شرح الموطأ - كتاب الجهاد (1)

سم.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، اللهم اغفر لشيخنا والحاضرين والسامعين برحمتك يا أرحم الراحمين.

قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: كتاب الجهاد، باب الترغيب في الجهاد

حدثني يحيى بن يحيى عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «مَثَلُ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ الدَّائِمِ الَّذِي لَا يَفْتُرُ مِنْ صَلَاةٍ وَلَا صِيَامٍ حَتَّى يَرْجِع»، وعن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-قال: " تَكَفَّلَ اللَّهُ لِمَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِهِ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ بَيْتِهِ إِلَّا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ وَتَصْدِيقُ كَلِمَاتِهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، أَوْ يَرُدَّهُ إِلَى مَسْكَنِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ مَعَ مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَة».

وحدثني عن مالك عن زيد بن أسلم عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «الْخَيْلُ لِرَجُلٍ أَجْرٌ، وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ، وَعَلَى رَجُلٍ وِزْرٌ؛ فَأَمَّا الَّذِي هِيَ لَهُ أَجْرٌ فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأَطَالَ لَهَا فِي مَرْجٍ أَوْ رَوْضَةٍ، فَمَا أَصَابَتْ فِي طِيَلِهَا ذَلِكَ مِنْ الْمَرْجِ أَوْ الرَّوْضَةِ كَانتَ لَهُ حَسَنَاتٌ، وَلَوْ أَنَّهَا قُطِعَتْ طِيَلَهَا ذَلِكَ فَاسْتَنَّتْ شَرَفًا أَوْ شَرَفَيْنِ كَانَتْ آثَارُهَا وَأَرْوَاثُهَا حَسَنَاتٍ لَهُ، وَلَوْ أَنَّهَا مَرَّتْ بِنَهَرٍ فَشَرِبَتْ مِنْهُ وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَسْقِيَ بِهِ كَانَ ذَلِكَ لَهُ حَسَنَاتٍ فَهِيَ لَهُ أَجْر. وَرَجُلٌ رَبَطَهَا تَغَنِّيًا وَتَعَفُّفًا وَلَمْ يَنْسَ حَقَّ اللَّهِ فِي رِقَابِهَا وَلَا فِي ظُهُورِهَا، فَهِيَ لِذَلِكَ سِتْرٌ. وَرَجُلٌ رَبَطَهَا فَخْرًا وَرِيَاءً وَنِوَاءً لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ فَهِيَ عَلَى ذَلِكَ وِزْرٌ». وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ الْحُمُرِ فَقَالَ: «لَمْ يُنْزَلْ عَلَيَّ فِيهَا شَيْءٌ إِلَّا هَذِهِ الْآيَةُ الْجَامِعَةُ الْفَاذَّةُ: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}».

وحدثني عن مالك عن عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر الأنصاري عن عطاء بن يسار أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ النَّاسِ مَنْزِلا؟ رَجُلٌ آخِذٌ بِعَنَانِ فَرَسِهِ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. ألا أخبركم بخير الناس منزلًا بعده؟ رجل معتزل في غنيمته يقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة ويعبد الله لا يشرك به شيئًا».

وحدثني عن مالك عن يحيى بن سعيد قال: أخبرني عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت عن أبيه عن جده قال: بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي الْيُسْرِ وَالْعُسْرِ وَالْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ، وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ، وَأَنْ نَقُولَ أَوْ نَقُومَ بِالْحَقِّ حَيْثُمَا كُنَّا لَا نَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ ".

وحدثني عن مالك عن زيد بن أسلم قال: كَتَبَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يَذْكُرُ لَهُ جُمُوعًا مِنْ الرُّومِ وَمَا يَتَخَوَّفُ مِنْهُمْ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّهُ مَهْمَا يَنْزِلْ بِعَبْدٍ مُؤْمِنٍ مِنْ مُنْزَلِ شِدَّةٍ يَجْعَلْ اللَّهُ بَعْدَهُ فَرَجًا، وَإِنَّهُ لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد كما يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: بسم الله الرحمن الرحيم، كتاب الجهاد، الكتاب مر التعريف به مرارًا، والجهاد مصدر جاهد يجاهد مجاهدة، والمراد به بذل الجهد واستغراق الوسع في مجاهدة ومقاتلة الكفار، كما أن الاجتهاد في مسائل العلم وبذل الجهد واستغراق الوسع واستنباط الأحكام من أدلتها، ولا يطلق الجهاد إلا على ما فيه مشقة، لا يطلق على الشيء اليسير الهين جهاد؛ لأنهم كما يقولون: اجتهد في حمل الرحى، ولا يقولون: اجتهد في حمل نواة مثلًا أو قلم؛ لأن هذه المادة الأصل فيما فيه مشقة، ومن أعظم ما يشق على الإنسان بأن يبذل مهجته فداء لدينه، هذا أمر شاق، وأيضًا بذل النفس وبذل الجهد في العلم وتحصيله واستنباط الأحكام من أدلتها لا شك أن هذا شاق، فمن هذه الحيثية قيل له: جهاد، وهناك جهاد في غير هذين البابين في غير مقارعة الأعداء، ومجاهدتهم، وفي غير تحصيل العلم ونيل أسبابه، أيضًا هناك جهاد للنفس، جهاد للشيطان، والجهاد كما يكون باللسان يكون بالسنان أيضًا وبالمال، وأكثر النصوص بالجهاد تقدم المال عن النفس، وأيضًا هناك من أنواع الجهاد الجهاد باللسان كما جاء في الحديث: «جاهدوا الكفار بأنفسكم وأموالكم وألسنتكم» كل هذا جهاد.

وفي بعض النسخ تقديم البسملة على كتاب الجهاد، وفي بعضها تأخيرها عن كتاب الجهاد، والأمر كما ذكرنا مرارًا، كما يحصل ذلك في كتاب البخاري أيضًا، ولكل منهما وجه، فمن قدم البسملة هذا هو الأصل أن يبدأ بالبسملة، ومن قدم الترجمة عن البسملة قال: إن الترجمة بمنزلة اسم السورة والبسملة بعدها، والأمر كما قلنا: سهل.

يقول -رحمه الله تعالى-: باب الترغيب في الجهاد والحث عليه، وما جاء في نصوص الكتاب والسنة الصحيحة الصريحة في الترغيب فيه والحث عليه، وأيضًا سيأتي ترجمة متأخرة بهذا اللفظ، باب الترغيب في الجهاد، ترجمة رقم (18) في الحديث (39) وما يليه، باب الترغيب في الجهاد، والأصل أن يضم هذا الباب المتأخر إلى الباب المتقدم، يعني تجعل هذه النصوص في باب واحد تحت ترجمة واحدة وسيأتي إن شاء الله الكلام على الترجمة الثانية.

