التعليق على الموافقات (1433) - 02

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

هذا يسأل يقول: ذكر ابن مفلح في الآداب الشرعية، أن شيخ الإسلام قال: التوبة المجملة لا توجب دخول كل فرد من أفراد الذنوب فيها، ولا تمنع دخوله كاللفظ المطلق، بخلاف العام؟

لا بد من استحضار الذنب الذي يريد التوبة منه، فإذا استحضر جميع الذنوب شملت جميع الذنوب، إذا قصد بها التوبة من جميع الذنوب صارت توبة عامة، وإذا استحضر الذنوب جميعها بأوصافها وألقابها صارت توبة مطلقة، تشمل جميع الذنوب، أما إذا لم يستحضر، قال: أستغفر الله وأتوب إليه، فإن هذا لا يدخل فيها كل فرد من أفراد الذنوب، لكن ما الذي يدخل فيها حينئذٍ؟ هو حينما يقول هذا الكلام لا بد أن يستحضر شيئًا من الذنوب، ولو قل، فيدخل فيها ما يستحضره من باب إطلاق العام المخصوص أو الذي أريد به الخصوص، العام الذي أريد به الخصوص؛ لأنه لم يستحضر، وفي الحديث الصحيح: «وإنما لكل امرئ ما نوى».

يقول: وهل تُقبل التوبة العامة مع إصرار العبد على ذنب واحد؟

هو إذا استحضر هذا الذنب فإنه يدخل في هذه التوبة العامة، هذا الذنب الذي أصر عليه يدخل في هذه التوبة، فإذا قُبلت بشروطها شملت هذا الذنب. لكن كيف يتوب مع أنه مُصر على معاودة هذا الذنب؛ لأن من شرط التوبة أن يعزم ألا يعود، شرط من شروطها، فإذا كان في ذهنه أنه يعود فتوبته هذه لا تنفع؛ لأنه أخل بشرطها، والله أعلم.

نعم.

طالب: بسم الله الرحمن الرحيم.

 والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم اغفر لشيخنا وللحاضرين.

قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: "فصل: مناقشة الأمثلة المعترض بها على أصل المسألة".

الترجمة هذه من وضع المحقق، أو من عندك؟

طالب: مكتوبة عندي يا شيخ.

من تحقيقه هذا؟

طالب: دراز يا شيخ.

ماذا؟

طالب: عبد الله دراز.

لا، دراز ما ترجم، وإلا دراز طبعته الأولى القديمة ما فيها تراجم، لكن ما عليها اسم ثانٍ؟

طالب: طبعة جديدة يا شيخ.

ماذا؟

طالب: طبعة جديدة، تحقيق محمد........

نعم، لعلها من الثاني، محمد هذا.

طالب: نعم.

محمد من؟

طالب: .......

ميز هذه الترجمة عن أصل الكتاب؟

طالب: لا.

وضعها بالحاشية؟

طالب: لا يا شيخ.

أو في صلب الكتاب؟

طالب: لا، في صلبه.

ولا وضعها بين معقوفات وأشار إلى أنها من زيادته؟

طالب: ممكن في المقدمة ذكرها مع.......

وضعها بين معقوفين أم ما؟

طالب: بين قوسين نعم.

فيه أقواس؟

طالب: نعم.

طيب، نعم.

طالب: "فصل: ويتبين لك صحة ما تقرر في النظر في الأمثلة المعترض بها في السؤال الأول. فأما قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82]، فإن سياق الكلام يدل على أن المراد بالظلم أنواع الشرك على الخصوص، فإن السورة من أولها إلى آخرها مقرِّرة لقواعد التوحيد، وهادمة لقواعد الشرك وما يليه، والذي تقدم قبل الآية قصة إبراهيم -عليه السلام- في محاجته لقومه بالأدلة التي أظهرها لهم في الكوكب والقمر والشمس، وكان قد تقدم قبل ذلك قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} [الأنعام: 21]، فبيَّن أنه لا أحد أظلم ممن ارتكب هاتين الخصلتين، وظهر أنهما المعني بهما في سورة الأنعام إبطالًا بالحجة، وتقريرًا".

