التعليق على الموافقات (1430) - 06

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

سائل يسأل يقول: هل يجوز لي أن أكتب بعض الفوائد والنقاط من خطبة الجمعة، وذلك أثناء الخطبة والإمام على المنبر؟

إذا كنت ممن يشهد هذه الجمعة فلا يجوز لك؛ لأنه أشد من مسّ الحصى، وإن كانت الخطبة عبر الوسائل في المذياع ونحوه فاكتب ما شئت.

هل يصح أن أقول لرجلٍ مسلمٍ ارتكب معصية: يا فاسق؟

الحكم إذا كانت من الكبائر فحكمه الفسق، لكن لا أنه يُنبذ بهذا ويُعيَّر به، أو يُتخذ لقب، لا لا، لا يجوز ذلك.

نعم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

يقول العلامة الشاطبي -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ لَا يَصِحُّ أَنْ تُرَاعَى وتُعتبر".

كالكرامات وغيرها من الإلهامات التي يدعيها بعض الناس، لا تجوز مراعاته إذا خالفت أصلاً شرعيًّا.

"لَا يَصِحُّ أَنْ تُرَاعَى وتُعتبر إِلَّا بِشَرْطِ أَنْ لَا تَخْرِمَ حُكْمًا شَرْعِيًّا وَلَا قَاعِدَةً دِينِيَّةً، فَإِنَّ مَا يَخْرِمُ قَاعِدَةً شَرْعِيَّةً أَوْ حُكْمًا شَرْعِيًّا لَيْسَ بِحَقٍّ فِي نَفْسِهِ، بَلْ هُوَ إِمَّا خَيَالٌ أَوْ وَهْمٌ، وَإِمَّا مِنْ إِلْقَاءِ الشَّيْطَانِ، وَقَدْ يُخَالِطُهُ مَا هُوَ حَقٌّ وَقَدْ لَا يُخَالِطُهُ، وَجَمِيعُ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ اعْتِبَارُهُ".

"ما يخرم قاعدة شرعية أو حكمًا شرعيًّا" هذا لا يُلتفت إليه؛ لأن العبرة بما جاء على وفق الشرع، يقول: "فإن ما يخرم قاعدة شرعية أو حكمًا شرعيًّا ليس بحق في نفسه، بل هو إما" باطل في الجملة بالكلية "أو وهم" لا حقيقة له، "وإما من إلقاء الشيطان، وقد يخالطه ما هو حق وقد لا يخالطه".

يعني: من حيل الشياطين وتلبيسهم على الناس مع أعوانهم من السحرة، قد يأتي مريض فتُكتب له الفاتحة في ورقة، ويقال: علِّقها، هذا في ظاهره حق، لكن الشياطين أمروا هذا الساحر أن يكتب هذه الفاتحة بما لا تجوز كتابتها فيه، بنجاسة مثلاً، في ظاهرها حق، وهي في الحقيقة باطل.

يقول: "وقد يخالطه ما هو حق وقد لا يخالطه" قد يكون طلاسم، يكتب طلاسم لا حق فيها، هي رموز وأسماء لشياطين يستعان بها من دون الله، مع الأسف أن مثل هذه الطلاسم قد راجت على كثير ممن ينتسب إلى العلم في القرون الثامن والتاسع والعاشر والحادي عشر وما بعده، فتجدون هذه الجداول التي فيها الحروف المقطعة، وفيها رسوم تُكتب عند الألم في الرأس، تكتب عند الألم في الرجل، تكتب عند كذا، هذه طلاسم سحرية، توجد في كتب الطب المنسوبة إلى أهل العلم، مثل "تسهيل المنافع"، ومثل ما يسمى بـ"الرحمة" للسيوطي، ومثل "حياة الحيوان" فيه كثير من هذا، هذه باطلة من كل وجه، لكن الذي قد يُلبَّس به: كتابة شيء من القرآن بما لا تجوز الكتابة فيه، الظاهر: الفاتحة، والفاتحة رقية، وما يدريك أنها رقية؟ لما قرأها أبو سعيد على اللديغ برئ، لكن هؤلاء تقربوا إلى الشياطين بكتابتها بنجاسة مثلاً، من أجل أن يروج على الناس باطلهم.

ولذا يقول: "وقد يخالطه ما هو حق وقد لا يخالطه" لأن الشياطين عندهم من الحِيَل ما يستطيعون به، وقد أقدرهم الله- جلَّ وعلا- على ذلك، ما يلبسون به على السُذَّج من الناس، الذين لا يستطيعون عرض ما يعرض لهم على الكتاب والسنة. وتتلبس الشيطان بعالم، ويقول: إنه فلان فافعل كذا، ولثقتي بهذا العالم يفعل ما يُلقى إليه.

وقرر شيخ الإسلام -رحمه الله- أن الإنسان قد يدعو مقبورًا، وهو في قبره فيُرد عليه، يجيبه بعض الشياطين من أجل التلبيس عليه.

"وَجَمِيعُ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ اعْتِبَارُهُ مِنْ جِهَةِ مُعَارَضَتِهِ لِمَا هُوَ ثَابِتٌ مَشْرُوعٌ، وَذَلِكَ أَنَّ التَّشْرِيعَ الَّذِي أَتَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَامٌّ لَا خَاصٌّ".

يعني لكل أحد، لا يسع أحدًا الخروج عنه، عامٌّ لكل أحد، خلافًا لما يدَّعيه بعض من تُدَّعى له الولاية من غلاة الصوفية، أنه إذا وصل إلى حد سقطت عنه التكاليف، التكاليف إنما هي للعامة، فإذا وصل إلى حد من الولاية، خلاص، انتهت عنه التكاليف، والله -جلَّ وعلا- يقول لنبيه: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99]، فكأنهم جعلوا أنفسهم في منزلةٍ فوق منزلة النبي -عليه الصلاة والسلام-.

وقد قال قائلهم: فويق الرسول ودون الولي، مقام النبوة في رتبةٍ فويق الرسول، ودون الولي، يعني: الولي أعلى شيء، -نسأل الله العافية- ويزعمون أنه يأخذ من المعدن مباشرة بدون واسطة  ملائكة كالرسل، الرسل إنما يأخذون عن طريق ملك، ينزل إليهم بالوحي، وأما هؤلاء الأولياء الذين تُدعى لهم الولاية لا، مقامهم فوق، نسأل الله العافية.

"كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمَسْأَلَةِ قَبْلَ هَذَا، وَأَصْلُهُ لَا يَنْخَرِمُ، وَلَا يَنْكَسِرُ لَهُ اطِّراد، وَلَا يُحَاشَى مِنَ الدُّخُولِ تَحْتَ حُكْمِهِ مُكَلَّفٌ".

يعني: لا يستثنى من الدخول تحته أي مكلف، نعم، غير المكلف يمكن، أما المكلَّف فلا يمكن أن يستثنى من الأحكام العامة، اللهم إلا إذا ورد دليل يخصصه.

"وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَكُلَّ مَا جَاءَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ الَّذِي نَحْنُ بِصَدَدِهِ مُضَادًّا لِمَا تَمَهَّدَ فِي الشَّرِيعَةِ، فَهُوَ فَاسِدٌ بَاطِلٌ.

وَمَنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ مَسْأَلَةٌ سُئِلَ عَنْهَا ابْنُ رُشْدٍ فِي حَاكِمٍ شَهِدَ عِنْدَهُ عَدْلَانِ مَشْهُورَانِ بِالْعَدَالَةِ فِي أَمْرٍ، فَرَأَى الْحَاكِمُ فِي مَنَامِهِ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لَهُ: «لَا تَحْكُمْ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ، فَإِنَّهَا بَاطِلٌ»، فَمِثْلُ هَذَا مِنَ الرُّؤْيَا لَا مُعْتَبَرَ بِهَا فِي أَمْرٍ وَلَا نَهْيٍ، وَلَا بِشَارَةٍ وَلَا نِذَارَةٍ؛ لِأَنَّهَا تَخْرِمُ قَاعِدَةً مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا يَأْتِي مِنْ هَذَا النَّوْعِ".

قد يقول قائل: إن هذا رأى النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-، والشيطان لا يتمثل به فهي رؤيا حق، لماذا لا يُعمل بهذه الرؤيا؟ رؤيا حق، لماذا لا يُعمل بها؟

طالب: ما يجزم أنه الرسول.

ولو جُزم؛ لأن الشيطان لا يتمثل به، لو جزمنا بأنه الرسول -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-، لكن حال الرأي غير كاملة، غير مكتملة، ناقصة، يعني إذا كان الذي لا يضبط، الضبط شرط لقبول الرواية، في حال اليقظة عنده شيء من الخلل في الضبط، عنده تغفيل، فكيف بالنائم؟ هل يتوفر فيه شرط الضبط وهو نائم؟ لا يتوفر، ولذلك كثير من الحُفَّاظ الضابطين إذا رأى رؤيا قد يخل بكثير منها، يذكر بعضها، وينسى بعضها، ويقدم ويؤخر، ما يسوقها كما كانت؛ ولذا يسلك بعض المتأخرين ممن حاد عن الصراط المستقيم مسلك التصحيح والتضعيف للأحاديث بالرؤى، يقول: رأيت النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- فقال لي: هذا حديث ضعيف، أو قال: هذا حديث صحيح. نقول: هذا الكلام باطل، لا يُعتمد ولا يُعوَّل عليه، والشيطان لا يتلبس بالنبي- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-، لكن الخلل فيك أنت، الخلل في الرأي.

طالب: .........

يعني: إذا تردد الإنسان في أمرين كلاهما جائز، ولا يتعلق أحدهما بحق مخلوق، ورجَّح برؤيا أو بغيره فلا إشكال.

طالب: أبو بكر الصديق رؤياه ...

"وَمَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنْفَذَ وَصِيَّةَ رَجُلٍ بَعْدَ مَوْتِهِ بِرُؤْيَا رؤيت، فَهِيَ قَضِيَّةُ عَيْنٍ لَا تَقْدَحُ فِي الْقَوَاعِدِ الْكُلِّيَّةِ لِاحْتِمَالِهَا، فَلَعَلَّ الْوَرَثَةَ رَضُوا بِذَلِكَ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْهَا خَرْمُ أَصْلٍ".

فهمت؟

طالب: .........

"وَعَلَى هَذَا لَوْ حَصَلَتْ لَهُ مُكَاشَفَةٌ بِأَنَّ هَذَا الْمَاءَ الْمَعِينَ مَغْصُوبٌ أَوْ نَجِسٌ، أَوْ أَنَّ هَذَا الشَّاهِدَ كَاذِبٌ، أَوْ أَنَّ الْمَالَ لِزَيْدٍ وَقَدْ تَحَصَّلَ بِالْحُجَّةِ لِعَمْرٍو، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَلَا يَصِحُّ لَهُ الْعَمَلُ عَلَى وَفْقِ ذَلِكَ مَا لَمْ يَتَعَيَّنْ سَبَبٌ ظَاهِرٌ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ الِانْتِقَالُ إِلَى التَّيَمُّمِ، وَلَا تَرْكُ قَبُولِ الشَّاهِدِ، وَلَا الشَّهَادَةِ بِالْمَالِ لِزَيْدٍ عَلَى حَالٍ".

لا يجوز له الانتقال إلى التيمم؛ لأنه واجد للماء، لكن لو كان عنده أكثر من إناء، وجاء من يقول له في الرؤيا: إن هذا الماء نجس، واحد من هذه الآنية، وعدل عنه إلى غيره، الأمر سهل؛ لأنه ما أخل بقاعدة من قواعد الشرع، يعني ما عدل من الوضوء إلى التيمم وهو واجد للماء.

"فَإِنَّ الظَّوَاهِرَ قَدْ تَعَيَّنَ فِيهَا بِحُكْمِ الشَّرِيعَةِ أَمْرٌ آخَرُ، فَلَا يَتْرُكُهَا اعْتِمَادًا عَلَى مُجَرَّدِ الْمُكَاشَفَةِ أَوِ الْفِرَاسَةِ، كَمَا لَا يَعْتَمِدُ فِيهَا عَلَى الرُّؤْيَا النَّوْمِيَّةِ، وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ، لَجَازَ نَقْضُ الْأَحْكَامِ بِهَا، وَإِنْ تَرَتَّبَتْ فِي الظَّاهِرِ مُوجِبَاتُهَا، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ بِحَالٍ، فَكَذَا مَا نَحْنُ فِيهِ".

قضية حصلت في محكمة عند قاضٍ من القضاة، جيء بسارق، واعترف، وحكم عليه بالقطع، وقبل الانصراف من المجلس ادَّعى أنه قد تلبَّسه جنيّ، فقرأ عليه القاضي وتكلَّم الجني، وقال الجني: إنه هو الذي سرق لا الشخص، يبطل الحكم بمثل هذا؟

طالب: ........

الرجل اعترف بكامل قواه أنه سرق، وثبت عليه الحكم من القاضي، ثم ادعى أنه تلبس به جني، ثم حصلت الرقية فتكلَّم الجني وقال: إنه هو الذي سرق. مثل هذا يُلغى به الحكم؟ لو عملنا بمثل هذا، تعرضت جميع الأحكام لمثل هذا، كل مَنْ اتجهت إليه تهمة وقُرر وأقر واعترف في وقت من الأوقات، أو شهد عليه الشهود، ثم ادّعى أنه مُتلبس به، وقال الجني: إنه هو الذي زنا، الجني هو الذي فعل، والجني هو الذي ضرب وقتل، تعطل الأحكام بسببها، والله المستعان.

"وَقَدْ جَاءَ فِي "الصَّحِيحِ": «إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَأَحْكُمُ لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ مِنْهُ» الْحَدِيثَ، فَقَيَّدَ الْحُكْمَ بِمُقْتَضَى مَا يَسْمَعُ وَتَرَكَ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ".

مع أنه باستطاعته -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- أن يصل إلى الحكم المطابق للواقع؛ لأنه مُؤيَّد بالوحي، وترك هذا كله، ليسُنَّ سنة لمن يأتي بعده من القضاة أن هذه هي الطريقة والوسيلة، ولا وسيلة غيرها في القضاء، «البينة على المدعي، واليمين على من أنكر»، هذه وسيلة شرعية نتيجتها شرعية، ولو خالفت الواقع، كما في الحديث: «فأحكم له على نحو ما أسمع، فإنما أقتطع له قطعةً من نار، فليأخذها أو يدعها».

