شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (231)

المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله، وسلم، وبارك على عبده، ورسوله نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين، أيها الإخوة والأخوات، سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، وأهلًا بكم إلى حلقة جديدة في برنامجكم شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح، مع مطلع حلقتنا نرحب بصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور: عبد الكريم بن عبد الله الخضير، فأهلًا بكم فضيلة الدكتور.

حياكم الله، وبارك فيكم، وفي الإخوة المستمعين.   

المقدم: لا زال الحديث متواصلًا في حديث أبي بن كعب -رضي الله عنه- في قصة موسى -عليه السلام- مع الخضر نستكمل، أحسن الله إليكم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

في آخر الحلقة السابقة في قول الله -جل وعلا-: {نَسِيَا حُوتَهُمَا} [الكهف:61] والناسي...

المقدم: الفتى.

هو الفتى نعم، يوشع، ونُسب النسيان إليهما كما في قوله -جل وعلا-: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ، وَالْمَرْجَانُ}[الرحمن:22]، وهذا تقدم، وإنما يخرج من الملح، وقيل: «نسي موسى أن يتقدم إلى يوشع في أمر الحوت» يعني نسي موسى أن يسأله ماذا حصل للحوت؟ لأن الحوت؛ يعنى نسيانه كما سيأتي يعني نسيانه لأمر يريده الله -جل وعلا-، وإلا فالأصل أن يُتَنَبه له، الأصل أن يتنبه له، لماذا؟ لأنه وُضع علامة على البغية ،على الغاية التي من أجلها...

المقدم: ذهب.

ذهب، فلأمر يريده الله -جل وعلا- نسي، يعني كما أجاب ابن عباس، وهذا كما قال ابن العربي: هذا جواب لا ينتَبه له إلا قرآني، "قيل لابن عباس: كيف يعرف الهدهد موضع الماء، والصبي يضع له الحبالة الشبكة، ويقع فيها، كيف لا يرى هذه الشبكة؟ فقال ابن عباس: إذا نزل القدر عمي البصر، فمثل هذا لا شك أن أمر الله- جل وعلا- لا بد من نفاذه، وإلا الأصل أن مثل هذا يعنى؛ هما جاءا لغاية؛ الغاية رُبطت بهذا الحوت فكيف ينسى؟ فموسى-عليه السلام- نسي أن يسأل الفتى، والفتى نسي أن يخبره بذهابه، وإذا صح قول الله- جل وعلا-: {نَسِيَا حُوتَهُمَا} فنُسب النسيان إليهما.

 «وضعا رؤوسهما فناما»، وفي رواية: «وناما»، وكلاهما للعطف على وضعا، «فانسل»: من سللت الشيء أسُله سلًّا، فانسل، وأصل التركيب يدل على مد الشيء في رفق وخفة؛ «فانسل الحوت الميت المملوح من المكتل الزنبيل» الذي تقدم ذكره، {فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا}[سورة الكهف:61]، في تفسير القرطبي: السرب المسلك، قاله مجاهد، السرب: المسلك، قاله: مجاهد، وقال قتادة: جمد الماء فصار كالسرب، وجمهور المفسرين أن الحوت بقي موضع سلوكه فارغًا، وأن موسى مشى عليه مُتبعًا للحوت قد أفضى به الطريق إلى جزيرة في البحر، وفيها وجد الخضر، وظاهر الروايات، والكتاب أنه: إنما وجد الخضر في ضفة البحر، يعنى حيث فقد الحوت، هو فقده على الضفة، ما فقده في الداخل، يقول: وظاهر الروايات، والكتاب أنه إنما وجد الخضر في ضفة البحر، «وكان لموسى -عليه السلام-، ولفتاه يوشع عجبًا» يعنى إحياء الحوت المملوح، وإمساك جرية الماء حتى صار مسلكًا. و«عجبًا» نُصب على أنه خبر كان؛ كان إحياء الحوتِ عجبًا يقول: وعجبًا نُصب على أنه خبر كان، كان.

 «فانطلقا بقية ليلتهما» بالجر على الإضافة، ويومهما على النصب بالنصب على إرادة سير جميعه بقية ليلتهما بالجر على الإضافة، ويومهما بالنصب على إرادة...