نعم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

سورة الأنعام فيها تقرير لمسائل الاعتقاد من أولها إلى آخرها، والآية: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82]، معروف أن الظلم هنا نكرة وفي سياق نفي، فيشمل جميع أنواع الظلم، وهذا الذي جعل الصحابة يستشكلون معنى الآية، فيقولون له -عليه الصلاة والسلام-: «أينا لم يظلم نفسه؟»، فأجابهم بأن المراد بالظلم الشرك: «ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]؟». المؤلف استدل على أن الآية من العام الذي أريد به الخصوص، بجوابه -عليه الصلاة والسلام- للصحابة، وبدلالة السياق، سياق الآيات كلها بتقرير التوحيد وتحقيق التوحيد ونفي ما يضاده وهو الشرك، فهل من المخصصات السياق؟

إذا جاءت الآية في سياق معين، أو الحديث في سياق معين، هل يُحمل هذا اللفظ وهذه الجملة من الحديث أو هذه الآية على ما يدل عليه السياق، أو تبقى على عمومها؟ الأصل أنها تبقى على عمومها، لكن هل يمكن أن نخصص الآية بالحديث؟ إذا قلنا: إنها من العام الذي أريد به الخصوص، قلنا: السياق له أثر في هذا الخصوص، عام أريد به الخصوص لا يراد به جميع أفراد الظلم ولا أنواعه، بدليل السياق.

أو نقول: هي من العام المخصوص؛ لأن اللفظ عموم: نكرة في سياق النفي، فهو عام، عام مخصوص بالحديث.

طالب: .......

أو أن الحديث ذكر فردًا من أفراد العام، وذكر، وتفسير اللفظ بذكر أفراده، بذكر بعض أفراده لا يقتضي التخصيص. ومثل ما قد ذكرنا في مناسبات: أن تفسير القوة بالرمي، لا يعني أننا لا نبحث عن مواطن القوة في غير الرمي، {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60]، قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: «ألا إن القوة الرمي»، يعني معناه أننا ما نتخذ من وسائل الدفاع غير الرمي؟ أو وسائل الحرب وآلات الحرب غير الرمي؟ فتفسير العام ببعض أفراده لا يقتضي التخصيص.

ومثل ما قلنا أيضًا مسألة: «إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا»، فُسرت رياض الجنة بأنها حلق الذكر، لكن هل في هذا ما يمنع من دخول «ما بين بيتي ومنبري -عليه الصلاة والسلام- روضة من رياض الجنة»، وتدخل في قوله: «فارتعوا»؟ ما فيه ما يمنع.

المؤلف يريد أن يقصر الآية على الشرك بدلالة السياق، مع أنه لو تأملنا المعنى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82]، اللفظ لفظ عموم، {أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ} [الأنعام: 82]، {الْأَمْنُ} أيضًا مطلق، فهذا يقابل هذا، فالأمن المطلق يمنع انتفاء الظلم المطلق، والظلم المطلق يتناول الشرك بأنواعه، ويتناول البدع، ويتناول المعاصي، كلها ظلم، يتناول ظلم العبد لنفسه وظلمه لغيره هو داخل في السياق، اللهم إلا إذا قصرنا هذا العام على الشرك بدليل أن النبي- عليه الصلاة والسلام- قال لأصحابه ما قال.

وفيه كلام أذكر للشيخ عبد الرحمن بن حسن في شرح كتاب التوحيد ونقل فيه كلام ابن القيم يحسن إحضاره في هذا الموضع.

فتح المجيد ذكر هذا؟

وأذكر من كلام ابن القيم لما قرر أن جواب النبي -عليه الصلاة والسلام- للصحابة، ذكر كلام ابن القيم -رحمه الله- الشيخ عبد الرحمن، وختمه بقوله: ولا شك أن المطلق للمطلق والحصة للحصة. يعني الأمن المطلق لنفي الظلم المطلق، والحصة للحصة، يعني مطلق الأمن، نعم، لمطلق انتفاء الظلم، والأمن المطلق لانتفاء الظلم المطلق.

قال -رحمه الله-: وقول الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82]. قال ابن جرير: حدثني المثنى، وساق بسنده عن الربيع بن أنس قال: الإيمان الإخلاص لله وحده. وقال ابن كثير في الآية: أي هؤلاء الذين أخلصوا العبادة لله وحده ولم يشركوا به شيئًا هم الآمنون يوم القيامة المهتدون في الدنيا والآخرة. وقال زيد بن أسلم وابن إسحاق: هذا من الله على فصل القضاء بين إبراهيم وقومه.