النتيجة شرعية، والحكم صحيح، لكن يبقى أن المحكوم له لا يجوز له أن يأخذ إذا عرف أن الحق ليس له؛ لأنها قطعة من النار.

"فَقَيَّدَ الْحُكْمَ بِمُقْتَضَى مَا يَسْمَعُ وَتَرَكَ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ، وَقَدْ كَانَ كَثِيرٌ مِنَ الْأَحْكَامِ الَّتِي تُجْرَى عَلَى يَدَيْهِ يُطلع عَلَى أَصْلِهَا وَمَا فِيهَا مِنْ حُقٍّ وَبَاطِلٍ، وَلَكِنَّهُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- لَمْ يَحْكُمْ إِلَّا عَلَى وَفْقِ مَا سَمِعَ، لَا عَلَى وَفْقِ مَا عَلِمَ، وَهُوَ أَصْلٌ فِي مَنْعِ الْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بِعِلْمِهِ".

يعني ما تُرك فرصة ولا للحاكم أن يحكم بعلمه؛ لأنه لو تُرك فرصة للحاكم أن يحكم بعلمه اختلت هذه الموازين، إنما يحكم بما لديه من بينات، لا أكثر ولا أقل.

"وَقَدْ ذَهَبَ مَالِكٌ فِي الْقَوْلِ الْمَشْهُورِ عَنْهُ أَنَّ الْحَاكِمَ إِذَا شَهِدَتْ عِنْدَهُ الْعُدُولُ بِأَمْرٍ يَعْلَمُ خِلَافَهُ، وَجَبَ عَلَيْهِ الْحُكْمُ بِشَهَادَتِهِمْ إِذَا لَمْ يَعْلَمْ مِنْهُمْ تَعَمُّدَ الْكَذِبِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَحْكُمْ بِشَهَادَتِهِمْ كَانَ حَاكِمًا بِعِلْمِهِ، هَذَا مَعَ كَوْنِ عِلْمِ الْحَاكِمِ مُسْتَفَادًا مِنَ الْعَادَاتِ الَّتِي لَا رِيبَةَ فِيهَا، لَا مِنَ الْخَوَارِقِ الَّتِي تُدَاخِلُهَا الْأُمُورُ".

يوجد أوضح من هذا: أنه لو شهد ثلاثة على رجلٍ، على زيد من الناس أنه زنا بفلانة، بحثوا عن رابع ما وجدوا، ما الحكم؟ أنهم يُجلدون الحد، وعند الله هم الكاذبون، ومع ذلك رأوه رؤية عين لا لبس فيها؛ لأن المسألة مسألة أحكام منضبطة لا تختل، ولو تُركت هذه الأمور لتقدير القضاة، فهذا يغلب على الظن أنه أصدق من هذا، هؤلاء ثلاثة يمكن أن يتجاوز عن واحد، الحكم للغالب؛ نقول: لا، لا بد أن يكتمل النِّصاب.

طالب: أولئك عند الله ..

هم الكاذبون، نعم، كاذب شرعًا وإن لم يكن لغة، هذه حقيقة شرعية للكذب، وإن خالفت الحقيقة اللغوية والعرفية، التي هي مخالفة الخبر للواقع.

طالب: بدون عقاب؟

كيف؟

طالب: يعني من الكذب والخطأ يعني.

المقصود: أنهم يجلدون على الحد، في الآخرة لماذا يشهدون والنصاب ما اكتمل؟

"وَالْقَائِلُ بِصِحَّةِ حُكْمِ الْحَاكِمِ بِعِلْمِهِ، فذلك بالنسبة إلى العلم الْمُسْتَفَادِ مِنَ الْعَادَاتِ، لَا مِنَ الْخَوَارِقِ".

من أهل العمل من يرى أن للحاكم أن يحكم بعلمه، وذكروا من هؤلاء شُريحًا القاضي، وذكر الحافظ ابن حجر قصة حكم فيها القاضي شُريح بعلمه.

فقال له من حُكم عليه: أريد البينة، أنت حكمت عليّ بدون بيّنة! قال: حكم عليك أو شهد عليك ابن أخت خالتك، يعني: أنت شهدت على نفسك، والقاضي حفظ هذه الشهادة وحكم بها. مع أنه في قصة مقاضاة علي -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، وهو أمير المؤمنين لليهودي، ما حكم القاضي شُريح بعلمه -هذا إن صحّت، مع أنه يرويها أبو نعيم في الحلية وفيها كلام-، علي بن أبي طالب جاء بقنبر مولاه والحسن، فقبل شهادة القنبر، ورفض شهادة الحسن، بقي الشاهد الثاني، قال: هي لك يا يهودي، الدرع لك يا يهودي، وهو يعلم شُريح أن عليًّا صادق، ويعرف أن هذه الدرع له وسقطت منه فالتقطها اليهودي، لكن ما تمت البيّنة.

قال: الدرع لك يا يهودي، وإن كانت لك يا أمير المؤمنين، أشار إلى أمير المؤمنين، لكن ما الذي حصل بعد ذلك؟ وهذا كله مبني على ثبوت القصة؛ لأن فيها كلامًا لأهل العلم، أسلم اليهودي، وشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ورد الدرع لصاحبها.

"وَلِذَلِكَ لَمْ يَعْتَبِرْهُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ الْحُجَّةُ الْعُظْمَى، وَحَكَى ابْنُ الْعَرَبِيِّ عَنْ قَاضِي الْقُضَاةِ الشَّاشِيِّ الْمَالِكِيِّ بِبَغْدَادَ أَنَّهُ كَانَ يَحْكُمُ بِالْفِرَاسَةِ فِي الْأَحْكَامِ، جَرْيًا عَلَى طَرِيقَةِ إِيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ أَيَّامَ كَانَ قَاضِيًا، قَالَ: "وَلِشَيْخِنَا فَخْرِ الْإِسْلَامِ أَبِي بَكْرٍ الشَّاشِيِّ جزء في الرد عليه"، هذا ما قاله، وَهُوَ حَقِيقٌ بِالرَّدِّ إِنْ كَانَ يَحْكُمُ بِالْفِرَاسَةِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ سِوَاهَا.

فَإِنْ قِيلَ: هَذَا مُشْكِلٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ خِلَافُ مَا نُقِلَ عَنْ أَرْبَابِ الْمُكَاشَفَاتِ وَالْكَرَامَاتِ، فَقَدِ امْتَنَعَ أَقْوَامٌ عَنْ تَنَاوُلِ أَشْيَاءَ كَانَ جَائِزًا لَهُمْ فِي الظَّاهِرِ تَنَاوُلُهَا، اعْتِمَادًا عَلَى كَشْفٍ أَوْ إِخْبَارٍ غَيْرِ مَعْهُودٍ، أَلَا تَرَى إِلَى مَا جَاءَ عَنِ الشِّبْلِيِّ حِينَ اعْتَقَدَ أَنْ لَا يَأْكُلَ إِلَّا مِنَ الْحَلَالِ، فَرَأَى بِالْبَادِيَةِ شَجَرَةَ تِينٍ، فهمَّ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا فَنَادَتْهُ الشَّجَرَةُ: أَنْ لَا تَأْكُلْ مِنِّي فَإِنِّي لِيَهُودِيٍّ.

