التعليق على الموافقات (1428) - 10
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه، وبعد:
قال المؤلف –رحمه الله-: "المسألة الثانية عشرة: الشريعة جاريةٌ في التكليف بمقتضاها على الطريق الوسط الأعدل، الآخذ من الطرفين بقسطٍ لا ميل فيه، الداخل تحت كسب العبد من غير مشقةٍ عليه ولا انحلال".
نعم، هذه سمات هذه الشريعة أنها وسط، { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143] يعني عدولاً خيارًا.
والتوسط في الأمور سمة هذا الدين في جميع أبوابه، ووسطية هذه الأمة معروفةٌ بين الأمم، كما أن وسطية أهل السُّنَّة والجماعة معروفة بين الفرق، وهذا الأصل في هذه الملة وهذه الشريعة؛ ولذا من عدل عن الوسط يُرد إليه، من عدل عن الطريق المستقيم عن الصراط المستقيم الوسط يُرد إليه، فالخارجي عدل يمينًا، وشط عن الطريق المستقيم يُرد إلى الطريق المستقيم بنصوص الرجاء نصوص الوعد، والمرجئ إذا عدل، وشط عن الصراط المستقيم إلى جهة الشمال مثلاً، وشط في ذلك وأبعد وأنجع، فإنه لا بُد أن يُرد إلى الطريق الوسط والصراط المستقيم بنصوص الوعيد.
وهكذا الشريعة علاج لهذه الأدواء ولهذه الأمراض، كالطبيب إذا رأى جسم العليل، جسم المريض مائلًا عن الاعتدال، فالصحة هي الاعتدال، فإذا مال عن الاعتدال رده الطبيب، فإن كان الزيادة في حرارته أعطاه ما يخفضها، وإن كان النقص في حرارته أعطاه ما يرفعها، وقل مثل هذا في ضغطه، في سُكرييه، في جميع الأمراض لا بُد أن يرد إلى الاعتدال الوسط.
وهكذا كانت الشريعة، ولمَّا كانت علاجًا لأدواء القلوب وأمراضها صارت بمنزلة علاج الأبدان وأمراضها.
"بل هو تكليفٌ جارٍ على موازنةٍ تقتضي في جميع المكلفين غاية الاعتدال، كتكاليف الصلاة، والصيام، والحج، والجهاد، والزكاة، وغير ذلك مما شرع ابتداءً على غير سببٍ ظاهر اقتضى ذلك".
ولو نظرت في هذه الأبواب في الصلاة مثلاً، وجدت الصلاة أعظم العبادات لا تأتي على جميع الوقت أو على جُله، وإنما يقضي منها المسلم بقسطٍ كافٍ، وكذلك الصيام لا تجد غالب السَّنة صيامًا، لا، بل ولا نصف السَّنة إلا من أخذ العزيمة في صيام داود وما أشبه ذلك.
على كل حال وجميع أبواب الدين كذلك الجهاد لا تجد العمر كله يُفنيه الإنسان في الجهاد، وكذلك الزكاة، لا تأتي على جميع المال، وإنما تأخذ منه شيئًا يسيرًا يستقيم بهذا المال ويعتدل.
"أو لسببٍ يرجع إلى عدم العلم بطريق العمل، كقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ} [البقرة:215].
{يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [البقرة:219] وأشباه ذلك".
نعم هذه أعني أمور الشريعة منها ما شُرِع ابتداءً من غير طلب، ومنها ما شُرِع بسبب الطلب بعد السؤال عنه، والله –جلَّ وعلا- لم يتركه لا غفلةً، ولا نسيانًا، ولا تقليلاً من شأنه، وإنما جعل الله ذلك السؤال سببًا في التشريع، والمسبب هو الله –جلَّ وعلا- فالكل منه وإليه.
"فإن كان التشريع لأجل انجراف المكلف، أو وجود مظنة انحرافه".
انجراف أو انحراف ما فيه فرق، يعني المعنى واحد.
