التعليق على تفسير القرطبي - سورة ص (05)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

 قال الإمام القرطبي-رحمه الله تعالى-: "قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ}[سورة ص: 26].

فِيهِ خَمْسُ مَسَائِلَ:

الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ} أَيْ مَلَّكْنَاكَ لِتَأْمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، فَتَخْلُفُ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَئِمَّةِ الصَّالِحِينَ. وَقَدْ مَضَى فِي [الْبَقَرَةِ] الْقَوْلُ فِي الْخَلِيفَةِ وَأَحْكَامِهِ مُسْتَوْفًى، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ.

الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} أَيْ بِالْعَدْلِ، وَهُوَ أَمْرٌ عَلَى الْوُجُوبِ، وَقَدِ ارْتَبَطَ هَذَا بِمَا قَبْلَهُ، وَذَلِكَ أَنَّ الَّذِي عُوتِبَ عَلَيْهِ دَاوُدُ طَلَبُهُ الْمَرْأَةَ مِنْ زَوْجِهَا وَلَيْسَ ذَلِكَ بِعَدْلٍ. فَقِيلَ لَهُ بَعْدَ هَذَا: {فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْعَدْلِ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى}".

هذا ما ذكره المفسر مبني على ما تقدم ذكره من الإسرائيليات التي ذكرها وذكرها غيره بأطول مما ذكرها مما لا يليق بمقامه- عليه السلام-، ولكن هذا تقرير له ولغيره ممن يأتي بعده ممن يخلف من قبله في الحكم بين الناس أن يعدل بينهم: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا}[النساء:58]؛ العدل لا بد منه، ولا تقوم أمور الناس إلا به.

"{وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى} أَيْ لَا تَقْتَدِ بِهَوَاكَ الْمُخَالِفِ لِأَمْرِ اللَّهِ. {فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} أَيْ عَنْ طَرِيقِ الْجَنَّةِ. {إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}".

هذا يدل على أن الهوى مذموم، ورود الهوى في النصوص وروده لاسيما نصوص الكتاب والسنة كلها تدل على أنه مذموم، وأنه إنما يُذكر في مقابل الحق، وفي مقابل سبيل الله بل هو عدول عن سبيل الله، وعن طريق الجنة.

"{إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} أَيْ يَحِيدُونَ عَنْهَا وَيَتْرُكُونَهَا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ فِي النَّارِ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ أَيْ بِمَا تَرَكُوا مِنْ سُلُوكِ طَرِيقِ اللَّهِ، فَقَوْلُهُ: {نَسُوا} أَيْ: تَرَكُوا الْإِيمَانَ بِهِ، أَوْ تَرَكُوا الْعَمَلَ بِهِ فَصَارُوا كَالنَّاسِينَ".

هذا كما في قوله الله تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ}[التوبة:67] أي تركوا أوامره ونواهيه فنسيهم أي تركهم في العذاب نسأل الله العافية.

"ثُمَّ قِيلَ: هَذَا لِدَاوُدَ لَمَّا أَكْرَمَهُ اللَّهُ بِالنُّبُوَّةِ".

يعني من أول الأمر قيل له هذا الكلام.

"وَقِيلَ: بَعْدَ أَنْ تَابَ عَلَيْهِ وَغَفَرَ خَطِيئَتَهُ".

يعني مما وقع منه مما يخالف مما هو خلاف الأولى، مما هو خلاف الأولى.

"الثَّالِثَةُ: الْأَصْلُ فِي الْأَقْضِيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ}، وَقَوْلُهُ: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ}، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ}، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} الْآيَةَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ.

الرَّابِعَةُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} قَالَ: إِنِ ارْتَفَعَ لَكَ الْخَصْمَانِ فَكَانَ لَكَ فِي أَحَدِهِمَا هَوًى، فَلَا تَشْتَهِ فِي نَفْسِكَ الْحَقَّ لَهُ لِيَفْلُجَ عَلَى صَاحِبِهِ، فَإِنْ فَعَلْتَ مَحَوْتُ اسْمَكَ مِنْ نُبُوَّتِي، ثُمَّ لَا تَكُونُ خَلِيفَتِي وَلَا أَهْلَ كَرَامَتِي. فَدَلَّ هَذَا عَلَى بَيَانِ وُجُوبِ الْحُكْمِ بِالْحَقِّ، وَأَلَّا يَمِيلَ إِلَى أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ لِقَرَابَةٍ أَوْ رَجَاءِ نَفْعٍ، أَوْ سَبَبٍ يَقْتَضِي الْمَيْلَ مِنْ صُحْبَةٍ أَوَ صَدَاقَةٍ، أَوْ غَيْرِهِمَا".

مجرد الميل إلى أحد الخصمين لا شك أن هذا حيدٌ عن الصراط المستقيم، وميلٌ عن العدل، وهو محرم، هذا إذا ظهر على التصرفات، والأفعال، وإذا كان بمجرد القلب يتمنى أن يكون الحق لفلان بالقلب، مع أن المقدمات التي استعملها القاضي شرعية، والنتائج شرعية، يتمنى أن يكون الحق لزيد؛ لأن بينه وبينه مودة، دون عمرو؛ لأنه بينه وبينه خصومة، أو ملاحاة أو مشاحنة، وهذا مجرد تمني بالقلب. المفسر فيما ذكره عن ابن عباس يدخل هذا، يدخل هذا، فإذا جاء الخصوم إلى القاضي يكون بالنسبة لهما على حد سواء، لا يتمنى الحق لهذا ولا لهذا، ولا شك أن التمني وإن كان من أعمال القلب إلا أن له أثرًا فيما يظهر، ولو في انبساط الوجه، له أثر. قاضٍ من كبار القضاة في عصرنا كان القضاء في البيوت في بيت القاضي، فكانت الخصومة بين صهره وبين شخص آخر، جاء صهره فدخل إلى البيت من الباب الخلفي من باب النساء؛ لأن الذي في البيت بنته، محارمه، وجاء الخصم الآخر من باب الرجال، فأحس القاضي وقال: من أين دخلت يا فلان؟ قال: من الباب الفلاني، قال له: اليوم سلام وغدًا قضاء، ادخل مع صاحبك.

فلا بد من تحري مثل هذه الأمور، ولا بد أن ينتفي جميع ما في نفوس الخصوم، لو يحس الخصم بأدنى تصرف أن بينك وبين خصمه علاقة، أو ودًّا، أو شيئًا من هذا، لصار في نفسه شيء على القاضي، وعلى حكمه الذي هو في الغالب حكم الله -جل وعلا- هذا هو الأصل، فلا بد أن يرتفع جميع ما يميز أحد الخصمين على  الآخر، وقضايا الصحابة في هذا كثيرة، حتى منهم من الخلفاء من الأئمة صارت له خصومة وصار هو وخصمه الذي قد يكون غير مسلم، لا بد أن يكون بين يدي القاضي على حد سواء.

 قد يقول قائل: إن مجرد الميل القلبي هذا لا يُملك كما هو الشأن في معاملة النساء؛ «اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما لا أملك»، يعني مجرد أن يتمنى أن يكون الحق لفلان يدخل في قوله: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى}؟ {فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} فإذًا هذا لا شك أنه من أعمال القلوب التي هي في الغالب إذا لم يترتب عليها آثارها ولم تتردد في النفس وتستصحب في القضية من أولها إلى آخرها، فإن هذا معفو عنه؛ لأن هذا لا يكاد يسلم منه أحد.

 قد يقول قائل: الحسد عمل قلبي ويؤاخذ عليه! ولا شك أن الله -جل وعلا- تجاوز لأمة محمد ما حدَّثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل، وهذا من هذا النوع إلا إذا طال، وارتفع عن مرتبة مجرد حديث النفس فإن هذا يؤاخذ عليه.

القاضي شُريح من مشاهير القضاة في الإسلام جاءه ولده له خصومة مع قوم، لكن هل يقبل القاضي قضية أحد طرفيها أصله، أو فرعه، أو نقول: لا يقبل كالشهادة؟

تقبلون يا شيخ؟

طالب: لا

نعم، لا شك أنه يتهم كالشهادة، جاء هذا الولد ولد القاضي شريح إلى أبيه، وقال: إن لي خصومة مع بني فلان، وأريد أن أعرضها عليك، لتنظر فيها، فإن كان الحق لي تابعت القضية وأحضرتهم، وإن كان الحق لهم تركت؛ لئلا أتعب وأتعبهم، فقال: اعرض، عرض القضية على أبيه فقال: الحق لك، الحق لك، فلما أحضرهم ونظر القاضي في القضية حكم لهم عليه. فقال له ولده: قلت لك قبل كان الحق لهم فلماذا أتعبهم وأتعب معهم وأحضرهم؟ نتركهم من البداية، وإن كان الحق لي أحضرتهم فقلت: إن الحق لك، فقال: قلت: إن الحق لك لتحضرهم، وتنتهي من عندي، ولو قلت: إن الحق لهم ذهبت لتصالحهم ولو على جزء يسير.

