كتاب بدء الوحي (097)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد.

يقول: هذا القول في حمص وأهلها، قال ابن جُبير في رحلته: فأحمد خلال هذه البلدة هواؤها الرطب ونسيمها الميمون، يعني أفضل خلال هذه البلدة هواؤها الرطب ونسيمها الميمون.

وقال الإدريسي في (نزهة المشتاق) وهواؤها أعدل هواءٍ يكون بمدن الشام، وهي مطلسمةٌ لا تدخلها حيةٌ ولا عقرب، ومتى أُدخلت على باب المدينة هلكت في الحال.

قال القزويني في (آثار البلاد وأخبار العباد) واليعقوبي في (البلدان) لم يذكر عيبًا، وكلام ياقوت لا يعدو أن يكون رأيًا شخصيًا أراد أن يشرح ما اشتهر عن القول من الحماقة مع التحفظ على هذه النِّسبة؛ لأن هناك من قال بخلافها، فقال: ومن عجيب ما تأملته من أمر حمص فساد هوائها وتربتها اللذين يُفسدان العقل، حيث يُضرب بحماقتهم المثل.

هذا كلام ياقوت، وهو قولٌ مُقابلٌ بما يُضاده من علماء عُرف عنهم التحري والضبط، أما حقيقة الطلسم وعدم دخول العقارب إلى حمص، فإن كثيرًا من الدكاترة المُعتنين بهذا الشأن كالدكتور/ حكم الدقاق، والدكتور/ سمير شمشم وغيرهما، يقولون: بأن السبب في ذلك هو وجود مادة الزئبق في تربة حمص، ويُعتبر مادة سامة بالنسبة لهذا الكائن، ويمنع من التبييض فيها.

طالب:........

والله ما أدري.

فالعلماء لمَّا ذكروا في كتاب المناسك أن الذباب لا يُوجد في منى، ما هو بصحيح، وُجِد، هذه الأخبار بين إفراط وتفريط، فحمص كغيرها من البلدان، فيها الخير والشر، وفيها الأخيار، وفيها الأشرار مثل غيرهم.

وهذا يقول: أقوال النُّحاة في "آنفًا" القول الأول: ذهب ابن الأعرابي أخذًا من قوله ماذا قال آنفًا أي: منذ ساعة، والزَّجاج، والزمخشري، والقرطبي، وابن عطية، والمنذري، والفيروز آبادي إلى أنها ظرف زمانٍ، قال الزَّجاج: أي: ماذا قال الساعة؟ فالمعنى ماذا قال من أول وقتٍ يقرب منا.

القول الثاني: ذهب مكي، وأبو البقاء، وأبو السعود، والسمين الحلبي إلى جواز نصب آنفًا على الحال من الضمير في قال، أي: ماذا قال محمدٌ –صلى الله عليه وسلم- مُبتدئًا لوعظه المتقدم -يهزءون بذلك- وجواز أن يكون آنفًا ظرفًا أي: ماذا قال قبل هذا الوقت؟

وفي هذا فائدة عظيمة من قول المنافقين مع قربهم منه، ومن قوله –عليه الصلاة والسلام- آنفًا يعني: قريبًا، {مَاذَا قَالَ آنِفًا}[محمد:16] دليل على أن الله –جلَّ وعلا- حجب عنهم حفظ الحديث؛ لئلا يُقال في الرواة: من هو منافق حفظًا للسُنَّة النبوية، يعني ما يقر في قلوبهم شيء {مَاذَا قَالَ آنِفًا}[محمد:16] لأنه لو قُدِّر أنه حفظ الحديث هذا المنافق وأداه أو أخل بأدائه لذُكر في كُتب الرواة، ثُم احتُج على أهل السُّنَّة أن في الرواة منافق، لكن الله –جلَّ وعلا- أخبر عنهم أنهم لا يحفظون شيئًا مما يتعلق بالشرع؛ ولذلك يقولون: {مَاذَا قَالَ آنِفًا}[محمد:16] وهذه فائدةٌ عزيزة يُتنبه لها.

 طالب:........

على كل حال الإرث له أثر، فمن إرثه وافر من النبوة فله أثر يظهر على علمه وعمله، ومن له إرثٌ من غير النبوة كالنفاق والمصادر الأخرى كمن يعتمد على غير الوحيين يظهر ذلك أثره على قوله وفعله.

القول الثالث وهو رأي الإمام أبي حيان الأندلسي قال في تفسيره: وآنفًا حال، أي: مبتدئً أي: ما القول الذي أأتنفه قبل انفصاله عنه على أن من عدها ظرفًا...على من عدها إيش؟

طالب:........

نعم.

طالب:........

من عدها.

طالب:........

ما لها علاقة بالكلام بعيدة.

طالب:........

نعم، لكن شدد النكير هنا في أثناء سطر ما هو مناسب، منقطع الكلام.

على من عدها ظرفًا فقال: والصحيح أنه أي: آنفًا ليس بظرف ولا نعلم أحدًا من النُّحاة عده في الظروف.

وقد ذكر السمين الحلبي قول شيخه أبي حيان ولم يتعقبه كعادته إذا لم يرتضِ قوله، وقال في آخر كلامه: واختلفت عبارتهم في معناه، فظاهر عبارة الزمخشري أنه ظرفٌ حالي كالآن؛ ولذلك فسَّره بالساعة.

وقال ابن عطية: المفسرون يقولون: آنفًا معناه الساعة الماضية القريبة منا، وهذا تفسيرٌ بالمعنى، قلت: وقد أغرب جدًّا الطاهر بن عاشور، فقال: ولم ترد هذه الكلمة إلا منصوبةً على الظرفية.

يعني هذا مقتضى رد العيني عل ابن حجر، وبهذا يتبين أن إعراب الحافظ ابن حجر آنفًا صحيحٌ لا مطعن فيه بل ومترجِّح؛ لأن أبا حيان إمام الصنعة قد عُرف بتحريه وتدقيقه واتباعه سَنن النُّحاة المتقدمين، وموقفه مع شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمة الله على الجميع- بسبب سيبويه معروف ومشهور، ولعل الحافظ ابن حجر قد تلقف هذا الإعراب منه؛ لأن الشافعية يُعظمون أبا حيان، ويثنون عليه جدًّا في تراجمهم.

