شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (096)

 

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

أيها الإخوة والأخوات السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً بكم إلى حلقة جديدة ضمن برنامجكم: شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح.

مع مطلع هذه الحلقة يسرنا أن نرحب بصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور: عبد الكريم بن عبد الله الخضير، عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، فأهلاً ومرحبًا بكم شيخ عبد الكريم.

حياكم الله وبارك فيكم وفي الإخوة المستمعين.

المقدم: لازلنا في حديث النعمان بن بشير -رضي الله عنه- في باب فضل من استبرأ لدينه، قد وعدنا المستمع الكريم بأن نستكمل ما تبقى من فوائد هذا الحديث.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وقفنا على قوله في الحديث: «ألا وإن في الجسد مضغة» «ألا» كسابقتيها «وإن في الجسد مضغة» مضغةً بالنصب، اسم (إن) مؤخر، أي قطعة من اللحم، سميت بذلك لأنها تمضغ في الفم لصغرها، وأطلقها على القلب إرادةً لتصغيره بالنسبة إلى باقي الجسد، مع أن صلاح الجسد وفساده تابعان له للقلب.

«إذا صلَحت» بفتح اللام، وقد تضم، أي المضغة «صلَح الجسد كله» سقط كلمة أو لفظة «كله» عند ابن عساكر، «وإذا فسَدت» مثل صلحت، يعني بفتح السين، مثل صلحت في الضبط، قال الكرماني: والفتح أفصح.

يقول الكرماني: فإن قلت: فدخول إذا لا بد أن يكون على متحقق الوقوع، إذا صلحت صلح، إذا فسدت فسد، يقول: فدخول إذا لا بد أن يكون على متحقق الوقوع، وهاهنا الصلاح غير متحقق لاحتمال الفساد وبالعكس. الآن "إذا" الشرطية، إنما يؤتى بها إذا كان الكلام متحقق الوقوع، وإن إذا كان الاحتمال ضعيف: إذا قام زيد قمت، هذا مؤكَّد، لكن إن قلت: إن قام زيد قمت، هذا مشكوك فيه، ولذا مر بنا مرارًا تقرير هذا الكلام وأتينا بالبيت المشهور:

أنا إن جزمت...

المقدم: أنا إن شككت وجدتموني جازمًا...

نعم.

أنا إن شككت وجدتموني جازمًا
 

 

وإذا جزمت فإنني لم أجزم
 

وبيَّنَّا هذا مرارًا.

يقول الكرماني: قلت: هو هاهنا بمعنى إن بقرينة ذكر المقابِل وقد وقع بينهما المبادلة. الآن إذا فعل الشرط «إذا صلحت» وجوابه...

المقدم: صلح الجسد.

صلح الجسد. هذا التشكيك، أو عدم الجزم وارد على جملة واحدة أو على جملتين؟ «إذا فسدت فسد».

المقدم: على جملتين.

لكن الآن هل للكرماني في استدراكه وسؤاله أصاب المحز. فإن قلت: فدخول إذا لا بد أن يكون على متحقق الوقوع، وهاهنا الصلاح غير متحقق لاحتمال الفساد وبالعكس. التحقق هل يكون في بناء الجواب على الفعل أو بارتباط هذه الجملة بجملة أخرى؟

المقدم: الأمر الثاني، ارتباطها بجملة أخرى.

هذا كلام الكرماني، لكن هل هو صحيح؟ أليس من المتحقق أن القلب إذا صلح صلح الجسد؟

المقدم: بلى.

متحقق أو غير متحقق؟

المقدم: بلى.

«وإذا فسدت فسد الجسد» هل فيه شك هذا؟

المقدم: لا.

إذًا كيف يورد الكرماني هذا التساؤل؟ «إذا صلحت صلح الجسد كله» هذه جملة مستقلة. هل هي مشكوك فيها أو مجزوم بها؟ انظر الآن يتجه كلام الكرماني لو كانت إذا صلح الجسد...

المقدم: ربما يصلح.

ربما يصلح.. إذا صلح القلب ربما يصلح الجسد أو يفسد.