قال -رحمه الله-: حدثني يحيى عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم الدائم الذي لا يفتر من صلاة ولا صيام حتى يرجع»؛ لأنه بمجرد خروجه من بيته لا يخرجه من بيته إلا الجهاد في سبيل الله إلا أن يرجع وهو في سبيل الله، وتكتب له حسناته كمثل الصائم القائم الذي لا يفتر من صيام ولا من قيام، ولا شك أن هذا فضل عظيم أن يكتب له الأجر وهو قائم، الأجر وهو نائم، الأجر وهو جالس، الأجر وهو في أمور مباحة ما دام لا يخرجه إلا الجهاد في سبيل الله، فأجره دائم مستمر لا ينقطع ما لم يقطع هذا الأجر ويحرم نفسه منه بإتيانه بما ينافيه ويناقضه، إما قطع للنية أو استعمال هذا الوقت في ما حرم الله عليه؛ لأنه لا يمكن أن يجتمع في وقت واحد طاعة ومعصية في آن واحد، وإن كان بعضهم يقول: إن الجهة يبالغ فيها، إن الجهة منفكة يمكن يكتب مجاهد وهو عاص كما ذكر ابن العربي في عارضة الأحوذي: أنه قد يجتمع قوم للشرب في بيت فيسقط عليهم البيت فيموتون عليهم إثم الشرب، ولهم أجر الشهادة، لا شك أن هذه مبالغة في انفكاك الجهة، يعني مثل ما قال بعض الأشعرية: إنه يجب على الزاني غض بصره بالمزني بها، يعني المبالغة إلى هذا الحد في انفكاك الجهة يقابله مبالغة الظاهرية في أن كل محرم يبطل العمل أي عمل محرم يبطله، يعني لو صليت وبيدك خاتم ذهب صلاتك باطلة، الصلاة باطلة، عليك عمامة حرير الصلاة باطلة، لكن أحيانًا الجهة يمكن أن تنفك وأحيانًا لا يمكن أن تنفك، متى تنفك؟ إذا كان النهي عائدًا إلى أمر خارج عن هذه العبادة، مثلما قلنا: خاتم ذهب أو عمامة حرير، لكن إذا كانت الجهة لا يمكن أن تنفك بأن عاد النهي إلى ذات المنهي عنه، أو إلى شرطه، فمثلًا قاتل بسيف مسروق، هذا يمكن فك الجهة؟ لا يمكن أن تنفك الجهة، لا يمكن، لكن لو سرق مالًا اشترى به ماء يمكن أن يستعمله للصلاة أو يستعمله للشرب يستعمله للطبخ، هذا قالوا: يمكن أن تنفك الجهة، مع أن بعضهم قد يرى أن مثل هذا داخل في المؤثر، فإذا عاد النهي إلى ذات المنهي عنه أو إلى شرطه فإن العبادة أو العقل يبطل، بخلاف ما إذا عاد النهي إلى أمر خارج قالوا: حدثني عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «تَكَفَّلَ اللَّهُ -يعني ضمن الله -جل وعلا- لمن جاهد في سبيله لا يخرجه من بيته إلا الجهاد في سبيله»، لا يخرجه من بيته إلا الجهاد في سبيله بهذا الشرط كما جاء نظيره في الصلاة: «لا ينهزه إلا الصلاة، فإن له في كل خطوة حسنة»، وهنا لا يخرجه من بيته إلا الجهاد في سبيله، الجهاد فقط دون التشريك، أما إذا جاهد وأظهر للناس الجهاد وهو في الحقيقة إنما جاهد واجتهد وبذل وسعه ليقال: شجاع، فهذا أحد الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار، هذا لا يخرجه إلا الجهاد في سبيله، لكنه مع ذلك التفت إلى شيء من أمور الدنيا، يعني أنه في نفسه أنه في الأصل خرج لإعلاء كلمة الله، وأن تكون كلمة الله هي العليا، ولا يمنع أن يقصد بذلك شيء من أمور الدنيا كالغنيمة أو ما أشبه على ما سيأتي الخلاف فيه. قال: وتصديق كلماته أي يدخله الجنة، يعني إن مات يدخله الجنة، أو يرده إلى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من أجر أو غنيمة.