 ناس يدفعون العناء والتعب والمشاكل، بالمال ولو كان من غير حق، يعني لو يجيء شخص ويقول: إنك مطالب بكذا ويتهمك بشيء ولا بد أن تمثل عند القاضي أو أرفع أمرك إلى ولي الأمر، فتدفع عن نفسك، ولو تعرف أنك برئ مئة بالمئة تدفع عن نفسك بالشيء اليسير، ألا يحصل هذا؟ يقول: يمكن لو قلت: إن الحق لهم صالحتهم ولو على شيء يسير. فالآن لا تستطيع أن تأخذ منهم شيئًا.

فالعدل لا بد من تحققه، العدل مطلوب من كل أحد، كان السلف لا يقبلون هذا المنصب لتبعاته، ولا يوجد هناك أيضًا أعمال يخاف من الجور فيها والميل في عهدهم، إلا إمام أعظم وقاضٍ أو نواب وأعوان، الآن جميع الوظائف فيها العدل، وفيها الجور، والذي يهرب من القضاء، ويقع فيما هو شر منه هذا موجود باعتبار أن هذا ذُكِر فيه عن السلف ما ذُكر، قد يترك القضاء ويذهب إلى الجمارك مثلًا أو إلى مؤسسات أخرى فيها من الشبهات ما فيها، ومع أن فيها أيضًا ما يمكن من تحقيق العدل أو عدمه، يعني فيها ما في القضاء وزيادة، ولا شك أن هذا فساد في التصور، يعني كثير من الناس يهرب من القضاء؛ لما سمع فيه من كلام السلف ومن الأحاديث ومن النصوص والأمر بالعدل، وقد يتهم نفسه بعدم تحقق هذا الوصف، ثم يذهب إلى مكان فيه ما في القضاء وزيادة. لأنه لم يرد فيه نص بعينه، الله المستعان. المدرس بين طلابه قاضٍ لا بد أن يعدل، لا بد أن يعدل، وقل مثل هذا في سائر الوظائف.

"وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّمَا ابْتُلِيَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-؛ لِأَنَّهُ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ خَصْمَانِ فَهَوِيَ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ لِأَحَدِهِمَا. وَقَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي رَوَّادٍ: بَلَغَنِي أَنَّ قَاضِيًا كَانَ فِي زَمَنِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، بَلَغَ مِنِ اجْتِهَادِهِ أَنْ طَلَبَ إِلَى رَبِّهِ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ عَلْمًا، إِذَا هُوَ قَضَى بِالْحَقِّ عَرَفَ ذَلِكَ، وَإِذَا هُوَ قَصَّرَ عَرَفَ ذَلِكَ، فَقِيلَ لَهُ: ادْخُلْ مَنْزِلَكَ، ثُمَّ مُدَّ يَدَكَ فِي جِدَارِكَ، ثُمَّ انْظُرْ حَيْثُ تَبْلُغُ أَصَابِعُكَ مِنَ الْجِدَارِ فَاخْطُطْ عِنْدَهَا خَطًّا، فَإِذَا أَنْتَ قُمْتَ مِنْ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ، فَارْجِعْ إِلَى ذَلِكَ الْخَطِّ فَامْدُدْ يَدَكَ إِلَيْهِ، فَإِنَّكَ مَتَى مَا كُنْتَ عَلَى الْحَقِّ فَإِنَّكَ سَتَبْلُغُهُ، وَإِنْ قَصَّرْتَ عَنِ الْحَقِّ قَصَّرَ بِكَ، فَكَانَ يَغْدُو إِلَى الْقَضَاءِ وَهُوَ مُجْتَهِدٌ، فَكَانَ لَا يَقْضِي إِلَّا بِحَقٍّ، وَإِذَا قَامَ مِنْ مَجْلِسِهِ وَفَرَغَ لَمْ يَذُقْ طَعَامًا وَلَا شَرَابًا، وَلَمْ يُفْضِ إِلَى أَهْلِهِ بِشَيْءٍ مِنَ الْأُمُورِ حَتَّى يَأْتِيَ ذَلِكَ الْخَطَّ، فَإِذَا بَلَغَهُ حَمِدَ اللَّهَ، وَأَفْضَى إِلَى كُلِّ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُ مِنْ أَهْلٍ أَوْ مَطْعَمٍ أَوْ مَشْرَبٍ. فَلَمَّا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ وَهُوَ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ، أَقْبَلَ إِلَيْهِ رَجُلَانِ يُرِيدَانِهِ: فَوَقَعَ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُمَا يُرِيدَانِ أَنْ يَخْتَصِمَا إِلَيْهِ، وَكَانَ أَحَدُهُمَا لَهُ صَدِيقًا وَخِدْنًا، فَتَحَرَّكَ قَلْبُهُ عَلَيْهِ؛ مَحَبَّةً أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ لَهُ فَيَقْضِيَ لَهُ، فَلَمَّا أَنْ تَكَلَّمَا دَارَ الْحَقُّ عَلَى صَاحِبِهِ فَقَضَى عَلَيْهِ، فَلَمَّا قَامَ مِنْ مَجْلِسِهِ ذَهَبَ إِلَى خَطِّهِ كَمَا كَانَ يَذْهَبُ كُلَّ يَوْمٍ، فَمَدَّ يَدَهُ إِلَى الْخَطِّ فَإِذَا الْخَطُّ قَدْ ذَهَبَ وَتَشَمَّرَ إِلَى السَّقْفِ، وَإِذَا هُوَ لَا يَبْلُغُهُ، فَخَرَّ سَاجِدًا وَهُوَ يَقُولُ: يَا رَبِّ شَيْئًا لَمْ أَتَعَمَّدْهُ وَلَمْ أُرِدْهُ، فَبَيِّنِهِ لِي. فَقِيلَ لَهُ: أَتَحْسَبَنَّ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى خِيَانَةِ قَلْبِكَ، حَيْثُ أَحْبَبْتَ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ لِصَدِيقِكَ؛ لِتَقْضِيَ لَهُ بِهِ، قَدْ أَرَدْتَهُ وَأَحْبَبْتَهُ، وَلَكِنَّ اللَّهَ قَدْ رَدَّ الْحَقَّ إِلَى أَهْلِهِ وَأَنْتَ كَارِهٌ".

هذه قصة إسرائيلية مما جاء عن بني إسرائيل والله أعلم بثبوتها.

"وَعَنْ لَيْثٍ قَالَ: تَقَدَّمَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ خَصْمَانِ فَأَقَامَهُمَا، ثُمَّ عَادَا فَأَقَامَهُمَا، ثُمَّ عَادَا فَفَصَلَ بَيْنَهُمَا، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: تَقَدَّمَا إِلَيَّ فَوَجَدْتُ لِأَحَدِهِمَا مَا لَمْ أَجِدْ لِصَاحِبِهِ، فَكَرِهْتُ أَنْ أَفْصِلَ بَيْنَهُمَا عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ عَادَا فَوَجَدْتُ بَعْضَ ذَلِكَ لَهُ، ثُمَّ عَادَا وَقَدْ ذَهَبَ ذَلِكَ فَفَصَلْتُ بَيْنَهُمَا. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: كَانَ بَيْنَ عُمَرَ وَأُبَيٍّ خُصُومَةٌ، فَتَقَاضَيَا".

قد يُسلك مثل هذا المسلك لما كانت الأمور متيسرة، القرية الواحدة، والبلدة الواحدة، يأتي إلى محل القضاء ويرجع إلى اليوم أو الغد، ما فيه إشكال عندهم، لكن إذا كان يتكلف الأموال إذا أعيد ثم يأتي ثانية وثالثة، ويعاد كل هذا من أجل شيء في نفس القاضي، لا شك أن هذا تعذيب لهؤلاء الخصوم، فعلى الإنسان أن يستصحب العدل ويقصده وينويه، وإذا جلس بن يديه إن وجد مثل هذا لا يكون له أثر في القضاء، ولا يستمر معه ولا يضره إن شاء الله تعالى. لاسيما في ظروفنا لو أرجع الخصوم بمثل هذه الأعذار لو أرجع الخصوم مع كثرة القضايا وقلة القضاة، وكثرة الحيل، ومجيء بعض الناس من مكان بعيد شُقة عليهم.

"وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: كَانَ بَيْنَ عُمَرَ وَأُبَيٍّ خُصُومَةٌ، فَتَقَاضَيَا إِلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، فَلَمَّا دَخَلَا عَلَيْهِ أَشَارَ لِعُمَرَ إِلَى وِسَادَتِهِ، فَقَالَ عُمَرُ: هَذَا أَوَّلُ جَوْرِكَ، أَجْلِسْنِي وَإِيَّاهُ مَجْلِسًا وَاحِدًا، فَجَلَسَا بَيْنَ يَدَيْهِ. الْخَامِسَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ تَمْنَعُ مِنْ حُكْمِ الْحَاكِمِ بِعِلْمِهِ؛ لِأَنَّ الْحُكَّامَ لَوْ مُكِّنُوا أَنْ يَحْكُمُوا بِعِلْمِهِمْ لَمْ يَشَأْ أَحَدُهُمْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَحْفَظَ وَلِيَّهُ وَيُهْلِكَ عَدُوَّهُ إِلَّا ادَّعَى عِلْمَهُ فِيمَا حَكَمَ بِهِ. وَنَحْوَ ذَلِكَ".

