التعليق على الموافقات (1436) - 01

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

أقول: الدروس في هذه الدورة كلها في كتاب الاجتهاد، وهو الكتاب الخامس من كتب هذا الكتاب الكبير الموافقات، فالكتاب الأول في المقدمات، جعله مقدمات، والثاني في الأحكام الوضعية والتكليفية، والثالث في المقاصد، والقسم الرابع في الأدلة. وجميع هذه الكتب الأربعة انتهت. وشرعنا في القسم الخامس وهو الاجتهاد، وفيه مسائل كثيرة على طريقته وعادته في هذا الكتاب العظيم.

فالمسألة الأولى: الكتاب جعله في أطراف، طرف يتعلق بالمجتهد من جهة الاجتهاد، وطرف يتعلق بفتواه، وطرف يتعلق بالنظر فيه، بإعمال قوله والاقتداء به، ثم في الطرف الأول في الاجتهاد نفسه وأدواته وأركانه وما ينبغي على، وما يتعين على المجتهد، وهذا الطرف جعله مسائل، وما زلنا في الطرف الأول.

 فالمسألة الأولى يقول: الاجتهاد على ضربين"، ويبين في الأولى أن الاجتهاد مستمر، استمرار أصل التكليف الذي هو: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99]. والثاني يمكن أن ينقطع قبل فناء الدنيا، وتكلم عن هذين النوعين في المسألة الأولى.

والمسألة الثانية وهي في صفحة واحد وأربعين، يقول: "إنما تحصل درجة الاجتهاد لمن اتصف بوصفين؛ أحدهما: فهم المقاصد -مقاصد الشريعة- على كمالها، والثاني: التمكن من الاستنباط بناء على فهمه فيهما".

والمسألة الثالثة في صفحة تسعة وخمسين يقول: "الشريعة كلها ترجع إلى قول واحد في فروعها وإن كثر الخلاف"، "ترجع إلى قول واحد" يعني هذه الأقوال الكثيرة المأثورة عن الأئمة الصواب في واحد منها؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- حكم على الاجتهادات كلها بأنها ما بين مُصيب ومخطئ، والمصيب كما في الحديث: «له أجران» والمخطئ له أجر واحد، وإن نحا بعضهم واستروح إلى أنه قد يتعدد المصيب، لكن هذا قول مرجوح، والمرجح أن الإصابة الموافقة لما في نفس الأمر لحكم الله -جل وعلا- عند واحد من أهل العلم إذا كانت الأقوال متعارضة ومتناقضة. ثم استدل على ذلك بأدلة من الكتاب والسنة، واستطرد في أقوال أهل العلم، إلى أن وصل الكلام في المسألة الرابعة التي نحن بصدد الحديث عنها.

نعم.

طالب: بسم الله الرحمن الرحيم.

 الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين والمستمعين، برحمتك يا أرحم الراحمين.

قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: "المسألة الرابعة: محال الاجتهاد المعتبر هي ما ترددت بين طرفين وضح في كل واحد منهما قصدَ الشارع في الإثبات في أحدهما".

"قصدُ".

طالب: "وضح في كل واحد منهما قصدُ الشارع في الإثبات في أحدهما والنفي في الآخر، فلم تنصرف ألبتة إلى طرف النفي ولا إلى طرف الإثبات".

نعم. هذا محل الاجتهاد، ما يكون فيه التردد بين طرفين؛ لأن المسائل التي ليس فيها إلا طرف واحد من يخالف فيها؟ المسائل القطعية التي دلت عليها دلائل الكتاب والسنة ليست محل الاجتهاد، لكن ما دون ذلك مما يعتريه الاحتمال، احتمال النقيض هذا الذي يجتهد فيه أهل العلم مما لم يتبين فيه الحكم، وأسباب الاختلاف عند أهل العلم كما هو معلوم مرجعه إلى بلوغ الدليل وعدم بلوغه لبعض أهل العلم، أو إلى فهم الدليل، فقد يكون الدليل واحدًا، لكن يفهمه الشافعي غير ما يفهمه مالك، ويفهمه أحمد غير على غير ما فهمه الإمام الشافعي. هذه من أسباب من أهم أسباب الخلاف. قد يبلغ الدليل ويُختلف في صحته وثبوته، لا يخفى على المخالف هذا الدليل وأنه بلغه لكن ينازع في ثبوته، فهنا ينازع في ثبوته، وقد ينازع في فهمه وقد لا يبلغه أصلاً.

 وبيان ذلك.

طالب: "وبيانه أن نقول: لا تخلو أفعال المكلف أو تروكه، إما أن يأتي فيها خطاب من الشارع، أو لا، فإن لم يأت فيها خطاب، فإما أن يكون على البراءة الأصلية أو يكون فرضًا غير موجود، والبراءة الأصلية في الحقيقة راجعة إلى خطاب الشارع بالعفو أو غيره، وإن أتى فيها خطاب".

يعني على ما تقدم في قسم المباح أنه هل هو داخل في الأحكام أو غير داخل؟ البراءة الأصلية في مسألة ما لم يدل دليل على طلبها أو على طلب الترك، فهي من قسيم المباح، فالمباح يختلفون في دخوله في الأحكام، مع أنهم يقسمون الأحكام التكليفية إلى خمسة أقسام خامسها المباح، لكن في حقيقة الأمر: هل في الإباحة تكليف والتكليف فيه مشقة على المكلف، أو أنها مجرد عفو بدون إثم ولا أجر إلا باعتبارات أخرى وفي أحوال تستدعي أن تكون ها أن يكون هذا الأمر المباح فيه يترتب عليه ثواب؛ لأن الأمور بمقاصدها، والنيات تحول العادات إلى عبادات، ويترتب عليها أجور، فهي من هذه الحيثية داخلة في التكليف.

 أما من يستعمل المباحات لا على نية، بمجرد أنه وجدها، أو وجد الناس يفعلونها، أو هذه أمور يأكلونها ولا ينوون بها التقوي على طاعة الله، فهذه من قبيل المباح الذي لا ثواب ولا عقاب.

طالب: .......

ماذا؟

طالب: إذا ترتب عليها ثواب هل تكون مباحة؟

لا.