وَعَنْ عَبَّاسِ بْنِ الْمُهْتَدِي أَنَّهُ تَزَوَّجَ امْرَأَةً؛ فَلَيْلَةُ الدُّخُولِ وَقَعَ عَلَيْهِ نَدَامَةٌ، فَلَمَّا أَرَادَ الدنوَّ مِنْهَا زُجِرَ عَنْهَا، فَامْتَنَعَ وَخَرَجَ، فَبَعْدَ ثلاثة أيام ظهر لها زوج.

وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ لَهُ عَلَامَةٌ عَادِيَّةٌ أَوْ غَيْرُ عَادِيَّةٍ يَعْلَمُ بِهَا، هَلْ هَذَا الْمُتَنَاوَلُ حلام أَمْ لَا؟ كَالْحَارِثِ الْمُحَاسَبِيِّ حَيْثُ كَانَ لَهُ عِرْقٌ فِي بَعْضِ أَصَابِعِهِ إِذَا مَدَّ يَدَهُ إِلَى مَا فِيهِ شُبْهَةٌ تَحَرَّكَ، فَيَمْتَنِعُ مِنْهُ. وَأَصْلُ ذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَغَيْرُهُ فِي.."

هذه الأخبار التي تُذكر في كرامات الأولياء وفي سير الصالحين تحتاج إلى ثبوت؛ لأن الأتباع الذين يغالون في متبوعيهم لا يتورعون عن اختلاق مثل هذه القصص، وهناك من هو خير من هؤلاء بمراحل ما حصل له مثل هذا، لكن لا يعني أنه يستحيل وقوع مثل هذه الأشياء، لا يستحيل وقوعها.

طالب: .........

إذا كان يشرب من زمزم فأبو ذر في الصحيح: مكث ثلاثين بين يوم وليلة لا يشرب إلا من زمزم.

طالب: .........

ما أدري والله.

طالب: مريض وتعالج بالماء فقط أربعين يومًا.

هذا العلاج أمر آخر.

"وَأَصْلُ ذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَغَيْرُهُ فِي قِصَّةِ الشَّاةِ الْمَسْمُومَةِ، وَفِيهِ: فَأَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَكَلَ الْقَوْمُ. وَقَالَ: «ارْفَعُوا أَيْدِيَكُمْ؛ فَإِنَّهَا أَخْبَرَتْنِي أَنَّهَا مَسْمُومَةٌ» وَمَاتَ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ الْحَدِيثَ، فَبَنَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى ذَلِكَ الْقَوْلِ، وَانْتَهَى هُوَ وَنَهَى أَصْحَابَهُ عَنِ الْأَكْلِ بَعْدَ الْإِخْبَارِ.

وَهَذَا أَيْضًا مُوَافِقٌ لِشَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا، وَهُوَ شَرْعٌ لَنَا إِلَّا أَنْ يَرِدَ نَاسِخٌ، وَذَلِكَ فِي قِصَّةِ بَقَرَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ أُمِرُوا بِذَبْحِهَا وَضَرْبِ الْقَتِيلِ بِبَعْضِهَا، فَأَحْيَاهُ اللَّهُ وَأَخْبَرَ بِقَاتِلِهِ، فَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْحُكْمَ بِالْقِصَاصِ".

لعل هذا الإخبار صار قرينة، اعترف بسببها القاتل، أو شرعهم يجيز مثل هذا، وأما شرعنا فلا يكفي.

"وَفِي قِصَّةِ الْخَضِرِ فِي خَرْقِ السَّفِينَةِ وَقَتْلِ الْغُلَامِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُؤْثَرُ فِي معجزات الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-، وكرامات الأوليات رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.

وَالثَّانِي: أَنَّهُ إِذَا ثَبَتَ أَنَّ خَوَارِقَ الْعَادَاتِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ كَالْعَادَاتِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْنَا، فَكَمَا لَوْ دَلَّنَا أَمْرٌ عَادِيٌّ عَلَى نَجَاسَةِ الْمَاءِ أَوْ غَصْبِهِ لَوَجَبَ علينا الاجتناب، فكذلك ههنا؛ إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ إِخْبَارٍ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ أَوْ مِنْ عَالَمِ الشَّهَادَةِ، كَمَا أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ رُؤْيَةِ الْبَصَرِ لِوُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِي الْمَاءِ، وَرُؤْيَتِهَا بِعَيْنِ الْكَشْفِ الْغَيْبِيِّ، فَلَا بُدَّ أَنْ يُبْنَى الْحُكْمُ عَلَى هَذَا كَمَا يبنى على ذلك".

القياس غير صحيح، يعني الغيب لا يطابق الشهادة، وليس الخبر كالعيان، مهما بلغت منزلة المخبِر؛ لأنه لن يصل بحال إلى حد المعاينة، نعم إذا كان المخبِر ثقة وجب قبول قوله.

"وَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا، فَقَدْ أَبْعَدَ.

فَالْجَوَابُ: أَنَّ لَا نِزَاعَ بَيْنِنَا فِي أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ الْعَمَلُ عَلَى وَفْقِ مَا ذُكِرَ صَوَابًا، وَعَمَلًا بِمَا هُوَ مَشْرُوعٌ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: الِاعْتِبَارُ بِمَا كَانَ مِنَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيهِ، فَيَلْحَقُ بِهِ فِي الْقِيَاسِ مَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ، إِذَا لَمْ يَثْبُتُ أَنَّ مِثْلَ هَذَا مِنَ الْخَوَارِقِ مُخْتَصٌّ بِالنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ حَيْثُ كَانَ مِنَ الْأُمُورِ الْخَارِقَةِ بِدَلِيلِ الْوَاقِعِ، وَإِنَّمَا يَخْتَصُّ بِهِ مِنْ حَيْثُ كَانَ مُعْجِزًا، وَتَكُونُ قِصَّةُ الْخَضِرِ عَلَى هَذَا مِمَّا نُسِخَ فِي شَرِيعَتِنَا، عَلَى أَنَّ خَرْقَ السَّفِينَةِ قَدْ عَمِلَ بِمُقْتَضَاهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ، بِنَاءً عَلَى مَا ثبت عنده من العادات".

أولاً: ما حصل من الخضر ليس من تلقاء نفسه، إنما هو بوحي على القول بأنه نبي أو بإلهامٍ صحيح على أنه وليّ، وهذا قول الأكثر، وقد أُقر كما في سورة الكهف، فلو أن إنسانًا مهما بلغ من الخبرة والفراسة والذكاء والتوقع والإصابة في التوقع، رأى طفلاً وتوقع أن هذا الطفل سوف يكون كافرًا فاجرًا مرتدًا، من علامات وأمارات وتوقعات وحادث وظنون، كلها اجتمعت له وتضافرت على أن هذا الطفل سوف تشقى به الأمة، لا تشقى به أمه فقط أو أبوه، تشقى به الأمة هل له أن يقتله؟ لا، ليس له أن يقتله، وهذا أمر مُجمع عليه، فالقياس على ما حصل بقصة الخضر، هو يقول: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي}[الكهف: 82]، فإذا حصل مثل هذا إذا حصل بأمر الله كما حصل لإبراهيم -عَلَيْهِ السَّلَامُ- أن يذبح ولده، لا مانع، لكن لو جاءك مليون شخص يقولون: رأينا البارحة في النوم، كل واحد من بلد، رأينا البارحة في النوم ملكًا يقول: عن الله -جلَّ وعلا-: قل لفلان أن يذبح ابنه. يذبح ابنه أو لا؟ محال، لا يجوز أن يذبحه بحال.