أبو حيان ما هو بظاهري؟

طالب:........

ماذا؟

طالب:........

ويثنون عليه جدًّا ويحمدون له موقفه مع شيخ الإسلام ابن تيمية من بعد أن نزغ النحو بينهم، والله يتولى الجميع.

طيب الآن الخلاف في كونها منصوبة على الظرفية أو على الحالية، إذا نظرت إليها من جهة فهي حالية؛ لأنها تُبين هيئة، وإذا نظرت إليها من جهةٍ أخرى فهي منسوبةٌ على الظرفية؛ لأنها تدل على وقت، ولا يمنع أن يكون فيها شوبٌ من الأمرين، والعلماء يعربون تبعًا للمعنى، يُعربون الكلمة تبعًا لمعناها، فمن هذه التي يُختلف فيها في بعض المواضع هل هي بيانية أو تبعيضية، تجد أن فيها شوب بيان، وشوب تبعيض، خاتم من حديد بيانية أم تبعيضية؟ نفس الوقت تبعيضية وبيانية، لكن بعض الناس يلوح له أن هذا أرجح، فيميل إلى أنها بيانية، وبعض النُّحاة يميل من حيث المعنى والسياق أن هذا أرجح، فيقول: تبعيضية.

يعني مثل ما اختلفوا في {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء}[الإسراء:82] هل هو بيان أو تبعيض؟ كثير من أهل العلم بل أكثرهم يقول: بيانية وأن القرآن كله شفاء، وبعضهم يقول: لا، تبعيض؛ لأن منه ما هو شفاء يُمكن أن يُتعالج به ويُتداوى به، ومنه ما هو أحكام، ومنه ما هو آداب، ومنه قصص وأخبار وعقائد، هل يُمكن أن يُقال: كله أحكام، القرآن كله أحكام، أو كله عقائد، أو كله آداب؟ منه هذا، ومنه هذا، ومنه هذا، ومنه الشفاء، وهل يُمكن أن يُقرأ على المريض {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَب}[المَسَد:1] أو آية الدَّين، إلا إذا قلنا: إن الشفاء أعم من شفاء الأبدان، يشمل أنواع الشفاء كلها، فآية الدَّين شفاء للجهل في هذا الباب، نعم والقصص شفاء، والأحكام شفاء...إلى آخره، فتكون بيانية.

المقصود أن كون العلماء يختلفون في معنى أو في إعراب؛ لأن كل واحدٍ منهم لمَّا تأمل المعنى مع السياق ترجَّح له هذا، وبعد يبقى أن المسألة: هل الإعراب تابعٌ للمعنى أو المعنى تابع للإعراب؟

طالب:........

الإعراب يتبع المعنى.

طالب:........

أو دور، ماذا؟

طالب:........

كيف؟

طالب:........

لا، ما يفهمه السامع، الآن الذي بيعرب السامع، لو أعرب القائل لانتهى الإشكال؛ لأنه أعرف بكلامه ومعناه، لكن السامع ماذا يفهم من هذا الكلام، وتبعًا لفهمه للكلام يُعرب، وقد يفهم الكلام تبعًا للإعراب كما في ذكاة الجنين ذكاة أمه، فهم الجمهور المعنى لمَّا تحققوا في الرواية أنه مرفوع الجزأين، فقالوا: إن الجنين إذا خرج ميتًا من بطن أمه المذكاة، فذكاة أمه تذكيةً له لا يُذكى يؤكل بدون تذكية، ولو خرج ميتًا من بطن أمه إذا ذُكيت ما لم يُجزم بأنه مات قبل تذكيتها.

والذين قالوا: إن الجزء الأول المبتدأ مرفوع والثاني منصوب، قالوا: لا، تجب ذكاته مثل تذكية أمه، ذكاة الجنين ذكاة أمه، فهل هؤلاء فهموا المعنى من الإعراب أو الإعراب من المعنى؟ فهموا المعنى من الإعراب؛ ولذلك ينبغي أن يكون طالب العلم منتبهًا لهذه الأمور؛ لأن لها أثرًا كبيرًا في فهم النصوص، ينبغي أن يكون طالب العلم عنده فقه في هذه الأمور، ينتبه لدقائقها، ويُعنى بها لأنها لها أثر كبير جدًّا في المعنى، في فهم المعنى، في فهم النص، المتعلقات الجار والمجرور، والظرف إذا تعلق بما سبق {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلاَ تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيم}[النور:33] لهم أم لهن؟

نعم.

طالب:........

هذا قول الأكثر: لهن، لكن هل المُكره عليه ذنب أصلاً ليستحق المغفرة، ويُنص عليه بالمغفرة؟ هل عليه ذنب؟ أبو حيان وجمعٌ من أهل العلم يقول: لهم، أما هن ما أذنبن من أجل أن يحتجن إلى مغفرة، فمثل هذه الأمور والمتعلقات يختلف فيها المعنى وفهم النص اختلاف جذري، يعني أول من يسمع كلام أبي حيان يقول لك: يُكره الفتاة على البغاء وبعد الإكراه غفورٌ رحيم لهم، لكن مع ذلك هذا النص المُجمل تُفسره نصوصٌ أخرى، وأنه لا تكون هذه المغفرة إلا بعد توبة، لا تكون إلى بعد توبة مثل {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا .... لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا}[الزمر:53] لابد من التوبة بالإجماع هنا؛ لأن ما بعدها لو لم يكن هناك توبة فما بعدها يُنافي هذا الأمل، وهذا الرجاء من الآيات الأخرى {أَن تَقُولَ نَفْسٌ ..... يَاحَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِين}[الزمر:56].إلى آخرها

طالب:........