طالب: ما تكون مباحة؟

هي في الأصل مباح باعتبار الاختيار في الفعل والترك، باعتبار، لكن إذا نوى بها النية الصالحة والحسنة أُجر على هذه النية. فالنوم مثلاً إذا نوى به التقوي على طاعة الله -جل وعلا-، وأن يقوم الليل أو يقوم لصلاة الفجر، أُجر على ذلك. الأكل إذا نوى به. وكثير من الناس يغفل عن هذا فتفوته الأجور العظيمة، وفي الحديث أن الإنسان يؤجر على ما يضعه في فيِّ امرأته. كثير من الناس ينفق الأموال الطائلة ولا يستحضر مثل هذا، فيحرم من هذه الأجور.

طالب: "فإما أن يظهر فيه للشارع قصد في النفي أو في الإثبات أو لا، فإن لم يظهر له قصد ألبتة، فهو قسم المتشابهات".

التي هي بين الحلال والحرام، المترددة بين الحلال والحرام، على حد سواء، لا يظهر فيها قصد للشارع أنه يطلبها، ولا يظهر من مقاصده أنه يرفضها، فهذه هي المتشابهات.

طالب: "وإن ظهر، فتارةً يكون قطعيًّا، وتارةً يكون غير قطعي، فأما القطعي، فلا مجال للنظر فيه بعد وضوح الحق في النفي أو في الإثبات، وليس محلًّا للاجتهاد، وهو قسم الواضحات".

مثل الأركان أركان الإسلام ما يخالف فيها أحد؛ لأنها قطعيات، وقصد الشارع من إرادتها ظاهر، فهي ليست محلًّا للاجتهاد. لكن هناك مسائل كثيرة دون هذه المرتبة، يعني مما هو في دائرة الظن، يعني الخلاف فيها كبير.

طالب: "لأنه واضح الحكم حقيقةً، والخارج عنه مخطئ قطعًا، وأما غير القطعي، فلا يكون كذلك".

وُجد من بعض الكُتاب أنه يقول: القطعي له حقيقة، وهو ما ثبت في القرآن ومتواتر السنة، ثم يأتي على شيء توارثته الأمة، وفيه التواتر تواتر العمل والتوارث من عهده -عليه الصلاة والسلام- إلى يومنا هذا، ثم ينازع، يقول: أعطوني من الأسانيد ما يبلغ حد التواتر في أن صلاة المغرب ثلاث ركعات مثلاً، ووُجد مثل هذا. نعم. أعطوني من التواتر؟ طيب، يعامل الأمة من عهده -عليه الصلاة والسلام-. العدد في الأحاديث الصحيحة معروف، وفيها ما يثبت العدد. لكن عدد الأسانيد التي يبلغ بها الحديث حد التواتر، قد لا تدرك.

مثل حديث: «إنما الأعمال بالنيات»، ينازع فيه يقول: حديث غريب، ما ثبت إلا عن طريق واحد، ما وصل لحد التواتر الذي يثبت القطعية! لكن الأمة تلقت هذا الخبر بالقبول، وعملت به، ولم يخالف فيه أحد، ثم تنازع فيه؟! لا شك أن من يسلك هذا المسلك إنما هو من في قلبه مرض، مع الجهل المركب، وإلا فمسألة وجوب الصلاة أو وجوب الزكاة لا يستطيع أحد أن ينازع فيها.

طالب: "وأما غير القطعي فلا يكون كذلك إلا مع دخول احتمال فيه أن يقصد الشارع معارضه أو لا، فليس من الواضحات بإطلاق، بل بالإضافة إلى ما هو أخفى منه، كما أنه يُعد غير واضح بالنسبة إلى ما هو أوضح منه؛ لأن مراتب الظنون في النفي والإثبات تختلف بالأشد والأضعف حتى تنتهي إما إلى العلم وإما إلى الشك".

نعم. الظن الذي هو المرتبة المتوسطة بين القطع والشك، هذا مجاله واسع جدًّا، ولو نظرت إلى المسائل العلمية والأحكام التي ثبوتها عند أهل العلم بالظن، وليس المراد به الظن الذي {لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس: 36] أو الذي هو «أكذب الحديث»، الظن الذي هو الجانب الراجح من الاحتمالين، وتثبت به الأحكام عند أهل العلم. وغالب الأحكام أدلتها ظنية وثبوتها ظني، ولا ينازع في هذا، هذا أمر متفق عليه.

 يعني إذا قلنا إن وجوب الصلاة قطعي، ففي مسائل الصلاة ما ثبوته ظني، يعني قد يكون فيه نصوص صحيحة صريحة ثبتت عنه -عليه الصلاة والسلام-، لكن ما الذي جعلها ظنية؟ حديث عبادة بن الصامت وهو في الصحيح: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب»، ما الذي جعله ظنيًّا؟ النصوص المخالفة المعارضة، فهو نزل من درجة اليقين القطعي مائة في المائة إلى نسبة قد تتراوح بين من يثبت النقيض بأدلة أخرى وقوة هذه الأدلة وضعفها، بعضهم يرى أنه بنسبة تسعين بالمائة، والثاني ينازعه يقول: لا، بنسبة خمسة وثمانين. وهذه أمثلة تنظيرية، وإلا فالأدلة ما يقال فيها مثل هذا الكلام. لكن مع ذلك ما الذي جعل حديث عبادة أو حديث عمر، الحديث عمر بالتلقي بالقبول ما فيه إشكال، قطعي، لكن حديث عبادة باعتبار أن الخلاف بين أهل العلم والأدلة المعارضة قالوا: دلالته ظنية؛ لوجود المخالف. ما معنى دلالته ظنية؟ أنه الاحتمال الراجح عند من يقول بوجوب قراءة الفاتحة على كل مصلٍّ، ويستثنون من ذلك المسبوق. ما الذي نزَّل النسبة؟ وجود الأدلة المعارضة التي يستدل بها من لا يرى الوجوب.

طالب: .......

ماذا؟

طالب: .......

على قول من يرى أن كل أحاديث الصحيحين قطعية.

 واقطع بصحة لما قد أسندا

 وقيل ظنًّا ولدى محققيهم قد عزاه النووي.

 المسألة في مسألة خبر الواحد ودلالته على القطع أو الظن معروفة، والكلام فيها كثير، يعني لو نسترسل فيها ما مشينا.