"عن الوسط إلى أحد الطرفين، كان التشريع رادًّا إلى الوسط الأعدل".
وهذا ما أشرنا إليه في المثال بالمرجئة والخوارج كلاهما انحرف عن الطريق الوسط فيُرد بالشرع، بالنصوص التي تُعالج داءه.
"كان التشريع رادًّا إلى الوسط الأعدل لكن على وجهٍ يميل فيه إلى الجانب الآخر؛ ليحصل الاعتدال فيه".
نعم لا بُد من الميل للجانب الآخر؛ ليحصل الاعتدال؛ لأن الطريق الوسط لا يرد مثل هذا، لو أتيت بالنصوص التي هي لسائر الناس مما سمتها الوسط ما ترد الخارجي، وكذلك لا ترد المرجئ، فإنما يُرد الخارجي بنصوص الوعد ونصوص الرجاء، كما أن المرجئ إنما يُعالج بنصوص الوعيد، يُخوَّف بالله –جلَّ وعلا-، وهكذا ينبغي أن يكون معلم الناس الخير أو الداعية إلى الخير وما أشبه ذلك يُعالج الناس بهذه الأمور، فإن كان في مجتمعٍ أو بين أفرادٍ من سمتهم التساهل والتراخي عالجهم بنصوص الوعيد؛ ليردهم إلى حظيرة التوسط، وقُل مثل هذا لو كان في مجتمعٍ يغلب عليه الغلو والتطرف والخروج وما أشبه ذلك، تُبسط أحاديث الوعد ونصوص الوعد.
"فعل الطبيب الرفيق يحمل المريض على ما فيه صلاحه بحسب حاله وعادته، وقوة مرضه وضعفه، حتى إذا استقلت صحته هيأ له طريقًا في التدبير وسطًا لائقًا به في جميع أحواله".
نعم إذا استقلت صحته واستقرت وعولِج ما عنده من نقصٍ أو زيادة، فإنه يُرسم له البرنامج الغذائي المناسب له الذي يحمله على التوسط.
أولا ترى أن الله تعالى خاطب الناس في ابتداء التكليف خطاب التعريف بما أنعم عليهم من الطيبات والمصالح التي بثها في هذا الوجود لأجلهم؛ ولحصول منافعهم ومرافقهم التي يقوم بها عيشهم، وتكمُل بها تصرفاتهم".
نعم في أول الأمر خاطبهم بذلك بما أنعم الله عليهم به؛ ليعرفوا حقه عليهم، فإذا عرفوا حقه عليهم وأنه هو الموجِد لهم من العدم، وهو المُنعم عليهم بأنواع النِّعم والدافع عن أنواع السَّقم فإنهم حينئذٍ ينقادون لأمره.
كقوله تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} [البقرة:22].
وقوله: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} [إبراهيم: 32]".
هذا إنما يُذكر؛ لأن السورة مدنية متأخرة، يُذكر من باب التذكير بنِعم الله –جلَّ وعلا- والتثبيت على ما هم عليه، أو يكون بالنسبة لمن لم يدخل في الإسلام ولم يعترف بنِعم الله- جلَّ وعلا-.
وعلى كل حال هو لتثبيت المسلمين، وتعريفهم بنِعم الله –جلَّ وعلا- التي قد يغفل عنها بعض الناس، وإن كان مسلمًا، أما الآية الثانية فهي مكية وصالحة للاستدلال.
"وقوله: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} [إبراهيم:32] إِلَى قَوْلِهِ: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34].
وقوله: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} [النحل:10].
إلى آخر ما عد لهم من النِّعم، ثم وعدوا على ذلك بالنعيم إن آمنوا، وبالعذاب إن تمادوا على ما هم عليه من الكفر، فلما عاندوا وقابلوا النِّعم بالكفران، وشكوا في صدق ما قيل لهم، أُقيمت عليهم البراهين القاطعة بصدق ما قيل لهم وصحته، فلمَّا لم يلتفتوا إليها؛ لرغبتهم في العاجلة، أُخبِروا بحقيقتها، وأنها في الحقيقة كـ(لا) شيء؛ لأنها زائلةٌ فانية.