لو حكم القاضي بعلمه فالجمهور من أهل العلم على أنه ليس له ذلك، بل لا بد من أن يحكم بالبينات، بالبينات، «البينة على المدعي واليمين على من أنكر».

 ويذكر عن القاضي شريح أيضًا ذكره ابن حجر وغيره أنه يحكم بعلمه، فلما ادّعى المدعي ودفع المدعَى عليه، بدون بينة، ادعى المدعي ودفع المدعى عليه حكم لأحدهما، ولم يطلب بينة، قال الثاني: أين البينة؟ أريد بينة تثبت ما يدعيه، قال: شهد عليك ابن أخت خالتك، شهد عليك ابن أخت خالتك يعني نفسه، يعني نفسه، وهذا قد يلتبس ما يعلمه القاضي من حال المدعَى عليه، بما يعلمه القاضي من إقرار المدعَى عليه، يعني فرق بين هذا وهذا. بين أن يعلم بقرائن أو بفلتة لم تُقصد، وبين أن يكون المدعَى عليه مقرًّا ومعترفًا، حينئذٍ يحكم عليه بهذا الاعتراف، لكن إذا فهم القاضي من القضية، أو كان عنده سابق علم بها لما يتداول في مجالس أو إقرار خارج مجلس القضاء فإنه لا يجوز له أن يحكم به.

طالب: ما الفرق بين العلمين إذا كان القاضي يعلم أن هذا على حق، وإذا أتى علم آخر أن للخصم بينة فهذا علم وهذا علم، كيف يفرق بين العلمين؟

هذا مبني على البينة الشرعية مقدمة شرعية، والثاني مبني مجرد علم، أو ظن قد لا يصل إلى درجة العلم، وهو فيه متهم إذا لم يكن هناك بينة يتهم القاضي إذا حكم بعلمه. نعم يتهم.

طالب: إذا كان القاضي شاهدًا؟

يختلف حاله حينئذٍ لا يجوز أن يقضي، وسيأتي ما يدل عليه.

"رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ، قَالَ: لَوْ رَأَيْتُ رَجُلًا عَلَى حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ، مَا أَخَذْتُهُ حَتَّى يَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ غَيْرِي. وَرُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إِلَى عُمَرَ فَقَالَتْ لَهُ: احْكُمْ لِي عَلَى فُلَانٍ بِكَذَا، فَإِنَّكَ تَعْلَمُ مَا لِي عِنْدَهُ. فَقَالَ لَهَا: إِنْ أَرَدْتِ أَنْ أَشْهَدَ لَكِ فَنَعَمْ، وَأَمَّا الْحُكْمُ فَلَا. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَضَى بِيَمِينٍ وَشَاهِدٍ»، وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «أَنَّهُ اشْتَرَى فَرَسًا فَجَحَدَهُ الْبَائِعُ، فَلَمْ يَحْكُمْ عَلَيْهِ بِعِلْمِهِ وَقَالَ: مَنْ يَشْهَدُ لِي؟ فَقَامَ خُزَيْمَةُ فَشَهِدَ فَحَكَمَ». خَرَّجَ الْحَدِيثَ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ، وَقَدْ مَضَى فِي الْبَقَرَةِ".

واكتفى بشهادته بمفرده، وصار يُلقب بذي الشهادتين؛ لأن شهادته عن رجلين، إضافة إلى كونه لم يشهد القضية ولم يباشرها، كان غائبًا، إلا أن حجته اعتمدت على عصمة النبي -عليه الصلاة والسلام-، قال: «نصدقك فيما تأتي به من شرع، ولا نصدقك في قيمة فرس أو شيء من هذا من حطام الدنيا؟»، فأجاز النبي -عليه الصلاة والسلام- شهادته، وجعل شهادته عن رجلين.

طالب:..

يعني من أجل وسادة؟

طالب:.......

هذا قد يقال: إن خليفة المسلمين بحاجة لإكرام أكثر من غيره، أكثر من غيره، وأن له قدرًا في الشرع ليس لغيره، بل يُعامَل معاملة تختلف عن غيره، لكن في حال الخصومة لا، هم سواء.

طالب:.

لا يحكم بعلمه على أساس أنه بينة، قد يكون قرينة يستدل بها، أو يستجوب المدعى عليه وإذا اقتضى الأمر أن يضيق عليه شيء غير الحكم، مقدمات الحكم لا بأس لكن الحكم نفسه لا أثر لذلك.

طالب:...

يحكم بها، يحكم بها، ولو كان، والله -جل وعلا- سمى من يشهد على الزنا سماه كاذبًا حتى تكمل البينة مع أن شهادته مطابقة للواقع.

طالب: ......

الأرض، معلوم أن رسالته ليست لجميع الناس، لمن أُرسل إليهم، والملك كذلك.

طالب: ......

 لا؛ لأن الملك ليس بشامل ولا عام كما أن رسالته كذلك. الأرض التي بُعث فيها.

"خَرَّجَ الْحَدِيثَ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ، وَقَدْ مَضَى فِي الْبَقَرَةِ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا} أَيْ هَزْلًا وَلَعِبًا. أَيْ: مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا لِأَمْرٍ صَحِيحٍ وَهُوَ الدَّلَالَةُ عَلَى قُدْرَتِنَا. {ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} أَيْ حُسْبَانُ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ اللَّهَ خَلَقَهُمَا بَاطِلًا، {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} ثُمَّ وَبَّخَهُمْ فَقَالَ: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} وَالْمِيمُ صِلَةٌ".

الميم في أم، الأصل أن همزة الاستفهام بدون ميم: أنجعل.

"تَقْدِيرُهُ: أَنَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ فَكَانَ فِي هَذَا رَدٌّ عَلَى الْمُرْجِئَةِ؛ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُفْسِدُ كَالصَّالِحِ أَوْ أَرْفَعَ دَرَجَةً مِنْهُ. وَبَعْدَهُ أَيْضًا: نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ".

المرجئة الذين هم غلاتهم الذين يقولون: لا ينفع مع الكفر طاعة، ولا يضر مع الإيمان معصية، ويدَّعون ويزعمون أن إيمان أفجر الناس مثل إيمان جبريل، كيف يفعلون بمثل هذه الآيات؟

{أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ} هم عندهم سواء مفسد أو مصلح ما فيه فرق؛ لأن الإيمان لا يضر معه معصية، وإيمان أفجر الناس كإيمان جبريل، بمَ يجيبون عن مثل هذه الآيات؟ لا شك أن هذا ضلال، ومصادم للنصوص القطعية، ومصادم للعقل الصريح إضافة إلى النص الصريح.

"وَبَعْدَهُ أَيْضًا: نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ أَيْ أَنَجْعَلُ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- كَالْكُفَّارِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ".

وإذا كان هذا مذهب المرجئة فيمن هو في دائرة الإسلام، يعني ما يجعلون كافرًا مثل مسلم، لا، لا يجعلون الكافر مثل المسلم، لكن هناك من هم أكثر غلوًا منهم، أكثر غلوًا من هؤلاء المرجئة، غلاة الجهمية وأهل وحدة الوجود وغيرهم لا فرق بين كافر ومسلم، وفرعون مثل موسى ما فيه فرق بينهما. فرعون مثل موسى ما في فرق بينهم.

طالب:..

ماذا يقول؟

طالب: ......

من غير المسلمين؟ لا ينتسبون للإسلام؟

طالب:..

هم في الجملة يفرقون بين عاصٍ وكذا، لكن عندهم لوثة في أن هذا موحد من جهة يعترف بالله- جل وعلا-، وأن من قال: لا إله إلا الله وشهد ووحد الله، هذه لوثة، لكن القول المقرر المحقق عند أهل العلم أن من لم يكفِّر اليهود والنصارى فهو كافر، بل بعضهم ينقل الإجماع على ذلك. دعنا من هؤلاء، هذا سببه التأثر بالحضارات، والثقافات الوافدة، ومحاولة مسايرة الواقع، وعدم مصادمة الناس، كل هذا يدعو إلى مثل هذه الأمور سواء كانت في الأمور العظيمة أم اليسيرة. لكن عندك أهل وحدة الوجود الذين يقولون: إن إيمان فرعون مثل إيمان موسى، وأُلف في إيمان فرعون، أنه مؤمن؛ لأن لديه المعرفة بالله -جل وعلا- والمعرفة كافية. المعرفة كافية.

طالب: ......

عندهم لا بد أنه مؤمن؛ لأنه يعرف الله -جل وعلا-.