يدخله الجنة هذا إذا قتل في سبيل الله أو يرده، تقسيم: قسم يقتل فيدخل الجنة وقسم يسلم فلا يقتل، يرد إلى مسكنه الذي خرج منه، يرد مع ما نال من أجر أو غنيمة، "أو" هذه في قوله: أجر أو غنيمة، يحتمل أن تكون للتقسيم، فإذا كان الغنيمة قسيمة للأجر قلنا له: إن غنم لا أجر له وإن لم يغنم عاد بالأجر ولا هذا الكلام مستقيم مع ما جاء في خصائص هذه الأمة أنها أحلت لها الغنائم والنبي -عليه الصلاة والسلام- يسوق مثل هذا الكلام ليبين شرف هذه الأمة ومزيتها على غيرها، نقول: الغنيمة قسيمة للأجر، فمن غنم لا أجر له، لكن أجر أو غنيمة أو نقول: إن من أجر التنكير هنا للتعظيم من أجر عظيم إذا لم يغنم، أو أجر مع الغنيمة، أو أقل منه في مقابل الغنيمة، كل هذا قيل من قبل أهل العلم والمسألة لا شك أن فيها شيء من الإشكال. إذا قلنا: إن أو هذه للتقسيم وإذا قلنا: إنها بمعنى الواو، وربما عاقبت الواو كما يقول بن مالك فيكون مع ما نال من أجر وغنيمة وهذا متجه، يكون الذي غنم له أجره، ومع ذلك استعجل شيئًا من دنياه. ويرد على هذا كما أورد الشراح أيهما أفضل: من شهد بدرًا وغنم، أو من شهد أحدًا ولم يغنم؟ أيهما أفضل؟ بدر أفضل بلا شك «وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: أعملوا ما شئتم» ومن شهد بدرا وغنم أفضل ممن شهد أحدًا ولم يغنم، مع ما نال من أجر أو غنيمة. نظيره من حج مريدًا الحج فقط ومن حج مريدًا الحج، ومع ذلك يبتغي من فضل الله، هل يقدح هذا في حجه؟ لا يقدح هذا في حجه، لكن هل نقول: إن من حج للحج فقط أفضل ممن حج للحج وغيره من فضل الله؟ لا شك أن من تمحص عمله لله -جل وعلا- أفضل ممن شركه شيئًا أخر، لكن الكلام في هذا الشيء الذي شرك به هل يؤثر من حيث نقص الأجر؟ هذا ما فيه إشكال، لكن من حيث أنه يقضي عليه يأتي على بطلان؟ لا، أبدًا؛ ولذلك أحلت الغنيمة وما أبيحت وتمدح بإباحتها وجعل من خصائصها هذه الأمة إلا لأن ملاحظتها لا تؤثر في أصل المقصود، إن المجاهد لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله، لا يخرجه إلا الجهاد هو ما نظر إلى الغنيمة أصلًا في الأصل، لكن حصلت له الغنيمة يردها ولا ما يردها؟ إن نظر قل أجره، والحكم للغالب عند أهل العلم، مع أن ملاحظة أمر الدنيا أسهل من ملاحظة مراءاة الناس، بلا شك يعني أعرض على هذا ما ترجم بها أهل العلم باب ما جاء من الغد إنسان بعمله الدنيا، يعني يدخل فيه من خرج للغنيمة فقط، من خرج للغنيمة فقط فهذا داخل لكن من خرج لتكون كلمة الله هي العليا، ومع ذلك قال: إن جاء شيء مما يبتغي به مما يستعان به على طاعة الله قد يؤجر عليه، إذا كان قصده الاستعانة به على ما يرضي الله -جل وعلا-، فالأمور بمقاصدها، إذا قتل فهو شهيد؛ ولذلك الذي رجحه بن القيم من أفضل المكاسب الغنائم، أفضل المكاسب على الإطلاق الغنائم؛ لأنها هي كسب النبي -عليه الصلاة والسلام-، ما يلزم قد يقر في قلب هذا الذي غنم من إرادة إعلاء كلمة الله ونصر دينه أعظم بكثير مما وقر في قلب الثاني، الذي لم يغنم، فهذه أمور متفاوتة، قد يكون الإنسان هو الذي بجواره في الصلاة في المسجد في حال الرخاء الذي يتصرف الإنسان على مقتضى نظره، ويستطيع أن يوازن بين أموره، في حال الرخاء يكون بينه كما بين السماء والأرض، فيكف بمثل تلك الظروف التي قد يتصرف الإنسان غير مقتضى نظر الإنسان، نعم، هذا مشكل لكن قد يقال: إنه بالنسبة لهؤلاء كل إنسان في هذا المجال لا يمكن أن يسوايه إنسان من كل وجه سواء غنم أو لم يغنم؛ لأن هذه أمور تقديرها عند الله -جل وعلا-؛ لأن هذا مرده إلى قوة الإخلاص، وصدق المقصد لله -جل وعلا-.

بعض الإنسان ترده أمور الدنيا ولا تنقصه من حياته شيء، كما جاء في حديث الصحابي: منا من تعجل وفتحت له الدنيا فهو يهدبها مثل مصعب بن عمير، إلى آخره، لا شك أن الدنيا لها أثر على الآخرة وهي ضرتها، لكن يبقى أن هذه أمور قد تكون معارضه بما هو أقوى من ذلك، قد ينوي بها قتل الكفار، قد ينوي بها الاستعانة بما يرضي الله -جل وعلا- فتكون في ميزان حسناته.

قال: وحدثني عن مالك عن زيد بن أسلمة عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «الخيل لثلاثة: لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر» ثلاثة، قسمة ثلاثية؛ لرجل أجر يعني يؤجر على اقتنائها، ولرجل ستر لا يؤجر عليها لذاتها ولا يأثم باقتنائها، الثالث لا يؤجر عليها بل يأثم باقتنائها، التفصيل: فأما الذي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله مجهزة للغزو جهزها للغزو سواء كان بنفسه أو بإعارتها لغيره، ربطها في سبيل الله فأطال لها في مرج أو روضة أطال لها الحبل الذي تربط به، في مرج يعني مكان فيه كلأ وعشب، وهو في الغالب يكون منخفضًا، أو روضة تكون مرتفعة فما أصابت في طيلها ذلك من المرجع أو الروضة كان له حسنات، ولو أنها قطعت طيلها الحبل هذا طيلها ذلك فاستنت جرت شرفًا أو شرفين يعني شوط أو شوطين، سواء كان مرتفعًا كما هو المحل، كما هو شأن المحل المشرف شوطًا أو شوطين، كانت آثارها أقدامها على الأرض، وأرواثها حسنات له، لماذا؟ للنية العامة التي من أجلها اقتنى هذا الخيل وربطه، وهو أنه في سبيل الله، ولو أنها مرت بنهر فشربت منه ولم يرد أن يسقي به يعني من غير نية؛ لحديث عمر: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى»، هذا ما أراد أن يسقيه ولا قصد ولا نوى لها أن تستقي، ومع ذلك كان ذلك له حسنات، اكتفاء بالنية العامة، يعني الإنسان إذا اشترى كتابًا، ووضعه في المسجد لمن يقرأ فيه أو مصحف تكفي هذه النية في تحصيل أجر كل من قرأ فيه، هل يلزم أن نقول: ينوي كل من قرأ فيه أن ينوي به الموقف، يعني يجلس عند هذا الكتاب، ثم إذا رفعه فلان ونظر فيه نوى أن يقرأ فيه ليؤجر نيات تفصيلية ما تلزم، تكفي النية العامة، فهي له أجر، هذا الذي ربط في سبيل الله له أجر.

ورجل ربطها تغنيًا وتعففًا، ليتستغني بها عن سؤال الناس، بإجارتها مثلًا، يؤجرها يحمل عليها، تغنيًا وتعففًا ولم ينس حق الله في رقابها، ولا في ظهورها، لم ينس زكاتها إذا أعدها للتجارة، أو لم ينس زكاة ريعها إذا أعدها للإجارة، أو إعارتها على إن في المال حق سوى الزكاة في رقابها ولا في ظهورها، فهي لذلك ستر، هذا يستتر بها عن سؤال الناس، ويستعف بها عن مسألتهم، ورجل إذا نوى بهذا الاستتار، وهذا التعفف نعم أن يستتر بها عن سؤال الناس الذين جاءت النصوص بذمهم، أو يستغني بها في تأمين نفقته ونفقة من يمون ويقوت بهذا النية يؤجر عليها.