المقدم: نعم.

هذا محل الإشكال، لكن إذا صلحت صلح، مؤكَّد، وإذا فسد القلب، فسد الجسد. إذًا هل هذا الكلام وهذا التساؤل من الكرماني له وجه أو ليس له وجه؟

المقدم: ليس له وجه.

يقول: فإن قلت: فدخول إذا لا بد أن يكون على متحقق الوقوع، وهاهنا الصلاح غير متحقق لاحتمال الفساد وبالعكس، قلت هو هاهنا بمعنى (إن) بقرينة ذكر المقابِل وقد وقع بينهما المبادلة، يعني تأتي (إذا) في موضع (إن)، وتأتي (إن) في موضع (إذا)، لكن الآن الإشكال الذي أورده من أساسه، يرد أو ما يرد؟ أنت بغض النظر عن الجملة الثانية، إذا قام زيد قمت، الآن فيه إشكال؟ أنت مؤكَّد أنك ستقوم إذا قام زيد. لكن إذا قلت: إن يقم زيد أقم، احتمال أن يقوم زيد وأنت ما تقوم، هذا يعني احتمال ضعيف أنك تقوم إذا قام زيد. هذا في الجمل المنفصلة، لكن إذا كانت الجمل هنا، إذا صلحت صلح، هل فيه تردد، هل يمكن أن يصلح القلب ولا يصلح الجسد؟

المقدم: لا يمكن.

يمكن؟

المقدم: لا.

 ممكن يا إخوان أو غير ممكن؟ يصلح القلب أو يصلح الجسد؟

المقدم: لا يمكن.

إن كان هنا شك في ترتب الجواب على الفعل يأتي كلام الكرماني.

يقول: ألا وهي القلب، قال الحافظ: سمي القلب قلبًا لتقلبه في الأمور، أو لأنه خالص ما في البدن، وخالص كل شيء قلبه، أو لأنه وضع في الجسد مقلوبًا، وخص القلب بذلك لأنه أمير البدن، وبصلاح الأمير تصلح الرعية، وبفساده تفسد.

وقال العيني: الآن لو نظَّرنا هذه المسألة، دعنا مع الراعي والرعية في المثال الذي ذكره الحافظ: إن صلح الراعي صلحت الرعية، يصلح أن تقول: إذا صلح الراعي صلحت الرعية؟ لاحتمال أن يفسد كثير من الرعية. ما فيه ارتباط وثيق بين الراعي والرعية مثل ارتباط القلب مع الجسد، هو حكم أغلبي في قولهم: وخص القلب بذلك لأنه أمير البدن، بصلاح الأمير تصلح الرعية وبفساده تفسد. هل معنى هذا أنه إذا صلح جميع الرعية على حد سواء؟ يعني لو تصورنا أن الرعية في عهد عمر بن عبد العزيز كلهم على مستوى عمر بن عبد العزيز، هنا يأتي التنظير لو أردنا أن نطبق كلام الكرماني أظن ظاهر.

وقال العيني: هو بحسب الطب، يعني القلب أول نقطة تتكون من النطفة، ومنه تظهر القوى، ومنه تنبعث الأرواح، ومنه ينشأ الإدراك ويبتدئ التعقل، فلهذه المعاني خص القلب بذلك.

واحتج جماعة بهذا الحديث، وبنحو قوله تعالى: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَعْقِلُونَ بِهَا} [سورة الأعراف 179] {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلبٌ} [سورة ق 37] احتجوا على أن العقل في القلب، وليس في الرأس، يعني في الدماغ.

قال العيني: قلت: فيه خلاف مشهور، فمذهب الشافعية والمتكلمين أنه في القلب، ومذهب أبي حنيفة أنه في الدماغ، وحكي الأول عن الفلاسفة والثاني عن الأطباء، واحتج بأنه إذا فسد الدماغ فسد العقل.

الآن ما منشأ الخلاف؟ منشأ الخلاف أن من قال موضع العقل هو القلب، أن النصوص الشرعية تخاطب القلب على أن مناط التكليف العقل، والنصوص جاءت لتخاطب...