المقدم: سير جميعه.

نعم، ما الذي دلنا أن اليوم كامل على إرادة سير جميعه؟ لقوله: فلما أصبح.

المقدم: فلما أصبح يدل على أنه سار الليل.

نعم على إرادة سير جميعه، كيف؟ ما الذي دلنا على أن المراد اليوم كله؟ ما نقول: بقية الليلة، وبقية اليوم؟ بقية ليلتهم، ما الذي يمنع من العطف سارا بقية ليلتهما، ويومهما؟ يعنى وبقية يومهما؛ لأن البقية تكون آخر الشيء، ولا يمكن أن يراد بقية اليوم، فليكن أولهما ما سارا فيه؛ لأن المراد سير متواصل المقصود بالكلام سير متواصل بقية الليلة، واليوم من أوله إلى آخره، والإشكال باقٍ.

المقدم: لأنها تنبه الصباح.

نعم.

المقدم: مما يدل على أنه ما مشى بالنهار، قد يكون مشى بالأمس.

لا، هو مشى بالنهار، لا إشكال أنه مشى بالنهار، لكن هل المراد النهار السابق لليلة، أو النهار اللاحق؟

المقدم: إذا كان النهار السابق لليلة فما يكون بقية ليلتهما يكون يومهما، وليلتهما.

نسمع ما قاله أهل العلم يقول ابن حجر: نبه بعض الحذاق على أنه مقلوب؛ وأن الصواب بقية يومهما وليلتهما؛ ليوافق قوله بعده: «فلما أصبح»؛ لأنه لا يصبح إلا عن ليل، انتهى. 

ويحتمل أن يكون المراد بقوله: فلما أصبح أي من الليلة التي تلي اليوم الذي سارا جميعه، والله أعلم.

هذا كلام ابن حجر يقول: نبه بعض الحذاق على أنه مقلوب، وأن الصواب بقية يومهما وليلتهما؛ لقوله بعده فلما أصبح، وهذا ظاهر، وجاءت به الرواية أيضًا، جاء ما يدل عليه في الرواية، في رواية أخرى؛ لقوله: «بعده فلما أصبح»؛ لأنه لا يصبح إلا عن ليل انتهى، ويحتمل أن يكون المراد بقوله: «فلما أصبح» أي من الليلة التي تلي اليوم الذي سارا جميعه، والله أعلم، هذا كلام ابن حجر، إما أن يكون المراد بقية يومهما وليلتهما، فلما أصبح يكون الكلام ما به إشكال، لكن يكون به تقديم وتأخير، أو يقال: بقية ليلتهما، ويومهما مع الليلة التي تلي ذلك اليوم إلى أن أصبح كذا في الفتح.

وفي عمدة القاري قوله: «ويومهما» يجوز فيه الجر والنصب؛ يجوز فيه الجر والنصب، أما الجر فعطف على ليلتهما، وأما النصب فعلى إرادة سير جميع اليوم، ووقع في التفسير: فانطلقا بقية يومهما وليلتهما؛ قال القاضي، وهو الصواب؛ لقوله: فلما أصبح، وفي رواية «حتى إذا كان من الغد»، وكذا وقع في مسلم بتقديم يومهما، ولهذا قال بعض الأذكياء يعنى في كلام ابن حجر بعض الحذاق، وفي كلام العيني بعض الأذكياء، ولهذا قال بعض الأذكياء إنه مقلوب، والصواب تقديم اليوم؛ لأنه قال: فلما أصبح، ولا يصبح إلا عن ليل.

وقال بعضهم: (ويريد بذلك ابن حجر): ويحتمل أن يكون المراد بقوله: فلما أصبح أي من الليلة التي تلي اليوم الذي سارا جميعه. قلت (العيني): هذا بعيد؛ لأنه يلزم أن يكون سيرهما بقية الليلة واليوم الكامل والليلة الكاملة من اليوم الثاني وليس كذلك، وليس كذلك.