ورجل ربطها فخرًا ورياءً ونواءً للإسلام، وهذا التقسيم يأتي على كثير من أمور الدنيا، يعني شخص فتح محلاً تجاريًّا، ما الذي يقصده من المحل التجاري؟ إذا قصد بذلك التيسير على الناس، وإنظار المعسرين، والتصدق من هذا المحل في بداية، يؤجر على هذه النية؟ نعم، لكن إذا قصد بذلك استغلال الناس، أو قصد بذلك مجرد التعفف به والاسترزاق منه، كل على نيته، ورجل ربطها فخرًا، يفتخر به على الناس ورياءً ونواءً لأهل الإسلام، مثل السيارات الفارهة، كثير من الناس تجده يسلك المسالك غير المرضية لتحصيلها، إما باستدانة تجعله يضيق على نفسه وعلى من تحت يده، من أجل أين يقال فخرًا: يركب السيارات الفارهة، عندهم أسماء لها قد لا نستوعبها، المقصود أنه في كثير من السيارات الباهظة الأثمان الكثير ممن يشتريها إنما يركبها فخرًا ورياءً، هذا عليه وزر، لا سيما إذا كانت على حساب شيء من الواجبات. ونواء لأهل الإسلام، نواء يعني عداء ومنواءة لأهل الإسلام يستغل بها الفرص، كما أنه يوجد من يشتري بعض السيارات الفارهة، يقتنص بها من يشاء، بعضهم يشتري السيارة بخمسمائة ألف، بستمائة ألف، من أجل ماذا؟ إذا رآها من رآها ممن ضعفت نفسه، إما امرأة عرفت بشيء من التساهل بالركوب مع الآخرين أو صبي؛ لأن هذه الأمور مثل ما يحدث الآن في كثير من تصرفات الناس، تجده إنما يفعل هذا من أجل أن يقتنص به بعض الضعاف، ضعاف النفوس، هذا موجود هذا أيضًا نوى لأهل الإسلام، لا يلزم أن يكيد للإسلام بالكلية، وإنما يكيد لهؤلاء المغفلين، إذا ربطها فخرًا ورياءً، هذا معروف أنه يأثم به وهي عليه وزر، وكذلك نواء لأهل الإسلام نسأل الله العافية، قال: فهي على ذلك وزر، يعني في وقت بعض الناس، بعض السماسرة الآن تجد ما عنده شيء البتة، ثم بعد ذلك يشتري السيارة يستدين لمدة عشر سنوات أقساط لهذه السيارة من أجل ماذا؟ يقتنص بها الزبائن؛ لأن الناس يرتاحون في تجاراتهم لمن مظهره التجارة، ويظنون به أنه كفء لأن يعطى الأموال يضارب بها، يعني لو جاءك شخص على سيارة بنصف مليون مثلًا وقال: أنا عندي تجارة ماعندك ندخله في تجارتنا ولك نصيبك من الربح بقدر مالك، أو جاءك شخص على سيارة تالفة لا شك أنك سوف تثق بالأول أكثر من الثاني، يقول هذا ما عرفه للتجارة، لو كان عنده تجارة كان اشترى سيارة تنقل رجله، ويتخذون لهذا الأمر، ما عنده شيء أصلًا، ويستدين لمدة عشر سنوات، أقساط لهذا الآداب، ولم يكن نواءً وعداءً لأهل الإسلام، إنما تغرير بهم، هذا يغرر بمثل هؤلاء، فهي على ذلك وزر.

سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الحمر يعني ماذا لمن يقتني الحمر؟ أو ماذا عليه؟ هل هي مثل الخيل؟ هل الحمر مثل الخيل لثلاثة؟ الرسول -عليه الصلاة والسلام-  قال: نعم أم لا؟ ما قال: نعم ولا لا، لماذا؟ لدخولها في عموم الآية: {فمن يعمل مثقال ذرة خير يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره} لو عندك حمار وأنت في طريقك وجدت رجلًا بحاجه إلى مساعدة معه متاع، حملته وحملت متاعه لك أجر، هذا من الخير الذي تعمل، لكن إذا قصدت بها الإضرار مثلًا ربطتها في مجالس الناس، ظل ينتفع به الناس، تركتها تبول وتروث فيه، وهذا قصدك، وهذا من همك هذا عليك وزر؛ لأن هذا شر، يقول: وسئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الحمر فقال: «لم ينزل علي فيها شيء إلا هذه الآية الجامعة الفاذة»، فالعموم يعمل به ما لم يرد ما يخصصه، العموم يعمل به حتى يرد ما يخصصه: {فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره} قال: ذرة خير يره، نكرة في سياق الشرط فتعم، {ومن يعمل مثقال ذرة شرًّا يره}، الآن عندنا التنصيص على الخيل، والرسول -صلى الله عليه وسلم- سئل عن الحمر، فأجاب بهذه الآية الجامعة الفاذة التي تجمع الحمر والبغال والسيارات والطائرات، وكل ما يمكن أن ينتفع به إذا أراد بها خيرًا أجر، وإن أراد بها شرًّا، صارت عليه وزرًا، إن فعل فيها خيرًا أجر عليه، وإن فعل فيها شرًّا أثم به.

قال -رحمه الله-: حدثني عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر الأنصاري عن عطاء بن يسار أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ النَّاسِ مَنْزِلًا، في الدنيا أو في الآخرة أو في الدارين؟ ما معنى الخيرية هنا؟ يعني الأفضل على كل حال، المرد كله إلى أمر الآخرة؛ لأنه قد يكون بالنسبة لمقاييس الدنيا، الرجل الذي بعده رجل معتزل في غنيمته، قد لا يكون هذا خير الناس منزلًا بالنسبة للدنيا، وإنما كفى الناس عن شره صار من خير الناس منزلًا يوم القيامة، فالمرد إلى الآخرة، يوشك أن يكون خير مال الرجل غنم يتبع بها شعب الجبال، لكن هذه الخيرية هل يقول: إنها بالنسبة لمقاييس الدنيا الذي تعرض للبرد والشمس والحر وشظف العيش أفضل من اللذين في البيوت، من الحياة الدنيا؟ لا، إنما المقصود في الآخرة هو أسلم ممن قالوا، ويأتي هذا في العزلة والخلطة: «ألا أخبركم بخير الناس منزلًا؟ رجل آخذ بعنان فرسه» يعني بلجام فرسه يجاهد في سبيل الله، هذا لا شك أنه من خير الناس، هذا بالنسبة لمن يجاهد في سبيل خير الناس: «ألا أخبركم بخير الناس منزلًا بعده؟» يعني الذي يليه، رجل معتزل في غنيمته يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ولا يشرك بالله شيئًا.