المقدم: القلب.

القلب. على مناط التكليف العقل والنصوص جاءت لتخاطب القلب إذًا هما شيء واحد. جيد؟

المقدم: نعم.

الأطباء حجتهم ظاهرة، ومذهب الحنفية، موضع العقل في الدماغ، يعني هم يقولون: إذا تأثر الدماغ، يختل الدماغ، يختل العقل.

لكن هناك كلام للإمام أحمد يجمع بين القولين، يقول: العقل في القلب وله اتصال بالدماغ، يعني مثلا لو نأتي بمثال محسوس، الكهرباء فيها سالب وفيها موجب، بالسالب وحده لا تعمل، بالموجب وحده...

المقدم: لا يعمل.

نعم إذًا هذا دماغ وهذا قلب، منهما معًا يتكون العقل، وهذا كلام للإمام أحمد، هو في القلب أصلاً، لأن النصوص الشرعية كلها تخاطب القلب، وأيضًا له اتصال بالدماغ؛ لأنه إذا تأثر الدماغ تأثر العقل.

وفي شرح ابن بطال: وفيه أن العقل والفهم إنما هو في القلب، وموطنه وما في الرأس منه إنما هو عن القلب، ومنه سببه.

فيه شيء؟

المقدم: تفضل يا أخي.

سائل: أحسن الله إليك، البعض يورد مثالاً على أنه لو حدثت عملية تغيير قلب..

المقدم: من كافر إلى مسلم.

سائل: من كافر إلى مسلم.

المقدم: كما يحصل الآن.

سائل: نعم كما هو واقع الآن في كثير من المستشفيات، لا تتغير حقيقة هذا المسلم ولا حقيقة هذا الكافر، فكيف يكون العقل في القلب؟

على كل حال لا نستطيع أن نلغي خطاب الشرع للقلب {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَعْقِلُونَ بِهَا} [سورة الأعراف 179]، كيف تعمل بهذا؟ يعني كوننا لا ندرك بعض الدقائق في القلب، هذا من تقصيرنا وقصورنا. يعني هل يلزم أن الإنسان يستطيع أن يصل إلى كل ما أودعه الله -سبحانه وتعالى- من أسرار في هذا الجسم؟ لا يمكن، {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [سورة الذاريات 21] يعني عجائب لا تنقضي، يعني هل نستطيع أن نلغي قوله تعالى: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَعْقِلُونَ بِهَا} [سورة الأعراف 179]؟ ما معنى هذا؟ يمكن أن يلغى لقول فلان أو علان؟

المقدم: لا يمكن.

كلامهم له وجه، ولذلك جاء الربط بين القلب والدماغ للعقل، ونبقى أيضًا أن المسألة ما هي محسومة، المسألة ليست محسومة، بل وراء ذلك أمور يمكن لا يستطيع الإنسان أن يدركها، ويبقى أن هناك أدلة في بدن الإنسان يستدل بها على ضعفه، على ضعف نفسه، روحه التي بين جنبيه ماذا يصير؟ يستطيع أن يدرك كنهها؟! لبيان ضعف الإنسان.

في إرشاد الساري: وفي هذا الحديث الحث على إصلاح القلب، وأن لطيب الكسب أثرًا فيه، والمراد به المعنى المتعلِّق به من الفهم والمعرفة، وسمي قلبًا لسرعة تقلبه في الخواطر، ومنه:

ما سمي القلب إلا من تقلبه

 