ثم ذكر قصة الصحابة وسؤالهم النبي -عليه الصلاة والسلام-، قال: ولأحمد بنحوه عن عبد الله، قال: لما نزلت {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] شق ذلك على أصحاب رسول الله ... ثم ذكر قريبًا مما ذكرناه سابقًا.

قال شيخ الإسلام: والذي شق عليهم أنهم ظنوا أن الظلم المشروط عدمه هو ظلم العبد نفسه.

يعني هم فهموا من الظلم نوعًا من أنواعه، مع أن المفترض وهم عرب أقحاح أنهم يفهمون من الظلم جميع أنواعه حتى ظلم العبد لنفسه الذي خافوا منه وذكروه في السؤال: «وأينا لم يظلم نفسه؟».

والذي شق عليهم أنهم ظنوا أن الظلم المشروط عدمه هو ظلم العبد نفسه، وأنه لا أمن ولا اهتداء إلا لمن لم يظلم نفسه، فبين لهم النبي ودلهم على أن الشرك ظلم في كتاب الله، فلا يحصل الأمن والاهتداء إلا لمن لم يلبس إيمانه بهذا الظلم، فإن من لم يلبس إيمانه بهذا الظلم كان من أهل الأمن والاهتداء، كما كان من أهل الاصطفاء في قوله: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} [فاطر: 32]، هذا مصطفى: {ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ}، لكن هل له الاصطفاء التام؟ وهل له الأمن التام؟ لا، بل هو متوعَّد بحسب ما يرتكبه من جرم، ويناله من الخوف بقدر هذا الوعيد، {وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر: 32]، وهذا لا ينفي أن يؤاخذ أحدهم بظلمه لنفسه بذنب إذا لم يتب كما قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7، 8]. وقد سأل أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- النبي فقال: «يا رسول الله، أينا لم يعمل سوءًا؟ فقال: يا أبا بكر ألست تنصب؟ ألست تحزن؟ أليس يصيبك اللأواء؟ فذلك ما تجزون به».

جواب النبي -عليه الصلاة والسلام- للصحابة هو داخل في أحاديث الوعد، أنتم ما دمتم حققتم التوحيد ولا تشركون فلكم الأمن، ومثل هذا الجواب يحسن لمن كانت هذه صفته، يحسن لم كانت هذه صفته، يأتيك فزعًا قلقًا، فهم آية على معنى وهي تحتمل هذا المعنى، فأنت تريد أن تخفف من فزعه، وتهدئ من روعه، تجيبه بما يسره. لكن لو جاءك واحد مستهتر تجيبه بمثل هذا الكلام؟ شخص مدمن خمر أو مرتكب للفواحش وعظائم الأمور، نعم ما عنده شرك، فهل تقول له: لا لا، ما عليك أنت، لك الأمن؟ نعم؛ لأن الظلم المراد به الشرك؟

مثل ما قلنا في مناسبات كثيرة إن النصوص علاج، كلٌّ يعالَج بما يناسبه من هذه النصوص. فإذا جاء مثل عبد الله بن عمرو رجل متحمس يريد أن يقرأ القرآن في كل يوم، نقول له: إن عثمان يختم في ركعة؟ ما نقول له هذا الكلام، نزيده، مثل ما يختم بيوم أختم مرتين بيوم. نقول: لا، اقرأ القرآن في شهر، مثل ما قال الرسول -عليه الصلاة والسلام- لعبد الله بن عمرو؛ لأن هذا يحتاج من يخفف عليه. لكن لو جاءك واحد ما يفتح القرآن، ومنتسب إلى طلب العلم، ما يفتح القرآن إلا من رمضان إليه، تقول له: من أنت؟ الشافعي يختم في كل ليلة! عثمان كذلك، والحرف بعشر حسنات، والختمة بثلاثة ملايين يا محروم! زد ما دام عندك وأنت تقدر. فالنصوص علاج.

الصحابة لما خافوا من الظلم: «وأينا لم يظلم نفسه؟»، قال لهم: الظلم المراد به الشرك، هذا الجواب يناسبهم جدًّا، ويناسب من كان في مثل حالهم؛ لأن مثل هذا لو قيل له: ظلم الإنسان لنفسه ولا له أمن! مثل هذا ماذا يفعل؟ هذا يقنط من رحمة الله وييأس من روح الله.

