شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (127)

المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أيُّها الإخوة والأخوات، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وأهلًا بكم إلى حلقة جديدة ضمن برنامجكم" شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح"، مع مطلع حلقتنا يسرنا أن نرحب بصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور/ عبد الكريم بن عبد الله الخضير، فأهلًا ومرحبًا بكم شيخ عبد الكريم.

حياكم الله، وبارك فيكم وفي الإخوة المستمعين.

المقدم: كنا- أحسن الله إليكم- توقفنا في باب من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين في حديث معاوية- رضي الله عنه-، أسلفنا في الحلقة الماضية الإشارة إلى عددٍ من الفوائد حول هذا الحديث ومعانيه، وتوقفنا عند ذكر أطرافه، لعلنا في هذه الحلقة نشير إلى أطرافه قبل أن نقرأ الحديث.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد،

فالحديث أخرجه الإمام البخاري في خمسة مواضع من صحيحه:

الموضع الأول: هنا في كتاب العلم، باب من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين. قال- رحمه الله-: حدثنا سعيدٌ بن عفير قال: حدثنا ابن وهب عن يونس عن بن شهاب قال: قال حميد بن عبد الرحمن: سمعت معاوية خطيبًا يقول: سمعت النبي- صلى الله عليه وسلم- يقول فذكره، وسبق ذكر المناسبة والرابط بين الباب والذي قبله.

الثاني، الموضع الثاني: في كتاب فرض الخمس، في باب قول الله تعالى: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [سورة الأنفال:41] يعني للرسول قسم ذلك، وقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إنما أنا قاسمٌ وخازنٌ والله يعطي» حدثنا حبّار بن موسى قال: أخبرنا عبد الله عن يونس عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن أنه سمع معاوية يقول: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين، والله المعطي، وأنا القاسم» الحديث، والمناسبة بين الباب، باب {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [سورة الأنفال:41] وبين كتاب فرض الخمس ظاهرة، ومناسبة الحديث للباب ظاهرة أيضًا، فهي مأخوذةٌ منه.

الموضع الثالث: في كتاب المناقب، بابٌ بدون ترجمة، وسبق مرارًا التنبيه على أن ما كان بدون ترجمة يكون بمنزلة الفصل بينه وبين الباب الذي قبله، والباب الذي قبله باب سؤال المشركين أن يريهم النبي- صلى الله عليه وسلم- آية فأراهم انشقاق القمر.

المقدم: نعم.

بابٌ بدون ترجمة، إذًا فهو فرع، فصل من الباب الذي قبله، والباب الذي قبله باب سؤال المشركين أن يريهم النبي- صلى الله عليه وسلم- آيةً فأراهم انشقاق القمر. كيف يكون حديث هذا الباب الذي لم يترجم فصلًا من هذا الباب، باب سؤال المشركين أن يريهم النبي- عليه الصلاة والسلام- آيةً فأراهم انشقاق القمر؟ فيه قرب أم بعد؟

المقدم: يعني كونه- عليه الصلاة والسلام-: «إنما أنا قاسمٌ، والله-عزَّ وجلَّ- يعطي».

هذه آية.

المقدم: لا، ليست له، يعني مناسبة الحديث له.

كيف؟ الباب بدون ترجمة، إذًا هذا الباب فرعٌ من باب سؤال المشركين أن يريهم النبي- عليه الصلاة والسلام- آيةً فأراهم انشقاق القمر، «لا يضرهم من خالفهم».

المقدم: «حتى يأتي أمر الله».

نعم، الحافظ بن حجر يقول: بابٌ كذا في الأصول بغير ترجمة، وكان من حقه أن يكون قبل البابين اللذين قبله؛ لأنه ملحقٌ بعلامات النبوة. وكان كالفصل منها لكن لما كان كلٌّ من البابين راجعًا إلى الذي قبله وهو علامات النبوة سهل الأمر في ذلك. يعني إخبارهم عن الأمور المستقبلية من علامات نبوته، لكنه ليس من باب سؤال المشركين أن يريهم آية؛ لأن ارتباطه بالباب الذي قبل الذي قبله، والذي قبله مرتبطٌ به وهكذا. فسهل الأمر من أجل هذا، يقول الإمام البخاري- رحمه الله تعالى-: حدثنا الحميدي قال: حدثنا الوليد قال: حدثني ابن جابر قال: حدثني عمير بن هانئ أنه سمع معاوية يقول: سمعت النبي- صلى الله عليه وسلم- يقول: «لا يزالُ من أمتي أمةً، أو أمةٌ قائمةٌ بأمرِ اللهِ» «لا يزال من أمتي».