أما فضل الجهاد فجاءت به النصوص، هذا لا شك أنه من أفضل المنازل، أما بالنسبة للعزلة فلا شك أنها في أوقات الفتن التي يخشى أن يتعدى شرها وضررها على الإنسان، فالعزلة خير له، وإلا فالخلطة أفضل، الذي يخالط الناس ويصبر على شرهم أفضل بكثير ممن يعتزلهم ويصبر عليهم، لكن المسألة في أوقات الفتن التي يخشى أن تتعدى هذه الفتن إلى الشخص، فمثل هذا عليه أن يعتزل، أو الأفضل له أن يعتزل، والناس لا شك أنهم يتفاوتون في هذا المقام فبعض الناس العزلة له خير مطلقًا، وبعضهم الخلطة خير له مطلقًا، فالذي يستطيع أن يؤثر في الناس ينفع الناس، هذا الخلطة أفضل له بحيث لا يتأثر بما هم عليه من شرور، والذي لا يستطيع أن يؤثر وهو قابل للتأثر مثل هذا يقال له: اعتزل، وللخطابي أبي سليمان حمدة بن محمد الخطابي البوستي المعروف صاحب "معالم السنن" له كتاب في العزلة، جمع فيه النصوص في الطرفين ووزن فيه بينه على كل حال كل إنسان يعرف من نفسه تأثره وأثره في غيره، لو أن إنسان عنده شيء من العلم ينفع الناس هل يقال له: اعتزل؛ لأن الزمن زمن فتنة؟ إذا خشي من بعض ما عنده من علم أن يؤثر في الناس أثرًا غير مناسب كما كان أهل العلم يمنعون من يدرس إذا خشي عليه التخليط منع وجعل في بيته لا يخالط الناس، فهذا له حكم، لكن الإنسان الذي نفع الله به يعلم الناس الخير، هل يقال له: اعتزل باعتبار أن خير الناس بعد المجاهد الذي يعتزل في غنيمته، اعتزل في غنيمتك قل: لا، الخلطة والعزلة تختلف من شخص إلى آخر، فبعض الناس مخالطته للناس أفضل، وبعضهم اعتزاله للناس أفضل، والشراح منذ القرن الثامن والتاسع كأنهم يطبقون على أن العزلة أفضل مطلقًا ويعلقون لقولهم: الاستحالة خلو المحافل عن المآثم عن المعاصي عن المنكرات، وواقع الناس اليوم لا شك أن المنكرات موجودة وبكثرة وظاهرة، لكنها في أماكن دون أماكن، فبالإمكان أن يعتزل الإنسان وهو في بلد بلد كبير، يعني كثير من الأحياء ليس فيها كثير من المنكرات، وبعض المحلات والأسواق وأمور الناس وبعض محافل الناس العامة لا تسلم من المنكرات، هل نقول لطالب العلم أو لغيره لمن يريد نجاة نفسه، نقول: لا تنزل إلا الأماكن التي فيها المنكرات، واعتزل بالأحياء التي تسلم من المنكرات، أو نقول: انزل إلى هذه المحلات التي تشتمل على المنكرات وأنكر وغير بقدر استطاعتك.

نعود إلى المسألة الأولى: إن كان ممن يستطيع أن يغير ويؤثر، فهذا هو المتعين في حقه، وإلا فلا ينزل إلى هذا الأماكن خشية أن يتأثر، يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويعبد الله لا يشرك به شيئًا.

قال: وحدثني عن مالك عن يحيى بن سعيد، قال: أخبرني العبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت عن أبيه عن جده، قال: بايعنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره، وفي بعض أحاديث عبادة قال: بايعناه على ما بايع عليه النساء، مع أن المقطوع به المجزوم به أن بيعة الرجال وقعت قبل بيعة النساء، لكنهم يحيلون على ما في القرآن، الذي يعرفه الخاص والعام، ذكرنا هذا مرارًا، ونظرنا له بأن من جامع في نهار رمضان يقال له: عليك كفارة ظهار، ما يقال: عليك كفارة مجامعة، وكان الثابت في الحديث الصحيح، لكن كفارة الظهار مضبوطة بالقرآن المعروفة لدى الخاص والعام والبيعة التي بايع عليها الرجال، هي مثل بيعة النساء المضبوطة بالقرآن، يقول: بايعنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على السمع والطاعة في العسر واليسر على السمع والطاعة، وهذه للرسول -عليه الصلاة والسلام- ولأولي الأمر من بعده على السمع والطاعة ما لم يأمروا بمعصية؛ لأنه حينئذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق في العسر واليسر، يعني في حال السعة وفي حال الضيق، في حال الغناء وفي حال الفقر؛ لأن بعض الناس يدور مع حالته وهمه الدنيا؛ إن أعطي منها رضي وإن لم يعطى منها سخط، في العسر واليسر، والمنشط والمكره، في حال النشاط وفي حال ما تكرهه النفس، فإذا أمر بأمر ليس فيه معصية، عليه أن لا يلتفت إلى حاله إلا إذا كان عاجزًا، إذا عجز فالذي لا يستطيع لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، لكن لا ينظر إلى أن هذا يناسبه وأن هذا لا يناسبه، ويتخير من الأوامر ما يناسبه دون ما لا يناسبه، فعليه الطاعة بغض النظر في كونه يناسبه أو لا يناسبه.