فبيَّن أن المؤمن الذي إذا مات دخل الجنة، قد يُجزى بسيئاته في الدنيا بالمصائب، فمن سلم من أجناس الظلم الثلاثة: الشرك وظلم العباد وظلمه لنفسه بما دون الشرك، كان له الأمن التام والاهتداء التام. ومن لم يسلم من ظلمه لنفسه، كان له الأمن والاهتداء المطلق. يعني أمن المسلمين الذين مآلهم إلى الجنة، بغض النظر عن دخولهم النار وعذابهم المتوعَّد على ارتكابه ما يرتكبون من المحرمات.

ومن لم يسلم من ظلمه لنفسه كان له الأمن والاهتداء المطلق، بمعنى أنه لا بد أن يدخل الجنة، كما وُعد بذلك في الآية الأخرى، وقد هداه الله إلى الصراط المستقيم الذي تكون عاقبته فيه إلى الجنة، ويحصل له من نقص الأمن والاهتداء بحسب ما نقص من إيمانه بظلمه لنفسه.

هل نقول: إن هذا معارض لجواب النبي -عليه الصلاة والسلام- الصحابة: «أينا لم يظلم نفسه؟»، قال: لا، الظلم الشرك. ومفاده أن ظلم الإنسان نفسه لا يدخل في الآية.

وكلام الشيخ -رحمه الله-: ويحصل له من نقص الأمن والاهتداء بحسب ما نقص من إيمانه بظلمه لنفسه، وليس مراد النبي بقوله: «إنما هو الشرك»، أن من لم يشرك الشرك الأكبر يكون له الأمن التام والاهتداء التام، فإن أحاديثه الكثيرة من نصوص القرآن تبين أن أهل الكبائر معرضون للخوف، لم يحصل لهم الأمن التام والاهتداء التام الذين يكونون به من المهتدين إلى الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من غير عذاب يحصل لهم، بل معهم أصل الاهتداء إلى هذا الصراط، ومعهم أصل نعمة الله عليهم، ولا بد لهم من دخول الجنة.

وقوله: «إنما هو الشرك»، إن أراد الأكبر فمقصوده أن من لم يكن من أهله فهو آمن، يعني من أهل الشرك الأكبر، مما وُعد به المشركون من عذاب الدنيا والآخرة، وإن كان مراده جنس الشرك يقال: ظلم العبد نفسه كبخله لحب المال ببعض الواجبات هو شرك أصغر، وحبه ما يبغضه الله تعالى حتى يقدم هواه على محبة الله شرك أصغر، ونحو ذلك، فهذا فاته من الأمن والاهتداء بحسبه، ولهذا كان السلف يُدخلون الذنوب في هذا الشرك بهذا الاعتبار. انتهى ملخصًا من كتاب الإيمان لشيخ الإسلام ابن تيمية.

يفسرون تحقيق التوحيد، باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب. من حقق التوحيد يعني خلصه وصفاه من شوائب الشرك بأنواعه والبدع والمعاصي، فالذي يكون له الأمن التام هو من حقق التوحيد، ومن حقق التوحيد من صفاه وخلصه من شوائب الشرك والبدع والمعاصي. قد يقول قائل: على هذا ما يدخل الجنة بهذا القيد إلا شخص معصوم؟ نقول: لا، ما يلزم، يكون خطاءً ويخطئ ويذنب، لكنه يتوب. أما إذا مات من غير توبة وقد ارتكب كبيرة فإنه معرض للعقاب.

وقال ابن القيم: قوله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82]، قال الصحابة: «وأينا يا رسول الله، لم يلبس إيمانه بظلم؟ قال: ذلك الشرك، ألم تسمعوا قول العبد الصالح: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]»، لما أشكل عليهم المراد بالظلم فظنوا أن ظلم النفس داخل فيه، وأن من ظلم نفسه أي ظلم كان، ولو كان يسيرًا يعني، وأن من ظلم نفسه أي ظلم كان لم يكن آمنًا ولا مهتديًا. أجابهم -صلوات الله وسلامه عليه- بأن الظلم الرافع للأمن والهداية على الإطلاق هو الشرك، ففسر الظلم بأعلى أنواعه، وهذا هو والله الجواب الذي يشفي العليل، ويروي الغليل؛ فإن الظلم المطلق التام هو الشرك الذي هو وضع العبادة في غير موضعها، والأمن والهدى المطلق هما الأمن في الدنيا والآخرة والهدى إلى الصراط المستقيم. فالظلم المطلق التام، يعني الشرك، رافع للأمن وللاهتداء المطلق التام، ولا يمنع ذلك أن يكون مطلق الظلم مانعًا من مطلق الأمن ومطلق الهدى؛ يعني فرق بين الأمن المطلق ومطلق الأمن، فتأمله، فالمطلق للمطلق والحصة للحصة.