المقدم: أمةٌ.

قائمةً أم قائمةٌ؟

الأخ الحاضر: قائمةٌ صفة.

خبر لا يزال، أين خبر لا يزال؟

الأخ الحاضر: كرر الجملة يا شيخ.

«لا تزال أمتي قائمةً» هي موصوفة بكونها من أمتي لا إشكال «قائمةً بأمرِ اللهِ، لا يضرُّهم من خذَلَهم ولا من خالَفَهم، حتَّى يأتِيَهم أمرُ اللهِ وهم على ذلِكَ».

الأخ الحاضر: خبر لا تزال قائمةً

نعم.

الأخ الحاضر: طيب والصفة؟

«لا تزال أمة»، أو «لا يزال أمةٌ من أمتي» موصوفة « قائمةً».

أحد الحاضرين: طيب جملة «من أمتي» هي الجملة الموصوفة.

لا، أمةٌ موصوفة بكونها من أمة النبي- عليه الصلاة والسلام- «لا يضرُّهم من خذَلَهم ولا من خالَفَهم ، حتَّى يأتِيَهم أمرُ اللهِ وهم على ذلِكَ» ومناسبة علامات النبوة لكتاب المناقب ظاهرة حيث إن علامات نبوته- عليه الصلاة والسلام- من مناقبه؛ لأنَّ النبوة منقبة، ومناسبة الحديث علامات نبوته- عليه الصلاة والسلام- ظاهرةٌ أيضًا حيث أخبر عن أمر المستقبل يكون في آخر الزمان وهو علمٌ من أعمال نبوته- صلى الله عليه وسلم-.

الموضع الرابع: في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب قول النبي- صلى الله عليه وسلم-: «لا تزال طائفةٌ من أمتي ظاهرين على الحق وهم أهل العلم»، قال: حدثنا إسماعيل قال: حدثنا بن وهبٍ عن يونس عن ابن شهاب أخبرني حميدٌ قال: سمعت معاوية بن أبي سفيان يخطب قال: سمعت النبي- صلى الله عليه وسلم- يقول بنحوه، وفي آخره: «ولن يزال أمر هذه الأمة مستقيمًا حتى تقوم الساعة أو حتى يأتي أمر الله».

ومناسبة الباب للكتاب: باب قول النبي- صلى الله عليه وسلم-: «لا تزال طائفةٌ من أمتي» لكتاب الاعتصام بالكتاب والسنة. مناسبة هذا الباب للكتاب من حيث إن التنويه بشأن الطائفة، التنويه بشأن هذه الطائفة حثٌّ لهم على الاعتصام بالكتاب والسنة، وحثٌّ لغيرهم على الاقتداء بهم في الاعتصام بالوحيين، ومناسبة الحديث للترجمة، «ولن يزال أمر هذه الأمة مستقيمًا حتى تقوم الساعة أو حتى يأتي أمر الله» «لا تزال طائفةٌ من أمتي» المناسبة ظاهرة.

الموضع الخامس: في كتاب التوحيد، في باب قول الله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [سورة النحل:40]، حدثنا الحميدي قال: حدثنا الوليد بن مسلم قال: حدثنا بن جابر قال: حدثني عمير بن هانئ أنه سمع معاوية قال: سمعت النبي- صلى الله عليه وسلم- يقول: «لا يزالُ من أمتي أمةٌ قائمةٌ بأمرِ اللهِ، لا يضرُّهم من كذبهم، ولا من خذَلَهم، حتَّى يأتِيَ أمرُ اللهِ وهم على ذلِكَ» فقال مالك بن يخامر: سمعت معاذًا يقول: وهم بالشام، فقال معاوية: هذا مالك يزعم أنه سمع معاذًا يقوله: وهم بالشام، ثم ساق الحديث. فقال مالك بن يخامر: سمعت معاذًا يقول- معاذ بن جبل- يقول: هم بالشام، فقال معاوية: هذا مالك يزعم أنَّه سمع معاذًا يقوله وهم بالشام، يعني معاوية يشكك في كلام مالك بن يخامر المنقول عن معاذ؛ لكونه بالشام؟ هذا مالك يزعم.