طالب: "إلا أن هذا الاحتمال تارةً يقوَى في إحدى الجهتين، وتارةً لا يقوَى".

حتى المجتهد الواحد أحيانًا في بعض الأوقات يترجح عنده أن دلالة هذا الحديث ظنية، ثم يرد عليه من الأدلة المقوية له ما يرفعه إلى القطعي، وقد يرد عنده ما يعارضه ما ينزِّله عن الظني، وهو مجتهد واحد؛ لأن العلم لا يقف عند حد، والاجتهاد يتغير، ومعروف عند أهل العلم، وللأئمة أكثر من قول في كثير من المسائل؛ نظرًا لتعدد لتغير الاجتهاد.

طالب: "فإن لم يقوَ رجع إلى قسم المتشابهات، والمقدم عليه حائم حول الحمى يوشك أن يقع فيه".

كما جاء في حديث النعمان بن بشير: «الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات» أو «مشبهات» أو «متشابهات» على الروايات، «من تركها استبرأ لدينه وعرضه، ومن واقعها كالراعي حول الحمى يوشك أن يقع فيه»؛ لأن النفوس تسترسل، ويضعف خطامها إذا استَمْرت على شيء. أنت عندك هذا ما يوجد دليل يدل على تحريمه، أو فيه دليل يدل على تحريمه، ودليل يدل على إباحته، فأنت إذا ما ترجح عندك أحد القولين إما باجتهاد أو بتقليد، وأقدمت عليه، فأنت حول الحمى، يوشك أن تقع فيه، في المحرم الصريح البين.

طالب: .......

جاء عن السلف أنهم يتركون تسعة أعشار الحلال خشية أن يقعوا في الحرام، الإنسان الذي عود نفسه على أمور مباحة بحيث لا يستطيع أن يصبر عنها، ألا يحتمل أنه في يوم من الأيام يبحث عن هذا الحلال، فلا يجده إلا بنوع شبهة، أو بنوع كراهة، يقول لك: في هذا الشبهة، والكراهة لا تقتضي تحريمه، فيُقدم عليه، ثم يفقده إلا مع نوع من الاختلاف في التحريم مع رجحان التحريم، يقول: المسألة خلافية، فيُقدم عليه، ثم ينتقل بعد ذلك إلى الحرام الذي ما فيه خلاف... ولذلك استمراء الحلال، والإكثار منه لا شك أنه سوف يفقده في يوم من الأيام، ثم يقع في المكروه، ثم يقع فيما هو أعظم من ذلك؛ ولذلك نعم في فقه السلف أنهم يتركون تسعة أعشار الحلال، كما ثبت عنهم؛ خشية أن يقعوا في الحرام، والإنسان عليه أن يحتاط لدينه؛ لأنه مع التساهل في مثل هذا يغفل، ثم لا يفيق إلا وقع فيما حرم الله عليه، والله المستعان. نعم.

طالب: "وإن قوي في إحدى الجهتين، فهو قسم المجتهدات، وهو الواضح الإضافي بالنسبة إليه في نفسه وبالنسبة إلى أنظار المجتهدين، فإن كان المُقدِم عليه من أهل الاجتهاد، فواضح في حقه في النفي أو في الإثبات إن قلنا: إن كل مجتهد مصيب، وأما على قول المُخَطِّئة، فالمُقدِم عليه إن كان مصيبًا في نفس الأمر فواضح، وإلا فمعذور".

يعني معذور مأجور إذا كان من أهل الاجتهاد، فإن كان مصيبًا في نفس الأمر فالأمر واضح، وله أجران: أجر الاجتهاد وأجر الإصابة، وإن كان مخطئًا فله أجر واحد، وهو أجر الاجتهاد.

طالب: .......

كيف؟

طالب: .......

لا، قد يكون قطعيًّا من حيث الثبوت وغير قطعي من حيث الدلالة.

طالب: .......

أين؟

طالب: .......

أنت عندك {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2]، أليس قطعيًّا؟ ألم يتنازع العلماء في حكم هذه الصلاة؟ ثبوته قطعي، لكن دلالته على صلاة العيد قال بها بعض أهل العلم كالحنفية وشيخ الإسلام وغيرهم، لكن غيرهم قالوا: قطعية الدلالة، لا.

طالب: "وقد تقرر من هذا الأصل أن قسم المتشابهات مركب من تعارض النفي والإثبات؛ إذ لو لم يتعارضَا لكان من قسم الواضحات، وأن الواضح بإطلاق لم يتعارض فيه نفي مع إثبات، بل هو إما منفي قطعًا وإما مثبت قطعًا، وأن الإضافيُّ إنما صار".

لا، "الإضافيَّ".

طالب: أحسن الله إليك. "وأما الإضافيَّ".

لا، "وأنَّ".

طالب: أحسن الله إليك. "وأنَّ الإضافيَّ إنما صار إضافيًّا؛ لأنه مذبذب بين الطرفين الواضحين، فيقرب عند بعض من أحد الطرفين، وعند بعض من الطرف الآخر، وربما جعله بعض الناس من قسم المتشابهات، فهو غير مستقر في نفسه".

وهذا نظير اختلاف أهل العلم من أهل الحديث فيما يتردد بين الصحيح والضعيف، فيما يتردد بين الصحيح والضعيف، والذي اعتمد المتأخرون أنه يُسمى الحسن، والحسن اختلفوا في حده وحقيقته اختلافًا كبيرًا، والسبب هو هذا التذبذب والتردد بين الصحة والضعف، حتى قال جمع من أهل العلم: إنه لا مطمع في تمييزه، الناقد قد يدرس هذا الحديث، ويترجح عنده أنه من قسم الصحيح، وآخر يدرسه ويترجح عنده أنه من قسم الضعيف، وهذا التردد بين القسمين يجعل ثالثًا من أهل العلم يحكم عليه بأنه حسن؛ ولذا قعَّد بعضهم أن الذي يُختلف فيه من غير ترجيح أنه يُحكم عليه بالحسن. وقل مثل هذا فيمن يُختلف فيه من الرواة، بعضهم يُوثقه وبعضهم يضعفه، وبالنظر إلى قواعد الجرح والتعديل ما يترجح قول هذا ولا هذا يُحكم عليه بالمرتبة الوسطى ويقال: صدوق، وحديثه من قبيل الحسن.