"عَلَى أَنَّ خَرْقَ السَّفِينَةِ قَدْ عَمِلَ بِمُقْتَضَاهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ، بِنَاءً عَلَى مَا ثبت عنده من العادات".

باعتبار ارتكاب أخف الضررين، يعني إذا كانت السفينة تُفقد بالكلية أو تعاب فالعيب أسهل، مثل ما يقولون في الاستهام، لو ركب في السفينة أو في الباخرة أو في المركب عدد أكثر من طاقته وكادت السفينة أو القارب أن يغرق؛ لأن الحمولة أكثر من الطاقة، يتركون يغرقون كلهم؟ أو يستهمون على واحد؟ هذا إذا لم يوجد من يغلب على الظن نجاته لمعرفته بالسباحة مثلاً، فإذا وُجد يكون أولى بأن يُلقى من غيره ممن لا يحسن السباحة؛ لأن الغالب على الظن نجاته، والثاني الغالب على الظن هلاكه.

"أما قتل الْغُلَامِ، فَلَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِهِ، وَكَذَلِكَ قِصَّةُ الْبَقَرَةِ مَنْسُوخَةٌ عَلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَيْنِ، وَمُحْكَمَةٌ عَلَى التَّأْوِيلِ الْآخَرِ عَلَى وَفْقِ الْقَوْلِ الْمَذْهَبِيِّ فِي قَوْلِ الْمَقْتُولِ: دَمِيَ عِنْدَ فُلَانٍ".

يعني كما حدث في الصحيحين: قصة الجارية التي رضخها اليهودي وأُدركت في آخر رمق، من قتلك؟ فلان فلان، فلان إلى أن أومأت برأسها نعم، فأُخذ فلان، هل يكفي هذا في الحكم عليه أو لا بد من تقريره واعترافه؟ لا بد من الاعتراف.

"وَالثَّانِي: عَلَى فَرْضِ أَنَّهُ لَا يُقَاسُ وَهُوَ خِلَافُ مُقْتَضَى الْقَاعِدَةِ الْأَوْلَى؛ إِذِ الْجَارِي عَلَيْهَا الْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ وَلَكِنْ إِنْ قَدَّرْنَا عَدَمَهُ، فَنَقُولُ: إِنَّ هَذِهِ الْحِكَايَاتِ عَنِ الْأَوْلِيَاءِ مُسْتَنِدَةٌ إِلَى نَصٍّ شَرْعِيٍّ، وَهُوَ طَلَبُ اجْتِنَابِ حَزَّازِ الْقُلُوبِ الَّذِي هُوَ الْإِثْمُ، وَحَزَّازُ الْقُلُوبِ يَكُونُ بِأُمُورٍ لَا تَنْحَصِرُ، فَيَدْخُلُ فِيهَا هَذَا النَّمَطُ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ، والإثم ما حاك في صدرك»، فإذن لَمْ يَخْرُجْ هَذَا عَنْ كَوْنِهِ مُسْتَنِدًا إِلَى نصوص شرعية عند مَنْ فَسَّرَ حَزَّازَ الْقُلُوبِ بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ الَّذِي لَا يَنْضَبِطُ إِلَى أَمْرٍ مَعْلُومٍ، وَلَكِنْ لَيْسَ فِي اعْتِبَارِ مِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ مَا يُخِلُّ بِقَاعِدَةٍ شَرْعِيَّةٍ، وَكَلَامُنَا إِنَّمَا هُوَ فِي مِثْلِ مَسْأَلَةِ ابْنِ رُشْدٍ وَأَشْبَاهِهَا، وَقَتْلِ الْخَضِرِ الْغُلَامَ عَلَى هَذَا لَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِمِثْلِهِ فِي شَرِيعَتِنَا الْبَتَّةَ، فَهُوَ حَكَمٌ مَنْسُوخٌ، وَوَجْهُ مَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ إِنْ كَانَ ثَمَّ مِنَ الْحِكَايَاتِ مَا يُشْعِرُ بِمُقْتَضَى السُّؤَالِ، فَعُمْدَةُ الشَّرِيعَةِ تَدُلُّ عَلَى خِلَافِهِ".

فلو أنَّ شخصًا معه طفل وخاف عليه وألقاه في اليم، مثلما صنعت أم موسى، يجوز أم لا يجوز؟ ولو أن بيده مالاً لفلان دين أو وديعة فبعثه في خشبة في البحر يجوز أو ما يجوز؟ كل هذا جاء شرعنا بخلافه.

"فَإِنَّ أَصْلَ الْحُكْمِ بِالظَّاهِرِ مَقْطُوعٌ بِهِ فِي الْأَحْكَامِ خُصُوصًا، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى الِاعْتِقَادِ فِي الْغَيْرِ عُمُومًا أَيْضًا، فَإِنَّ سَيِّدَ الْبَشَرِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَعَ إِعْلَامِهِ بِالْوَحْيِ يُجْرِي الْأُمُورَ عَلَى ظَوَاهِرِهَا فِي الْمُنَافِقِينَ وَغَيْرِهِمْ، وَإِنْ عَلِمَ بَوَاطِنَ أَحْوَالِهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِمُخْرِجِهِ عَنْ جَرَيَانِ الظَّوَاهِرِ عَلَى مَا جَرَتْ عَلَيْهِ.

وَلَا يُقَالُ: إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ مَا قَالَ: «خَوْفًا أَنْ يَقُولَ النَّاسُ: إِنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ»، فَالْعِلَّةُ أَمْرٌ آخَرُ لَا مَا زُعِمَتْ، فَإِذَا عُدِمَ مَا عُلِّلَ به، فلا حرج. لِأَنَّا نَقُولُ: هَذَا مِنْ أَدَلِّ الدَّلِيلِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ؛ لِأَنَّ فَتْحَ هَذَا الْبَابِ يُؤَدِّي إلى أن يُحْفَظَ تَرْتِيبُ الظَّوَاهِرِ، فَإِنَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَتْلُ بِسَبَبٍ ظَاهِرٍ، فَالْعُذْرُ فِيهِ ظَاهِرٌ وَاضِحٌ، وَمَنْ طَلَبَ قَتْلَهُ بِغَيْرِ سَبَبٍ ظَاهِرٍ، بَلْ بِمُجَرَّدِ أَمْرٍ غَيْبِيٍّ، رُبَّمَا شَوَّشَ الْخَوَاطِرَ، وَرَانَ عَلَى الظَّوَاهِرِ، وَقَدْ فُهِمَ مِنَ الشَّرْعِ سَدُّ هَذَا الْبَابِ جُمْلَةً".

لو فُتح هذا الباب، كل من ادعى أنه قدح بفهمه وألقي في روعه قامت القرائن والأدلة أن هذا مستحق للقتل فيقتله تعم الفوضى، ولا ينضبط أمور الناس ولا أحوالهم، ولا تستقيم أمورهم بمثل هذا.