المقدم: لا، الزعم هنا ليس معناه القول؟

القول، معناه القول.

المقدم: نعم.

ولا يظن بمعاوية أنه...

المقدم: يشكك.

يشكك في هذا لماذا؟ لأنَّه في الشام. قال العيني: مطابقة الحديث للترجمة تؤخذ من قوله: «حتى يأتيهم أمر الله» يعني وأمره- جلَّ وعلا- تابعٌ لإرادته. ماذا يقول العيني؟ مطابقة الحديث للترجمة تؤخذ من قوله: «حتَّى يأتِيَهم أمرُ اللهِ». الترجمة {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [سورة النحل:40] يعني دخول الإرادة وإتيان أمر الله كلها من باب العقائد الذي هو يرادف علم التوحيد.

إتيان أمر الله، {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ} [سورة النحل:40] يعني مطابقة هذا الباب لكتاب التوحيد {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [سورة النحل:40] هذه الأمور متعلقة بالله- جلَّ وعلا-.

المقدم: بالله- جلَّ وعلا-.

نعم، من كلامه وأوصافه، وهي داخلة في كتاب..

المقدم: التوحيد.

التوحيد، انتهينا من علاقة الباب بكتاب التوحيد نأتي إلى الحديث، ما علاقة الحديث بالترجمة التي هي باب قول الله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [سورة النحل:40]؟

المقدم: من يرد الله به خيرًا.

نعم يعني اللفظ الذي لم يذكره المؤلف هنا، ما ذكره المؤلف هنا يقول قال: سمعت النبي ع-ليه الصلاة والسلام- يقول: «لا يزالُ من أمتي أمةٌ قائمةً بأمرِ اللهِ، لا يضرُّهم من كذبهم، ولا من خذَلَهم، حتَّى يأتِيَ أمرُ اللهِ وهم على ذلِكَ»، العيني يقول: مطابقة الحديث للترجمة يؤخذ من قوله: «حتَّى يأتِيَهم أمرُ اللهِ» لا شك أن البخاري قد يستدل بحديث، ويستنبط منه حكمًا يترجم به، وإن لم يكن اللفظ المترجم به.

المقدم: موجود.

موجودًا فيما ذكره تحته، إنما موجود في روايات أخرى. و{إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ} [سورة النحل:40] مطابقٌ لقوله: «من يرد الله به خيرًا» ما فيها إشكال ظاهرة، لكن نأتي إلى قول العيني مطابقة الحديث للترجمة تؤخذ من قوله: «حتَّى يأتِيَهم أمرُ اللهِ».

المقدم: أمر الله.

يعني وأمره -جل وعلا- تابعٌ لإرادته انتهى كلامه، هناك العيني يقول: تؤخذ من قوله: «حتَّى يأتِيَهم أمرُ اللهِ»، كيف تؤخذ؟ أنا أقول: وأمره -جل وعلا- تابعٌ لإرادته، فإذا أراد الله أن يأتيهم أمره قال كن فيكون، اقرأ الحديث الذي يليه.

المقدم: عن ابن عمر- رضي الله عنهما- قال: كنا عند رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأُتي بجمّار فقال: «إن من الشجر شجرةً...» وذكر الحديث وزاد في هذه الرواية: فإذا أنا أصغر القوم فسكتّ.

نعم الحديث تقدم شرحه مستوفًى، وترجم عليه البخاري- رحمه الله تعالى- هنا بباب الفهم في العلم، وأورده الزَّبيدي من أجل الزيادة، أورده من أجل الزيادة التي أشار إليها "فإذا أنا أصغر القوم فسكت"، طيب هذه الزيادة ما رابطها بباب الفهم في العلم؟ ما الذي يربطها بباب الفهم في العلم؟

المقدم: كونه أصغر القوم يا شيخ فهل فهم المراد؟

نعم؟

الأخ الحاضر: نفس الشيء كونه صغيرًا ورغم ذلك فهم العلم.