وضُربت لهم الأمثال في ذلك؛ كقوله تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ} [يونس:24] الآية.
وقوله: {أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [الحديد:20]".
وقوله: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [العنكبوت:64]".
{وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُور} [الحديد:20].
طالب: موجودة عندك؟
نعم قبل {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [العنكبوت:64] موجودة في بعض النُّسخ دون بعض.
"وقوله: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُور} [الحديد:20].
وقوله: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:64] .
بل لمَّا آمن الناس وظهر من بعضهم ما يقتضي الرغبة في الدنيا رغبةً ربما أمالته عن الاعتدال في طلبها أو نظرًا إلى هذا المعنى، فقال -عليه الصلاة والسلام-: «إِنَّ مِمَّا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مَا يُفْتَحُ لَكُمْ مِنْ زَهَرَاتِ الدُّنْيَا»".
«ومن بركات الأرض» كما في الحديث، وسُئِل عن بركات الأرض قال: «زهرة الدنيا»، وهذا إذا رُؤي ميل عند إنسانٍ ما إلى الحياة الدنيا، وانصراف عن الآخرة، لكن لو انصرف الإنسان بكُليته إلى الاخرة، وترك ما يُعينه على هذا الانصراف، وما يُحقق له الهدف قيل له: {وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77] وإذا حس منه أو لُمِس منه أنه يمنع نفسه تعبدًا مما أباح الله تعالى عليه، ويُضيق على نفسه ويُضيق على غيره، يُقال له: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ} [الأعراف:32] وهكذا في جميع أبواب الدين.
"ولمَّا لم يظهر ذلك ولا مظنته، قال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف:32].
وقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون:51].
ووقع لأهل الإسلام النهي عن الظلم، والوعيد فيه والتشديد، وقال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُون} [الأنعام:82] .
ولما قال -عليه الصلاة والسلام-: «آية المنافق ثلاث: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا ائْتُمن خَانَ» شق ذلك عليهم؛ إذ لا يسلم أحدٌ من شيءٍ منه، ففسره -عليه الصلاة والسلام- لهم حين أخبروه بكذبٍ وإخلافٍ وخيانةٍ مختصةٍ بأهل الكفر.
وكذلك لمَّا نزل: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة:284] الآية، شق عليهم، فنزل: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]".
هكذا كان الصحابة -رضوان الله عليهم- يخافون من المخالفة أشد الخوف، فخافوا من إطلاق الظلم في قول الله –جلَّ وعلا-: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام:82] قالوا: أينا لم يظلم نفسه؟ فسَّره لهم بالشِّرك {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيم} [لقمان:13]، وكذلك خافوا من آية المنافق وعلامته إن هذه أمور قد يُقارفها المسلم، وتُوجد منه بقصدٍ أو بغير قصد، فإذا كان من يتصف بهذه الخلال يكون منافقًا، فمن يسلم من النفاق؟ فأجيبوا بأن هذا إنما من يعتقد ذلك أو يكون ديدنه ذلك –كما قال أهل العلم- أو يُبيت ذلك قبل يُخلف، يُبيت الإخلاف قبل أن يُبرم الوعد، ويكون ديدنه الكذب، ويتحرى الكذب، والخيانة، والغش، والفجور إذا اجتمعت هذه الأمور في شخص لا شك أنه منافق منافقًا عمليًّا وإن لم يكون اعتقاديًّا، على ما قرره أهل العلم، وكذلك إذا كانوا يُحاسبون على كل شيء ما خفي وما بطن، ما تحدثوا به وما لم يحدثوا به أنفسهم، وما لم ينطقوا به هذا لا شك أنه شاق، لكن {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] إذا عجزوا عن طرد هذه الوساوس وهذه الخطرات، فإنهم لا يُحاسبون عليها.