"أَلَا تَرَى إِلَى بَابِ الدَّعَاوَى الْمُسْتَنِدِ إِلَى أَنَّ «الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينَ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ»، وَلَمْ يُسْتَثْنَ مِنْ ذَلِكَ أَحَدٌ، حَتَّى إنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- احتاج إلى البينة فِي بَعْضِ مَا أَنْكَرَ فِيهِ مِمَّا كَانَ اشْتَرَاهُ، فَقَالَ: «مَنْ يَشْهَدُ لِي؟»، حَتَّى شَهِدَ لَهُ خُزَيْمَةُ بْنُ ثَابِتٍ، فَجَعَلَهَا اللَّهُ شَهَادَتَيْنِ، فَمَا ظَنُّكَ بِآحَادِ الْأُمَّةِ؟ فَلَوِ ادَّعَى أَكْفَرُ النَّاسِ عَلَى أَصْلَحِ النَّاسِ لَكَانَتِ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ، وَهَذَا مِنْ ذَلِكَ".

وإن كان الحاكم يحلف على أن فلانًا هو المحق، يحلف لأن الحلف على غلبة الظن، لكن لا يحكم، يعني لو ادعى أكذب الناس على أتقى الناس في وقته وأفجر الناس ادعى أتقى الناس يُحكم له من خلال القاعدة الشرعية: «الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينَ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» التي تسع الجميع، مع أن القاضي لو قيل له: احلف أن الحق لفلان حلف، يغلب على ظنه أنه له.

"وَالنَّمَطُ وَاحِدٌ، فَالِاعْتِبَارَاتُ الْغَيْبِيَّةُ مُهْمَلَةٌ بِحَسَبِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي الشَّرْعِيَّةِ، وَمِنْ هُنَا لَمْ يَعْبَأِ النَّاسُ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ بِكُلِّ كَشْفٍ أَوْ خِطَابٍ خَالَفَ الْمَشْرُوعَ، بَلْ عدُّوا أَنَّهُ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَقَضَايَا الْأَحْوَالِ الْمَنْقُولَةِ عَنِ الْأَوْلِيَاءِ مُحْتَمَلَةٌ.

وَمَا ذُكِرَ مِنْ تَكْلِيمِ الشَّجَرَةِ، فَلَيْسَ بِمَانِعٍ شَرْعِيٍّ، بِحَيْثُ يَكُونُ تَنَاوُلُ التِّينِ مِنْهَا حَرَامًا عَلَى الْمُكَلَّمِ، كَمَا لَوْ وَجَدَ فِي الْفَلَاةِ صَيْدًا، فَقَالَ لَهُ: إِنِّي مَمْلُوكٌ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، لَكِنَّهُ تَرَكَهُ لِغِنَاهُ عَنْهُ بِغَيْرِهِ مِنْ يَقِينٍ بِاللَّهِ، أَوْ ظَنِّ طَعَامٍ بِمَوْضِعٍ آخَرَ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا فِي هَذَا الْبَابِ".

يعني مثل هذه الوقائع حينما أراد أن يأكل من الشجرة وقالت له: إنها مملوكة، أو الصيد قال له: إني مملوك، لا شك أنها خرق للعادة، فهل نقول: إنه يتوقف بناءً على أن مثل هذا لا يمكن أن يحصل من فراغ؟ أو نقول: إن احتمال أن شيطانًا من وراء هذه الشجرة أو في جوف هذا الصيد تكلَّم؟ الاحتمال قائم.

لكن لو أن إنسانًا جاء ليستعير دابة، ليستعير حمارًا فقال له لمَّا طرق عليه الباب: الحمار مُعار، وليس عندي الآن، هذا أسلوب يسلكه كثير من الناس، لاسيما إذا شك في المستعير، يريد كتاب يقول: الكتاب ما هو بيدي الآن، خارج عن يدي الآن، يعرِّض ولا يكذب، لكن لو قال: الحمار معار، ثم نهق الحمار، ماذا نقول؟ هل هو من جنس إخبار الصيد أو إخبار الشجرة؟

طالب: .........

ليس فيها مقاضاة؛ لأنه بإمكانه أن يقول: لا، لن أعيرك، ما فيها مشادة حقوق هذه، هذه فيها فضل، فلا يحتاج فيها إلى مثل هذا، خلاص انتهى الموضوع، تبيّن أنه لن يريد أن يعيره، وانتهى الإشكال.

"وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا فِي هَذَا الْبَابِ أَوْ نَقُولُ: كَانَ الْمُتَنَاوَلُ مُبَاحًا لَهُ، فَتَرَكَهُ لِهَذِهِ الْعَلَامَةِ كَمَا يَتْرُكُ الْإِنْسَانُ أَحَدَ الْجَائِزَيْنِ لِمَشُورَةٍ أَوْ رؤيا أو غير ذَلِكَ حَسْبَمَا يُذْكَرُ بَعْدُ".

يعني صارت مجرد مرجِّح، لم يُبنَ عليها حكم، وإنما هي مجرد مرجِّح.

"أو رؤيا أو غير ذَلِكَ حَسْبَمَا يُذْكَرُ بَعْدُ بِحَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى، فَكَذَلِكَ نَقُولُ فِي الْمَاءِ الَّذِي كُوشِفَ أَنَّهُ نَجِسٌ أَوْ مَغْصُوبٌ، وَإِذَا كَانَ لَهُ مَنْدُوحَةٌ عَنْهَا بِحَيْثُ لَا يَنْخَرِمُ لَهُ أَصْلٌ شَرْعِيٌّ في الظاهر، بل يصير منتفلا مِنْ جَائِزٍ إِلَى مَثْلِهِ، فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ مَعَ أَنَّهُ لَوْ فَرَضْنَا مُخَالَفَتَهُ لِمُقْتَضَى ذَلِكَ الْكَشْفِ إِعْمَالًا لِلظَّاهِرِ، وَاعْتِمَادًا عَلَى الشَّرْعِ فِي مُعَامَلَتِهِ بِهِ، فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ وَلَا لَوْمَ"

وهذا هو الأصل: أن يُعتمد على الظواهر الشرعية وما تدل عليه هذه الظواهر، وما عدا ذلك لا يُلتفت إليه، لكن إذا كان من باب التورع لا يدخل في حيِّز الوسوسة، من باب التورع، يترك بعض الأشياء؛ لما دله عليه من أمرٍ خفيّ، التورع شأنه آخر اللهم إلا إذا جره ذلك إلى الوسوسة.

طالب: لو وجدت راحلة ناقة عليها رحل في الفلاة ... أتركها لها صاحب؟

لابد أن يتركها، هذه علامة قوية ظاهرة أنها مملوكة، لكن لو رأى عليها جلّ، وقت بارد ورأى عليها جلال من أجل التدفئة مكسوة، هل نقول: إن صاحبها كساها فهي مملوكة، أو نقول: إن شخصًا أشفق عليها من البرد فوضعها عليها وهي ليست مملوكة؟

طالب: الأولى.