فاحذر على القلب من قلبٍ وتحويلِ

يقول الحافظ ابن رجب -رحمه الله تعالى-: ثم ذكر النبي –عليه الصلاة والسلام- كلمة جامعة لصلاح حركات ابن آدم وفسادها، وأن ذلك كله بحسب صلاح القلب وفساده، فإذا صلح القلب صلحت إرادته، وصلحت جميع جوارحه، فلم تنبعث إلا إلى طاعة الله -عز وجل- واجتناب سخطه، فقنعت بالحلال عن الحرام، وإذا فسد القلب فسدت إرادته، وفسدت الجوارح كلها، وانبعثت في معاصي الله -عز وجل- وما فيه سخطه، ولم تقنع بالحلال، بل أسرعت في الحرام بسبب هوى القلب وميله عن الحق، فالقلب الصالح هو القلب السليم الذي لا ينفع يوم القيامة عند الله غيره، وهو أن يكون سليمًا عن جميع ما يكرهه الله ويسخطه، ولا يكون فيه سوى محبة الله وإرادته، ومحبة ما يحبه الله وإرادة ذلك وكراهة ما يكرهه الله والنفور عنه. هذا كلام ابن رجب -رحمه الله-.

ثم قال: والقلب الفاسد، هو القلب الذي فيه الميل إلى الأهواء المُضِلَّة والشهوات المحرمة، وليس فيه من خشية الله ما يكف الجوارح عن اتباع هوى النفس، فالقلب ملك الجوارح وسلطانها، والجوارح جنوده ورعيته المطيعة له المنقادة لأمره، فإذا صلح الملك، صلحت رعاياه وجنوده المطيعة له، المنقادة لأوامره، وإذا فسد الملك فسدت جنوده ورعاياه المطيعة له، المنقادة لأوامره ونواهيه.

ابن القيم -رحمه الله تعالى- ذكر في الفوائد فصلاً عدَّد فيه مداخل الشيطان للقلب -رحمة الله عليه- فقال: كل ذي لُب يعلم أنه لا طريق للشيطان عليه إلا من ثلاث جهات: أحدها: التزيُّد والإسراف، فيزيد على قدر الحاجة فتصير فضله، وهي حظ الشيطان ومدخله إلى القلب، وطريق الاحتراز منه الاحتراز من إعطاء النفس تمام مطلوبها من غذاء أو نوم أو لذة أو راحة، فمتى أغلقت هذا الباب حصل الأمان من دخول العدو منه.

الثانية: الجهة الثانية من مداخل الشيطان: الغفلة، فإن الذاكر في حصن الذكر، فمتى غفل فتح باب الحصن فولجه العدو، فيعسر عليه أو يصعب إخراجه.

الثالثة: تكلف ما لا يعنيه من جميع الأشياء، يعني تدخُّل الإنسان، وعدم ترك ما لا يعنيه. هنا يفتح ثغرات للشيطان على قلبه.

وهذا الحديث العظيم خرَّجه الإمام -رحمه الله تعالى- في موضعين:

الأول: هنا في كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه، قال: حدثنا أبو نعيم، حدثنا زكريا عن عامر -وهو الشعبي- قال: سمعت النعمان بن بشير يقول: ... فذكره. وسبق ذكر المناسبة.

الموضع الثاني: في كتاب البيوع، بابٌ «الحلال بين، والحرام بين، وبينهما مشتبهات». يقول الإمام -رحمه الله تعالى-: حدثني محمد بن مثنى قال: حدثنا ابن أبي عدي عن ابن عون عن الشعبي قال: سمعت النعمان بن بشير -رضي الله عنه- يقول: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- ح وحدثنا علي بن أبي عبد الله قال: حدثنا ابن عيينة قال: حدثنا أبو الفروة عن الشعبي قال: سمعت النعمان بن بشير عن النبي –صلى الله عليه وسلم- ح وحدثني عبد الله بن محمد قال: حدثنا ابن عيينة عن أبي فروة قال: سمعت الشعبي، سمعت النعمان بن بشير -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ح حدثنا محمد بن كثير، أخبرنا سفيان عن أبي فروة عن الشعبي عن النعمان بن بشير: سمعت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يقول: «الحلال بين، والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهة، فمن ترك ما شُبِّه عليه من الإثم، كان لما استبان أترك، ومن اجترأ على ما يُشَك فيه من الإثم، أوشك أن يواقع ما استبان، والمعاصي حمى الله، من يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه» الآن الإمام البخاري جاء بالحديث في هذا الموضع من طرق، يأتي بالطريق كاملاً حتى يذكر النبي -عليه الصلاة والسلام- ثم يقول ح.