يعني أنَّ الفهم والعلم لا يرتبط بسن. أورده الزبيدي من أجل هذه الزيادة التي أشار إليها، وليست موجودة في الروايات السابقة، وسبقت الإشارة إليها، ولعل البخاري- رحمه الله- ذكره هنا؛ لبيان أنَّ الفهم لا يرتبط بسنٍّ معينة، بل هو هبةٌ من الله- عزَّ وجلَّ- تعطى للكبير والصغير.

 قال ابن حجر: مناسبته للترجمة:

أن ابن عمر لما ذكر النبي- عليه الصلاة والسلام- المسألة عند إحضار الجمار إليه فهم أن المسؤول عنه النخلة، فالفهم فطنة يفهم بها صاحبها من الكلام ما يقترن به من قولٍ أو فعل، وقد أخرج أحمد في حديث أبي سعيدٍ الآتي في الوفاة النبوية، حيث قال النبي- عليه الصلاة والسلام-: «إِن عبدًا خَيًرَه اللهُ»، فبكى أبو بكر.

المقدم: فهم المراد.

نعم فهم، وقال: "فديناك بآبائنا"، فتعجب الناس، وكان أبو بكر فهم من المقام أن النبي- عليه الصلاة والسلام-

المقدم: سيموت.

هو المخير، فمن ثم قال أبو سعيد: فكان أبو بكرٍ أعلمنا به، وهذا بالنسبة لفهم الكبار وما أورده المؤلف بالنسبة لفهم..

الحضور: الصغار.

الصغار، ويتأيد قولنا السابق إن الفهم لا يرتبط بسنٍّ معينة. يقول ابن بطال: التفهم للعلم هو التفقه فيه، ولا يتم العلم إلا بالفهم، وكذلك قال علي- رضي الله عنه-:"والله ما عندنا إلا كتاب الله أو فهمٌ أعطيه رجلٌ مؤمن"، فجعل الفهم درجةً أخرى بعد حفظ كتاب الله؛ لأنه بالفهم تتبين المعاني والأحكام، وقد نفى- عليه السلام- العلم عمن لا فهم له، وقد نفى النبي- عليه الصلاة والسلام- العلم عمن لا فهم له بقوله: «رُبًّ حَامل فقهٍ لا فقهَ لهُ» إذًا غير فقيه، فدل على أن الذي لا يفهم ليس من أهل العلم، وقال مالك: ليس العلم بكثرة الرواية، وإنما هو نورٌ يضعه الله في القلوب، يعني بذلك فهم معانيه واستنباطها.

وأقول: لا شك أن الفهم مرتبةٌ تاليةٌ للحفظ؛ لأنه قد يقال مثل هذا الكلام؛ للتقليل من شأن الحفظ. أقول: لا شك أن الفهم مرتبة تالية للحفظ، فلا علم ولا فقه بدون حفظ للنصوص من الكتاب والسُّنة، فكم من عبقري في عوام المسلمين حاد الفهم، لكن لم يكن له رصيد من محفوظ النصوص لم يستفد من هذا الفهم المجرد؛ لئلا يفهم من الكلام السابق أن الحفظ لا قيمة له، بل الأصل هو الحفظ، والفهم تابعٌ له إن وجد محفوظ يفاد منه نعم يأتي الفهم. فالحفظ أمرٌ لا بد منه لمن أراد العلم الشرعي، ويليه بعد ذلك الفهم، فلا يكفي مجرد الحفظ دون فهمٍ لما يحفظ، ولذلك قال بعضهم في حق شخصٍ حفظ كتابًا دون فهم قال: زاد في البلد نسخة، فإذا لم يفهم النصوص فإنه لا يستطيع الاستنباط منها، وعلى هذا فالفهم مع الحفظ هما ركنا التحصيل، فإذا توجا بالإخلاص والتقوى كمل الأمر بإذن الله- جل وعلا-.

الأخ الحاضر: أيهما يسبق الأول؟ بمعنى هل الصغير يلزم أن يفهم كل شيء، ولا يكفي أن الصغير يستغل فترته في الصغر فنعطيه أكبر قدرٍ ممكن من المحفوظات، ومن ثم نبدأ نشرح له ونفهمه هذه المحفوظات؟ يعني هذه قضية الآن تثار تربويًّا.