ما فيه أحد من المحسنين يضع عليها، ما فيه احتمال؟ احتمال قائم، والورع الترك. لو وجدنا صيد الأصل في لونه أنه أبيض، فوجدناه مصبوغًا بلونٍ آخر، هل هذا الصيد يبقى على الأصل أو نقول إنه ملك وصبغه مالكه وأفلت من يده؟ احتمال قائم مثل الجل.

"إِذْ لَيْسَ الْقَصْدُ بِالْكَرَامَاتِ وَالْخَوَارِقِ أَنْ تَخْرِقَ أَمْرًا شَرْعِيًّا، وَلَا أَنْ تَعُودَ عَلَى شَيْءٍ مِنْهُ بِالنَّقْضِ، كَيْفَ وَهِيَ نَتَائِجُ عَنْ اتِّباعه، فَمُحَالٌ أَنَّ يُنْتِجَ الْمَشْرُوعُ مَا لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ، أَوْ يَعُودَ الْفَرْعُ عَلَى أَصْلِهِ بِالنَّقْضِ، هَذَا لَا يَكُونُ الْبَتَّةَ.

وَتَأَمَّلْ مَا جَاءَ فِي شَأْنِ الْمُتَلَاعِنَيْنِ، إِذْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنْ جَاءَتْ بِهِ عَلَى صِفَةِ كَذَا، فَهُوَ لِفُلَانٍ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ عَلَى صِفَةِ كَذَا، فَهُوَ لِفُلَانٍ»، فَجَاءَتْ بِهِ عَلَى إِحْدَى الصِّفَتَيْنِ وَهِيَ الْمُقْتَضِيَةُ لِلْمَكْرُوهِ، وَمَعَ ذَلِكَ، فَلَمْ يُقِمِ الْحَدَّ عَلَيْهَا، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ نَفْسِهِ: «لَوْلَا الْأَيْمَانُ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ»، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَيْمَانَ هِيَ الْمَانِعَةُ".

يعني مقدمات الحكم شرعية فنتيجته شرعية، بغض النظر عما آل إليه الأمر.

"فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَيْمَانَ هِيَ الْمَانِعَةُ وَامْتِنَاعُهُ مِمَّا هَمَّ بِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا تَفَرَّسَ بِهِ لَا حُكْمَ لَهُ حِينَ شَرِعِيَّةِ الْأَيْمَانِ، وَلَوْ ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِالْإِقْرَارِ بَعْدَ الْأَيْمَانِ مَا قَالَ الزَّوْجُ، لَمْ تَكُنِ الْأَيْمَانُ دَارِئَةً لِلْحَدِّ عَنْهَا.

وَالْجَوَابُ عَلَى السُّؤَالِ الثَّانِي: أَنَّ الخوارق وإن صارت لهم كغيرها، فَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُوجِبٍ لِإِعْمَالِهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ، إِذَا لَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ شَرْعًا مَعْمُولًا بِهِ، وَأَيْضًا، فَإِنَّ الْخَوَارِقَ إِنْ جَاءَتْ تَقْتَضِي الْمُخَالَفَةَ، فَهِيَ مَدْخُولَةٌ قَدْ شَابَهَا مَا لَيْسَ بِحَقٍّ، كَالرُّؤْيَا غَيْرِ الْمُوَافِقَةِ، كَمَنْ يُقَالُ لَهُ: "لَا تَفْعَلْ كَذَا"، وَهُوَ مَأْمُورٌ شَرْعًا بِفِعْلِهِ، أَوْ "افْعَلْ كَذَا"، وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَكَثِيرًا مَا يَقَعُ هَذَا لِمَنْ لَمْ يُبَنْ أَصْلُ سُلُوكِهِ عَلَى الصَّوَابِ"

رأى في الرؤيا شخصًا عليه علامات الصلاح وقال: لا تصلِّ الفجر اليوم، صلِّ بالبيت، أو قال له: لا تصم هذا اليوم في يوم يُشرع صيامه، أو صُمْ هذا اليوم في يوم لا يُشرع صيامه، هذا لا يُلتفت إليه، وإنما الحكم في هذا أولاً وآخرًا هو الشرع، وما جاء عنه.

"وَكَثِيرًا مَا يَقَعُ هَذَا لِمَنْ لَمْ يُبَنْ أَصْلُ سُلُوكِهِ عَلَى الصَّوَابِ، أَوْ مَنْ سَلَكَ وَحْدَهُ بِدُونِ شَيْخٍ، وَمَنْ طَالَعَ سِيَرَ الْأَوْلِيَاءِ وَجَدَهُمْ مُحَافِظِينَ عَلَى ظَوَاهِرِ الشَّرِيعَةِ، غَيْرَ مُلْتَفِتِينَ فِيهَا إِلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ.

فَإِنْ قِيلَ: هَذَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يَعْمَلَ عَلَيْهَا، وَقَدْ بُنِيَتِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَنَّهَا يُعْمَلُ عَلَيْهَا.

قِيلَ: إِنَّ الْمَنْفِيَّ هُنَا أَنْ يَعْمَلَ عَلَيْهَا بِخَرْمِ قَاعِدَةٍ شَرْعِيَّةٍ، فَأَمَّا الْعَمَلُ عَلَيْهَا مَعَ الْمُوَافَقَةِ، فَلَيْسَ بِمَنْفِيٍّ.

فَصْلٌ: إِذَا تَقَرَّرَ اعْتِبَارُ ذَلِكَ الشَّرْطِ، فَأَيْنَ يُسَوَّغُ الْعَمَلُ عَلَى وَفْقِهَا؟

فَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْأُمُورَ الْجَائِزَاتِ أَوِ الْمَطْلُوبَاتِ الَّتِي فِيهَا سِعَةٌ يَجُوزُ الْعَمَلُ فِيهَا بِمُقْتَضَى مَا تَقَدَّمَ، وَذَلِكَ عَلَى أَوْجُهٍ:

أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ فِي أَمْرٍ مُبَاحٍ، كَأَنْ يَرَى الْمُكَاشِفُ أَنَّ فُلَانًا".

يعني من ضير ذلك الأدلة، لا يُثبت حكم، ولا ينفى حكم إلا بدليل شرعيّ تقوم به الحجة، لكن عندك أمر متردد بين شيئين بلا مرجح، لم تجد مرجِّحًا لأحد هذين الشيئين، فوجدت من يقول لك في الرؤيا: اعمل كذا، أو اعمل كذا، أو وجدت حديثًا ضعيفًا، فابن القيّم يقرر أن الحديث الضعيف يرجِّح به إذا استغلق الترجيح من جميع الوجوه، فلا مانع من أن يرجِّح بالضعيف.

"أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ فِي أَمْرٍ مُبَاحٍ، كَأَنْ يَرَى الْمُكَاشِفُ أَنَّ فُلَانًا يَقْصِدُهُ فِي الْوَقْتِ الْفُلَانِيِّ، أَوْ يَعْرِفُ مَا قَصَدَ إِلَيْهِ فِي إِتْيَانِهِ مِنْ مُوَافَقَةٍ أَوْ مُخَالَفَةٍ، أَوْ يَطَّلِعُ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ مِنْ حَدِيثٍ أَوِ اعْتِقَادِ حَقٍّ أَوْ بَاطِلٍ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَيَعْمَلُ عَلَى التَّهْيِئَةِ لَهُ حَسْبَمَا قَصَدَ إِلَيْهِ".