"وَقِيلَ: هُوَ عَامٌّ فِي الْمُسْلِمِينَ الْمُتَّقِينَ وَالْفُجَّارِ الْكَافِرِينَ، وَهُوَ أَحْسَنُ، وَهُوَ رَدٌّ عَلَى مُنْكِرِي الْبَعْثِ الَّذِينَ جَعَلُوا مَصِيرَ الْمُطِيعِ وَالْعَاصِي إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: {كِتَابٌ} أَيْ هَذَا كِتَابٌ {أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ} يَا مُحَمَّدُ {لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} أَيْ لِيَتَدَبَّرُوا، فَأُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الدَّالِ. وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ مَعْرِفَةِ مَعَانِي الْقُرْآنِ، وَدَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّرْتِيلَ أَفْضَلُ مِنَ الْهَذِّ".

إذا كانت الحكمة من إنزال القرآن التدبر، وقد جاء الأمر به وذم من تركه، في أربع آيات هذه إحداها، وفي النساء، وفي المؤمنون، وفي محمد، كلها تدل على التدبر، ويقترن بها ما يدل على ذم تارك التدبر {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}[محمد:24]، ولكن هذا لا يعني أن القراءة من غير تدبر ليست صحيحة، ولا يترتب أثرها عليها من أجل الحروف.

 التدبر له أجره، وقدره زائد على مجرد القراءة، وما جاء في الحث على قراءة القرآن، وأن بكل حرف عشر حسنات لا يلزم منه التدبر، فالأجر رتب على مجرد القراءة، والقرآن متعبد بتلاوته، إذا أضيف إلى ذلك ما أمر به من تدبر وترتيل فهذا قدر زائد وأجره أعظم بمراحل، أعظم بكثير من مجرد قراءة الحروف، وقد جاء عند أحمد والدارمي، ما يدل على الهذّ، «اقرأ وارتق كما كنت تقرأ في الدنيا هذًّا كان أو ترتيلًا» وهو بإسناد حسن لا بأس به، يدل على أن الأجر له أجره امتثال: «من قرأ القرآن كان له بكل حرف عشر حسنات، لا أقول: ألم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف»، هذا يدل على مجرد القراءة، ولو لم يصحبها التدبر، لكن القراءة على الوجه المأمور به من التدبر والترتيل، وعقل المعاني، ومراجعة ما يعين على ذلك لا شك أن هذا يورث من العلم الإيمان واليقين ما لا تورثه مجرد القراءة.

طالب:..

قد، قد مع المران مع المران، يحصل ذلك، وسمعنا من يبكي في قراءته وهو يقرأ الجزء في عشر دقائق، فقد يحصل هذا لبعض الناس، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، لكن يبقى أنه أخل بالترتيل المأمور به، فمع ذلك فعله ناقص لا يقال: إنه مثل من قرأ القرآن على الوجه المأمور به ولو بكى.

"إِذْ لَا يَصِحُّ التَّدَبُّرُ مَعَ الْهَذِّ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ التَّذْكَارِ".

التذكار في أفضل الأذكار الذي هو القرآن فيه مباحث تهم قارئ القرآن، للمفسر للقرطبي، مطبوع مرارًا ومتداول.

"وَقَالَ الْحَسَنُ: تَدَبُّرُ آيَاتِ اللَّهِ اتِّبَاعُهَا.

 وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ: "لِيَدَّبَّرُوا". وَقَرَأَ أَبُو جعفر وَشَيْبَةُ: "لِتَدَبَّرُوا" بِتَاءٍ وَتَخْفِيفِ الدَّالِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، وَالْأَصْلُ لِتَتَدَبَّرُوا، فَحُذِفَ إِحْدَى التَّاءَيْنِ تَخْفِيفًا، {وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} أَيْ أَصْحَابُ الْعُقُولِ، وَاحِدُهَا لُبٌّ، وَقَدْ جُمِعَ عَلَى أَلُبٍّ، كَمَا جُمِعَ بُؤْسٌ عَلَى أَبْؤُسٍ، وَنُعْمٍ عَلَى أَنْعُمٍ، قَالَ أَبُو طَالِبٍ:

قَلْبِي إِلَيْهِ مُشْرِفُ الْأَلُبِّ

وَرُبَّمَا أَظْهَرُوا التَّضْعِيفَ فِي ضَرُورَةِ الشِّعْرِ، قَالَ الْكُمَيْتُ:

إِلَيْكُمْ ذَوِي آلِ النَّبِيِّ تَطَلَّعَتْ
 

نَوَازِعُ مِنْ قَلْبِي ظِمَاءٌ وَأَلْبُبُ"
  

لكن الإدغام والفك منه ما تجيزه ضرورة الشعر، ومنه ما يجوز في سعة الكلام، ولو لم يكن هناك ضرورة: من يرتد ومن يرتدد جاء بهما أفصح الكلام بالفك والإدغام.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ}. لَمَّا ذَكَرَ دَاوُدَ ذَكَرَ سُلَيْمَانَ وَ{أَوَّابٌ} مَعْنَاهُ مُطِيعٌ. {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ} يَعْنِي الْخَيْلَ، جَمْعُ جَوَادٍ، لِلْفَرَسِ إِذَا كَانَ شَدِيدَ الْحَضَرِ".

يعني بعيد الغاية في العدو.

"كَمَا يُقَالُ لِلْإِنْسَانِ جَوَادٌ إِذَا كَانَ كَثِيرَ الْعَطِيَّةِ غَزِيرَهَا، يُقَالُ: قَوْمٌ أَجُوَادٌ وَخَيْلٌ جِيَادٌ، جَادَ الرَّجُلُ بِمَالِهِ يَجُودُ جُودًا فَهُوَ جَوَادٌ، وَقَوْمٌ جُودٌ مِثَالُ قَذَالٍ وَقُذُلٍ".  

والنبي -عليه الصلاة والسلام- أجود الناس، وكان أجود ما يكون، هذا الجود يتفاوت، وكان أجود ما يكون في رمضان -عليه الصلاة والسلام-.

"وَإِنَّمَا سُكِّنَتِ الْوَاوُ لِأَنَّهَا حَرْفُ عِلَّةٍ".

وإلا فالأصل أن يقال: قوم جود، الواو مضمومة مثل قذُل، لكن سكنت؛ لأنها حرف علة.

"وَأَجْوَادٌ وَأَجَاوِدُ وَجُوَدَاءُ، وَكَذَلِكَ امْرَأَةٌ جَوَادٌ وَنِسْوَةٌ جُودٌ مِثْلُ نَوَارٍ وَنُورٍ، قَالَ الشَّاعِرُ:

صَنَاعٌ بِإِشْفَاهَا حَصَانٌ بِشَكْرِهَا
 

جَوَادٌ بِقُوتِ الْبَطْنِ وَالْعِرْقُ زَاخِرُ"
 

جواد بإشفاه يعني تبذل الإشفا الذي هو ما تخصف به النعال وتقرظ، ومما يستفيد به الناس، وهذا مثل بذل الماعون وما يحتاج إليه من الأمور التي تستعار ويتداولها الناس فيما بينهم من غير أجرة، فهي تجود بها، ولا تحتاج إلى أجرة، حصان: يعني عفيفة، بشَكرِها: الذي هو الفرج، جواد بقوت البطن: يعني إذا كان عندها شيء يسير تأكله، فإذا طُلب منها تجود به أيضًا، كما حصل لعائشة -رضي الله عنها-، كانت صائمة وعندها رغيف، فطرق الباب سائل، فقالت للخادمة: أعطه إياه، قال: ما فيه غيره، أنت صائمة، قالت: «أعطيه إياه»، جواد بقوت البطن، في الموطأ تقول: «قبل أذان المغرب طرق الباب، من لم يعرف بهدية، يعني ما سبق أن أهدى لهم وأهدوا إليه، فإذا معه كبش حنيذ مكفن» اليقين بما في يد الله -جل وعلا-، ما عندها شيء تفطر عليه إلا هذا الرغيف فقالت: «أعطيه إياه» هذه جواد بقوت البطن.

"وَتَقُولُ: سِرْنَا عُقْبَةَ جَوَادًا. وَعُقْبَتَيْنِ جَوَادَيْنِ، وَعُقَبًا جِيَادًا. وَجَادَ الْفَرَسُ أَيْ: صَارَ رَائِعًا يَجُودُ جُودَةً بِالضَّمِّ فَهُوَ جَوَادٌ لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، مِنْ خَيْلٍ جِيَادٍ وَأَجْيَادَ وَأَجَاوِيدَ. وَقِيلَ: إِنَّهَا الطِّوَالُ الْأَعْنَاقِ مَأْخُوذٌ مِنَ الْجِيدِ وَهُوَ الْعُنُقُ؛ لِأَنَّ طُولَ الْأَعْنَاقِ فِي الْخَيْلِ مِنْ صِفَاتِ فَرَاهَتِهَا وَفِي الصَّافِنَاتِ أَيْضًا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ صُفُونَهَا قِيَامُهَا".