إلى آخرها المقصود أن ما بعد الآية يدل على أن هذا الأمل الكبير لا {لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ}[الزمر:53] أنه لابد أن يكون مقرونًا بتوبة، وإلا صار هذا الأمل الكبير منقوضًا بما بعدها من الآيات مفهوم أم ما هو مفهوم؟

طالب:........

لأن هذه أمور لابد أن يتنبه لها طالب العلم وإلا –فما معناه؟- يعم بدون فائدة.

طالب:........

{إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا}[الزمر:53] ما فيه شرط توبة ظاهر، لكن ما بعد هذه الآية من التخويف والوعيد يدل على أنه إذا لم يتب لا يتناوله هذا الوعد، وهذا الأمل الواسع.

طالب:........

الزمحشري وابن حيان كلاهما.

طالب:........

نعم.

طالب:........

آنفًا، ما هو بالكلام آنفًا أتكلم في...

طالب:........

ماذا فيها؟

طالب:........

نعم.

طالب:........

على كل حال فُهِم المقصود، وجزاك الله خيرًا، نحن ذكرنا قول ابن حجر، وتعقب العيني وكلام بعض أهل العلم في هذه المسألة.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

في الدرس الماضي قال ابن حجر: واختلف الإخباريون هل هو –يعني هرقل- الذي حاربه المسلمون في زمن أبي بكرٍ وعمر أو ابنه؟ والأظهر أنه هو، والله أعلم.

وقال العيني: والذي أثبته في تاريخي عن أهل التواريخ والأخبار أن هرقل الذي كتب إليه رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قد هلك، وملك بعده ابنه قيصر، واسمه مورِّق، وكان في خلافة أبي بكرٍ -رضي الله تعالى عنه- ثم ملك بعده ابنه هرقل بن قيصر.

كلام ابن حجر واستظهاره أنه هو؛ لأن الحفيد أيضًا اسمه هرقل كما يظهر من كلام العيني الحفيد أيضًا اسمه هرقل، وجاء تسميته هرقل في هذه المعارك في عهد عمر مثلاً، ولم يكن لقيصر الابن الواسطة بينهما، لم يكن له ذِكر، فغلب على الظن أنه هو مادام الاسم واحدًا، وما ثبتت عنده وفاة، قال: والأظهر أنه هو ما تغير.

ومثل هذا كما مر بنا في أسماء الرواة أنهم يتتابعون على اسم، ثم يقع حوادث لهذا، وحوادث لهذا، فتُظن حادثة واحدة أو العكس، وقد يُظن الراوي أكثر من واحد، وقد يُظن أن الجماعة واحدة، وهذا من أولى ما ينتبه له طالب العلم في دراسة الأسانيد، وللحافظ الخطيب البغدادي (مُوضِح أوهام الجمع والتفريق) كتاب من أنفس ما كُتب في هذا الباب يدل على القدم الراسخة تعقب الأئمة من البخاري فمن دونه في هذا الباب، وقدَّم بمقدمةٍ ذكر منزلته بين هؤلاء الأئمة وأنه لا شيء، مقدمة تدل على تواضعٍ جم، يحسن بكل طالب علم أن يقرأها؛ ليعرف قدر نفسه.

هرقل هذا لمَّا كان الحفيد في عهد عمر وهو الذي طالت مدته وحصلت الحروب أكثرها في وقته فعل هرقل، ذكر هرقل، جيَّش هرقل، فغلب على ظن الحافظ أنه هو.

وفي تقدير العيني وهو له عناية بالتاريخ، العيني مؤرخ، قال: لا، قال: والذي أثبته في تاريخي عن أهل التواريخ والأخبار أن هرقل الذي كتب إليه رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قد هلك، وملك بعده ابنه قيصر، واسمه مورِّق، وكان في خلافة أبي بكرٍ -رضي الله تعالى عنه- ثم ملك بعده ابنه هرقل بن قيصر، وكان في خلافة عمر -رضي الله عنه- وعليه كان الفتح، وهو المُخرج من الشام أيام أبي عبيدة وخالد بن الوليد -رضي الله عنهما-، فاستقر بالقسطنطينية، وعدة ملوكهم أربعون ملكًا، وسنيهم خمسمائة وسبع سنين، والله أعلم.

قال ابن حجر في (فتح الباري): "ذكر السهيلي أنه بلغه أن هرقل وضع الكتاب في قصبةٍ من ذهب" يعني كما توضع الآن الوثائق والصكوك في قصباتٍ إما من الورق أو البلاستيك أو بشيءٍ من هذا لحفظها.

 "ذكر السهيلي أنه بلغه أن هرقل وضع الكتاب في قصبةٍ من ذهب تعظيمًا له، أنهم لم يزالوا يتوارثونه، حتى كان عند ملك الفرنج الذي تغلب على طليطلة، ثم كان عند سبطه، فحدَّثني بعض أصحابنا أن عبد الملك بن سعيد أو ابن سعد أحد قواد المسلمين اجتمع بذلك الملك، فأخرج له الكتاب، فلمَّا رآه استعبر، وسأل أن يُمكِّنه من تقبيله فامتنع.

قلت: وأنبأني غير واحدٍ عن القاضي نور الدين بن الصائغ الدمشقي قال: حدثني سيف الدين قليج المنصوري قال: أرسلني الملك المنصور قلاوون إلى ملك المغرب بهديةٍ، فأرسلني ملك المغرب إلى ملك الفرنج في شفاعةٍ فقبلها، وعرض علي الإقامة عنده فامتنعت، فقال لي: لأتحفنك بتحفةٍ سنية، فأخرج لي صندوقًا مصفحًا بذهب، فأخرج منه مقلمة ذهب، فأخرج منها كتابًا قد زالت أكثر حروفه".

المقلمة يعني موجودة الآن؛ لكنها بطريقةٍ غير الموجودة سابقًا.

طالب:........

لا، الموجودة في أيدي الطلاب، طلاب المدارس مُقلدة على تلك، لكنها ضعيفة جدًّا تُمزق بيوم.

طالب:........