لكن لا يجوز له أن يظن به سوءًا بمجرد هذه الرؤيا، قيل له في النوم: أن فلانًا سيأتي إليك غدًا في الوقت الفلاني وهو معتزلي المذهب أو رافضي المذهب فاحتط له، لا يجوز له أن يحكم على هذا الشخص بهذا الحكم بمجرد الرؤيا، لكن لا مانع من الاحتياط. 

"أَوْ يَتَحَفَّظُ مِنْ مَجِيئِهِ إِنْ كَانَ قَصْدُهُ الشَّرَّ، فَهَذَا مِنَ الْجَائِزِ لَهُ، كَمَا لَوْ رَأَى رُؤْيَا تَقْتَضِي ذَلِكَ، لَكِنْ لَا يُعَامِلُهُ إِلَّا بِمَا هُوَ مَشْرُوعٌ كَمَا تَقَدَّمَ.

وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ عَلَيْهَا لِفَائِدَةٍ يَرْجُو نجاحها، فإن العاقل لا يدخل عَلَى نَفْسِهِ مَا لَعَلَّهُ يَخَافُ عَاقِبَتَهُ، فَقَدْ يَلْحَقَهُ بِسَبَبِ الِالْتِفَاتِ إِلَيْهَا عَجَبٌ أَوْ غَيْرُهُ، وَالْكَرَامَةُ كَمَا أَنَّهَا خُصُوصِيَّةٌ، كَذَلِكَ هِيَ فِتْنَةٌ وَاخْتِبَارٌ، لِيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، فَإِذَا عَرَضَتْ حَاجَةٌ، أَوْ كَانَ لِذَلِكَ سَبَبٌ يَقْتَضِيهِ، فَلَا بَأْسَ، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُخْبِرُ بِالْمُغَيَّبَاتِ لِلْحَاجَةِ إِلَى ذَلِكَ".

من أجل تثبيت المُخبَر، أخبر أن في قلوب بعض الناس في قضايا أُطلع عليه -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وإلا فالأصل أنه لا يعلم الغيب، لا يعلم الغيب إلا ما أعلمه الله تعالى به، فقد يطلعه على الغيب في بعض القضايا؛ من أجل مصلحةٍ مرتبة على ثبات إيمان ويقين لهذا المُخبَر.

"وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُخْبِرُ بِالْمُغَيَّبَاتِ لِلْحَاجَةِ إِلَى ذَلِكَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- لَمْ يُخْبِرْ بِكُلِّ مَغَيَّبٍ اطَّلَعَ عَلَيْهِ، بَلْ كَانَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ وَعَلَى مُقْتَضَى الْحَاجَاتِ، وَقَدْ أَخْبَرَ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- الْمُصَلِّينَ خَلْفَهُ أَنَّهُ «يَرَاهُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ»".

والحديث في الصحيحين.

"لِمَا لَهُمْ فِي ذَلِكَ مِنَ الْفَائِدَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْحَدِيثِ، وَكَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ وَيَنْهَاهُمْ مِنْ غير إخبار بذلك، وهكذا سائر كَرَامَاتِهِ وَمُعْجِزَاتِهِ، فَعَمَلُ أَمَّتِهُ بِمِثْلِ ذَلِكَ فِي هَذَا الْمَكَانِ أَوْلَى مِنْهُ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَلَكِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ فِي حُكْمِ الْجَوَازِ؛ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ خَوْفِ الْعَوَارِضِ كَالْعُجْبِ وَنَحْوِهِ، وَالْإِخْبَارِ فِي حَقِّ النَّبِيِّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- مُسَلَّمٌ، وَلَا يَخْلُو إِخْبَارُهُ مِنْ فَوَائِدَ، وَمِنْهَا تَقْوِيَةُ إِيمَانِ كُلِّ مَنْ رَأَى ذَلِكَ أَوْ سَمِعَ بِهِ، وَهِيَ فَائِدَةٌ لَا تَنْقَطِعُ مَعَ بَقَاءِ الدُّنْيَا.

وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ فِيهِ تَحْذِيرٌ أَوْ تَبْشِيرٌ؛ لِيَسْتَعِدَّ لِكُلِّ عُدَّتِهِ، فَهَذَا أَيْضًا جَائِزٌ، كَالْإِخْبَارِ عَنْ أَمْرٍ يَنْزِلُ إِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَا، أَوْ لَا يَكُونُ إِنْ فَعَلَ كَذَا، فَيَعْمَلُ عَلَى وَفْقِ ذَلِكَ عَلَى وِزَانِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةِ، فَلَهُ أَنْ يُجْرِيَ بِهَا مَجْرَى الرُّؤْيَا، كَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي جَعْفَرِ بْنِ تُرْكَانَ، قَالَ: كُنْتُ أُجَالِسُ الْفُقَرَاءَ، فَفُتِحَ عَلَيَّ بِدِينَارٍ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَدْفَعَهُ إِلَيْهِمْ، ثُمَّ قُلْتُ فِي نَفْسِي: لَعَلِّي أَحْتَاجُ إِلَيْهِ، فَهَاجَ بِي وَجَعُ الضِّرْسِ فَقَلَعَتْ سِنًّا، فَوَجِعَتِ الْأُخْرَى حَتَّى قَلَعْتُهَا، فَهَتَفَ بِي هَاتِفٌ: إِنْ لَمْ تَدْفَعْ إِلَيْهِمْ الدِّينَارَ لَا يَبْقَى فِي فِيكَ سِنٌّ وَاحِدَةٌ.

وَعَنِ الرُّوذْبَارِيِّ قَالَ: فيَّ اسْتِقْصَاءٍ فِي أَمْرِ الطَّهَارَةِ".

 استقصاء يعني: وسواس.

 "فَضَاقَ صَدْرِي لَيْلَةً؛ لِكَثْرَةِ مَا صَبَبْتُ مِنَ الْمَاءِ وَلَمْ يَسْكُنْ قَلْبِي، فَقُلْتُ: ياَ رَبِّ! عَفْوكَ، فَسَمِعَتْ هَاتِفًا يَقُولُ: الْعَفْوُ فِي الْعِلْمِ، فَزَالَ عَنِّي ذَلِكَ".

العلم هو معرفة ما جاء عن النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- والعمل به، إذا عرفنا أن الزيادة على الثلاث ابتداع في الدين فلا بد أن نعمل على هذا المقتضى.

"وَعَلَى الْجُمْلَةِ، فَالشَّرْطُ الْمُتَقَدِّمِ لَا مَحِيصَ مِنِ اعْتِبَارِهِ فِي الْعَمَلِ بِمُقْتَضَى الخَوارق، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَإِنَّمَا ذَكَرْتُ هَذِهِ الْأَوْجُهَ الثَّلَاثَةَ؛ لِتَكُونَ مِثَالًا يُحْتَذَى حَذْوَهُ وَيُنْظَرُ فِي هَذَا الْمَجَالِ إِلَى جِهَتِهِ، وَقَدْ أَشَارَ هَذَا النَّحْوُ إِلَى التَّنْبِيهِ عَلَى أَصْلٍ آخَرَ، وهي: الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ".

قِفْ عليها..

"