قيامها يعني مطلقًا على قوائمها الأربع، وقيل: قيامها على ثلاث قوائم.

" قَالَ الْقُتَبِيُّ وَالْفَرَّاءُ: الصَّافِنُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْوَاقِفُ مِنَ الْخَيْلِ أَوْ غَيْرِهَا. وَمِنْهُ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَقُومَ لَهُ الرِّجَالُ صُفُونًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» أَيْ: يُدِيمُونَ لَهُ الْقِيَامَ".

هذا اللفظ، يعني جاء في الحديث: «من سره أن يتمثل له الرجال قيامًا» أما من سره أن يقوم له الرجال صفونًا ما يعطي المعنى الذي في اللفظ الآخر؛ لأن الأول يدل على مجرد القيام، وهنا يدل على طول القيام، الصفون يكون من طول القيام فيرفع إحدى رجليه؛ ليستريح، يقف على أصابع إحدى رجليه، يقف على رجل، والثاني على أصابعها؛ ليريحها، ما أدري عن هذا اللفظ من رواه؟

طالب:..

والمعنى يختلف.

 "أَيْ: يُدِيمُونَ لَهُ الْقِيَامَ. حَكَاهُ قُطْرُبٌ أَيْضًا وَأَنْشَدَ قَوْلَ النَّابِغَةِ:

لَنَا قُبَّةٌ مَضْرُوبَةٌ بِفِنَائِهَا           عِتَاقُ الْمَهَارَى وَالْجِيَادُ الصَّوَافِنُ

 

وَهَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ.

الثَّانِي: أَنَّ صُفُونَهَا رَفْعُ إِحْدَى الْيَدَيْنِ عَلَى طَرَفِ الْحَافِرِ حَتَّى يَقُومَ عَلَى ثَلَاثٍ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:

أَلِفَ الصُّفُونَ فَمَا يَزَالُ كَأَنَّهُ
 

مِمَّا يَقُومُ عَلَى الثَّلَاثِ كَسِيرَا
  

وَقَالَ عَمْرُو بْنُ كُلْثُومٍ:

تَرَكْنَا الْخَيْلَ عَاكِفَةً عَلَيْهِ
 

مُقَلَّدَةً أَعِنَّتَهَا صُفُونَا
  

وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: غَزَا سُلَيْمَانُ أَهْلَ دِمَشْقَ وَنَصِيبِينَ فَأَصَابَ مِنْهُمْ أَلْفَ فَرَسٍ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: وَرِثَ سُلَيْمَانُ مِنْ أَبِيهِ دَاوُدَ أَلْفَ فَرَسٍ، وَكَانَ أَبُوهُ أَصَابَهَا مِنَ الْعَمَالِقَةِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: بَلَغَنِي أَنَّهَا كَانَتْ خَيْلًا خَرَجَتْ مِنَ الْبَحْرِ لَهَا أَجْنِحَةٌ. وَقَالَهُ الضَّحَّاكُ. وَأَنَّهَا كَانَتْ خَيْلًا أُخْرِجَتْ لِسُلَيْمَانَ مِنَ الْبَحْرِ مَنْقُوشَةً ذَاتَ أَجْنِحَةٍ. قال ابْنُ زَيْدٍ".

اتخذت عائشة -رضي الله عنها- فرسًا له جناحان، يعني من خشب، بناءً على أن سليمان -عليه السلام- عنده أفراس لها أجنحة، ليس معنى هذا في صنيع عائشة أنه فرس مصور تصويرًا دقيقًا يضاهي خلق الله -جل وعلا-، إنما هو مجرد خشبة معروضة على خشبة صنعت على هيئة فرس، وليس فيها تصوير دقيق، ولا شيء مما يدل على المضاهاة كما قالوا في لعب البنات.

"قال ابْنُ زَيْدٍ: أَخْرَجَ الشَّيْطَانُ لِسُلَيْمَانَ الْخَيْلَ مِنَ الْبَحْرِ مِنْ مُرُوجِ الْبَحْرِ، وَكَانَتْ لَهَا أَجْنِحَةٌ. وَكَذَلِكَ قَالَ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: كَانَتْ عِشْرِينَ فَرَسًا ذَوَاتِ أَجْنِحَةٍ. وَقِيلَ: كَانَتْ مِائَةَ فَرَسٍ. وَفِي الْخَبَرِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ: أَنَّهَا كَانَتْ عِشْرِينَ أَلْفًا، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.

 {فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ} عَنْ ذِكْرِ رَبِّي يَعْنِي بِالْخَيْرِ الْخَيْلَ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّيهَا كَذَلِكَ، وَتُعَاقِبُ بَيْنَ الرَّاءِ وَاللَّامِ، فَتَقُولُ: انْهَمَلَتِ الْعَيْنُ وَانْهَمَرَتْ، وَخَتَلَتْ وَخَتَرَتْ إِذَا خُدِعَتْ. قَالَ الْفَرَّاءُ: الْخَيْرُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَالْخَيْلُ وَاحِدٌ. قال النَّحَّاسُ: فِي الْحَدِيثِ: «الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»، فَكَأَنَّهَا سُمِّيَتْ خَيْرًا لِهَذَا. وَفِي الْحَدِيثِ: لَمَّا وَفَدَ زَيْدُ الْخَيْلِ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لَهُ: «أَنْتَ زَيْدُ الْخَيْرِ» وَهُوَ زَيْدُ بْنُ مُهَلْهِلٍ الشَّاعِرِ. وَقِيلَ: إِنَّمَا سُمِّيَتْ خَيْرًا؛ لِمَا فِيهَا مِنَ الْمَنَافِعِ. وَفِي الْخَبَرِ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَرَضَ عَلَى آدَمَ جَمِيعَ الدَّوَابِّ، وَقِيلَ لَهُ: اخْتَرْ مِنْهَا وَاحِدًا، فَاخْتَارَ الْفَرَسَ، فَقِيلَ لَهُ: اخْتَرْتَ عِزَّكَ، فَصَارَ اسْمُهُ الْخَيْرَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَسُمِّيَ خَيْلًا؛ لِأَنَّهَا مَوْسُومَةٌ بِالْعِزِّ. وَسُمِّيَ فَرَسًا؛ لِأَنَّهُ يَفْتَرِسُ مَسَافَاتِ الْجَوِّ افْتِرَاسَ الْأَسَدِ وَثَبَانًا، وَيَقْطَعُهَا كَالِالْتِهَامِ بِيَدَيْهِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ خَبْطًا وَتَنَاوُلًا. وَسُمِّيَ عَرَبِيًّا؛ لِأَنَّهُ جِيءَ بِهِ مِنْ بَعْدِ آدَمَ لِإِسْمَاعِيلَ جَزَاءً عَنْ رَفْعِ قَوَاعِدِ الْبَيْتِ، وَإِسْمَاعِيلُ عَرَبِيٌّ، فَصَارَتْ لَهُ نِحْلَةً مِنَ اللَّهِ، فَسُمِّيَ عَرَبِيًّا.

 وَ{حُبَّ} مَفْعُولٌ فِي قَوْلِ الْفَرَّاءِ. وَالْمَعْنَى إِنِّي آثَرْتُ حُبَّ الْخَيْرِ. وَغَيْرُهُ يُقَدِّرُهُ مَصْدَرًا، أُضِيفَ إِلَى الْمَفْعُولِ، أَيْ: أَحْبَبْتُ الْخَيْرَ حُبًّا فَأَلْهَانِي عَنْ ذِكْرِ رَبِّي. وَقِيلَ: إِنَّ مَعْنَى أَحْبَبْتُ: قَعَدْتُ وَتَأَخَّرْتُ، مِنْ قَوْلِهِمْ: أَحَبَّ الْبَعِيرَ إِذَا بَرَكَ وَتَأَخَّرَ. وَأَحَبَّ فُلَانٌ أَيْ: طَأْطَأَ رَأْسَهُ. وقَالَ أَبُو زَيْدٍ".

إذا برك وتأخر يقال له: خلا، خلأ البعير كما قالوا: خلأت القصواء، في مقابل قولهم: حرن الحمار، يعني قعد ورفض أن يمشي ويستجيب، تأخر عن غيره، فالبعير يقال له: خلأ، خلأت القصواء كما قالوا، فنفى النبي -عليه الصلاة والسلام- عنها ذلك، وقال: «ما خلأت، وليس ذلك لها بخلق» يعني لم تُعرف بهذا الخلق الذميم. وهنا يقول: أحب البعير إذا برك وتأخر.

"قَالَ أَبُو زَيْدٍ: يُقَالُ: بَعِيرٌ مُحِبٌّ، وَقَدْ أَحَبَّ إِحْبَابًا، وَهُوَ أَنْ يُصِيبَهُ مَرَضٌ أَوْ كَسْرٌ فَلَا يَبْرَحُ مَكَانَهُ حَتَّى يَبْرَأَ أَوْ يَمُوتَ".