لا شك أن الصغر أقوى في الحفظ، وأقل في الفهم، فيستغل هذا السن في الحفظ؛ ليكون لديه رصيد محفوظ إذا كبر وصعب عليه الحفظ، يكون قد ضمن الحفظ، وتسنى له الفهم؛ ولذا يبادر بالصغير بحفظ العلوم، حفظ المتون ولو لم يفهم لا يلزم أن يكون يفهم كل ما يقرأ، أو يحفظ إنما يبادر بحفظه؛ لأن التعلم في الصغر والمقصود به الحفظ، أكبر قدر مما يمكن حفظه لا شك أنه كالنقش في الحجر، لا ينسى، وهذا شيءٌ يحس به جميع الناس، آحاد طلاب المتعلمين قد يذكر أشياء تعلمها أيام الصبا، ولا يذكر أشياء تعلمها بعد ذلك، يعني هل ذكر طالب العلم المتخرج في كلية شرعية مثلًا درسًا في المعاهد العلمية، ثم في كلية الشريعة وفي أصول الدين أو في غيرها في الكليات الشرعية، هل يذكر من العلوم ما درسه في الكلية مثل ما درسه في المعهد؟

أحد الحضور: ......

لا شك أن ما درسه في المعهد هو الذي على البال، ينمى هذا العلم، يفهم هذا العلم من جديد، يزاد عليه، لكن الأصل الباقي هو ما تعلمه في الصغر؛ ولذا الحافظة تضعف شيئًا فشيئًا كغيرها من القوى، وهذا أمر معتبر عند عامة أهل العلم، ولم يشذ عن قولهم إلا الماوردي في أدب الدنيا والدين، يقرر أن الحافظة هي هي، لا تتغير عند كبير ولا صغير، لا تزيد ولا تنقص، لكن الذي يجعل الكبير لا يحفظ الشواغل والصوارف، لكن هذا أمرٌ يدركه الناس كلهم أن الحافظة قوة من هذه القوى، تضعف كضعف البصر وضعف السمع وضعف جميع القوى، إضافةً إلى المؤثرات الخارجية، أمرٌ مهمُّ جدًّا لمن أراد ثبات العلم هو العمل به، فالعمل أهم وسائل تثبيت العلم، ولابد أن يكون طالب العلم قبل ذلك مخلصًا في طلبه متقيًا لربه؛ لأن العلم الشرعي من أمور الآخرة، وأمور الآخرة مما يبتغى بها وجه الله- جلَّ وعلا-، لابد أن تكون خالصة لله- جلَّ وعلا-؛ لأن شرط القبول الأول الإخلاص.

المقدم: نعم.

ومع ذلك لابد أن يكون متقيًا لربه {وَاتَّقُوا اللَّهَ..} [سورة البقرة:282].

المقدم: {وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [سورة البقرة:282].

{وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [سورة البقرة:282]، وعلى هذا من ارتكب المخالفات، وينتهك المحرمات، ويطلب العلم قل أن يفلح، وإذا أدرك شيئًا من المحفوظ أو من المعلوم فإنه في الحقيقة لا يُسمى علمًا؛ لأن العلم إنما هو ما نفع، ويشير إلى ذلك الحديث المشهور، ما هو؟ «يحمل هذا العلم من كل خلفٍ عدوله»، والمرجح في معناه أنه أمر وحث للعدول بحمل العلم وعدم ترك المجال لغيرهم من الفساق، أيضًا يشير إلى ذلك قوله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ} [سورة النساء:17].

المقدم: { لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} [سورة النساء:17].

{بِجَهَالَةٍ} [سورة النساء: 17] يقرر أهل العلم أن كل من عصى الله فهو جاهل، وإلا فالأمر خطير، إذا كان لا يعذر ولا تقبل توبة إلا الجهال، فالعلماء إذا وقعوا في مخالفات فهذا أمرٌ مشكل جدًّا، لكن يخرج أهل العلم من هذا الإشكال بقولهم: إن كل من عصى الله فهو ماذا؟

المقدم: جاهل.