"وقارف بعضهم بارتدادٍ أو غيره".
وارتكب بعضهم بعض الموبقات من الردة وغيرها، فخافوا ألا يُغفر لهم؛ لأن الشرك أمره عظيم.
"وقارف بعضهم بارتدادٍ أو غيره، وخاف أن لا يغفر له، فسُئل في ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأنزل الله: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر:53] الآية.
ولمَّا ذم الدنيا ومتاعها، همَّ جماعةٌ من الصحابة -رضوان الله عليهم- أن يتبتلوا".
نعم لمَّا نزل قول الله –جلَّ وعلا-: {لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ} [الحُجُرات:2] ثابت بن قيس بن شماس خطيب، ورفيع الصوت، وحكم على نفسه بأنه حبط عمله من خلال هذه الآية، فربط نفسه، وقال: أنه لا يحله؛ حتى يعرف مصيره، ففقده النبي –عليه الصلاة والسلام- فسأل عنه، فقيل: هذا وضعه، لمَّا نزلت الآية شق عليه ذلك؛ لأنه جهوري الصوت خطيب، فقال: ليس من أهلها إنما هو من أهل الجنة، فشهد له النبي –عليه الصلاة والسلام- بالجنة، فمثل هذا إذا وقع منه مثل هذا الأمر لا شك أنه لا بُد أن يُعالج خوفه، ويأسه، وقنوطه بما يرده إلى حظيرة التوسط.
وهكذا لو جاء شخص يدعو بالويل والثبور، وأنه فعل أمرًا موبقًا ويخشى ألا يُتاب عليه، ولا تُقبل توبته يُطمئَن، ويورد له من النصوص التي تُبين أن التوبة تهدم ما كان قبلها وبالعكس، إذا جاء مُستهتر مُرتكب للجرائم والسوابق ومع ذلك لا يرفع رأسًا بتوبةٍ ولا إنابة مثل هذا لا شك أنه يُشدد عليه في مثل هذا الباب.
"أن يتبتلوا ويتركوا النساء واللذة والدنيا، وينقطعوا إلى العبادة، فرد ذلك عليهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي».
ودعا لأناسٍ بكثرة المال والولد بعد ما أنزل الله: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن:15] والمال والولد هي الدنيا".
نعم دعا لأنس –رضي الله عنه- بكثرة المال والولد، مع قول الله –جلَّ وعلا-: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن:15] فهل معنى هذا أنه دعا لأنس بالفتنة؟ هي فتنة، وهي مَشغلة، لكن هي في الواقع نفسه أيضًا مُعينةٌ على أمور الدين والدنيا {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:46] فبهذا المال، وبهؤلاء البنين لا شك أنه إن استعمل هذه النِّعم فيما يُرضي لله –جلَّ وعلا- صارت له عونًا على ما يُقرِّب إلى الله، وإن استعملها وانشغل بها عن عبادة الله –جلَّ وعلا- صارت فتنة.
"وأقر الصحابة على جمع الدنيا والتمتع بالحلال منها، ولم يزهدهم ولا أمرهم بتركها، إلا عند ظهور حرصٍ أو وجود منعٍ من حقه، وحيث تظهر مظنة مخالفة التوسط بسبب ذلك وما سواه، فلا.
ومن غامض هذا المعنى أن الله تعالى أخبر عما يُجازي به المؤمنين في الآخرة، وأنه جزاءٌ لأعمالهم، فنسب إليهم أعمالاً وأضافها إليهم بقوله: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17].
ونفى المِنة به عليهم في قوله: {فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [التين:6]".
الأكثر على أن معنى {مَمْنُونٍ} [التين:6] يعني: مقطوع، يعني لا ينتهي، وكأنه حمله على نفي المِنَّة كما هو واضح من كلامه.
"فلمَّا منُّوا بأعمالهم قال تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات:17].