طالب: أثابكم الله يا شيخ، الوجه الثاني الذي ذكره شيخ الإسلام بأن الشرك يدخل فيه الذنوب جميعها وأن الذنوب كلها فيها وجه من الشرك.

شوب شركي؟

طالب: نعم. على هذا المعنى يكون جواب النبي للصحابة فيه نوع من التورية، بأن يكون على شيء وفهم أنه شيء آخر.

نعم.

طالب: .......

لا، هو الشرك إذا أُطلق فحقيقته الشرعية محررة ومحددة، حقيقته الشرعية محررة فيما يقابل التوحيد، لكن عمومه يتناول البدع والمعاصي؛ لأنها كلها نابعة عن هوى: {مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية: 23]، يعني الذي يعصي وتبع هواه اتخذه إلهًا، ومن اتخذ إلهًا مع الله غير الله فهو مشرك.

طالب: "فبين أنه لا أحد أظلم ممن ارتكب هاتين الخصلتين، وظهر أنهما المعني بهما في سورة الأنعام إبطالًا بالحجة، وتقريرًا لمنزلتهما في المخالفة، وإيضاحًا للحق الذي هو مضاد لهما، فكأن السؤال إنما ورد قبل تقرير هذا المعنى.

وأيضًا فإن ذلك لما كان تقريرًا لحكم شرعي بلفظ عام، كان مظنةً لأن يُفهم منه العموم في كل ظلم، دق أو جل، فلأجل هذا سألوا -رضي الله عنهم- وكان ذلك عند نزول السورة، وهي مكية نزلت في أول الإسلام قبل تقرير جميع كليات الأحكام. وسبب احتمال النظر ابتداءً أن قوله: {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] نفي على نكرة، لا قرينة فيها تدل على استغراق أنواع الظلم؛ بل هو كقوله: لم يأتني رجل، فيحتمل المعاني التي ذكرها سيبويه، وهي كلها نفي لمُوجِب مذكور أو مقدَّر".

"لمُوجَب".

طالب: "وهي كلها نفي لمُوجَب مذكور أو مقدَّر، ولا نص في مثل هذا على الاستغراق في جميع الأنواع المحتملة، إلا مع الإتيان بمِن وما يعطي معناها".

"الإتيان بمِن"، ودخول "من" على النكرة في سياق النفي مؤكدة للعموم، لا تثبت أصل العموم، أصل العموم ثابت من السياق، وهي كونها نكرة في سياق النفي. أما تأكيد العموم، تقول: ما جاءني أحد، هذا عموم بلا شك. لكن إذا قلت: ما جاءني من أحد، تأكد هذا العموم.

طالب: "وذلك مفقود هنا؛ بل في السورة ما يدل على أن ذلك النفي وارد على ظلم معروف، وهو ظلم الافتراء على الله والتكذيب بآياته، فصارت الآية من جهة إفرادها بالنظر في هذا المساق مع كونها أيضًا في مساق تقرير الأحكام مجملة في عمومها، فوقع الإشكال فيها، ثم بيَّن لهم النبي أن عمومها إنما القصد به نوع أو نوعان من أنواع الظلم، وذلك ما دلت عليه السورة، وليس فيه تخصيص على هذا الوجه".

النوع الذي هو الشرك، أو النوعان اللذان ذكرهما في الآية: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} [الأنعام: 21]، {افْتَرَى... أَوْ كَذَّبَ}.

طالب: "وأما قوله: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأنبياء: 98]، فقد أجاب الناس عن اعتراض ابن"؟

"الزِّبَعْرَى".

طالب: "ابن الزِّبَعْرَى فيها بجهله بموقعها، وما رُوي عن الموضع أن النبي".

ما روي في الموضع.

طالب: "في الموضع"؟

"في".

طالب: "وما رُوي في الموضع أن النبي قال له: «ما أجهلك بلغة قومك يا غلام»؛ لأنه جاء في الآية: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ} [الأنبياء: 98]، و(ما) لما لا يعقل، فكيف تشمل الملائكة والمسيح؟!".