في كم موضع؟

المقدم: ثلاثة.

أربعة مواضع، يعني جاء بحاء التحويل في ثلاثة مواضع بين أربعة أسانيد، أربع طرق، الآن هذه الحاء التي يُكثِر منها المسلم، وورودها في البخاري قليل، وهذا نادر يعني يوجَد في موضع واحد، تذكر الحاء ثلاث مرات.

أهل العلم يقولون: يختلفون في معناها، هل هي حاء التحويل؟ نعم هي حاء التحويل في الغالب، يعني إذا أفادت اختصار في الأحاديث، تحويل، يستفاد منها التحويل من سند إلى آخر، وفائدتها الاختصار، لكن الآن ماذا اختصرت في مثل هذا؟ ما اختصرت شيء، الإمام البخاري يأتي بالحديث كاملاً، السند كامل، من شيخه إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-، يأتي بسلسلة الإسناد كاملة، ثم يقول: ح.

المَغاربة عندهم معنى يَختلِف عما قررناه سابقًا، الحاء عندهم اختصار لكلمة الحديث، وهو يحسن أيضًا وضعها هنا، ومنهم من يقول أن الحاء هذه رمز البخاري أصلها خاء، وليست حاء، يعني إنما رجع الحديث إلى المؤلف، البخاري (خ) وهذا رمزه، رجع إلى المؤلف وحدثنا علي بن عبد الله وهذا من شيوخه.

المقصود أنه يستعملها في مثل هذه الحالة كثيرًا على أن ورودها في الكتاب قليل، لكن من هذا القليل أكثر ما يستعملها بهذه الطريقة، لا على طريقة مسلم حيث يستفيد منها في اختصار الأسانيد.

قال ابن حجر -رحمه الله-: وقد توارد أكثر الأئمة المخرِّجين له، يعني الحديث، على إيراده في كتاب البيوع، أكثر العلماء يوردونه في كتاب البيوع، لماذا؟ لأن الشبهة في المعاملات تقع فيها كثيرًا، وله تعلُّق أيضًا بالنكاح، وبالصيد، والذبائح، والأطعمة، والأشربة وغير ذلك مما لا يخفى، والله المستعان.

نعم، ظهوره في البيوع واضح، ظهور الشبهات في البيوع واضح، ظهوره في النكاح، يعني اشتبه عليك هل هذه المرأة ممن تحل لك أو لا تحل؟ اشتبه ولو باحتمال ضعيف، على ألا تكون وسوسة على ما سبقت الإشارة إليه، في الصيد اشتبهت هل هذه ميتة أو مذكَّاة؟ ولو كان الاحتمال ليس بقوي، اشتبه هذا المصيد هل هو مما صاده كلبك أو صاده غيره؟ هل مات بسبب الرمي أو بسبب وقوعه في الماء مثلاً؟

الأطعمة والأشربة أيضًا فيها الاشتباه كثير جدًّا.

وفيه دليل على جواز الجرح والتعديل، قاله البغوي في شرح السنة، وعلل ذلك بأن من لم يتوقى الشبه في كسبه ومعاشه فقد عرض دينه وعرضه للطعن، ثم قال: ونوع من الاشتباه أن يقع للرجل حادثة يشتبه عليه وجه الحكم فيها بين الحل والحرمة فسبيله إن كان عالمًا أن يجتهد، وإن كان عاميًّا أن يسأل أهل العلم، ولا يجوز له سلوك سبيل الاستباحة من غير اجتهاد أو تقليد مجتهد إن كان عاميًّا. انتهى كلام البغوي.

كلامه مبني -رحمه الله- على أن من وقع في الشبهات، يجوز لغيره أن يقع في عرضه ودينه، أن يطعن في عرضه؛ لأنه هو المتسبب، لكن سبق التنبيه مرارًا على أن من وقع في شيء لا يجوز لغيره أن يقع فيه.

نعم الجرح والتعديل جوَّزه أهل العلم للمصلحة العظيمة التي بواسطة الجرح والتعديل، يعرف الصحيح من الضعيف والمقبول من المردود.