فأثبت المنَّة عليهم على ما هو الأمر في نفسه".
لأنهم منُّوا، والجزاء من جنس العمل.
"لأنه مقطع حق، وسلب عنهم ما أضاف إلى الآخرين، بقوله: {أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ} [الحجرات:17].
كذلك أيضًا أي: فلولا الهداية لم يكن ما مننتم به، وهذا يشبه في المعنى المقصود حديث شراج الحرة حين تنازع فيه الزبير ورجلٌ من الأنصار، فقال -عليه السلام-: «اسق يا زبير»، فأمره بالمعروف، «وأرسل الماء إلى جارك» فقال الرجل: أن كان ابن عمتك؟ فتلون وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم قال: «اسْقِ يَا زُبَيْرُ حَتَّى يَرْجِعَ الْمَاءُ إِلَى الْجَدْرِ» واستوفى له حقه".
الحكم الأول حكم فضل، وتعامُل بالحسنى، والثاني عدل، الذي لا يقبل الفضل يُحكم عليه بالعدل من غير جور، ومن غير فضلٍ ومنَّةٍ عليه.
"فقال الزبير: إن هذه الآية نزلت في ذلك: {فَلا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء:65] الآية.
وهكذا تجد الشريعة أبدًا في مواردها ومصادرها.
وعلى نحوٍ من هذا الترتيب يجري الطبيب الماهر، يُعطي الغذاء ابتداءً على ما يقتضيه الاعتدال في توافق مزاج المُغتذي مع مزاج الغذاء، ويُخبر من سأله عن بعض المأكولات التي يجهلها المُغتذي؛ أهو غذاءٌ، أم سمٌّ، أم غير ذلك؟ فإذا أصابته علةٌ بانحراف بعض الأخلاط، قابله في معالجته على مقتضى انحرافه في الجانب الآخر؛ ليرجع إلى الاعتدال وهو المزاج الأصلي، والصحة المطلوبة، وهذا غاية الرفق، وغاية الإحسان والإنعام من الله سبحانه.
فصل: فإذا نظرت في كليةٍ شرعيةٍ فتأملها تجدها حاملةً على التوسط".
"كليةٍ شرعيةٍ" يعني: من القواعد العامة الكلية تجدها حاملة على التوسط، وتجد غالب فروعها من هذا الوسط، وقد تجد ما يخرج عن هذا الوسط من فرعٍ أو شِبهه، لكن الغالب في هذه القواعد أنها أغلبية، وهناك القواعد الكلية التي لا يخرج منها شيء.
"فإن رأيت ميلاً إلى جهة طرف من الأطراف، فذلك في مقابلة واقعٍ أو متوقع في الطرف الآخر".
نعم إذا وجدت من فروع هذه القاعدة ما خرج عن حيز التوسط إلى التشديد أو التساهل، فإنما هو من أجل معالجة من يخرج عن هذه القاعدة على ما تقدم.
طالب: هذا يا شيخ ومن لم يرض بحكم الفضل يرضى بحكم العدل؟
لا بُد من العدل.
"فطرف التشديد وعامة ما يكون في التخويف والترهيب والزجر، يؤتى به في مقابلة من غلب عليه الانحلال في الدين.
وطرف التخفيف وعامة ما يكون في الترجية والترغيب والترخيص، يؤتى به في مقابلة من غلب عليه الحرج في التشديد، فإذا لم يكن هذا ولا ذاك رأيت التوسط لائحًا، ومسلك الاعتدال واضحًا، وهو الأصل الذي يُرجع إليه، والمعقل الذي يُلجأ إليه.
وعلى هذا إذا رأيت في النقل من المُعتبرين في الدين من مال عن التوسط، فاعلم أن ذلك مراعاةٌ منه لطرفٍ واقعٍ أو متوقعٍ في الجهة الأخرى، وعليه يجري النظر في الورع والزهد وأشباههما، وما قابلها.