لكن رأينا مقالم مأثورة يعني بعرض الإصبعين وبطول الشبر من نحاس غالبًا أو من صفر قوية متينة جدًّا يعني الذي في جوفها لا يُمكن أن يتعرض لتلف، تحميه –بإذن الله-، وفي طرفها دواة فيها حبر يُحكم إغلاقها، وينقلها الكاتب في كل مكان؛ لأنهم ما هم يعبئون القلم وخلاص ينسونه لا، تفتح الدواة والقلم ما فيه ما يُمكن أن يدخل جوفه حبر من قصب يُغمس في هذا الحبر ويُكتب فيه حتى ينتهي الذي فيه، ثم يُغمس ثانية وهكذا، فهم يُعانون من الكتابة، نحن الآن جاء القلم الذي يكفيك شهر ما تحتاج إلى تعبئته لمدة شهر، والناس منهم المُقل من الكتابة، ومنهم المُكثر، وبعض الناس في الإجازات، لا يعرف القلم تجد ما عنده قلم، تقول له: وقَّع، يقول: والله نحن بإجازة، هذا يدل على أنه لا سبب ولا نسب له مع العلم إلا طالب علم ما يحمل قلمًا، ما يُقيد فوائد ولا شوارد ولا....، والله المستعان.

"فقال لي: لأتحفنك بتحفةٍ سنية، فأخرج لي صندوقًا مصفحًا بذهب، فأخرج منه مقلمة ذهبٍ، فأخرج منها كتابًا قد زالت أكثر حروفه، وقد التصقت عليه خرقة حرير" نعم إدخال الشيء بين الكلام لا شك أنه يُسبب زوال بعض الحروف لاسيما لمَّا كانت الحروف بارزة من أثر الحبر، الحبر كان يترك أثرًا بارزًا في الورقة تلمس أثر الحروف؛ لأن له وجودًا، له حجم في الورقة؛ ولذلك يحتاجون إلى تتريبه إذا انتهى من كتابة الصفحة ألقى عليها شيئًا من التراب؛ من أجل أن تنشف، ثم يزيد بروز الحبر في المطابع العكس البروز من خلف الصفحة؛ لأنها حروف معدنية تُنضد على لوح، ويُكبس هذا اللوح على الورق، فيبرز أثر هذا الحرف من الخلف، هذا الأصل في الطباعة، ثم جاء عهد التصوير لا بارزًا لا من أمام ولا من خلف، ثم جاء عهد الآلات الطباعة الحديثة ما فيها أثر لشيءٍ من هذا.

يعني هذه الآثار والبروزات سواءً كانت من الأمام ومن الخلف يُستصحب معها أن هذا العمل فيه تعب، يعني تستصحب أن الكتاب لمَّا كان فيه بروز أنه بالمنقاش يُؤخذ كل حرف ويُوضع في اللوح، ثُم يُؤخذ الحرف الذي يليه (قد) تأخذ القاف قبل، ثم الدال، ثم الظاء، ثم...إلى آخره تُرص اللوح هذا كاملًا، تأخذ لك يومًا يومين تصف الحروف، لكن الآن المطابع الآن يعني بعض الكتب مكثت في الطباعة عشر سنين، يعني (فتح الباري) بولاق أو لسان العرب أكثر من عشر سنين يُطبع، الآن بإمكانهم أن يطبعوا مائة ألف نُسخة في أقصر مدة إلكترونية، ما تحتاج شيء ما تحتاج تعب.

يقول: "فقال لي: لأتحفنك بتحفةٍ سنية، فأخرج لي صندوقًا مصفحًا بذهب، فأخرج منه مقلمة ذهبٍ، فأخرج منها كتابًا قد زالت أكثر حروفه، وقد التصقت عليه خرقة حرير" تأتي كتب من التركات، وقد وضع أصحابها الذين ماتوا من سنين واستعملوها سنين بعض الأشياء، منهم من يضع ورق شجر وهذا كثير، وهذا يأتي من مصر والهند، وعلى حد زعمهم أن هذا الورق يحفظ الورق، وإذا كان هذا مُجربًا كان سببًا عاديًّا ما فيه إشكال، لكن إذا كان هذا اعتقادًا كما يكتبون على بعض الكتب -وما فيه ورق ولا شيء- يكتبون يا كبيكج احفظ الورق ، كبيكج هذا ما ندري ما هو؟ ما يُدرى شيطان، ما يُدرى... فيكون من الشرك، نسأل الله العافية.

يعني أبدى بعضهم احتمال أن يكون هذا اللفظ ترجمة لاسم الجلالة عندهم، يعني يا الله احفظ الورق، لكن نحتاج إلى ثبوت مثل هذا وإلا فالأصل أنه دعاءٌ لغير الله -جلَّ وعلا-.

هذه الأوراق المودعة تترك أثرًا في الكتاب بلون هذه الورقة، ويُسود الورق ويُشوش عليه.

فالمقصود أن على طالب العلم أن يهتم بكتابه وكما قيل: لا تجعل كتابك بوقًا ولا صندوقًا، الصندوق واضح أنك تحفظ فيه حوائجك النفيسة من وثائق وصكوك، كم واحد أعلن في الجرائد أن صك البيت ضاع وهو موجودٌ عنده في كتاب، نعم يُنسى.

أما أن تجعله بوقًا فكما يفعله كثيرٌ من الناس في الكتب الورقية التي يقولون: لها غلاف بدون تجليد التجليد ما يقدر، لكن يجعله هكذا مثل البوق، وهذا لا شك أن له أثرًا على الكتاب، وقد رأيت بعيني من طلاب العلم، لكنهم طلاب علم نظامي ما هم بطلاب حِلق، يعني جاؤوا للعلم أولئك فيهم ما فيهم، من معه كتاب التفسير فتح القدير فتحه فتحًا مؤذيًا مفسدًا للكتاب، وجعل الجلد هذا ملتصقًا بالجلد هذا، ورأينا من هو أسوأ من ذلك إذا مرت به آية السجدة في المصحف وضع المصحف هكذا على الأرض قلبه على الأرض، أهل العلم يكرهون أن يبقى المصحف منشورًا هكذا، يعني ما تسجد وأنت فاتحه هكذا؛ لأنه امتهان، فكيف تقلبه على ظهره؟!