 المقصود أن مثل هذه الأمور تتباين فيها الأنظار، تحتاج إلى نظر دقيق وتفتيش واسع؛ لأن التردد بين هذين الأصلين أو بين هاتين المرتبتين يجعل الناظر قد يحتار في أمره، قد يحتار في الأمر.

 فالحديث الحسن تعرفون الخلاف فيه، الأقوال كثيرة جدًّا، وكلها عليها اعتراضات كثيرة من وجوه متعددة؛ ولذا جزم بعضهم أنه لا مطمع في تمييزه، لكن هناك قواعد تجعل الناظر بعد هذا التردد يستروح إلى أنه فوق مرتبة بحيث يُرد فيكون من قبيل المقبول، وبعضهم وقد يكون من تساهله في النقد والتصحيح ونقد الرواة يحكم عليه بالصحة، والطرف الثالث قد يكون من تشدده في قواعد الجرح والتعديل بالنسبة للرواة قد يوصله إلى حد الضعيف، والمسائل العلمية مثلها.

طالب: "فهو غير مستقر في نفسه، فلذلك صار إضافيًّا لتفاوت مراتب الظنون في القوة والضعف، ويجري مجرى النفي في أحد الطرفين إثبات ضد الآخر فيه، فثبوت العلم مع نفيه نقيضان، كوقوع التكليف وعدمه".

حديث: «عرفة كلها موقف، وارفعوا عن بطن عرنة»، الجمهور على أن بطن عرنة ليس من عرفة، ولا يصح فيه الوقوف، يُذكر عن الإمام مالك وذكروه عنه في كتب الخلاف أنها من عرفة، والوقوف صحيح مع الإثم، يقول: لو لم تكن من عرفة ما استُثني، ما قال: ارفعوا عن مِنى، ارفعوا عن مزدلفة، فهذا يُثبت، وهذا ينفي، ومرد ذلك إلى الفهم فهم النص، والنص صحيح، ما يختلفون فيه، يقول: "فثبوت العلم مع نفيه نقيضان"، والنقيضان معروف أنهما لا يجتمعان، ولا يرتفعان، فلا بد من وجود أحدهما دون الآخر، بخلاف الضدين.

طالب: "فثبوت العلم مع نفيه نقيضان، كوقوع التكليف وعدمه".

ما يمكن أن تقول: زيد مكلف وغير مكلف.

طالب: "وكالوجوب وعدمه، وما أشبه ذلك".

الوجوب في الجملة ما يضاده من الأحكام الأخرى بجعل الأحكام الأخرى قسم واحد مقابلة للوجوب كجعل التحريم في مقابل الإباحة، فهما من هذه الحيثية نقيضان أم ضدان؟

طالب: نقيضان.

على كلام المؤلف نقيضان، ولكن إذا نظرنا إلى الوجوب باعتباره حكمًا من الأحكام التكليفية الخمسة؛ لأنه قد لا يكون واجبًا، ولا يكون مباحًا، قد يكون حرامًا مثلاً، فإذا كان له أكثر من نقيض ما صار من باب النقيضين؛ لأن النقيضين لا يرتفعان ولا يجتمعان، بخلاف الضدين اللذين لا يجتمعان، لكن يمكن أن يرتفعا. يعني الوجود والعدم نقيضان، ما يمكن شيء موجود وغير موجود أو موجود معدوم، لا، بخلاف السواد والبياض: هما أيش؟ ضدان.

لأنهما قد يرتفعان فيحل محلهما لون آخر كأن يكون أصفر أو أخضر أو غير ذلك من الألوان.

طالب: "وكالوجوب وعدمه وما أشبه ذلك، وثبوت العلم مع ثبوت الظن أو الشك ضدان، كالوجوب مع الندب، أو الإباحة، أو التحريم، وما أشبه ذلك".

"وثبوت العلم مع ثبوت الظن أو الشك ضدان"، علم مع ظن؛ لأن المراتب لا تقتصر على العلم الذي لا يحتمل النقيض أو الظن الذي هو احتمال المرجوح، قد يكون شكًّا، وهو ما يستوي فيه الطرفان، أو وهم وهو احتمال المرجوح، والظن هو احتمال الراجح. فهي من باب الضد.

طالب: "وهذا الأصل واضح في نفسه، غير محتاج إلى إثباته بدليل، ولكن لا بد من التأنيس فيه بأمثلة يُستعان بها على فهمه وتنزيله والتمرن فيه، إن شاء الله. فمن ذلك أنه «نهى عن بيع الغرر»، ورأينا العلماء أجمعوا على منع بيع الأجنة والطير في الهواء".

لأنها غرر محض، الأجنة في بطون الأنعام أو الإماء، هذا لا يمكن الوصول إليه ولا إلى حقيقته؛ لأنه مما استأثر الله بعلمه. الطير في الهواء غير مقدور على تسليمه، فهو من باب الغرر: يحصل أو لا يحصل. السمك في الماء، تقدر أن تبيع سمكة في الماء؟

طالب: .......

ماذا؟

طالب: .......

ومثله الذي عندنا ها الأمثلة هذه، هذا غرر وجهالة وغير مجزوم بحصوله، فمثل هذا دخوله في الحديث ما يختلف فيه أحد من أهل العلم. لكن أساس البناء يمكن الوصول إليه؟

طالب: لا.

ماذا؟

طالب: ما يمكن.

فيه شيء تقدر أن تكسره وتنظره، لكن فيه أشياء ما تقدر. لماذا منعنا بيع السمك في الماء وأجزنا بيع البيت من غير تكسير للجدران ولا القواعد ولا شيء؟

طالب: .......

ماذا؟

طالب: .......

هذه ضرورة، ضرورة.

كمل.

طالب: "ورأينا العلماء أجمعوا على منع بيع الأجنة والطير في الهواء والسمك في الماء، وعلى جواز بيع الجبَّة التي حشوها مغيَّب عن الأبصار".

الجبة مثل الجبة ومثل الكوت أو بالطو أو شيء، تجد في داخلها حشوًا، لكن ما هذا الحشو؟ تعلم أنه قطن أو صوف؟ ما تدري، أو مواد أخرى قد تكون من المزابل! صحيح؛ لأنك ما تراه، لكن العلماء تسامحوا في مثل هذا، لو كل واحد يشتري جبة يقطعها، ويرى ما بوسطها... نعم.