ومن صفة المحب أنه يحب البقاء والمكث في المكان الذي فيه محبوبه، فإذا ارتحل الناس أحب أن يبقى في المكان، ويقيم فيه بعدهم، فالمناسبة بين هذه الألفاظ ظاهرة.

"وَقَالَ ثَعْلَبٌ: يُقَالُ أَيْضًا لِلْبَعِيرِ الْحَسِيرِ مُحِبٌّ، فَالْمَعْنَى قَعَدْتُ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي. وَ "حُبَّ" عَلَى هَذَا مَفْعُولٌ لَهُ. وَذَكَرَ أَبُو الْفَتْحِ الْهَمْدَانِيُّ فِي كِتَابِ التِّبْيَانِ: أَحْبَبْتُ بِمَعْنَى لَزِمْتُ، مِنْ قَوْلِهِ:

مِثْلُ بَعِيرِ السُّوءِ إِذْ أَحَبَّا

{حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} يَعْنِي الشَّمْسَ، كِنَايَةٌ عَنْ غَيْرِ مَذْكُورٍ، مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} أَيْ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ".

وإن لم يجد لها ذكر، الشمس ليس لها ذكر في الآيات السابقة، وكذلك الأرض ليس لها ذكر، تقدم قوله: {مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ}[فاطر:45].

"وَتَقُولُ الْعَرَبُ: هَاجَتْ بَارِدَةً أَيْ: هَاجَتِ الرِّيحُ بَارِدَةً. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} أَيْ: بَلَغَتِ النَّفْسُ الْحُلْقُومَ. وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ} وَلَمْ يَتَقَدَّمْ لِلنَّارِ ذِكْرٌ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّمَا يَجُوزُ الْإِضْمَارُ إِذَا جَرَى ذِكْرُ الشَّيْءِ أَوْ دَلِيلُ الذِّكْرِ، وَقَدْ جَرَى هَاهُنَا الدَّلِيلُ وَهُوَ قَوْلُهُ: {بِالْعَشِيِّ}. وَالْعَشِيُّ مَا بَعْدَ الزَّوَالِ، وَالتَّوَارِي الِاسْتِتَارُ عَنِ الْأَبْصَار".

يعني ما يعلمه السامع يجوز حذفه في لغة العرب، ما لا يحتاج فيه إلى استدلال، لغة العرب فيها الحذف، لكن لا يُحذف إلا ما لا يحتاج معه السامع إلى شيء آخر، مما يستدل به عليه، {تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} يعني الشمس، كل من يسمع هذا الكلام لا يحتاج إلى أن يبحث عن مرجع الضمير في {تَوَارَتْ}، فكأنها مذكورة، كأنه قال: حتى توارت الشمس بالحجاب.

"وَالْحِجَابُ جَبَلٌ أَخْضَرُ مُحِيطٌ بِالْخَلَائِقِ، قَالَهُ قَتَادَةُ وَكَعْبٌ. وَقِيلَ: هُوَ جَبَلُ قَافٍ. وَقِيلَ: جَبَلٌ دُونَ قَافٍ. وَالْحِجَابُ اللَّيْلُ، سُمِّيَ حِجَابًا؛ لِأَنَّهُ يَسْتُرُ مَا فِيهِ".

أما الجبل الأخضر وجبل قاف فكل هذا مما جاء عن بني إسرائيل، توارت يعني غابت واستترت لا تحتاج إلى جبل ولا إلى غير جبل، إذا غابت عن أنظار الناس وتوارت واستترت، وأقبل الليل من جهة وأدبر النهار من جهة، وأفطر الصائم خلاص غابت الشمس.

"وَقِيلَ: {حَتَّى تَوَارَتْ} أَيِ: الْخَيْلُ فِي الْمُسَابَقَةِ. وَذَلِكَ أَنَّ سُلَيْمَانَ كَانَ لَهُ مَيْدَانٌ مُسْتَدِيرٌ يُسَابِقُ فِيهِ بَيْنَ الْخَيْلِ، حَتَّى تَوَارَتْ عَنْهُ وَتَغِيبُ عَنْ عَيْنِهِ فِي الْمُسَابَقَةِ؛ لِأَنَّ الشَّمْسَ لَمْ يَجْرِ لَهَا ذِكْرٌ. وَذَكَرَ النَّحَّاسُ أَنَّ سُلَيْمَانَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- كَانَ فِي صَلَاةٍ فَجِيءَ إِلَيْهِ بِخَيْلٍ لِتُعْرَضَ عَلَيْهِ قَدْ غُنِمَتْ فَأَشَارَ بِيَدِهِ لِأَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي حَتَّى تَوَارَتِ الْخَيْلُ وَسَتَرَتْهَا جُدُرُ الْإِصْطَبْلَاتِ".

كأنه أشار إليه لأن تبعد عنه؛ لئلا تشغله في صلاته، وتوارت عنه لما أبعدت، وسترت بالجدران؛ ليقبل على صلاته.

"فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ قَالَ: {رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا} أَيْ: فَأَقْبَلَ يَمْسَحُهَا مَسْحًا".

لعله أقبل بمسحها، أو أقبل يمسحها.

"فَأَقْبَلَ يَمْسَحُهَا مَسْحًا، وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَقْبَلَ يَمْسَحُ سُوقَهَا وَأَعْنَاقَهَا بِيَدِهِ إِكْرَامًا مِنْهُ لَهَا، وَلِيُرِيَ أَنَّ الْجَلِيلَ لَا يَقْبُحُ أَنْ يَفْعَلَ مِثْلَ هَذَا بِخَيْلِهِ. وَقَالَ قَائِلُ هَذَا الْقَوْلِ: كَيْفَ يَقْتُلُهَا وَفِي ذَلِكَ إِفْسَادُ الْمَالِ وَمُعَاقَبَةُ مَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ؟ وَقِيلَ: الْمَسْحُ هَاهُنَا هُوَ الْقَطْعُ، أُذِنَ لَهُ فِي قَتْلِهَا".

هذا قول أكثر المفسرين، أنه قلتها، قتلها؛ لأنها شغلته عن صلاته وألهته حتى خرج وقتها، ولا يعني أنه قتلها وأهدرها، بل تصدق بلحمها؛ لأنها مما يؤكل، فما كان سببًا لمعصية، وهذا يحصل وحصل من السلف كثيرًا، إذا حصلت له معصية بسبب شيء تصدق به، إذا شغله عن عبادة أخرجه لله -جل وعلا-، وفي قصة وضع الحديث: «لا سبق إلا في خف، أو حافر، أو نصل» اللفظة الموضوعة: أو جناح؛ لأن الواضع هذا رأى المأمون يلعب بالحمام، فوضع له هذه اللفظة حتى تناسب الحمام، كذب على النبي -عليه الصلاة والسلام-، فالخليفة أمر بذبح الحمام؛ لأنه كُذب على النبي -عليه الصلاة والسلام- بسببها. ولا شك أن ما كان سببًا لمعصية فأقل الأحوال أن تكون كفارة هذه المعصية أن يتصدق بهذا الشيء، لكن في أحوال الناس وفي ظروفهم كثير مما يكون سببًا لارتكاب شيء من المحظور، أو ترك بعض الواجبات، فهل كل إنسان يؤمر أن يتصدق بما كان سببًا في ذلك؟

ذهب ليشتري متاعًا لأهله من السوق، وفي طريقه إلى السوق ذهابًا وإيابًا فاتته الصلاة، واشترى أنواعًا من الأغذية والأمتعة هل نقول: تصدق بها كفارة لما حصل منك؟ لا شك أن هذا كمال، هذا من باب الكمال، لكن لا يلزم كل أحد.

 ذهب طالب علم إلى مكتبة وفي طريقه أقيمت الصلاة، كان يشتري كتابًا ليحضر به درسًا، فلما اشترى الكتاب وجد أنه صلى الناس، ولم يدرك صلاة الجماعة؛ بسبب هذا الكتاب، هل نقول: ادفع هذا الكتاب؟ نقول: لو اشتريت نسختين وتصدقت بواحدة واستعملت الأخرى لا شك أن هذا طيب، لكن ما يلزم الصدقة بها، لا شك أن هذا من أنواع الكمال.

طالب:..

كيف يقتلها؟ يعني اعتراض.

طالب:..

يعني من تمام هذا القول الاستدراك على القول الثاني؛ لأنك لما تأتي بأقوال وتستدل لها وتريد الترجيح، أنت مع استدلالك للقول الذي تراه لا بد من أن تضعف القول الآخر.