والتوسط يُعرف بالشرع، وقد يُعرف بالعوائد، وما يشهد به معظم العقلاء كما في الإسراف والإقتار في النفقات".
نعم من هذه الأمور ما مرده إلى الشرع، وهذا هو الأصل، لكن إذا تركه الشرع رُد فيه إلى العُرف، يعني ما يُترك شرعًا يُرد إلى العُرف، وما تركه الشرع والشارع نسيانًا أو إهمالًا أو غفلة أو تقليلًا لشأنه لا؛ إنما ذلك لأن الأعراف متفاوتة، فلو حُكِم على الجميع بعرف بلدٍ من البلدان أو مجتمع أو زمن من الأزمان فإنه ينالهم من المشقة ما ينالهم.
فمثل هذه الأمور التي تُترك للعُرف لا شك أن مرد ذلك إلى التوسط في هذا الأمر بحسب ما يجري في عرف الناس، يعني لو الفُحش في النجاسة مثلاً التي يُعفى عن قليلها مرد ذلك إلى العُرف، مع أن العُرف متفاوت بين الناس منهم الموسوس الذي يرى الشيء اليسير كبيرًا، ومنهم المتسامح والمتساهل فلا يُرد لا إلى موسوس ولا إلى جزار يُقارف النجاسات باستمرار والدم المسفوح على بدنه وعلى ثيابه، ومع ذلك يظن أن هذه الأمور مما عمت بها البلوى ويتسامح فيها، فإذا جاءه الشيء الكثير قال: هذا يسير، فلا هذا ولا ذاك، إنما المرد إلى حال أوساط الناس.
والإسراف والتقتير في النفقات قد يكون في بعض البلدان، وفي بعض الأزمان هذا يُعد إسرافًا، ثم بعد ذلك يُعد توسطًا، ثم بعد ذلك يُعد تقتيرًا، على حسب سعة الناس وحالهم، قبل خمسين سنة لو أعطى الرجل زوجته نفقة شهر خمسة ريالات قيل: مسرف، والآن لو يُعطي ولده في المرحلة الابتدائية مصروفًا خمسة ريالات ما قيل: مسرف في اليوم، بينما نفقة الشهر لو أُعطيت خمسة من الريالات قبل خمسين سنة، قيل: إسراف.
من أين يأتي بالذهب والفضة من الجبال، أم من التراب أم...؟ هذا واقع، يعني كانت أجور البيوت بهذه المبالغ خمسة، عشرة، والآن بالألوف المؤلفة.
المقصود أن الأزمان لها دخل في الأعراف، وتغير الأعراف، وكذلك الأوقات "الإسراف والإقتار" يعني: في النفقات، كان مصروف الناس يسيرًا، يعني مائة ريال تُنفق على بيت لمدة شهر، والآن لو قيل: إن عشرة آلاف ما تُنفق على بيت متوسط ما هو ببعيد.
وكان الناس قبل ثلاثين سنة يرون أن المكيف والثلاجة والسيارة لا تُؤخذ لها الزكاة؛ لأنها ليست بحوائج أصلية، الآن مَن يعيش بدون مكيف وبدون ثلاجة وبدون...؟ صارت حوائج أصلية، وهذا مرده إلى أن الظروف والأحوال تتفاوت، وقد يكون هذا في بلدٍ من البلدان حاجة أصلية، بينما هو في بلد آخر ليس بحاجة أصلية، فمثل هذه مردها إلى الأعراف والعادات.
الآن وقفنا على النوع الرابع، وبهذا نكون أنهينا الأبواب الثلاثة السابقة، ونقف على هذا إلى بداية الدروس بين العيدين –إن شاء الله تعالى- لأن الإجازة كلها دورات، وبعد الإجازة ما فيه إلا أربعة أيام أو خمسة قبل رمضان، ورمضان ما فيه دروس، نقف على هذا –إن شاء الله- إلى بعد صيام الست، إن شاء الله.
اللهم صلِّ على محمد.