طالب: "ولو بِيع حشوها بانفراده لامتنع".

نعم. ما تبيع الحشو لحاله؛ لأنه مغيب، لكن يثبت تبعًا ما لا يثبت استقلالاً.

طالب: "وعلى جواز كِراء الدار مشاهرةً مع احتمال أن يكون الشهر ثلاثين أو تسعةً وعشرين".

اليوم الزائد أو الناقص هذا مجهول بين الطرفين لا يمكن الوصول إليه، وكذلك مُعاومة، يعني التأجير بالسنة، السنة قد تكون ثلاثمائة وخمسين، ثلاثمائة واثنين وخمسين، ثلاثمائة وخمسة وخمسين، فيها زيادة ونقص.

طالب: "وعلى دخول الحمام مع اختلاف عادة الناس في استعمال الماء وطول اللبث، وعلى شُرب الماء من السقاء مع اختلاف العادات في مقدار الري".

"دخول الحمام" الأجرة واحدة، لكن واحد يستغرق من الماء ضعف ما يستغرقه غيره، ومن الوقت ضعف ما يستغرقه غيره؛ لأنه سيتفاوتون في هذا تفاوتًا كبيرًا، لكن واحد له عادة إذا وضع له حمام وأجره للناس تضبط الساعة رد الساعة الماء باللتر أم الماء، هذا لا شك أن فيه مشقة على المكلفين.

طالب: هل مثله يا شيخ البوفيه المفتوح؟

كيف؟

طالب: البوفيه المفتوح داخل في هذا؟

سيجيء، نعم.

طالب: "فهذان طرفان في اعتبار الغرر وعدم اعتباره؛ لكثرته في الأول وقلته مع عدم الانفكاك عنه في الثاني".

كذلك الشرب من الماء: بعض الناس يشرب ثلاثة أضعاف الثاني، واحد يكفيه كوب، وواحد يحتاج إلى ثلاثة، أربعة، لا شك أن هذا فيه نوع غرر. لكن مثل هذه الدقائق لو كُلف الناس بتتبعها بدقة لتكدرت حياتهم. والمسألة الداخلة في هذا أو الداخلة في النوع الأول، مسألة ما يُعلن عنه من البوفيه المفتوح، لا شك أن بعض الناس تكفيه اللقمة واللقمتان، وبعضهم ما يكفيه كل الموضوع من الطعام! يتفاوتون؛ ولذلك تختلف فيها فتاوي العلماء في إلحاقها بالنوع الأول أو النوع الثاني، ولا شك أنه ليس هناك ضرورة تستدعي أن يتجاوز مثل هذا التفاوت. نعم.

طالب: .......

لا.

طالب: .......

واللهِ أنا أكرهه كراهة شديدة؛ لأنه فيه تفاوت كبير بين الأكَلة، الآن لو دخل طائر إلى هذا المسجد ما حكم بيعه؟

طالب: .......

ماذا؟

طالب: .......

المقدور على تسليمه؛ لأن المكان محصور، وكذلك لو كان السمك في حوض صغير. لكن افترضنا أن هذا الطائر دخل المسجد، وباعه واحد على ثانٍ في مروحة؟

طالب: .......

ماذا؟

طالب: .......

أقول: ما دام هذا الاحتمال موجودًا فلا يصح بيعه حتى يُسلم سليمًا معافًى. دخل طائر في درس الرازي بالمسجد، دار دار وعجز، ما لقي مكانًا يقع فيه، أخيرًا وقع في حجر الشيخ، وقع في حجره، وكان فيه شاعر يقال له: ابن عُنين نظم قصيدة وقال فيها- أنا ما أحفظ الشعر- قال:

 وأنت ملاذ الخائفين!

هذا الطائر الذي خاف منه الطلاب جاء لك. يعني المسألة، هو يتكلم على لسان هذا الطائر، ما أمن إلا أنت.

طالب: .......

نعم، أنت ما شاء الله عليك، أنا ما أحفظ.

طالب: .......

ماذا؟

طالب: .......

شبك؟

طالب: لا، طائر وطار ومسكت .......

وله صاحب؟ من مالكه؟

طالب: ما أعرف يا شيخ.

بلى، له مالك هذا.

طالب: .......

له مالك، ما يصح.

طالب: .......

لا لا، ما يصح.

طالب: لقطة؟

لقطة نعم.

طالب: ولو تركته يا شيخ .......

أنت ما عليك منه، فلو مثلاً يدخل الطائر وتضربه هذه المروحة، هو حي ما مات، لكنه منكسر، تقول: سأذكيه قبل ما يموت، يستفاد من لحمه، واحتمال لو تركته أن يموت، ثم جاء صاحبه وقال: اشتريته بعشرين ألفًا، فماذا تقول أنت؟

طالب: .......

لأن فيه أنواعًا بهذه القيم، حمام يصل إلى هذا الحد.

طالب: .......

تضمن أم ما تضمن؟

طالب: .......

لأنك مصلح، لكن يبقى ... مثل هذه الأمور التي لا تدركها ولا تعرف أقيامها، السلامة لا يعدلها شيء. هو يقول: لو أنت تركته عالجناه وعافاه الله. أو جاءت عقرب ولدغت عنزًا أو بعيرًا، تقول: بدل ما تموت أذكيه، وقال لك: بخمسة ملايين هذا البعير! فعلى الإنسان أن يتحسس مثل هذه الأمور؛ لئلا يُدعى عليه ثم بعد ذلك.

طالب: يغرق.

يغرق، نعم.

طالب: "فكل مسألة وقع الخلاف فيها في باب الغرر فهي متوسطة بين الطرفين، آخذة بشبه من كل واحد منهما، فمن أجاز مال إلى جانب اليسارة، ومن منع مال إلى الجانب الآخر".