وألا ننازع الأمر أهله، الأمر لأهله ما دام ثبتت البيعة لزيد من الناس لا يجوز الخروج عليه، ولا يجوز عصيانه، إلا إذا أمر بمعصية، من جهة الخروج عليهم معلق بالكفر البواح أو ترك الصلاة، لا ما صلوا لا، ما لم تروا كفرًا بواحًا، ومع ذلك يشترط أهل العلم القدرة، أما إذا لم توجد القدرة فلا يجوز الخروج ولو وجد الكفر البواح بترك الصلاة؛ لأنه يترتب على ذلك من المفاسد، وإراقة الدماء ما هو أعظم من الصبر على هذا الرجل على هذا الوالي وإن كان كافرًا كفرًا بواحًا أو لا يصلي، فأهل العلم يشترطون ذلك ومع ذلك يقول عبادة: وأن نقول أو نقوم بالحق حيث ما كنا، الطاعة في العسر واليسر، والمنشط المكره لا تنافي النصيحة، لا شك أن الولاة كغيرهم من الناس يقع منهم ما يقع، وقد يقع منهم أكثر من غيرهم، باعتبار أنهم مكنهم الله من كثير من الأمور التي تيسر ما لم تيسر لغيرهم، ومع ذلك يبقون بالنسبة لوجوب الطاعة تجب الطاعة، ولو حصل منهم ما حصل ولو حصل الظلم، ولو حصل الجور، ولا ينازعون الأمر بحال من الأحوال إلا بما جاء عن النبي -عليه الصلاة والسلام-، ولكن النصيحة واجبة، الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: «لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم» فبذل النصيحة لولي الأمر، من أهم المهمات، بل من أوجب الواجبات، وينص أهل العلم في شرح حديث النصحية أنه من الغش لولي الأمر أن يغر بالثناء الكاذب، فلا يثنى عليه بما لم يفعل ولا يغمط ما يفعل؛ لأن الناس في هذا الباب على طرفي نقيض؛ إما أن يبالغ في المدح، وهذا في الغالب الذي يبالغ في المدح بما ليس فيه، أن هذا قصده شيء من أمور الدنيا، ولا يلبس ولا يشنع ولا يشهر بشيء لم يحصل، أو يضخم الشيء اليسير يجعله كبيرًا، على أن تكون النصيحة كما هو الأصل سرًّا بينه وبينه، فهي أجدى؛ لأن النصيحة وإن كان نصيحة علنية فهي من باب الأمر والنهي من باب التغيير من باب الإنكار. يشترطون ألا يترتب عليها من المفسدة ما هو أعظم منها، فهذه أمور ملاحظة ومرعية عند أهل العلم. وأن نقول أو نقوم بالحق حيث كنا، لا نخاف في الله لومة لائم، واللوم إنما هو باللسان يعني لو كان مثلًا هذا مجنون، كيف يدخل نفسه فيما لا يعنيه؟ نقول: لا، هذا ليس بنجوى، هذا محضر نصيحة، وإذا أدى ما عليه، لكن إذا تعدت المسألة اللوم، إذا خاف على نفسه، على ماله، على ولده، له أن يترك وهو معذور في هذه الحالة، لا، المنصوص عليه: لا نخاف في الله لومة لائم، اللوم إنما يكون باللسان، اللسان ما يثني لكن لو خشي على جسده خشي على ماله، على ولده، هناك يكون فيه ممدوحة على أن ينكر المنكر بقلبه، يبقى أنها عند هذه مسألة في عزائم وفيه رخص، يعني من ارتكب العزيمة وصبر على الآثار المترتبة عليها هذا له ذلك، لكن يبقى أن له ممدوحة وله رخصة، ولا يؤاخذ إن خشي على نفسه، باللسان، نعم بلا شك له أجر الجهاد، كل جهاد بحسبه، جهاد النفس، جهاد الشيطان.

الباب طويل وبعده الإيمان والنذر ونحن ما عندنا إلا اليوم وغدًا وأربعة دروس في الأسبوع القادم ما فيه غيره باقي مع هذا الدرس خمسة دروس فقط، والكلام في الجهاد وفي الإيمان والنذر طويل، نحتاج إلى أن نكمل على أي حال.

قالوا: حدثنا عن مالك عن زيد بن أسلم قال: كتب أبو عبيدة بن الجراح إلى عمر بن الخطاب يذكر له جموعًا من الروم على أنهم قادمون وافدون، كتب أبو عبيدة بن الجراح إلى عمر بن الخطاب يذكر جموعًا له من الروم ويخوف منهم، يعني مثل ما يحصل الآن من تهويل قوات الأعداء وما أشبه ذلك من شرق أو غرب أو غير ذلك، فكتب إليه عمر بن الخطاب: أما بعد، فإنه مهما ينزل بعبد مؤمن من منزل شدة يجعل الله بعده فرجًا، على أن يبذل الأسباب الشرعية، فيجعل الله بعد ذلك فرجًا، وأنه لن يغلب عسر يسرين، وأن الله تعالى يقول: {يا أيها الذين أمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون} لن يغلب عسر يسرين، {فإن مع العسر يسرًا إن مع العسر يسرًا} العسر معرفة وأعيد معرفة فهو عينه، واليسر نكرة، أعيد نكرة هو وغيره ومن هذا قالوا: لن يغلب عسر يسرين، العسر أعيد معرفة فهو عينه، واليسر أعيد نكرة وهو غيره، يقول الله تعالى في كتابه: {اصبروا وصابروا} الصبر لا بد منه، ولن ينال أحد مطلوبه إلا بالصبر، وصابروا المصابرة المفاعلة، مادام صبر خصمك لا بد أن تصابره وتصمد أمامه، ورابطوا يعني داوموا، واتقوا الله لا بد من هذه اصبروا واصابروا ورابطوا واتقوا الله أربعة أشياء لتحصل النتيجة لعلكم تفلحون.

باب النهي على أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو.

حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِك عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَر -رضي الله عنه-ماَ أَنَّهُ قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ يُسَافَرَ بِالْقُرْآنِ إِلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ". قَالَ مَالِك: وَإِنَّمَا ذَلِكَ مَخَافَةَ أَنْ يَنَالَهُ الْعَدُوُّ.

يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: باب النهي على أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو؛ خشية أن يساء إليه وأن يمتهن، فالعدو لا يجوز تمكينه من القرآن، نعم، قد يمكن من آية يقام بها الحجة عليه كما أرسل النبي -عليه الصلاة والسلام- بالآية إلى هرقل، وغيره ممن دعاهم إلى الإسلام: {يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم} إلى آخرة...، فيمكن من آية أو بعض آية، لكن لا يمكن من القرآن؛ لأنه لا يتدين به، فيخشى أن يسيء إليه، ويكثر السؤال من تمكين من رجي إسلامه من القرآن أو من ترجمه معانيه، ويقول: أنا أسمع القرآن منكم، لكن ما أفهم، أعطوني مصحفًا ترجمت معانيه أقرأ وأستفيد وأنظر؛ لأن إذا غلب على الظن أنه يستفيد منه ولا يسيء إليه حينئذ لا مانع من ذلك، وقد أفتى به بعض أهل العلم وإن كان تحت النظر فهو أولى، وقال: أطلع عليه عندنا، يطلع على هذه الترجمة ويقرأ ويتأمل رجاء أن يسلم.

قال: حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِك عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَر أَنَّهُ قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ يُسَافَرَ بِالْقُرْآنِ إِلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ" يسافر بالقرآن في بعض الروايات المصحف، وهذا لا بد منه، ليس المراد أن بالقرآن الذي في صدور الرجال ليس هذا هو المراد، إنما المراد به المكتوب في المصاحف، قال مالك: وإنما ذلك مخافة أن يناله العدو فيسيء إليه، وقد أسيء إليه من قبل ممن لا يتدين به في بلاد المسلمين، فكيف إذا كان في بلاد العدو.

باب النهي عن قتل النساء والولدان في الغزو.

حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِك عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ ابْنٍ لِكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ قَالَ: " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الَّذِينَ قَتَلُوا ابْنَ أَبِي الْحُقَيْقِ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ. "قَالَ: فَكَانَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يَقُولُ: بَرَّحَتْ بِنَا امْرَأَةُ ابْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ بِالصِّيَاحِ فَأَرْفَعُ السَّيْفَ عَلَيْهَا، ثُمَّ أَذْكُرُ نَهْيَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَكُفُّ وَلَوْلَا ذَلِكَ اسْتَرَحْنَا مِنْهَا.

وحَدَّثَنِي عَنْ مَالِك عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَر -رضي الله عنهما-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- رَأَى فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ امْرَأَةً مَقْتُولَةً فَأَنْكَرَ ذَلِكَ وَنَهَى عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ".

وحَدَّثَنِي عَنْ مَالِك عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ بَعَثَ جُيُوشًا إِلَى الشَّامِ فَخَرَجَ يَمْشِي مَعَ يَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، وَكَانَ أَمِيرَ رُبْعٍ مِنْ تِلْكَ الْأَرْبَاعِ، فَزَعَمُوا أَنَّ يَزِيدَ قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ: إِمَّا أَنْ تَرْكَبَ وَإِمَّا أَنْ أَنْزِلَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا أَنْتَ بِنَازِلٍ وَمَا أَنَا بِرَاكِبٍ، إِنِّي أَحْتَسِبُ خُطَايَ هَذِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: إِنَّكَ سَتَجِدُ قَوْمًا زَعَمُوا أَنَّهُمْ حَبَّسُوا أَنْفُسَهُمْ لِلَّهِ فَذَرْهُمْ وَمَا زَعَمُوا أَنَّهُمْ حَبَّسُوا أَنْفُسَهُمْ لَهُ، وَسَتَجِدُ قَوْمًا فَحَصُوا عَنْ أَوْسَاطِ رُءُوسِهِمْ مِنْ الشَّعَرِ، فَاضْرِبْ مَا فَحَصُوا عَنْهُ بِالسَّيْفِ، وَإِنِّي مُوصِيكَ بِعَشْرٍ: لَا تَقْتُلَنَّ امْرَأَةً وَلَا صَبِيًّا وَلَا كَبِيرًا هَرِمًا، وَلَا تَقْطَعَنَّ شَجَرًا مُثْمِرًا، وَلَا تُخَرِّبَنَّ عَامِرًا، وَلَا تَعْقِرَنَّ شَاةً وَلَا بَعِيرًا إِلَّا لِمَأْكَلَةٍ، وَلَا تَحْرِقَنَّ نَحْلًا، وَلَا تُفرِقَنَّهُ، وَلَا تَغْلُلْ، وَلَا تَجْبُنْ".

وحدثني عن مالك أنه بلغه أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى عامل من عماله أنه بلغنا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان إذا بعث سرية يقول لهم: اغزوا باسم الله في سبيل الله، تقاتلون من كفر بالله، لا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا، وقل ذلك لجيوشك وسراياك إن شاء الله، والسلام عليك".

يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: باب النهي عن قتل النساء والولدان في الغزو، يعني ممن لا يد له في القتال، من يضعف عن ذلك، وأما من شارك في القتال سواء كان شيخًا كبيرًا أو امرأة فإن حكمها حكم مقاتل، النساء والذراري في الغالب كبار السن الشيوخ لا يقاتلون، فهم لا يجوز قتلهم، وثبت النهي عن قتل النساء والذرية مع أنه قال -عليه الصلاة والسلام-: «من بدل دينه فاقتلوه» فحصل التعارض بين النهي عن قتل النساء والذراري وبين من بدل دينه فاقتلوه، فهل تقتل المرأة المرتدة أو لا تقتل؟ تقتل نعم، لكن عمومًا من بدل دينه فاقتلوه، مطلق أم وجهي؟ وجهي، النهي عن قتل النساء والذرية يشمل الأصليات والمرتدات، ومن بدل دينه فاقتلوه عمومه شامل للرجال والنساء، إلا أنه خاص بالمرتدين من الرجال والنساء، فعموم النهي عن قتل النساء والذراري في عمومه هو خاص بالنساء دعونا من الذراري، الآن من بدل دينه فاقتلوه خاص بالمكلفين، من الرجال والنساء وعموم النهي عن قتل النساء هذا شامل للأصليات والمرتدات، وعموم الثاني للرجال والنساء خصوص الأول خاص بالنساء وخصوص الثاني بالمرتدين، فنحتاج إلى مرجح خارجي، الحنفية عملوا بحديث النهي عن قتل النساء الذراري، فلا يجوز قتل المرتدة؛ لأن النهي عن قتل النساء شامل للكافرات الأصليات والمرتدات، والجمهور قالوا: تقتل المرتدة؛ عملًا بعموم "من بدل دينه فاقتلوه"، لكنه معارض بحديث النهي عن قتل النساء، وحديث النهي عن قتل النساء معارض بمن بدل دينه فاقتلوه، وبينهما عموم وخصوص وجهي، الجمهور يقولون: عموم النهي عن قتل النساء دخله مخصصات كثيرة فهو ضعيف، عمومه ضعف لكثرة المخصصات، يعني المرأة إذا زنت، تقتل أو لا تقتل؟ تقتل، يدخل في النهي عن قتل النساء والذرية، إذا قتلت، تقتل أو لا تقتل؟ تقتل، إذا ثبت قتل الصواحب، وإن كن نساء فعمومه دخل ومخصصات كثيرة، فضعف أمام عموم "من بدل دينه فاقتلوه" فرجح عليه من هذه الحيثية فتقتل المرتدة، فالمرتدة لا تدخل في النهي عن قتل النساء في العزو.

قال: حدثني يحيى عن مالك عن ابن شهاب عن ابن لكعب بن مالك قال: حسبت أنه قال عبد الرحمن بن كعب، وبعض الروايات عبد الله بن كعب أنه قال: نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذين قتلوا بن أبي الحقيق -سلام بن أبي الحقيق، يهودي آذى النبي -عليه الصلاة والسلام- فانتدب له من يقتله، أنه قال: نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الذين قتلوا بن أبي الحقيق، نهاهم قبل القتل، يعني انتدبهم لقتله فنهاهم عن قتل النساء والوالدان، قال: فكان رجل منهم يقول: برحت بنا امرأة بن الحقيق، يعني لما رأتهم صاحت، فهم خشوا من أن يدركه من يسعفه أو من يسطوا عليهم فيقتلهم، والعلاج في هذا أن يقتلوها، العلاج أن يرتاحوا منها. قال: برحت بنا امرأة بن الحقيق بالصياح، فأرفع السيف عليها، ثم أذكر نهي رسول الله صلى الله عليه وسم فأكف، ولولا ذلك استرحنا منها، يعني لولا النهي قتلناها وارتحنا.