هذا الخبر المضاف إليه -عليه الصلاة والسلام- لا يثبت مرفوعًا، ليس بصحيح، ويمكن أن يُجاب، أجاب الناس عن اعتراض ابن الزبعرى. أما كونه مرفوعًا إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-، فهذا الكلام ليس بصحيح؛ لأنه قال: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98]، قال: إنهم يعبدون المسيح، ويعبدون عزيرًا، ويعبدون الملائكة، هؤلاء من حصب جهنم؟ يجاب عنه من كلام الناس لا من كلام النبوة: أن (ما) ليست للعاقل. لكن ما الذي يُخرج العاقل منها؟ إذا كان راضيًا بعبادته، فمن عُبد من دون الله وهو راضٍ فهو طاغوت، ويدخل فيها دخولًا أوليًّا، لكنه لا يُدخله في حيز العقلاء؛ لأنه رضي بما لا يرضى به عاقل، فيصح دخول (ما) وإن كان أصله من جملة العقلاء، يعني فيه عقل، لكن العقل الذي لا ينفع فوجوده مثل عدمه.

طالب: أحسن الله إليك.......

لكن لو تأملت السياق في (ما) التي يراد بها العقلاء، وجدت فيها شوبًا من وصف من لا يعقل، {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ} [النساء: 3] المراد النساء عقلاء مكلفات، والعقل مناط التكليف، (وما) {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ} [النساء: 3].

طالب: .......

لا، في الحديث: «ناقصات عقل».

طالب: "والذي يجري على أصل مسألتنا أن الخطاب ظاهره أنه لكفار قريش، ولم يكونوا يعبدون الملائكة ولا المسيح، وإنما كانوا يعبدون الأصنام، فقوله: {وَمَا تَعْبُدُونَ} [الأنبياء: 98] عام في الأصنام التي كانوا يعبدون، فلم يدخل في العموم الاستعمالي غير ذلك".

لكن المقرر عند أهل العلم قاطبة، ونقل عليه الاتفاق وإن وُجد الخلاف: أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. نعم، قريش يعبدون الأصنام، ولا يعبدون عزيرًا ولا يعبدون المسيح ولا، إنما يعبدون الأصنام وهي غير عاقلة فتدخل في الآية. لكن العموم عموم اللفظ يشمل كل ما يُعبد من دون الله، وإذا خرج منها شيء فإنما يُخرج بنص. وقد يقول قائل: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأنبياء: 98] جرى على الغالب، أن غالب من يُعبد غير عاقل. ونضيف ونقول: إن كل ما يُعبد من دون الله ممن يستحق هذا الوعيد ليس بعاقل، ولو كان من جملة من رُكب فيهم العقل.

طالب: "فقوله: {وَمَا تَعْبُدُونَ} [الأنبياء: 98] عام في الأصنام التي كانوا يعبدون، فلم يدخل في العموم الاستعمالي غير ذلك، فكان اعتراض المعترض جهلًا منه بالمساق، وغفلةً عما قُصد في الآيات. وما رُوي من قوله: «ما أجهلك بلغة قومك يا غلام» دليل على عدم تمكنه في فهم المقاصد العربية، وإن كان من العرب؛ لحداثته، وغلبة الهوى عليه في الاعتراض أن يتأمل مساق الكلام حتى يتهدى".

"يهتدي".

طالب: أحسن الله إليك، "حتى يهتدي للمعنى المراد، ونزل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} [الأنبياء: 101] بيانًا لجهله. ومثله ما في الصحيح أن مروان قال لبوابه: اذهب يا رافع إلى ابن عباس، فقل له: لئن كان كل امرئ فرح بما أوتي، وأحب أن يُحمد بما لم يفعل معذَّبًا، لنُعذَّبن أجمعون. فقال ابن عباس: ما لكم ولهذه الآية؟ إنما دعا النبي يهود، فسألهم عن شيء، فكتموه إياه وأخبروه بغيره، فأرَوْه أن قد استحمدوا إليه بما أخبروه عنه فيما سألهم، وفرحوا بما أوتوا من كتمانهم. ثم قرأ ابن عباس: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [آل عمران: 187] كذلك حتى قوله: {يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} [آل عمران: 188]، فهذا من ذلك المعنى أيضًا".