طيب، التأمين سواء كان على الأموال أو على الأنفس فيه غرر كبير؛ لأنك تدفع مبلغًا معينًا لمدة سنة، ثم في النهاية لا تدري كم تستفيد من هذا المؤمن فيه، تؤمن على صحتك مثلاً وتدفع مبلغًا، قد تحتاج من الأدوية والعلاجات والمراجعات إلى عشرة أضعاف عشرين ضعف، وقد تسلم من الأمراض ما تراجعهم ولا مرة، وهكذا في الأمور الأخرى: التأمين على سيارة تدفع لك ثلاثمائة ريال، ثم يقع حادث، فيصلحون سيارتك بعشرة آلاف. هذا غرر كبير، ومثله الضمان ضمان السيارات والأجهزة، تشتري على الضمان لمدة سنتين أو حتى تمشي مائة ألف مثلاً، وقد تتكلف الوكالة على سيارتك أضعاف أضعاف ما دفعت، وقد لا تحتاج شيئًا، ضمان الجوالات، ضمان، كل الضمانات هذه من هذا النوع. لكن ماذا يقول المشتري الذي يُفرض عليه هذا الأمر؟ ما فيه بيع ولا شراء إلا بهذا الأمر؟ إذا كان قيمة الضمان لها وقع في الثمن صار لها اعتبار في العقد، أما إذا قال: أنا أدفع ثلاثمائة ويمكن ما أحتاجهم أبدًا، فالأمر سهل، وأنا مكره على ذلك من غير اختيار، هذه مسألة أخرى. عقود الصيانة.

طالب: .......

يعني الإجارة؟

طالب: .......

لا، النظر لاستعمال أوساط الناس، وما يزيد على استعمال أوساط الناس يكون مضرًّا.

طالب: يعني حرام؟

نعم، حرام عليه هو،

على كل حال: عقود الصيانة، ومن ذلكم بيوت الله، عقود الصيانة مثل مسجدنا هذا تدفع الوزارة عليه عشرة آلاف سنويًّا، افتراض، ما أدري كم يدفعون، لكن الشركة التي عُقد معها العقد قد لا تتكلف ألفًا في السنة، مصباح خرب أو شيء من هذا، ويمكن أن تطفأ المكيفات تخرب كلها ثم بعد كم؟ أضعاف. لا شك أن هذا غرر وجهالة وغرر من حيث النظر غير مغتفر؛ لأن التفاوت كبير جدًّا. لكن هم اعتمدوا على قول من يقول بالجواز باعتبار أن هذه أمورًا لو دُقق فيها صُرف عليها من الأموال أكثر من ذلك، يكون لهم محاسبون وأشياء في التدقيق تكلّفهم أكثر من ذلك، لكن هي في الأصل غرر كبير من النوع الذي لا يغتفر.

طالب: أحسن الله إليك يا شيخ، "اليسارة" التيسير يا شيخ؟

ماذا؟

طالب: "اليسارة"، قال: "فمن أجاز مال إلى جانب اليسارة"؟

يعني التسهيل، يقول: تعرفون أن فيه ناسًا ييسرون والفقه الميسر، وفيه ناس يتحرون ويوصفون بالتشديد. وعلى كل حال المرد في ذلك إلى النية والقصد.

طالب: "ومن ذلك مسألة زكاة الحلي، وذلك أنهم أجمعوا على عدم الزكاة في العروض وعلى الزكاة في النقدين، فصار الحلي المباح الاستعمال دائرًا بين الطرفين، فذلك وقع الخلاف فيها".

وهذا يمكن أن يُستعمل فيه ما يسمى بقياس الشبه، قياس الشبه، وهو أن يكون الفرع مترددًا بين أصلين، فيُلحق بأقربهما شبهًا به.

طالب: "واتفقوا على قبول رواية العدل وشهادته، وعلى عدم قبول ذلك من الفاسق، وصار المجهول الحالُ دائرًا بينهما".

"المجهولُ"؟

طالب: "وصار المجهولُ الحالِ دائرًا بينهما، فوقع الخلاف فيه".

ولكن رفعته قبلُ ثم جررته؟ "صار المجهولُ" أيش؟

طالب: "المجهولُ الحالِ"؟

"الحالِ"، نعم.

طالب: نعم.

مضاف إليه.

طالب: مضاف إليه نعم. أحسن الله إليك.

وكيف يُضاف وفيه أل؟

طالب: .......

بذا المضاف مغتفر، يعني إذا كانت الإضافة لفظية ووُجدت في المضاف إليه أو فيما أُضيف إليه المضاف إليه.

طالب: "واتفقوا على أن الحر يملك، وأن البهيمة لا تملك، ولما أخذ العبد بطرف من كل جانب اختلفوا فيه: هل يملك، أم لا؟ بناءً على تغليب حكم أحد الطرفين".

وما الذي أُلحق به العبد في هذا الباب؟ هل أُلحق بالحر أو بالبهيمة؟

طالب: .......

ماذا؟

طالب: بالبهيمة.

طالب: .......

هو شبهه، متردد بين هذين الأصلين، وهو مثال من أمثلة قياس الشبه، لكن الجمهور على أنه يملك أو لا يملك؟

طالب: .......

لا يملك، إلحاقًا له بأيش؟

طالب: البهيمة.

البهيمة، أين حقوق الإنسان مع هذا؟!

طالب: .......

ماذا؟

طالب: .......

ماذا؟

طالب: .......

على كل حال هذه أمثلة معروفة عند أهل العلم، وأن المملوك منها، نعم.

طالب: .......

العروض المستعملة، العروض المستعملة.

طالب: .......

لا لا، لا لا. نعم.

طالب: "واتفقوا على أن الواجد للماء قبل الشروع في الصلاة يتوضأ ولا يصلي بتيممه، وبعد إتمامها وخروج الوقت لا يلزمه الوضوء وإعادة الصلاة، وما بين ذلك دائر بين الطرفين، فاختلفوا فيه".

يعني هل يعيد إذا جاء الماء بعد الفراغ من الصلاة وقبل خروج الوقت؟ اختلفوا في ذلك، منهم من ألحقه بما قبل الصلاة، ومنهم من نظر إليه أن الصلاة انتهت كما لو خرج الوقت.

طالب: "واتفقوا على أن ثمرة الشجرة إذا لم تظهر تابعةٌ للأصل في البيع، وعلى أنها غير تابعة لها إذا جُذت".

ولذلك يجيزون البيع بشرط القطع؛ لأنه يكون بيعه مستقلًّا، وأما بدون شرط القطع قبل بدو صلاحه فلا يجوز بيعه، وبيعه تبعًا لأصله مما لا خلاف فيه.

طالب: "واختلفوا فيها إذا كانت ظاهرة، وإذا أفتى واحد وعرَّفه أهل".