واستنبط منه بعضهم منع إطلاق الحلال والحرام على ما لا نص فيه؛ لأنه من جملة ما لم يَسْتَبِن، لكن قوله –صلى الله عليه وسلم- «لا يعلمها كثير من الناس» يشعر بأن منهم من يعلمها، وقوله في الطريق الأخرى، التي في الموضع الثاني الذي ذكره البخاري -رحمه الله- في «استبان» أي ظهر تحريمه، وقوله «أوشك» أي قرب لأن متعاطي الشبهات، قد يصادف الحرام وإن لم يتعمده أو يقع فيه لاعتياده التساهل. انتهى كلام الحافظ -رحمه الله-.

والكلام في القلب وأمراضه وأدوائه وعلاجه كلام يطول جدًّا استوفاه أهل العلم.

الإمام ابن القيم -رحمه الله تعالى- في كثير من مؤلفاته يعالج هذه القضايا بدقة وشفافية من خلال النصوص الشرعية.

شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- له رسالة أسماها "التحفة العراقية في الأعمال القلبية"، للغزالي أيضًا في إحياء علوم الدين كلام طويل حول القلب وأمراضه وعلاجه على ما في الكتاب من ملحوظات ينبغي أن يتصدى أو ينتبه لها قارئ الكتاب إلى غير ذلك.

الحديث حديث...

المقدم: ابن رجب له أيضًا يا شيخ...

أيضًا ابن رجب له كلام كثير، من خلال النصوص ومن كلام أئمة السلف، وفي كلام ابن رجب في شرح الأربعين مثلاً، جامع العلوم والحكم، كلام كثير حول هذا، في ثنايا شروحه لأحاديث البخاري أيضًا يمر كلام كثير يتوجه بالنصوص الشرعية وكلام السلف من الصحابة والتابعين والأئمة.

المقدم: منهاج القاصدين يستفاد منه في هذا يا شيخ؟

يستفاد منه، لكنه في الجملة هو أصله إحياء علوم الدين، موعظة المؤمنين للقاسمي وغيره الكتب كثيرة.

الحديث من رباعيات البخاري، فهو من عواليه؛ لأنه يرويه البخاري -رحمه الله- عن طريق أبي نعيم قال: حدثنا زكريا عن عامر قال: سمعت النعمان بن بشير، فهو كم؟

المقدم: رباعي.

رباعي، فهو من عوالي الصحيح، وإن كان هو ليس من أعلى ما في الصحيح، لأنه معروف أن البخاري فيه الثلاثيات، فيه اثنان وعشرون حديثًا ثلاثيًّا، وجلها من طريق المكي بن إبراهيم عن يزيد بن أبي عبيد عن سلمة ابن الأكوع، وأنزل ما فيه حديث واحد تساعي، بين البخاري وبين النبي –عليه الصلاة والسلام- تسعة أشخاص.

المقدم: عندنا نلاحظ -أحسن الله إليك- أنه حذف الباب أيضًا وحديثًا، هل ممكن نشير للمستمع به؟ في الأصل كان الباب الذي قبله باب سؤال جبريل وهو باب سبعة وثلاثين، هنا باب من استبرأ لدينه باب تسعة وثلاثين، معناه هناك باب وهناك حديث أيضًا، في الأصل وقد وعدنا أن نشير للمستمع شيئًا من هذا إذا...

الباب بلا ترجمة، باب ثمانية وثلاثين في الأصل بلا ترجمة، والحديث، حديثه قطعة من حديث هرقل الذي سبق وشرح، والمختصِر لا يذكر التكرار.

المقدم: نعم. جزاكم الله خيرًا وأحسن إليكم ونفع بعلمكم.

أيها الإخوة والأخوات، بهذا نصل وإياكم إلى ختام هذه الحلقة من شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح.

نلقاكم -بإذن الله تعالى- في الحلقة القادمة لنستكمل وإياكم شرح أحاديث كتاب الإيمان. نأخذ في الحلقة القادمة حديثًا آخر -بإذن الله تعالى-.

تابعونا، نستودعكم الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.