طالب:.......

نعم.

طالب:.......

يُمزق الكتاب على حسب حاجته إليه؛ لأنه ما لا حاجة له بالكتاب إلا الاختبار، ما عنده أي اعتبار لهذا الكتاب إلا لهذا الامتحان، وإذا انتهى خلاص.

"وقد التصقت عليه خرقة حرير، فقال: هذا كتاب نبيكم إلى جدي قيصر، ما زلنا نتوارثه إلى الآن، وأوصانا آباؤنا أنه ما دام هذا الكتاب عندنا لا يزال الملك فينا، فنحن نحفظه غاية الحفظ، ونعظمه ونكتمه عن النصارى؛ ليدوم الملك فينا، انتهى.

ويؤيد هذا ما وقع في حديث سعيد بن أبي راشد الذي أشرت إليه آنفًا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- عرض على التنوخي رسول هرقل الإسلام، فامتنع، فقال له: «يا أخا تنوخ إني كتبت إلى ملككم بصحيفةٍ، فأمسكها فلن يزال الناس يجدون منه بأسًا ما دام في العيش خيرٌ» وكذلك أخرج أبو عبيد في كتاب (الأموال) من مرسل عمير بن إسحاق، قال كتب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى كسرى وقيصر، فأما كسرى فلمَّا قرأ الكتاب مزقه، وأما قيصر فلمَّا قرأ الكتاب طواه ثم رفعه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أما هؤلاء فيمزقون، وأما هؤلاء فستكون لهم بقية» ويؤيده ما روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لمَّا جاءه جواب كسرى قال: «مزق الله ملكه» ولمَّا جاءه جواب هرقل، قال: «ثبت الله ملكه» والله أعلم".

 حديث التنوخي الذي أُشير إليه في دروسٍ مضت، وقلنا: إنه يُعايا بهذا التنوخي، فيُقال: صحابي حديثه مُنقطع، وتابعي حديثه متصل، وذكرنا أن التابعي هو التنوخي، والصحابي صغار الصحابة الذين لم يسمعوا من النبي -عليه الصلاة والسلام-.

هذا الحديث في مُسند الإمام أحمد بطوله في الجزء الثالث صفحة أربعمائة وواحد وأربعين، واثنين وأربعين من الطبعة الميمنية الستة، ومن طبعة الرسالة أربعة وعشرين، أربعمائة وستة عشر إلى أربعمائة وتسعة عشر، والأموال لأبي عبيد صفحة ستمائة وخمسة وعشرين، وابن كثير في البداية والنهاية في الخامس صفحة خمس عشرة وست عشرة، وقال: هذا حديثٌ غريب، وإسناده لا بأس به تفرَّد به أحمد.

وفي التعليق على المسند الأرناؤوط ورفاقه: حديثٌ غريب وإسناده ضعيف؛ لجهالة سعيد بن أبي راشد فلم يروِ عنه غير عبد الله بن عثمان بن خزيم، ولم يُؤثر توثيقه عن غير ابن حبان، وباقي رجاله عدا التوخي رجال الصحيح.

قال ابن حجر: "تنبيه لمَّا كان أمر هرقل في الإيمان عند كثيرٍ من الناس مستبهمًا؛ لأنه يحتمل أن يكون عدم تصريحه بالإيمان للخوف على نفسه من القتل، ويحتمل أن يكون استمر على الشك حتى مات كافرًا، وقال الراوي في آخر القصة: فكان ذلك آخر شأن هرقل، ختم البخاري هذا الباب الذي استفتحه بحديث الأعمال بالنيات كأنه قال: إن صدقت نيته انتفع بها في الجملة، وإلا فقد خاب وخسر، فظهرت مناسبة إيراد قصة ابن الناطور في بدء الوحي؛ لمناسبتها حديث الأعمال المُصدَّر الباب به، ويؤخذ للمصنف من آخر لفظٍ في القصة براعة الاختتام" بقوله: "فكان ذلك آخر" كما أنه آخر الباب "هذا آخر شأن هرقل".

"براعة الاختتام، وهو واضحٌ بما قررناه" يُقابل براعة الاستهلال.

طالب:.......

أين، يعني كونه تردد؟

طالب:.......

هو باقٍ على نصرايته، لكن الذي يقرأ الكلام مجردًا يقول: يحتمل أنه وقر الإيمان في قلبه، لكن خاف على ملكه، فلم يُعلن إسلامه، وهل ينفعه هذا أو لا ينفعه؟ وعرفنا أن الخوف، يعني مرتكب المكفِّر خوفًا على نفسه، يختلف بين من الأصل فيه الإسلام وبين من الأصل فيه الكفر، من الأصل فيه الإسلام لا يُخرج منه إلا بيقين، ومن الأصل فيه الكفر لا يُدخل في الإسلام إلا بيقين.

"فإن قيل: ما مناسبة حديث أبي سفيان في قصة هرقل ببدء الوحي؟ فالجواب أنها تضمنت كيفية حال الناس مع النبي –صلى الله عليه وسلم-في ذلك الابتداء؛ ولأن الآية المكتوبة إلى هرقل للدعاء إلى الإسلام ملتئمةٌ مع الآية التي في الترجمة، وهي قوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ}[النساء:163] الآية، وقال تعالى: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا}[الشورى:13] الآية، فبان أنه أوحى إليهم كلهم أن أقيموا الدين، وهو معنى قوله تعالى: {سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ}[آل عمران:64]" يعني يستوي في الدعوة إلى هذه الكلمة الأنبياء كلهم والرسل في دعوتهم إلى التوحيد.