"عرَفه".

طالب: أحسن الله إليك.

يعني عرَف القول وعرَف القائل.

طالب: "وإذا أفتى واحد وعرَفه أهل الإجماع وأقروا بالقبول؛ فإجماع باتفاق، أو أنكروا ذلك؛ فغير إجماع باتفاق، فإن سكتوا من غير ظهور إنكار؛ فدائر بين الطرفين، فلذلك اختلفوا فيه".

يعني في الإجماع السكوتي، اختلف فيه أهل العلم.

طالب: "والمبتدع بما يتضمن كفرًا من غير إقرار بالكفر دائر بين طرفين، فإن المبتدع بما لا يتضمن كفرًا من الأمة، وبما اقتضى كفرًا مصرَّحًا به ليس من الأمة، فالوسط مختلف فيه: هل هو من الأمة أم لا؟".

يعني أرباب البدع المكفِّرة هل يلحقون بالكفار، أو بالمسلمين، فلا يخرجون بذلك من الدين؟ ولذلكم تجدون في أحكام الأئمة في هذا الباب في الكلام الإجمالي على القول يحكمون بالكفر، من قال بخلق القرآن مكفَّر عند جمهور السلف، لكن هل نقول: إن الزمخشري كافر؛ لأنه يقول بخلق القرآن؟ فالتكفير بالعين غير التكفير بالوصف والإجمال. مثل لعنِ من ورد الشرع بلعنهم جملة: «لعن الله شارب الخمر»، «آكل الربا وموكله»، إلى آخره، ولعن المصوِّر، لكن ما تقول: لعنك الله؛ لأنك تصور مثلاً، الواشمة والمستوشمة، وغير ذلك. فالإجمال غير التعيين.

طالب: "وأرباب النحل والملل اتفقوا على أن الباري تعالى موصوف بأوصاف الكمال بإطلاق، وعلى أنه منزَّه عن النقائص بإطلاق، واختلفوا في إضافة أمور إليه بناءً على أنها كمال، وعدم إضافتها إليه بناءً على أنها نقائص، وفي عدم إضافة أمور إليه بناءً على أن عدم الإضافة كمال، أو إضافتها بناءً على أن الإضافة إليه هي الكمال، وكذلك ما أشبهها".

والحكم في ذلك عند سلف الأمة وأئمتها هو ثبوت الوصف لله -جل وعلا- عنه أو على لسان نبيه -عليه الصلاة والسلام-، فإذا ثبت الوصف أو الاسم لله -جل وعلا- عن الله أو عن رسوله -عليه الصلاة والسلام-، فلا نلتفت إلى ما وراء ذلك، هي كمال على أي حال، ولو فهم منها من فهم أنها نقص وأراد أن ينزه الله عنها عزَّ وجلَّ، جل وعلا، سبحانه وتعالى نقول: نثبت ما أثبته الله لنفسه، وما أثبته له رسوله -عليه الصلاة والسلام- من غير تمثيل ولا تعطيل ولا تشبيه ولا، إلى آخره: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، نعم.

طالب: .......

ماذا؟

طالب: هذا الكلام هل ....... الشاطبي؟

لا، على طريقة الأشاعرة، على طريقتهم.

طالب: "فكل هذه المسائلُ إنما وقع الخلاف فيها".

"المسائلِ".

طالب: أحسن الله إليك. "فكل هذه المسائلِ إنما وقع الخلاف فيها؛ لأنها دائرة بين طرفين واضحين، فحصل الإشكال والتردد، ولعلك لا تجد خلافًا واقعًا بين العقلاء معتدًّا به في العقليات أو في النقليات، لا مبنيًّا على الظن ولا على القطع، إلا دائر بين طرفين ولا يختلف فيهما أصحاب الاختلاف في الواسطة المترددة بينهما، فاعتبره تجده كذلك، إن شاء الله.

فصل: وبإحكام النظر في هذا المعنى يترشح للناظر أن يبلغ درجة الاجتهاد؛ لأنه يصير بصيرًا بمواضع الاختلاف، جديرًا بأن يتبين له الحق في كل نازلة تعرض له، ولأجل ذلك جاء في حديث ابن مسعود أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: «يا عبد الله ابن مسعود». قلت: لبيك يا رسول الله. قال: «أتدري أي الناس أعلم؟». قلت: الله ورسوله أعلم. قال: «أعلم الناس أبصرهم بالحق إذا اختلف الناس، وإن كان مقصرًا في العمل، وإن كان يزحف في استه»".

حال هذا الحديث شديد الضعف فلا يُلتفت إليه، واشتراط معرفة مواطن الإجماع والخلاف في المجتهد موجودة في كتب أهل العلم، يعرف مواطن الإجماع؛ لأنه يخالف ما أجمع عليه العلماء، ويعرف مواطن الاختلاف كما أشار المؤلف؛ من أجل أن تفتح له آفاقًا؛ ولذلك الكتب المؤلفة في الإجماع.. على طالب العلم أن يديم النظر فيها، وإن كان كثير منها غير مسلَّم، كثير ممن ينقل الإجماع يتساهل فيه ولا يسلَّم له الإجماع، بل منهم من نقل الإجماع ونقل الخلاف في موضع آخر، وهذا موجود في إجماعات ابن عبد البر والنووي وابن قدامة وابن المنذر؛ لأن الإجماع يعني الجزم به بعد تفرق الصحابة في الأمصار، يعني دونه خرق القتاد، ولذا بعضهم لا يرى مثل هذا الإجماع، وإن كان الأصل أنه يوجِد هيبة لطالب العلم حتى يجد المخالف.

وهذا الكلام الذي قلناه من وجود التناقض في أحكام بعض أهل العلم في بعض المسائل، جعل الشوكاني يقول: ودعاوى الإجماع التي يدعيها نقلة الإجماع - وذكر منهم من ذكرناهم آنفًا- تجعل طالب العلم لا يهاب الإجماع.