قال: وحدثني عن مالك عن نافع عن أبي عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رأى في بعض مغازيه امرأة مقتولة فأنكر ذلك، ونهى عن قتل النساء والصبيان، يعني هذا في الأصليات، وأما المرتدات فيقتلن على ما تقدم، نعم هو السبب الأصلي لكونه النساء والصبيان والشيوخ الكبار هؤلاء ليسوا من أهل القتال، لكن إذا شاركوا في القتل أو تترس بهم الكفار بحيث لا يمكن الوصول إليهم إلا بهم فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، والوسائل لها أحكام وغايات، هو مخصوص بالمرتدات، يعني عمومه مخصوص بقتل المرتدة، عمومه مخصوص بالزانية المحصنة، عمومه من قتلت تقتل، لا، هو ما استطعنا إلى أن عرفنا كثرة المرجحات التي أضعفت هذا العموم.

قال: وحدثني عن مالك عن يحيى بن سعيد أن أبا بكر الصديق بعث جيوشًا إلى الشام، فخرج يمشي مع يزيد بن أبي سفيان وكان أمير ربع من تلك الأرباع، أرسل أربعة جيوش، على واحد منها يزيد بن أبي سفيان أخو معاوية، فزعموا أن يزيد قال لأبي بكر؛ لأنه شيعه ماشيًا ويزيد راكب، يزيد مثل هذا لا يليق الخليفة يمشي وهو راكب، فقال يزيد لأبي بكر: إما أن تركب وإما أن أنزل. فقال أبو بكر: ما أنت بنازل وما أنا براكب، إني أحتسب خطايا هذه في سبيل الله -رضي الله عنه وأرضاه- ثم قال: إنك ستجد قومًا زعموا أنهم حبسوا أنفسهم يعني رهبان لزموا بيعهم وصوامعهم، هؤلاء ليس عليك بهم دعوى لا هم يقاتلون، لا يقاتلون، حبسوا لله فذرهم وما زعموا، وإن كانوا على باطل ذرهم؛ لأن ما على الناس منهم خطر، وهذا من حسن رعاية الإسلام لمثل هؤلاء الضعفاء بخلاف طلائق الكفار الذين يأتون على كل شيء، سواء كان له أثر أو لا أثر له فيتلفونه والله المستعان، والآن هم مثل ما يقول المثل: رمتني بدائها وانسلت، هم المفسدون في الأرض ومع ذلك يرمون المسلمون بالعظائم والله المستعان. زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله فذرهم وما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم له، وستجد قومًا فحصوا عن أوساط رؤوسهم من الشعر، هؤلاء رؤوس الكفر، ورؤوس النصارى، هؤلاء لهم الأثر في غيرهم فاضرب ما فحصوا عنه بالسيف، يعني فاضرب بهذه الرؤوس بالسيف، وأني موصيك بعشر: لا تقتلن امرأة؛ لما ثبت عن النهي عن قتل النساء والصبيان، ولا صبيًّا ولا كبيرًا هرمًا. قد يقول القائل: إن دريد بن الصمة قتل في حنين وهو شيخ كبير هرم، لكنه له رأي يخطط ويساعدهم على حربهم، ولا كبيرًا هرمًا، ولا تقطعن شجرًا مثمرًا؛ لأن هذا إفساد، هذا إفساد في الأرض، ومآله بعد الفتح للمسلمين، ولا تخربن عامرًا يعني لا تهدم البيوت، ولا تعقرن شاة ولا بعيرًا إلا لمأكله، من أجل الأكل، وقد جاء النهي عن قتل الحيوان إلا لمأكله؛ لأن هذا فيه إتلاف، إتلاف للمال وإفساد، ولا تحرقن نخلًا يعني في غزوة بني النضير حرق النبي -عليه الصلاة والسلام- النخل وهان على سراة بني لؤي حريق بالبؤيرة المستطيبة. المقصود أن مثل هذا ترجحت فيه المصلحة أو تترس به الكفار فإنه يحرق؛ لأنه لا يمكن أن يتوصل إلى ما يجب فعله إلا به، ولا تفرقن، ولا تحرقن نخلًا، ولا تفرقن نحلًا نعم هو يقول نحل نوع حيوان عسل، ولا تحرقن نحلًا، ولا تحرقن نخلًا، لا شك أنه مثل تخربن عامرًا، أو تقطعن شجرًا مطرد معها، يعني على النخل بالخاء مطرد، مع قوله لا تقطعن شجرًا مثمرًا، ولا تخربن عامرًا، بعض النسخ على هذا، لكن على النسخة التي عليها أكثر الشروح لا تحرقن نحلًا؛ لأنه لا يمكن أن يتترس به مثل النخل.

وعلى كل حال كل ما يتوصل به إلى المقصود يفعل وما لا فلا، لا سيما إذا كان على جهة الإفساد، ولا تفرقنه النحل، لا تفرقنه؛ لأن النخل لا يتصور تفريقه والنحل يتصور تفريقه، دعوه مجتمعًا ليستفاد منه، ولا تغلل وهنا ولا تفرقن، هو موجود في كل مكان لا سيما الأماكن التي فيها الزروع والثمار والعشب وما أشبه ذلك، ولا تغلل الغلول هو الأخذ من الغنيمة قبل أن تقسم، ولا تجبن أي: لا تخاف من العدو فيطمع فيك.

قال: حدثني عن مالك أنه بلغه أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى عامل من عماله أنه بلغنا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان إذا بعث السرية يقول لهم: اغزوا بسم الله، يعني ابدأ بسم الله وعلى بركته، في سبيل الله مخلصًا في ذلك لله -جل وعلا- تقاتلون من كفر بالله، يعني الوصف المؤثر في مشروعية الجهاد هو الكفر، «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله»، لا تغلوا ولا تغدروا، لا تغدروا بالعدو ولا تخونوا، ولا تمثلوا، التمثيل بالقتيل بجدع أطرافه وتشويه صورته، ولا تقتلوا وليدًا كما جاء النهي فيما تقدم عن قتل الصبيان، وقل ذلك لجيوشك وسراياك، يعني من بعثته على سريّة، أو على جيش أو قطعة من الجيش ذكره بهذه الأشياء إن شاء الله وهذا للتبرك والسلام عليك، والله أعلم.

 

وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

"