ثم قال -رحمه الله-: "رواه صالح بن كيسان، ويونس، ومعمر عن الزهري" قال: النووي: يعني أن هؤلاء الثلاثة وافقوا شعيبًا في رواية هذا الحديث عن الزهري، وقد تقدَّم بيانهم، يعني كلهم مروا يونس، ومعمر، والزهري تقدَّم بيانهم إلا صالح بن كيسان، وهو أبو محمد، ويُقال: أبو الحارث صالح بين كيسان الغفاري مولاهم المدني، وقيل: مولى بني عامر، وقيل: مولى آل معيقيب الدوسي، وصالحٌ هذا مؤدب ولد عمر بن عبد العزيز، رأى عبد الله بن عمر، وابن الزبير –رضي الله عنهم-، وقال يحيى بن معين: سمعهما، سمع من ابن عمر، وابن الزبير، وسمع جماعاتٍ من التابعين روى عنه من التابعين عمرو بن دينار وموسى بن عُيينة، ومحمد بن عجلان، ومن غيرهم مالكٌ، وابن عُيينة ومعمر وآخرون.

سُئل عنه أحمد بن حنبل، فقال: بخن بخن، مدح أم ذم؟ مدح؛ لأن أصلها أستحسن.

قال الحاكم أبو عبد الله محمد بن عبد الله النيسابوري المعروف بابن البيع صاحب المستدرك: توفي صالح بن كيسان وهو ابن مائةٍ ونيفٍ وستين سنة، وكان لقي جماعةً من أصحاب رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، ثم بعد ذلك تلمذ على الزهري، وتلقن منه العلم وهو ابن تسعين سنة، ابتدأ بالتعلم وهو ابن تسعين سنة.

هذا توارثه كثيرٌ من أهل العلم أهل التراجم قالوا: إنه بدأ التعليم ابن تسعين سنة، واختلفوا في ذلك تسعين أو سبعين، لكن أقل ما قيل: خمسين، وهذا يبعث الأمل في قلب طالب العلم، ويقضي على اليأس، صالح بن كيسان بدأ التعلم ولحيته بيضاء، يعني أقل ما قيل: خمسين خلاص ماذا بقي؟ تعلم وأدرك، حتى عُد من كبار الآخذين عن الزهري من الطبقة الأولى من طبقة الرواة عن الزهري، وله نظائر من المحدثين وغيرهم تعلموا في الكبر، ولا شك أن التعلم في الصغر أثبت وأولى، ما يقول: والله أنا أغامر بهذه الحياة ولمَّا وصلت التسعين بدأت التعلم، يمكن ما تدرك شيئًا أو ما تدرك التسعين، قال: خلاص نصبر إلى الخمسين، من يضمن له البقاء إلى الخمسين، ومن يضمن له التحصيل بعد الخمسين؟

قال يحيى بن معين: وهو صالح أكبر من الزهري –رحمة الله عليهم أجمعين- فهو روايته من رواية الأكابر عن الأصاغر.

وقال الكرماني: "يعني هؤلاء الثلاثة وافقوا شعيبًا في رواية هذا الحديث عن الزهري، ومثله يُسمى بالمتابعة، وفائدتها التقوية والتأكيد والترجيح بكثرة الرواة، وهذا هو المتابعة المقيدة؛ لأنه سُمي المتابع عليه وهو الزهري ولو لم يُسمَّ لكان النوع الآخر من المتابعة إذًا مطلقة، ثم اعلم أن هذه العبارة تحتمل وجهين: أن يروي البخاري عن الثلاثة بالإسناد المذكور كأنه قال: أخبرنا أبو اليمان -الحكم بن نافع- قال: أخبرنا هؤلاء الثلاثة عن الزهري، وأن يروي عنهم بطريقٍ آخر-غير أبي اليمانوأن يروي عنهم بطريقٍ آخر كما أن الزهري يحتمل في روايته للثلاثة. الآن يروي عنهم أم يروون عنه؟ يروون عنه؛ لأن في روايته الحديث للثلاثة" هو يروي لهم الحديث، وينقلون عنه الحديث.

"كما أن الزهري يحتمل في روايته للثلاثة أن يروي عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس، وأن يروي لهم عن غيره والله أعلم. هذا ما يحتمله اللفظ، وإن كان الظاهر اتحاد السند".

الآن إيراد هذه الاحتمالات، وبإمكان الكرماني أن يقف على الحقيقة إذا خرَّج الحديث لاسيما إذا خرَّج الحديث من الصحيح نفسه في مواضع تخريجه ما يحتاج أن يتردد ويُورد هذه الاحتمالات؛ لأنها احتمالات عقلية ما تثبَّت من نفس الكتاب، والأسانيد كلها موجودة في الكتاب؛ ولذلك انتقده الحافظ ابن حجر بأن الاحتمالات العقلية لا مدخل لها في هذا الفن.

قال ابن حجر متعقبًا الكرماني: قوله: "ورواه صالح بن كيسان ويونس ومعمر عن الزهري" قال الكرماني: يحتمل ذلك وجهين: أن يروي البخاري عن الثلاثة بالإسناد المذكور كأنه قال: أخبرنا أبو اليمان، أخبرنا هؤلاء الثلاثة عن الزهري، وأن يروي عنهم بطريقٍ كما أن الزهري يحتمل أيضًا في رواية الثلاثة أن يروي لهم عن عبيد الله عن ابن عباس، وأن يروي لهم عن غيره وإن كان الظاهر الاتحاد.

قلت –ابن حجر-: هذا الظاهر كافٍ لمن شم أدنى رائحة من علم الإسناد، والاحتمالات العقلية المجردة لا مدخل لها في هذا الفن"، أما الاحتمالات العقلية المدللة فلها مدخل، يعني لو أردت احتمالات، ولكل احتمالٍ دليله لها مدخل في هذا الفن وفي غيره، لكن الاحتمالات العقلية المجردة لا مدخل لها في هذا الفن.