ابن حجر في الانتقاض؛ انتقاض الاعتراض، وهو يجيب عن إشكالات العيني واعتراضاته، قلت: جرى على عادته في الدفع بالصدر، وبالله التوفيق، يعني جاء بالاعتراض غير معلل ولا مدلل، لكن كلام العيني فيه ظهور، فيه ظهور؛ لأن الاحتمال الذي ذكره ابن حجر فيه بُعد، أما كونه دفع بالصدر، فمثل هذا قد لا يحتاج إلى ذكر دليل، وقد بَيَّن العيني العلة التي ذكرها قال: والصواب تقديم اليوم؛ لأنه قال: ولا يصبح الليل، قال، ويحتمل أن.. قال بعضهم (يعني ابن حجر) ويحتمل أن يكون المراد بقوله: فلما أصبح أي من الليلة التي تلي اليوم الذي سارا جميعه يعني هذه الليلة تابعة لليوم الذي ساراه لتدخل فيه فيترك التنبيه عليها؟ أو أنها بدء يوم جديد لا بد أن يُنَبَه عليه، يعنى مقتضى كلام ابن حجر أنها تابعة لليوم السابق، فلا تحتاج إلى تنبيه، ومقتضى كلام العيني أنها ابتداء يوم جديد لا بد من أن يُنَبه عليه، قلت (أي العيني): هذا بعيد؛ لأنه يلزم أن يكون سيرهما بقية الليلة، واليوم الكامل، والليلة الكاملة من اليوم الثاني، وليس كذلك؛ لأن كل ليلة تتبع اليوم الذي يليها.

قال ابن حجر في الانتقاد: قلت: جرى على عادته في الدفع بالصدر، وبالله التوفيق.

أنا أقول: ينبغي لابن حجر أن يبين وجهة نظره بما يرد به كلام العيني؛ لأن هذا الكلام الإجمالي من ابن حجر لا يقبله إلا من يتعصب لابن حجر، وإلا فكلام العيني ظاهر.

المقدم: والمحاكمة ما أورد شيئًا في هذا الموضوع.

لا، ما أورد شيئًا، لا، فلما أصبح تأييد للقلب؛ إذ لا يقال: أصبح إلا عن ليل كما تقدم.  «قال موسى -عليه السلام- لفتاه يوشع بن نون: آتنا غداءنا» بفتح الغين مع المد غداءنا؛ وهو الطعام يؤكل أول النهار، كذا في القسطلاني؛ لأنه مأخوذ من الغداة، والغداة تقابل العشي، والغداة أول النهار الغَدوة تكون متى؟

المقدم: أول النهار.

أول النهار، فالغداء هو الذي يؤكل أول النهار، وفي تفسير القرطبي قوله: {آتِنَا غَدَاءَنَا} [سورة الكهف 62]، فيه اتخاذ الزاد في الأسفار؛ فيه اتخاذ الزاد في الأسفار، وهو رد على الصوفية الجهلة الأغمار الذين يقتحمون المهامة والقفار زعمًا منهم أن ذلك هو التوكل على الله الواحد القهار، هذا موسى نبي الله وكليمه من أهل الأرض قد اتخذ الزاد مع معرفته بربه وتوكله على رب العباد.

وفي صحيح البخاري: «أن ناسًا من أهل اليمن كانوا يحجون، ولا يتزودون، ويقولون: نحن المتوكلون، فإذا قدموا سألوا الناس» فأنزل الله تعالى: {وَتَزَوَّدُوا} [البقرة:197] يعني هم توكلوا على الله، أم توكلوا على أزواد الناس؟

المقدم: على الناس.

توكلوا على الناس، ما توكلوا على الله، لكن لو توكلوا على الله حق التوكل...

المقدم: لسعوا، وأتوا بالزاد.

لسعوا، وبذلوا الأسباب؛ لأن بذل السبب لا ينافي التوكل؛ إذ جاء في الحديث: «لو أنكم تتوكلون على الله لرزقكم كما يرزق الطير.. » تبقى في عشها؟

المقدم: لا.

لا.  

المقدم: تغدوا خماصًا، وتروح بطانًا.

لا، تغدو وتروح يعني تغدو وتروح يعني تبذل السبب، تغدو خماصًا وتروح بطانًا، أو وتعود بطانًا.