جاهل. إذًا العلم ينافي الجهل، والجهل يساوي المعصية. إذا كانت المعصية جهلًا، كل من عصى الله فهو جاهل، إذًا المعصية عدم علم، فلا يكون العاصي عالمًا بحاله. قد ينظر الإنسان إلى بعض الناس ممن يرتكب المخالفات، وعنده شيءٌ من العلم، يصدر الناس عن فتواه، لكن هذا ليس بعلم في الحقيقة، وإن كان علمًا بمعنى محفوظ أو ترتيب مقدمات على نتائج وإخبار به، لكن مثل هذا العلم هو في الحقيقة ليس بعلم؛ لأن العلم إنما يُقصد به العلم المورث للخشية، العلم الشرعي المورث لخشية الله -جل وعلا-، أما العلم الذي لا يورث الخشية فليس بعلم، ولذا يقول الله- جلَّ وعلا-: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [سورة فاطر:28].

 ثم قال ابن بطال: فمن أراد التفهم فليحضر خاطره، ويفرغ ذهنه، وينظر إلى نشاط الكلام، ومخرج الخطاب، ويتدبر اتصاله بما قبله وانفصاله منه، ثم يسأل ربه- لا يستغني عن ربه، لا يعتمد على حفظ ولا على فهم- ثم يسأل ربه أن يلهمه إلى إصابة المعنى، ولا يتم ذلك إلا من علم كلام العرب. يسأل ربه أن يلهمه إلى إصابة المعنى، في دعاء الاستفتاح في صلاة الليل اهدني.

المقدم: «لما اختلف فيه من الحق».

«لما اختلف فيه من الحق بإذنك». {رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [سورة طه:114].

المقدم: {عِلْمًا} [سورة طه:114].

علمًا كما أمر الله- جلَّ وعلا- نبيه- عليه الصلاة والسلام-، ثم يسأل ربه أن يلهمه إلى إصابة المعنى، ولا يتم ذلك إلا لمن علم كلام العرب. وهذا يجرنا إلى الحديث عن الاهتمام بالعربية. 

يقول: ولا يتم ذلك إلا لمن علم كلام العرب، ووقف على أغراضها في تخاطبها، وأُيد بجودة قريحة، وثاقب ذهن، ألا ترى أن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- فهم من نشاط الحديث- نشاط الحديث هو القرائن المحتفة به- فهم من نشاط الحديث بنفس القصة أن الشجرة هي النخلة لسؤاله- عليه الصلاة والسلام- عنها حين أوتي بالجمار، هذا قرينة على المراد، وقوي ذلك عنده بقوله: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} [سورة إبراهيم:24].

 وصدق -رحمه الله-  في وصيته، أقول، وصدق- رحمه الله- في وصيته في فهم كلام العرب، وذلك بالعناية بفنون العربية كلها؛ لأن القرآن بلسان العرب {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [سورة الشعراء:195]، والنبي- عليه الصلاة والسلام- عربي، فالنصوص المعتمد عليها في العلم الشرعي عربية، فلا يتم فهمها بغير هذه الطريقة، فيقرأ في النحو والصرف والمعاني والبيان والبديع وفقه اللغة، ومتن اللغة، والعروض، وغيرها من فنون العربية ما يعينه على فهم النصوص، فيحفظ الطالب من كتاب مختصر في كل فن، ويقرأ عليه الشروح، ويحضر الدروس، ويفرغ الأشرطة، ويراجع المطولات عند الحاجة، ويسأل عما يشكل عليه، بهذه الطريقة يستفيد بإذن الله.

المقدم: أحسن الله إليكم ونفع بعلمكم، ونسأل الله تعالى أن يفقهنا وإياكم في دينه، ويعلمنا ما ينفعنا، وينفعنا بما علمنا ويزيدنا وإياكم علمًا وعملًا، إنه جواد كريم.

أيها الإخوة والأخوات بهذا نصل وإيَّاكم إلى ختام هذه الحلقة في برنامجكم: "شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح".

لقاؤنا بكم بإذن الله تعالى في حلقةٍ قادمة؛ لنستكمل قراءة أبواب هذا الكتاب بإذن الله، وأنتم على خير.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.