"وأما الاحتمال الأول فأشد بعدًا؛ لأن أبا اليمان لم يلحق صالح بن كيسان، ولا سمع من يونس، وهذا أمرٌ يتعلق بالنقل المحض، فلا يلتفت إلى ما عداه، ولو كان من أهل النقل –يعني الكرماني- لو كان من أهل النقل لاطلع على كيفية رواية الثلاثة لهذا الحديث بخصوصه، فاستراح من هذا التردد، وقد أوضحت ذلك في كتابي (تغليق التعليق)" ابن حجر وصل هذه المعلقات في صحيح البخاري المعلقات عدتها ألف وثلاثمائة وثلاثة وأربعين كلها موصولة في الصحيح إلا مائة وستين أو مائة وتسعة وخمسين، فالموصول في الصحيح في موضعٍ آخر هذا لا نحتاج إلى دراسته، العبرة بالموصول، لكن ما لم يُوصل في الصحيح فهو الذي يحتاج إلى بحث عن أسانيده.

ابن حجر –رحمه الله- وصل هذه الأحاديث في (تغليق التعليق)، ووصلها في فتح الباري، واختصر التغليق بكتابٍ متوسط، ثم اعتصره بكتابٍ سماه: (التشويق إلى وصل التعليق) ابن حجر له عناية فائقة بالبخاري، وعناية لا شك أنها معتمدة على تَضلُّع في هذا العلم، لاسيما ما يتعلق بهذا الكتاب العظيم، وكثيرٌ من الشراح يأتي بما في الصحيح ما ينقضه، يعني في موضعٍ آخر لو رجع للموضع الآخر تبين له ما أشكل عليه، لكنه يُورد الاحتمالات، أو يجتهد في فهم شيء، وهو منصوصٌ عليه في الصحيح نفسه.

قال: "ولو كان من أهل النقل لاطلع على كيفية رواية الثلاثة لهذا الحديث بخصوصه، فاستراح من هذا التردد، وقد أوضحت ذلك في كتابي (تغليق التعليق)، وأُشير هنا إليه إشارة مُفهِمة، فرواية صالح وهو ابن كيسان أخرجها المؤلف في كتاب (الجهاد) بتمامها من طريق إبراهيم بن سعد، عن صالح بن كيسان، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس، وفيها من الفوائد والزوائد ما أشرت إليه في أثناء الكلام على هذا الحديث من قبل، ولكنه انتهى حديثه عند قول أبي سفيان: "حتى أدخل الله علي الإسلام" زاد هنا: "وأنا كارهٌ"، ولم يذكر قصة ابن الناطور".

"ولكنه انتهى حديثه" يعني في الجهاد من رواية صالح بن كيسان، انتهى عند "قول أبي سفيان: حتى أدخل الله علي الإسلام وأنا كاره".

"ولم يذكر قصة ابن الناطور، وكذا أخرجه مسلم بدونها من حديث إبراهيم المذكور، ورواية يونس عن الزهري بهذا الإسناد أخرجها المؤلف في الجهاد مختصرةً من طريق الليث، وفي الاستئذان مختصرة أيضًا من طريق ابن المبارك، كلاهما عن يونس، عن الزهري بسنده بعينه، ولم يَسُقْه بتمامه، وقد ساقه بتمامه الطبراني من طريق عبد الله بن صالح عن الليث، وذكر فيه قصة ابن الناطور، ورواية معمر عن الزهري كذلك ساقها المؤلف بتمامها في التفسير".

الآن الكرماني أورد الاحتمالات، وإيراد الاحتمالات يدل على علمه بالكتاب الذي يشرحه أو على عدم علمه بالكتاب الذي يشرحه؟ يعني هل هو متصور تصورًا إجماليًّا للكتاب من أوله إلى آخره، أو هو يشرح هذا الحديث، ويخفى عليه الحديث الذي بعده، كما هو حال كثير من الناس؟ دعنا نشرح هذا الحديث، الحديث الذي يليه ما نعرف متنه ولا إسناده، حتى نصل إليه فضلاً عن أحاديث لاحقة بعد مائة أو مائتين أو ألف أو ألفي حديث، لكن تصور الكتاب قبل البدء بشرحه مهم جدًّا؛ ليُلم بأطرافه، فيكون على -وهو يشرح الموضع الأول- على ثقةٍ تامة أنه لن ينقض هذا الشرح فيما سيأتي.

 ابن حجر ذكر في مواضع من شرحه بعدما ينقل عن الكرماني يقول: وهذا جهلٌ بالكتاب الذي يشرحه؛ لأنه يرد هذه الاحتمال راوية الحديث في الموضع الثاني أو الثالث أو العاشر ويُورد احتمالًا؛ لأنه ما عنده شيء أو نقل يعتمد عليه، وكما قال الحافظ –رحمه الله-: الاحتمالات العقلية لا مدخل لها في هذا الفن، ورواية معمر وهو الثالث عن الزهري ساقها المؤلف بتمامها في التفسير.

"وقد أشرنا إلى بعض فوائد زوائده فيما مضى أيضًا وذكر فيه من قصة ابن الناطور قطعةً مختصرة عن الزهري مرسلة، فقد ظهر أن أبا اليمان ما روى هذا الحديث عن واحدٍ من الثلاثة، وإنما رواه عن شعيب كما في هذا الموضع، ما روى لا عن صالح بن كيسان، ولا عن يونس، ولا معمر، وقد أورده الكرماني والاحتمال الأول، فقد ظهر لك أن أبا اليمان ما روى هذا الحديث عن واحدٍ من الثلاثة، وأن الزهري إنما رواه لأصحابه بسندٍ واحد عن شيخٍ واحد وهو عبيد الله بن عبد الله عتبة بن مسعود، وأن أحاديث الثلاثة عند المصنِّف، وأن أحاديث الثلاثة صالح بن كيسان، ويونس، ومعمر عند المصنَّف من غير أبي اليمان، ولو احتمل أن يرويه لهم أو لبعضهم عن شيخٍ آخر لكان ذلك اختلافًا قد يفضي إلى الاضطراب الموجب للضعف".