"قَالَ الْحَسَنُ وَالْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: صَلَّى سُلَيْمَانُ الصَّلَاةَ الْأُولَى وَقَعَدَ عَلَى كُرْسِيِّهِ وَهِيَ تُعْرَضُ عَلَيْهِ، وَكَانَتْ أَلْفَ فَرَسٍ، فَعُرِضَ عَلَيْهِ مِنْهَا تِسْعُمِائَةٍ فَتَنَبَّهَ لِصَلَاةِ الْعَصْرِ، فَإِذَا الشَّمْسُ قَدْ غَرَبَتْ وَفَاتَتِ الصَّلَاةُ، وَلَمْ يُعْلَمْ بِذَلِكَ هَيْبَةً لَهُ فَاغْتَمَّ، فَقَالَ: رُدُّوهَا عَلَيَّ فَرُدَّتْ فَعَقَرَهَا بِالسَّيْفِ قُرْبَةً لِلَّهِ، وَبَقِيَ مِنْهَا مِائَةٌ، فَمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ مِنَ الْخَيْلِ الْعِتَاقِ الْيَوْمَ".

المئة التي لم تعرض عليه لأنها لم تكن سببًا في تفويت الصلاة.

"فَمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ مِنَ الْخَيْلِ الْعِتَاقِ الْيَوْمَ فَهِيَ مِنْ نَسْلِ تِلْكَ الْخَيْلِ".

يعني المئة. نعم.

"قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَقِيلَ: مَا كَانَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ صَلَاةُ الظُّهْرِ وَلَا صَلَاةُ الْعَصْرِ، بَلْ كَانَتْ تِلْكَ الصَّلَاةُ نَافِلَةً فَشُغِلَ عَنْهَا. وَكَانَ سُلَيْمَانُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- رَجُلًا مَهِيبًا، فَلَمْ يُذَكِّرْهُ أَحَدٌ مَا نَسِيَ مِنَ الْفَرْضِ أَوِ النَّفْلِ وَظَنُّوا التَّأَخُّرَ مُبَاحًا، فَتَذَكَّرَ سُلَيْمَانُ تِلْكَ الصَّلَاةَ الْفَائِتَةَ".

وإن كانوا يعرفون تحديد الأوقات، وسليمان لا شك أنه يوحى إليه، واحتمال أن يكون أوحي إليه بجواز تأخير الصلاة، كما في حديث ذي اليدين؛ «أقصرت الصلاة أم نسيت؟» يعرفون صلاة الظهر أو العصر أربع ركعات، والنبي -عليه الصلاة والسلام- ما صلى إلا ركعتين، والوقت وقت تشريع، فيحتمل أن تكون الصلاة قد قصرت، كما كانت في أول الأمر كانت الصلاة ركعتين ركعتين، «فأقرت صلاة السفر وزيد في الحضر» فاحتمال أن تكون في وقت التشريع ردت إلى أصلها ركعتين.

"وَقَالَ عَلَى سَبِيلِ التَّلَهُّفِ: إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي أَيْ: عَنِ الصَّلَاةِ، وَأَمَرَ بِرَدِّ الْأَفْرَاسِ إِلَيْهِ، وَأَمَرَ بِضَرْبِ عَرَاقِيبِهَا وَأَعْنَاقِهَا، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُعَاقَبَةً لِلْأَفْرَاسِ؛ إِذْ ذَبْحُ الْبَهَائِمِ جَائِزٌ إِذَا كَانَتْ مَأْكُولَةً، بَلْ عَاقَبَ نَفْسَهُ حَتَّى لَا تَشْغَلَهُ الْخَيْلُ بَعْدَ ذَلِكَ عَنِ الصَّلَاةِ. وَلَعَلَّهُ عَرْقَبَهَا؛ لِيَذْبَحَهَا فَحَبَسَهَا بِالْعَرْقَبَةِ عَنِ النِّفَارِ، ثُمَّ ذَبَحَهَا فِي الْحَالِ؛ لِيَتَصَدَّقَ بِلَحْمِهَا، أَوْ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ مُبَاحًا فِي شَرْعِهِ فَأَتْلَفَهَا لَمَّا شَغَلَتْهُ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، حَتَّى يَقْطَعَ عَنْ نَفْسِهِ مَا يَشْغَلُهُ عَنِ اللَّهِ، فَأَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَذَا، وَبَيَّنَ أَنَّهُ أَثَابَهُ بِأَنْ سَخَّرَ لَهُ الرِّيحَ".

لكن كونه مسح بسوقها أي عرقبها قبل أن يقتلها فيه شيء من التعذيب، وإن قالوا: إنه من أجل أن يحبسها؛ لكي لا تنفر، لكن لا شك أن هذا تعذيب، والله -جل وعلا- كتب الإحسان في كل شيء، ولا يمنع أن تكون هذه العرقبة بعد القتل بعد الذبح؛ يعني قطع رجليها قطعها أوصالًا ليتصدق بها بدءًا بعراقيبها إلى نهايتها، {مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ}[ص:33]، والواو لا تقتضي الترتيب.

طالب:..

لا يلزم أن يكون أوحي إليه، إنما قتلها وتخلص منها؛ لأنه شغلته، وليس إتلافًا للمال؛ لأنه تصدق بلحمها.

"وَبَيَّنَ أَنَّهُ أَثَابَهُ بِأَنْ سَخَّرَ لَهُ الرِّيحَ، فَكَانَ يَقْطَعُ عَلَيْهَا مِنَ الْمَسَافَةِ فِي يَوْمٍ مَا يَقْطَعُ مِثْلُهُ عَلَى الْخَيْلِ فِي شَهْرَيْنِ غُدُوًّا وَرَوَاحًا".

وقد يكون في شرعهم أن ما يخرج منه لله -جل وعلا- يجوز أن يكون من جهة الإتلاف وعدم الإفادة منه، كما هو شأن الغنائم، الغنائم قبل هذه الأمة تُجمع ثم تأتي نار فتحرقها.

 قد يقول قائل: هذا من إضاعة المال، فنقول: ليس من إضاعة النار فكل شرع له ما يخصه، فإذا كان هذا المال سببًا في تضييع حق، في تضييع واجب، في ارتكاب محظور، فالتوبة منه أن يتخلص منه، ولو إلى غير فائدة، وغير بدل ولو بإضاعته بالكلية في عهدهم، ما فيه ما يمنع من هذا.

طالب:..

ماذا؟

طالب:..

نعم بخير قد غنمت فأشار بيده، إنما الغنائم في وقتهم إنما تتلفها النار، وليست السيوف. وهل تحرق النار ذوات الأرواح أو لا تحرقها؟ يعني كما يقال بتحريق متاع الغال لا يحرق ما فيه روح.

"وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْهَاءَ فِي قَوْلِهِ: رُدُّوهَا عَلَيَّ لِلشَّمْسِ لَا لِلْخَيْلِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَأَلْتُ عَلِيًّا عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: مَا بَلَغَكَ فِيهَا؟ فَقُلْتُ: سَمِعْتُ كَعْبًا يَقُولُ: إِنَّ سُلَيْمَانَ لَمَّا اشْتَغَلَ بِعَرْضِ الْأَفْرَاسِ حَتَّى تَوَارَتِ الشَّمْسُ بِالْحِجَابِ وَفَاتَتْهُ الصَّلَاةُ، قَالَ: {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي} أَيْ: آثَرْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي الْآيَةَ رُدُّوهَا عَلَيَّ يَعْنِي الْأَفْرَاسَ، وَكَانَتْ أَرْبَعَ عَشْرَةَ، فَضَرَبَ سُوقَهَا وَأَعْنَاقَهَا بِالسَّيْفِ، وَأَنَّ اللَّهَ سَلَبَهُ مُلْكَهُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا؛ لِأَنَّهُ ظَلَمَ الْخَيْلَ. فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: كَذَبَ كَعْبٌ لَكِنَّ سُلَيْمَانُ اشْتَغَلَ بِعَرْضِ الْأَفْرَاسِ لِلْجِهَادِ حَتَّى تَوَارَتْ أَيْ: غَرَبَتِ الشَّمْسُ بِالْحِجَابِ، فَقَالَ بِأَمْرِ اللَّهِ لِلْمَلَائِكَةِ الْمُوَكَّلِينَ بِالشَّمْسِ: رُدُّوهَا يَعْنِي الشَّمْسَ، فَرَدُّوهَا حَتَّى صَلَّى الْعَصْرَ فِي وَقْتِهَا، وَأَنَّ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ لَا يَظْلِمُونَ لِأَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ.