اختُلف في زاد موسى ما كان، فقال ابن عباس: «كان حوتًا مملوحًا في زنبيل، وكانا يصيبان منه غداءً، وعشاءً، فلما انتهيا إلى الصخرة على ساحل البحر، وضع فتاه المِكتل فأصاب الحوت جري البحر، فتحرك الحوت في المكتل فقلب المِكتل، وانسرب الحوت»، وانسرب الحوت يعني في البحر، «ونسي الفتى أن يذكر قصة الحوت لموسى»، وقيل: إنما كان الحوت دليلًا على موضع الخضر..،  تسطيره بقيل، ودليله واضح!

المقدم: صحيح في السياق.

وقيل إنما تساق إذا كان القول ممرَّضًا مضعفًا، وقيل: إنما كان الحوت دليلًا على موضع الخضر؛ لقوله في الحديث: «احمل معك حوتًا في مِكتل، فحيث فقدت الحوت، فهو ثم».

المقدم: ما يحتاج يقول قيل.

نعم، هذا هو الأصل، على هذا يكون تزود شيئًا آخر غير الحوت، وهذا ذكره شيخنا الإمام أبو العباس، واختاره.

المقدم: أيمكن قيل ليس المراد به أن الحوت دليلًا على المكان بقدر ما هو أخذوه للأكل، أم لا؟

نعم.

المقدم: يمكن قوله قيل يا شيخ.

نعم.

المقدم: لتضعيف مسألة هل هم سيأكلونه أم لا.

الآن الحوت الذي في مكتل سواء أكلوا منه أو لم يأكلوا هو دليل على مكان الخضر سواء أكلوا، أو لم يأكلوا فيه فرق بين كونهم لم يأكلوا؟

المقدم: هو لا يشكك في كونهم.

هو لو لم يكن حوتًا لو كان طائرًا، أو حيوانًا قلنا: إذا أكلوا منه دليلٌ على أنه ميت، ونحتاج إلى بحث مسألة هذه المعجزة لموسى، وهذه العلامة الخارقة من الله -جل وعلا-، لكن حوت هو ميت، ميت على كل حال سواء أُكل منه أو لم يُؤكل؛ لأنه أخرج من الماء يموت، ظاهر أم ليس بظاهر؟    

المقدم: ظاهر لكن لا زال الإشكال في مسألة أنه هو لا يشكك في كونه علامة لما قال قيل، ويرد على من قال إنه جيء به بذاته للأكل، فهو يؤكد أن على أنه جيء به للدلالة، وقد يكون الأكل غيره.

ما فيه إشكال هنا، لكن إنما كان الحوت دليلًا هذا حصر.

المقدم: نعم..... 

يعني على القول الأول ما الدليل؟ على القول أنه يؤكل منه، ما الدليل على مكان الخضر؟ هو الحوت.

المقدم: نعم.

فكونه دليلًا على القولين.

المقدم: لكن هذا يريد حصره فقط على الدلالة لا الأكل، لهذا قيل إنما ليحصره على الدلالة لا الأكل، فهو يرد على أولئك.

يعنى احتمال أن يكون الغداء من غير هذا الحوت، شيئًا آخر.

المقدم: غير الحوت نعم.

ولذلك القول الأول اختُلف في زاد موسى ما كان فقيل: كان حوتًا مملوحًا، وهو الدليل نفسه، والقول الثاني إن الحوت هذا للدلالة فقط لا للأكل.

المقدم: نعم، فبالتالي لا يضعف كونه للدلالة.

نعم.

وعلى هذا فيكون قد تزودا شيئًا آخر غير الحوت، وهذا الذي ذكره شيخنا الإمام أبو العباس، واختاره.

شيخنا أبو العباس من هو؟

المقدم: من قائل هذا يا شيخ؟

القرطبي؛ بعض الناس نقل في بحث، وأنا أشرفت عليه، يعني نقل كلامًا لشيح الإسلام ابن تيمية، رأيًا لشيخ الإسلام ابن تيمية من تفسير القرطبي؛ لأنه قال: ولقد سمعت شيخنا أبا العباس مرارًا، يقول يعني؛ مثل ما يقول ابن القيم -رحمه الله-: فظن أن أبا العباس نفسه هو شيخ الإسلام، والصواب؛ أنه أبو العباس القرطبي صاحب المفهم شيخ صاحب التفسير، وهو قبل ما يولد شيخ الإسلام -رحمه الله-.

{لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَٰذَا نَصَبًا} [سورة الكهف:62]، قال: القرطبي أي تعبًا، والنصب التعب، والمشقة، وقيل عن أبيه هنا: الجوع، وفي هذا دليل على جواز الإخبار بما يجده الإنسان من الألم والأمراض، وأن ذلك لا يقدح في الرضا ولا في التسليم للقضاء، لكن إذا لم يصدر ذلك عن ضجر ولا سخط؛ لقد لقينا نصبًا، لقد لقينا تعبًا ما فيه إشكال، لكن لا تتضجر؛ يعني كما قال النبي-عليه الصلاة والسلام-: «وأنا ورثه»، وأيضًا لما قال له ابن مسعود-رضي الله عنهما-: إِنَّكَ لتُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا، قَالَ :  «أَجَلْ، إِنِّي أُوعَكُ كَمَا يُوعَكُ الرَّجُلانِ مِنْكُمْ، قَالَ : وَذَاكَ لأَنَّ لَكَ أَجْرَين؟ قَالَ :"أجل"»، فأخبر النبي -عليه الصلاة ،والسلام- أنه يوعك، وعكًا شديدًا كما يوعك الرجلان.

 في شرح الكرماني قالوا: لحقه التعب والجوع ليطلب الغداء، فيذكر به نسيان الحوت، فيذكر به نسيان الحوت، ولهذا لم يمسسه النصب قبل ذلك، ويدل عليه قوله: «ولم يجد موسى -عليه السلام- مسًّا»، وفي نسخة: «شيئًا من النصب»؛ أي التعب «حتى جاوز المكان الذي أُمر به فأُلقي عليه الجوع، والنصب»، وحتى بمعنى الغاية أي إلى أن جاوز المكان؛ أي تعداه «فقال له فتاه أرأيت» أي أخبرني ما دهاني، «إذ أوينا» من أوى إلى منزله ليلًا أو نهارًا إذا أتى، و(إذ) ظرفٌ بمعنى حين. «إلى الصخرة» في الصحاح الصخرُ: الحجارة العظام، وهي الصخور يقال: صخرٌ، وصَخَرٌ بالتحريك عن يعقوب الواحدة صخرةٌ، وصَخَرَةٌ يعقوب من؟

يعقوب في كلام صاحب الصحاح ألا يمكن أن يكون ابن السكيت؟ نعم صاحب إصلاح المنطق.

«فإني نسيت الحوت» قال الكرماني: أي تفقد أمره، وما يكون منه، فإن قلت في كلام الكرماني: كيف نسي ذلك، ومثله لا ينسى؛ لكونه أمارة على المطلوب، ولأنه ثمة معجزتان حياة السمكة المملوحة، حياة السمكة المملوحة المأكول منها على المشهور، وانتصاب مثل الطاق، ونفوذها في مثل السرب منه؟ قلت: قد شغله الشيطان بوساوسه، والتعود بمشاهدة أمثاله عند موسى من العجائب، والاستئناس بأخواته موجب لقلة الاهتمام به؛ لأنه رأى له نظائر كثيرة يعني حوت واحد في مكتل ينتبه له، لكن أمامه مئات؛ أو عشرات؛ أو آلاف الأحوات...

المقدم: انشغل بها.

انشغل بها، في القرآن الكريم في سورة الكهف: {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} [الكهف:63] قال الشوكاني في فتح القدير: وما أنسانيه إلا الشيطان بما يقع منه من الوسوسة، وأن أذكره بدل اشتمال من الضمير في أنسانيه، {وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا} [سورة الكهف 63]، انتصاب عجبًا على أنه المفعول الثاني كما مر في سربًا، وتقدم إعراب سربًا أنها ماذا؟ سربًا.

المقدم: مفعول ثانٍ يا شيخ!

ما قلنا إنها، تقدم في سربًا..، هنا عجبًا..

