النخبة عندما عرف العزيز بأنه ما يرويه اثنان، قال:

وليس شرطًا للصحيح فاعلمِ        .

 

وقد رمي من قال بالتوهمِ          .

فالخبر ولو لم يروه أو لم ينقله إلا شخص واحد صحيح ومقبول عند عامة أهل العلم، ولم يقل برَدِّه إلا المعتزلة -كما هو معروف-، هذا من حيث القبول ولزوم العمل، كونه يفيد للعلم مسألة أشرنا إليها سابقًا، إذا احتفت به قرائن لا إشكال، والخلاف فيما إذا لم تحتف به قرينة.

من العجائب يعني مع اشتمال الصحيح البخاري على الغرائب التي جاءت من طريق واحد كخبر الأعمال بالنيات على ما تقدم تقريره، تفرَّد به عمر، وعنه علقمة، وعنه محمد بن إبراهيم، وعنه يحيى بن سعيد فقط، في أربع طبقات يرويه واحد عن واحد، ومثله آخر حديث في الكتاب، وغرائب الصحيح كثيرة، ولم يقل أحد أنها مجال للأخذ والرد، بل هي في كتاب تلقته الأمة بالقبول، ولم ينازِع أحد في صحة هذه الأحاديث.

من العجيب أن الكرماني هذا الذي ننقل عنه كثيرًا يرى أن من صحة الخبر أن تتعدد رواته، وأن هذا شرط البخاري في صحيحه، وفاته أول حديث وآخر حديث؛ ولذا يقول ابن حجر: هذا جهل بالكتاب الذي يشرحه. هذه الدعوى وإن كانت ضعيفة وواهية إلا أنه قال بها ابن العربي المالكي في شرح البخاري، وفي شرح الترمذي، يقول في حديث: «هو الطهور ماؤه» الحديث صحيح ولم يخرِّجه البخاري لأنه ليس على شرطه؛ لأنه من رواية واحد، نعم هو ليس على شرط البخاري لكن ليس لأنه من رواية واحد، فقد خرَّج البخاري ما هو من رواية واحد كذلك أحاديث كثيرة.

الغريب أن كلام الحاكم يومئ إلى ذلك، يومئ إلى أن التعدد في الرواية شرط عند البخاري.

المقدم: أحسن الله إليكم، يعني أشرتم قبل قليل إلى مسألة ربما تشكل كثيرًا على كثير من الإخوة عندما يبذل الإنسان وسعه كما ذكرتم ويجتهد في تحديد القبلة، ثم يتضح له أثناء الصلاة أن القبلة غير صحيحة فإنه يتحوَّل ويبني، مجال الاجتهاد في هذا هل يختلف بالنسبة له إن كان في المدينة عنه في الصحراء؟ وما مقدار الاجتهاد؟ وهل يختلف ما إذا انتهت الصلاة عنها إذا كانت في منتصفها أو أثنائها؟

أما بالنسبة للبلدان والمدن فليست محلاًّ للاجتهاد إنما عليه أن يعمل بالقبلة المعتمَدة في البلد، ولذا يقول أهل العلم: إن وجد محاريب إسلامية عمل بها، فالبلدان ليست مجالا للاجتهاد، يبقى كون الإنسان في الصحراء وخفيت عليه الأدلة أدلة القبلة يجتهد، وعليه أن يتقي الله ما استطاع، ولو صلَّى إلى غير القبلة، ولو بان فيما بعد أن صلاته إلى غير القبلة، فإن كان في أثنائها اتجه إلى الجهة التي ترجحت عنده فيما بعد، يعني ظهر له من الأدلة ما صلاه من صلاته، وانتهى منه اتقى الله فيه ما استطاع فهو صحيح، وما انتقل إليه هو أيضًا باجتهاد، وعليه أن يستفرغ الوسع، ويبذل الجهد، فإذا استفرغ وسعه، وهو من أهل هذا الاجتهاد، ما الذي يمنع من تصحيح صلاته في أولها وفي آخرها؟! أما إذا سلَّم منها وقد صلى إلى جهة باجتهاد منه فصلاته صحيحة، سواءً كان في الوقت أو بعد خروجه، وإن قال بعض أهل العلم أنه يعيد ما دام في الوقت.

سائل: أحسن الله إليكم يا شيخ أشرتم موفَّقين مسدَّدين إلى كلام الإمام النووي في قضية نقله عن الأئمة أنهم يحتجون بهذا الحديث على قبول خبر الواحد، ثم عقَّب قائلاً -عليه رحمات الله المتتابعة-: بأنه ليس كذلك، هل الكلمة هذه يا شيخ توهم أن الإمام النووي لا يرى الاحتجاج بخبر الواحد؟

الشق الثاني من السؤال: أحسن الله إليكم قلتم أيضًا أن في قضية الاجتهاد أو عدم الاجتهاد في القِبْلة قلتم: إن في المدن لا يَسُوْغ الاجتهاد وفي الصحراء يَسُوْغ الاجتهاد هل تُنَزَّل -أحسن الله إليكم- مدن الكفار؛ لأنه ابتلي المسلمين بالسفر إلى بلاد الكفار، هل تُنزَّل مدن الكفار بمنزلة الصحاري بمعنى أنه يجوز فيها الاجتهاد للصلاة؟

أما كون النووي لا يقبل خبر الواحد، يقول -رحمه الله-: استدل به جماعة على قبول خبر الواحد ولا يُسلَّم لهم. كلامه هذا محمول على المسألة التي نحن بصددها، هذا الحديث وأن خبر هذا الواحد نُسِخ به قبلة قطعية، النووي يقرر أن خبر الواحد يفيد الظن، كيف يُنسَخ بخبر الواحد الذي لا يفيد إلا الظن قبلة قطعية؟ مقطوع بها الاتجاه إلى بيت المقدس، في وقته مقطوع به، كيف يُنسَخ خبر الواحد بما يفيد الظن؟

يقول: استدل به جماعة على قبول خبر الواحد، يعني في هذا المجال في النسخ القطعي، يقول: ولا يسلَّم لهم الاستدلال به لأن هذا الواحد احتفت به قرائن، يعني قطعي ينسخ بقطعي، أما كونه يحتج بأحاديث ظنية أحاديث آحاد هذا لا يماري فيه أحد؛ كتبه طافحة بهذا، بل يَحتَج بالصحيح، يحتج بالحسن، وقد ينْزِل إلى الضعيف غير شديد الضعف، بل هو -رحمه الله- عُرِف تساهله في ذلك، وعرف أيضًا اهتمامه بالسنة والعناية بها، فلا يُظَن به أنه لا يحتج بالحديث، أو لا يحتج بخبر الواحد أبدًا، لا يظن به هذا.

أما الشق الثاني: وهو دول الكفار هل هي بمنزلة الصحاري؟ هي بمنزلة الصحاري في حالة ما إذا لم يجد محاريب لمسلمين، أو لا يجد من يخبره من أهل البلد ممن يثق بخبره من المسلمين، أما إذا لم يجد محاريب إسلامية في هذا البلد تدله على جهة القبلة، أو لم يجد من يثق بخبره ويخبره ويرشده إلى جهة القبلة فإنه يجتهد كما في الصحاري.

المقدم: أحسن الله إليكم ونفع بعلمكم وجزاكم الله عنا خير الجزاء.

أيها الإخوة المستمعون، سوف نستكمل -بإذن الله- ما تبقى في هذا الحديث وبالذات أطراف الحديث في حلقة قادمة. أترككم في رعاية الله وحفظه.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.