 يعني لو قلنا بالاحتمال الذي أورده الكرماني لو قُدِّر أنه رواه، ولو احتمل أن يرويه لهم أو لبعضهم عن شيخٍ آخر غير عبيد الله بن عبد الله بن عتبة لكان ذلك اختلافًا قد يُفضي إلى الاضطراب الموجب للضعف، فلاح فساد ذلك الاحتمال، والله سبحانه وتعالى الموفق والهادي إلى الصواب لا إله إلا هو" كيف روايته رواية الزهري لهذا الحديث عن غير عبيد الله أو رواية شعيب عن الزهري أو رواية واحد من الثلاثة عن الزهري يكون فيه اضطراب، كيف يكون فيه اضطراب؟

المضطرب هو الحديث الذي يُروى على أوجهٍ مختلفة متساوية، يعني قبلنا أن يُروى عن الزهري من غير الوجه الذي عرفناها أربعة وجوه: صالح بن كيسان، ويونس، ومعمر، وشعيب الذي معنا، ما قالوا: اضطراب.

قال: "ولو احتمل أن يرويه لهم أو لبعضهم عن شيخٍ آخر لكان ذلك اختلافًا قد يُفضي إلى الاضطراب الموجب للضعف، فلاح فساد ذلك الاحتمال، والله سبحانه وتعالى الموفق والهادي إلى الصواب لا إله إلا هو" يعني أحيانًا يكون التعدد قادحًا، وأحيانًا يكون التعدد مقويًا، فمتى يُعتبر قادحًا، ومتى يُعتبر مقويًا؟

طالب:.........

كيف؟

طالب:.........

لا..لا قد يكون دخول الراوي طالب العلم المبتدئ وحتى المتوسط والعالم في الحديث قد يجعله مثل هذا، لكن إذا دلت القرائن أنه مُقحم أو أن الراوي عن هؤلاء المجموعة الذين روي عنهم الحديث رواه عنهما ولم يثبت عن أحدهما لا بعينه ولم يثبت ترجيح أحد الطريقين على الآخر، فهذا هو الاضطراب، لكن إن أمكن ترجيح أحد الطريقين على الآخر انتفى الاضطراب قد يُفضي إلى الاضطراب الموجب للضعف فلاح فساد ذلك الاحتمال.

وكلام ابن حجر هذا لخصه العيني في (عمدة القاري)، لخصه ابن حجر في (انتقاد الاعتراض) بعد أن ذكر كلام العيني بحروفه، قال: "فأخذ الكلام بطوله" يعني أخذه العيني من (فتح الباري) بحروفه، فقدَّم فيه وأخَّر، وأوهم أنه من تصرفه وليس كذلك، هذه طريقة من يستفيد من الآخرين بدون عزو، العيني ينقل الورقة والورقتين من (فتح الباري)، لكن منزلته تأبى أن ينقل الكلام من غير تصرف، إنما يتصرف باختصار وزيادة وتقديم وتأخير؛ ليكون مقامه واضحًا في التصريف.

قال:" وأوهم أنه من تصرفه، وليس الأمر كذلك" أولاً: أنه ما عزى الكلام، ومن بركة العلم إضافة القول إلى قائله.

الأمر الثاني: أنه جاء بألفاظٍ يُستشف منها الإعجاب بما كتب مع أنه نقله من غيره، أهل العلم قد يصدر من بعض المحققين منهم وأهل الإخلاص كلام يُفهم منه شيء من الاغترار بالنفس والإعجاب بها، تجده يقول: اقرأ هذا الكلام، علَّك ألا تجده في موضعٍ آخر، يغري القارئ بقراءة هذا الكلام، ولا شك أن المظنون بمثل هذا أنه يُغري به من باب الحرص عليه، والحث عليه؛ ليكسب أجر هذا القارئ، وأجر من دله هذا القارئ على قراءته إلى ما شاء الله -جلَّ وعلا-.

"وأوهم أنه من تصرفه وليس كذلك".

 والحديث أخرجه الإمام البخاري في اثني عشر موضعًا يأتي بيانها -إن شاء الله تعالى- في دروسٍ لاحقة، والله أعلم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

نعم، هذا يقول: فائدة: قال الحافظ في الثالث عشر.

يعني في آخر الكتاب.

وما اتفق له من المناسبات ولم أر من نبَّه عليها أنه يعتني غالبًا بأن يكون في الحديث الأخير من كل كتابٍ من كتب الجامع مناسبة لختمه، ولو كانت كلمة في أثناء الحديث الأخير أو من الكلام عليه.

يعني كما وقع هنا في آخر بدء الوحي ذكر "وكان هذا آخر شأن هرقل".

يقول: هل يحتاج هرقل أن قومه يرضون عنه مع أن هو الملك وبيده السلطة؟

لا شك أن الشخص بمفرده في مواجهة شعب كامل أو ما أشبه ما يمكن أن يثبت أمامهم، ولكان بيده ما بيده.

نعم.

طالب:.........

نعم.

طالب:.........

نعم، لا تُكثر لا تُكثر منها؛ لأن الإكثار يحتاج إلى دليل، وإن كان في عموم قوله –عليه الصلاة والسلام-: «والعمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما» يدل على أنه لا مانع من ذلك.

طالب:.........

لأمك، ما اعتمرت لها أبدًا اعتمر لأمك.

كيف كان القدماء يُعدلون في كتبهم بالإضافة والحذف والتغيير، هل كانوا يلغون تلك الورقة ويكتبونها من جديد؟

على كل حال المخطوطات موجودة والإضافات والحذف كلها موجودة، فهناك ما يُسمى باللحق يُخرَّج من أصل الكتاب من بين الكلمات في الموضع الذي يُزاد، الذي يُراد الزيادة فيه، ويُشار إلى الحاشية، فيُزاد أن هذا من الأصل، وأما ما يُراد إلغاؤه فيُضرب عليه بالقلم، ويُقال: مِن أوله من، وفي آخره إلى، يعني من هذا الموضع إلى ذلك الموضع زائد؛ ولذلك يكتبون عليه لا مِن وإلى لا، يعني ليس من الكتاب أو لا يُوجد في الأصل.

طالب:.........

نعم.

طالب:.........

ما يضر، اعتمر عن أمك، فضل الله واسع، الحج يقبل النيابة والعمرة تقبل النيابة «حج عن أبيك واعتمر».

"