كما قال الشوكاني-رحمه الله- يقول: اتخذ سبيله في البحر عجبًا، انتصاب عجبًا على أنه المفعول الثاني كما مر في سربًا، والظرف في محل نصب على الحال، يحتمل أن يكون هذا من كلام يوشع أخبر موسى أن الحوت اتخذ سبيله عجبًا للناس، وموضع التعجب أن يحيا حوت قد مات، وأُكل شِقه، ثم يثب إلى البحر، ويبقى أثر جريته في الماء لا يمحو أثرها جريان ماء البحر، ويحتمل أن يكون من كلام الله سبحانه؛ لبيان طرف آخر من أمر الحوت، فيكون ما بين الكلامين اعتراضًا؛ فيكون ما بين الكلامين اعتراضًا، تفسير الشوكاني المسمى...

المقدم: فتح القدير.

فتح القدير، نعم، تفسير جامع بين الرواية والدراية، وله فيه التفاتات، وأشياء، وتنبيهات عجيبة، يعنى ما يُستغرب من الشوكاني أنه أنكر المناسبة بين الآيات، ونعى -رحمه الله- على من يتكلف هذه المناسبات كالبقاعي في تفسير قوله تعالى: { يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ِ} إلى آخره [البقرة:40]، قال: اعلم أن كثيرًا من المفسرين جاؤوا بعلم متكلَف، وخاضوا في بحر لم يُكلفوا سباحته، واستغرقوا أوقاتهم في فن لا يعود عليهم بفائدة، بل أوقعوا أنفسهم في التكلم بمحض الرأي المنهي عنه في الأمور المتعلقة بكتاب الله سبحانه، وذلك أنهم أرادوا أن يذكروا المناسبة بين الآيات القرآنية المسرودة على هذا الترتيب الموجود في المصاحف، فجاؤوا بتكلفات وتعسفات يتبرأ منها الإنصاف، ويتنزه عنها كلام البلغاء، فضلًا عن كلام الرب سبحانه، حتى أفردوا ذلك بالتصنيف، وجعلوه المقصد الأهم من التأليف، كما فعله البقاعي في تفسيره، ومن تقدمه حسب ما ذكر في خطبته، وإن هذا لمن أعجب ما يسمعه من يعرف أن هذا القرآن مازال ينزل مُفرقًا على حسب الحوادث المقتضية لنزوله منذ نزول الوحي على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى أن قبضه الله -عز وجل-، وكل عاقل فضلًا عن عالم لا يشك أن هذه الحوادث المقتضية لنزول القرآن متخالفة باعتبار نفسها، بل قد تكون متناقضة كتحريم أمرٍ كان حلالًا، وتحليل أمرٍ كان حرامًا، إاثبات أمرٍ لشخص، أو أشخاص يُناقض ما كان قد ثبت له من قبله، وإلى آخر كلامه المطول في نفي المناسبات بين الآيات؛ لأنه نزل منجمًا، وهذه الآية قد يكون بين نزولها وبين نزول الآية التي تليها سنون.

 لكن ما يمنع أن يوجد رابط ومناسبة إذا كان هذا بَيِّنْ ولاح للناظر، والنبي- عليه الصلاة والسلام- يقول: اجعلوا هذه الآية في كذا، واجعلوا هذه الآية في كذا، فهو لا شك أنه كلام مُعجزٌ، ولمن أبدى هذه المناسبات لاسيما إذا ما كان هناك تكلف له وجه، فالبقاعي الذي له اهتمام، جاء تفسيره أو كتابه في الربط بين الآيات تناسب الآيات والسور في اثنين وعشرين مجلدًا، وأبدى براعة فائقة في كثير من المواضع. نعم فيه تكلف في مواضع كثيرة، لكن لا يعني أن هذا الجهد يُلغى، فهو وجه من وجوه إعجاز القرآن. والله أعلم.

 وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

المقدم: أحسن الله إليكم، ونفع بعلمكم.

 أيها الأخوة والأخوات، بهذا نصل وإياكم إلى ختام هذه الحلقة، نستكمل -بإذن الله- ما تبقى من ألفاظ هذا الحديث في حلقة قادمة، وأنتم على خير، شكرًا لطيب المتابعة.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.