 قُلْتُ: الْأَكْثَرُ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّ الَّتِي تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ هِيَ الشَّمْسُ، وَتَرَكَهَا؛ لِدَلَالَةِ السَّامِعِ عَلَيْهَا بِمَا ذُكِرَ مِمَّا يَرْتَبِطُ بِهَا وَيَتَعَلَّقُ بِذِكْرِهَا، حَسَبَ مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. وَكَثِيرًا مَا يُضْمِرُونَ الشَّمْسَ، قَالَ لَبِيَدٌ:  

حَتَّى إِذَا أَلْقَتْ يَدًا فِي كَافِرٍ
 

وَأَجَنَّ عَوْرَاتِ الثُّغُورِ ظَلَامُهَا
  

وَالْهَاءُ فِي رُدُّوهَا لِلْخَيْلِ، وَمَسْحُهَا قَالَ الزُّهْرِيُّ وَابْنُ كَيْسَانَ: كَانَ يَمْسَحُ سُوقَهَا وَأَعْنَاقَهَا، وَيَكْشِفُ الْغُبَارَ عَنْهَا حُبًّا لَهَا. وَقَالَه الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَابْنُ عَبَّاسٍ. وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رُئِيَ وَهُوَ يَمْسَحُ فَرَسَهُ بِرِدَائِهِ. وَقَالَ: «إِنِّي عُوتِبْتُ اللَّيْلَةَ فِي الْخَيْلِ» خَرَّجَهُ الْمُوَطَّأُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ مُرْسَلًا. وَهُوَ فِي غَيْرِ الْمُوَطَّأِ مُسْنَدٌ مُتَّصِلٌ عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَنَسٍ. وَقَدْ مَضَى فِي [الْأَنْفَالِ] قَوْلُهُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: «وَامْسَحُوا بِنَوَاصِيهَا وَأَكْفَالِهَا».

 وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ مَسَحَ أَعْنَاقَهَا وَسُوقَهَا بِالسُّيُوفِ.

قُلْتُ: وَقَدِ اسْتَدَلَّ الشِّبْلِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الصُّوفِيَّةِ فِي تَقْطِيعِ ثِيَابِهِمْ وَتَخْرِيقِهَا بِفِعْلِ سُلَيْمَانَ هَذَا. وَهُوَ اسْتِدْلَالٌ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُنْسَبَ إِلَى نَبِيٍّ مَعْصُومٍ أَنَّهُ فَعَلَ الْفَسَادَ. وَالْمُفَسِّرُونَ اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى الْآيَةِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: مَسَحَ عَلَى أَعْنَاقِهَا وَسُوقِهَا إِكْرَامًا لَهَا، وَقَالَ: أَنْتِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَهَذَا إِصْلَاحٌ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: عَرْقَبَهَا ثُمَّ ذَبَحَهَا، وَذَبْحُ الْخَيْلِ وَأَكْلُ لَحْمِهَا جَائِزٌ. وَقَدْ مَضَى فِي [النَّحْلِ] بَيَانُهُ. وَعَلَى هَذَا فَمَا فَعَلَ شَيْئًا عَلَيْهِ فِيهِ جُنَاحٌ. فَأَمَّا إِفْسَادُ ثَوْبٍ صَحِيحٍ لَا لِغَرَضٍ صَحِيحٍ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ".

لأنه إضاعة المال، وقد نهينا عن إضاعة المال، لكن لو كان عنده ثوب، واحتاج إلى لحاف يتغطى به، ولا يمكن استعمال هذا الثوب إلا بفتق خيوطه، فهذا ليس من باب الإفساد؛ لأن الغرض صحيح. وفي عصر من العصور أو في عصور متفرقة كانوا يخرقون الأكفان، إذا أرادوا كفن الميت خرقوه؛ لئلا يسرق؛ لأنه شاع بين اللصوص سرقة الأكفان، فهذا غرض صحيح. نعم.

"وَمِنَ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ فِي شَرِيعَةِ سُلَيْمَانَ جَوَازُ مَا فَعَلَ، وَلَا يَكُونُ فِي شَرْعِنَا. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّمَا فَعَلَ بِالْخَيْلِ مَا فَعَلَ بِإِبَاحَةِ اللَّهِ -جَلَّ وَعَزَّ- لَهُ ذَلِكَ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ مَسْحَهُ إِيَّاهَا وَسْمُهَا بِالْكَيِّ وَجَعْلُهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ ضُعِّفَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْ حَيْثُ إِنَّ السُّوقَ لَيْسَتْ بِمَحَلٍّ لِلْوَسْمِ بِحَالٍ.

وَقَدْ يُقَالُ: الْكَيُّ عَلَى السَّاقِ عُلَاطٌ، وَعَلَى الْعُنُقِ وِثَاقٌ. وَالَّذِي فِي الصِّحَاحِ لِلْجَوْهَرِيِّ: عَلَطَ الْبَعِيرَ عَلْطًا كَوَاهُ فِي عُنُقِهِ بِسِمَةِ الْعِلَاطِ. وَالْعِلَاطَانِ جَانِبَا الْعُنُقِ.

قُلْتُ: وَمَنْ قَالَ إِنَّ الْهَاءَ فِي رُدُّوهَا تَرْجِعُ لِلشَّمْسِ فَذَلِكَ مِنْ مُعْجِزَاتِهِ. وَقَدِ اتَّفَقَ مِثْلَ ذَلِكَ لِنَبِيِّنَا- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. خَرَّجَ الطَّحَاوِيُّ فِي مُشْكِلِ الْحَدِيثِ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ مِنْ طَرِيقَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يُوحَى إِلَيْهِ وَرَأْسُهُ فِي حِجْرِ عَلِيٍّ، فَلَمْ يُصَلِّ الْعَصْرَ حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «أَصَلَّيْتَ يَا عَلِيُّ قَالَ: لَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: اللَّهُمَّ إِنَّهُ كَانَ فِي طَاعَتِكَ وَطَاعَةِ رَسُولِكَ فَارْدُدْ عَلَيْهِ الشَّمْسَ». قَالَتْ أَسْمَاءُ: فَرَأَيْتُهَا غَرَبَتْ ثُمَّ رَأَيْتُهَا بَعْدَمَا غَرَبَتْ طَلَعَتْ عَلَى الْجِبَالِ وَالْأَرْضِ، وَذَلِكَ بِالصَّهْبَاءِ فِي خَيْبَرَ. قَالَ الطَّحَاوِيُّ: وَهَذَانَ الْحَدِيثَانِ ثَابِتَانِ، وَرُوَاتُهُمَا ثِقَاتٌ.

 قُلْتُ: وَضَعَّفَ أَبُو الْفَرْجِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ هَذَا الْحَدِيثَ فَقَالَ: وَغُلُوُّ الرَّافِضَةِ فِي حُبِّ عَلِيٍّ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ وَضَعُوا أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ فِي فَضَائِلِهِ، مِنْهَا: أَنَّ الشَّمْسَ غَابَتْ فَفَاتَتْ عَلِيًّا -عَلَيْهِ السَّلَامُ-  الْعَصْرُ فَرُدَّتْ لَهُ الشَّمْسُ، وَهَذَا مِنْ حَيْثُ النَّقْلِ مُحَالٌ، وَمِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَإِنَّ الْوَقْتَ قَدْ فَاتَ، وَعَوْدُهَا طُلُوعٌ مُتَجَدِّدٌ لَا يَرُدُّ الْوَقْتَ. وَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْهَاءَ تَرْجِعُ إِلَى الْخَيْلِ".

لأن الوقت محدد بزمن من كذا إلى كذا، لا يزيد إذا قدر وقت صلاة العصر بساعتين لا يمكن أن يزيد عن ساعتين، نعم بدايته ونهايته مربوطة بالشمس، نهايته بغروبها وبدايته مصير ظل كل شيء مثله، إلا أنه إذا غاب خلاص، انتهى وقتها ولو طلعت مرة ثانية على سبيل الافتراض. مادام غابت، كما لو كان الصائم غربت الشمس وأفطر الناس، لو طلعت مرة ثانية انتهى صيامه خلاص، وقت الصيام قد انتهى، هذا من حيث المعنى، وإلا فشيخ الإسلام -رحمه الله- يضعف هذا الحديث، بل يحكم بأنه باطل ليس بصحيح، ولا شك أن الرافضة وضعوا في فضائل علي رضي الله عنه أشياء كثيرة جدًّا، يعني ألوف مؤلفة من الأحاديث.

طالب:...

بلا شك، ما يمكن أن يقول الناس: ردوا الشمس، هذه ما تجيء.

طالب:..

نعم شيخ الإسلام يمثل لهذا بقتل الخطيب على المنبر، ولا ينقله إلا واحد فليس بصحيح، مما يدل على أنه ليس بصحيح مثل رد الشمس لعلي، والنبي -عليه الصلاة والسلام- أولى بردها، لما فاتته العصر يوم الخندق -عليه الصلاة والسلام-.

طالب:..

ما يفرقون بين الصيغ، يأتي بالحديث من الصحيحين ويقول: رُوي كذا، ما يعتمدون على تقسيم أهل الحديث.

"وَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْهَاءَ تَرْجِعُ إِلَى الْخَيْلِ. وَأَنَّهَا كَانَتْ تَبْعُدُ عَنْ عَيْنِ سُلَيْمَانَ فِي السِّبَاقِ، فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى الْمُسَابَقَةِ بِالْخَيْلِ، وَهُوَ أَمْرٌ مَشْرُوعٌ. وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِيهِ فِي "يُوسُف".

اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك وعلى آله وصحبه أجمعين.