وأقول: إذا نُقل الإجماع فعلى طالب العلم أن يهاب الإجماع حتى يجد ما يخالفه؛ لأنه قد يكون إجماعًا حقيقيًّا، وعلى طالب العلم الذي يُعد نفسه على النفع العام والاجتهاد أن يطلع على ما كُتبَ من كُتبِ الإجماع وكتب الخلاف، وكتب الإجماع معروفة، وكتب الخلاف يعني من أقربها بداية المجتهد والإفصاح لابن هبيرة وكتاب عند الشافعية اسمه رحمة الأمة في اختلاف الأئمة، يعني هذه تفتح آفاقًا لطالب العلم أن في هذه المسألة خلافًا، وأن هذا الخلاف لا بد له في الأصل من دليل؛ لأن المخالف من الأئمة، فيبحث عمن قال بهذا، ويبحث عن دليله، وحينئذ تتكون لديه الأهلية.

طالب: "فهذا تنبيه على المعرفة بمواقع الخلاف، ولذلك جعل الناس العلم معرفة الاختلاف، فعن قتادة: من لم يعرف الاختلاف لم يشم أنفه الفقه".

من لا يعرف إلا قولًا واحدًا، قد يكون أضعف الأقوال هذا الذي يعرفه، ولا شك أن الاطلاع على أقوال أهل العلم إن كانت بأدلتها فتؤهل طالب العلم إلى درجة الاجتهاد، وإن كانت من غير استدلال كما هو شأن بعض من ينقل الخلاف المجرد فعليه أن يبحث عن الاستدلال لهذه الأقوال، وينظر في هذه الأدلة ويوازن بينها ويرجح الراجح بدليله.

طالب: "وعن هشام بن عبيد الله الرازي: من لم يعرف اختلاف القراءة فليس بقارئ، ومن لم يعرف اختلاف الفقهاء فليس بفقيه".

لحظة لحظة، "من لم يعرف اختلاف"؟

طالب: "القِراءةِ".

ماذا؟

طالب: "القِراءة".

لا، "القَرَأة".

طالب: أحسن الله إليك.

المراد القُرَّاء.

طالب: "من لم يعرف اختلاف القَرَأة فليس بقارئ، ومن لم يعرف اختلاف الفقهاء فليس بفقيه".

وفي تفسير الطبري من أوله إلى آخره: اختلف القَرَأة في... هذه الكلمة.

طالب: .......

نعم.

طالب: "وعن عطاء: لا ينبغي لأحد أن يُفتي الناس حتى يكون عالمًا باختلاف الناس؛ فإنه إن لم يكن كذلك رد من العلم ما هو أوثق من الذي في يده".

"في يديه".

طالب: "ما هو أوثق من الذي في يديه".

نعم؛ لأنه قد يكون القول الراجح في هذه المسألة قولًا لم يطلع عليه، ولو اطلع عليه لتغير اجتهاده.

طالب: "وعن أيوب السختياني وابن عيينة: أجسَرُ الناس على الفتيا أقلهم علمًا باختلاف العلماء".

صحيح، إذا صار ما عنده معارض فما الذي يمنعه من أن يُفتي؟ إذا كان ما عنده قول معارض لما ترجح عنده، ما يعرف غير هذا القول، قطعًا سيتجرأ ويفتي بهذا القول.

طالب: "زاد أيوب: وأمسَك الناس عن الفتيا أعلمهم باختلاف العلماء".

نعم؛ لأن هذا الخلاف الذي يكون الاحتمال فيه قائمًا على أن من الأقوال ما هو أرجح مما اعتمده، لا شك أنه سوف يتردد عن الفتيا؛ لأنه قد يكون في الأقوال الأخرى ما هو أرجح، إلا إذا استقصى الأقوال واستقصى الأدلة وترجح عنده القول الراجح بدليله، فإنه حينئذٍ لا يدخل في هذا.

طالب: "وعن مالك: لا تجوز الفتيا إلا لمن علم ما اختلف الناس فيه، قيل له: اختلاف أهل الرأي؟ قال: لا، اختلاف أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم-، وعِلْم الناسخ والمنسوخ من القرآن".

"وعَلِمَ".

طالب: أحسن الله إليك. "وعَلِمَ الناسخ والمنسوخ من القرآن ومن حديث الرسول الله -صلى الله عليه وسلم-".

اللهم صلِّ عليه.

طالب: "وقال يحيى بن سَلَام: لا ينبغي لمن لا يعرف الاختلاف".

عندك "ابن سَلَام" أو "سَلَّام"؟

طالب: "سَلَّام"، أحسن الله إليك. "وقال: يحيى بن سَلَّامٍ: لا ينبغي لمن لا يعرف الاختلاف أن يُفتي".

هو كل سَلَّام مشدد إلا والد عبد الله بن سَلَام، ووالد محمد بن سَلَام على الخلاف فيه، والد عبد الله بن سَلَام بالاتفاق مخفف.

طالب: "لا ينبغي لمن لا يعرف الاختلاف أن يُفتي، ولا يجوز لمن لا يعلم الأقاويل أن يقول هذا أحبَّ إلي".

"أحبُّ".

طالب: "هذا أحبُّ إليّ. وعن سعيد بن أبي عروبة: من لم يسمع الاختلاف، فلا تعده عالمًا. وعن قبيصة بن عقبة: لا يفلح من لا يعرف اختلاف الناس.

 وكلام الناس هنا كثير، وحاصله معرفة مواقع الخلاف، لا حفظ مجرد الخلاف، ومعرفة ذلك إنما تحصل بما تقدم من النظر، فلا بد منه لكل مجتهد، وكثيرًا ما تجد هذا للمحققين في النظر كالمازري وغيره".

طالب: .......

ماذا؟

طالب: .......

أسبابه، أسبابه.

* * *

هذا يسأل يقول: أفضل تحقيق يمكن أن يقتنيه طالب العلم لكتاب الموافقات؟

 أفضل طبعة؟

الكتاب طُبع أولاً في تونس قبل مائة وخمسين سنة، ثم طُبع بتحقيق محمد الخضر حسين في المطبعة السلفية سنة ألف وثلاثمائة وواحد وأربعين، ثم بعد ذلك طُبع بتحقيق محمد بن عبد الله دراز، وهذه أفضل الطبعات، وتعليقاته نفيسة، ثم حُقق أخيرًا النسخ الموجودة الآن بتحقيق الشيخ مشهور هذه طالب العلم الذي ما له عناية بالأصول تكفيه، وفيها زيادة تحقيق وزيادة تخريج أحاديث، وأشياء يستفيد منها طالب العلم.

اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك.

"