يعني بدلالة السياق، وأنه لا يتناول غير هؤلاء اليهود، وأن من اتصف بهذه الأوصاف من المسلمين لا يدخل. وهذا الكلام يُسلم أم ما يُسلم؟

طالب: لا يُسلم.

غير مُسلم بلا شك.

طالب: "وبالجملة، فجوابهم بيان لعمومات تلك النصوص كيف وقعت في الشريعة".

ويقال في كلام ابن عباس مثل ما قيل في كلامه -عليه الصلاة والسلام- في جواب الصحابة، نعم.

طالب: "وإن ثَم قصدًا آخر سوى القصد العربي لا بد من تحصيله، وبه يحصل فهمها، وعلى طريقه يجري سائر العمومات، وإذ ذاك لا يكون ثَم تخصيص بمنفصل ألبتة، واطردت العمومات قواعد صادقة العموم، ولنورد هنا فصلًا هو مظنة لورود الإشكال على ما تقرر".

"وإذ ذاك لا يكون ثَم تخصيص بمنفصل ألبتة"، يعني ما فيه مخصصات منفصلة؟ إذا لم يوجد مخصص منفصل ويكون التخصيص بالمتصل فقط قضينا على جل التخصيص، مع أن العموم بلفظ العموم العمل به فيه إشكال، حتى قال جمع من أهل العلم: إنه لا يوجد عموم محفوظ إلا في أربع آيات. مع أن هذا الكلام أيضًا ليس بصحيح، شيخ الإسلام -رحمه الله- أثبت عمومات كثيرة محفوظة بأمثلة من أوائل القرآن في سورة الفاتحة والورقة الأولى من المصحف، أثبت عمومات كثيرة. لكن لا هذا ولا ذاك، لا نقول: إنه لا تخصيص بمنفصل، وسيأتي أيضًا ما يشير إلى أنه لا تخصيص بمتصل، معناه أنه ينتفي التخصيص، وهذا لا قائل به. أو أن نقول: إنه لا عموم محفوظ. أبدًا، لا هذا، ولا هذا، هذا موجود، وهذا موجود. نعم.

طالب: "واطردت العمومات قواعد صادقة العموم، ولنورد هنا فصلًا هو مظنة لورود الإشكال على ما تقرر، وبالجواب عنه يتضح المطلوب اتضاحًا أكمل.

فلقائل أن يقول: إن السلف الصالح مع معرفتهم بمقاصد الشريعة، وكونهم عربًا قد أخذوا بعموم اللفظ، وإن كان سياق الاستعمال يدل على خلاف ذلك، وهو دليل على أن المعتبر عندهم في اللفظ عمومه بحسب الوضع الإفرادي وإن عارضه السياق، وإذا كان كذلك عندهم صار ما يبين لهم خصوصه كالأمثلة المتقدمة مما خُص بالمنفصل، لا مما وُضع في الاستعمال على العموم المدعى".

لا شك أن السياق يعين على فهم المراد، وأن المقرر عند أهل العلم: العبرة بعموم اللفظ. ومن أراد أن يستدل على قوله بآية، فلا يلزمه أن يذكر السياق كاملًا مما لا دلالة عليه لمسألته أو قضيته، إنما ينزع منه ما يدل على ما يريد، لا نُلزم أن نذكر عشر آيات قبل، وعشر آيات بعد لنستخرج حكمًا واحد، هذا ما قال به أحد من أهل العلم. فالسياق لا شك أنه يُعمل به عند المعارضة، فإذا عورضت هذه الآية أو عُرض نصها أو عُرضت بمفهوم وبمنطوق أقوى أو بنص أوضح قطعي الدلالة، وهذه محتملة، فإننا حينئذٍ نلجأ إلى تفسير المراد بالسياق. كما أن قولهم: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، هذا هو الأصل، لكن قد يُعارض عموم اللفظ بما هو أقوى منه، فنقصر الحكم على سببه.

طيب، مثل ما قلنا في دروس مضت، حديث: «صل قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب»، مع حديث: «صلاة القاعد على النصف من أجر صلاة القائم». مقتضى حديث عمران: «صل قائمًا»، أن الصلاة لا تصح من قعود مع القدرة، لا تصح. ومقتضى الحديث الثاني أنها تصح لكن على النصف من الأجر. كيف نوفق بين هذين النصين؟ العلماء حملوا النص الأول على الفريضة، والثاني على النافلة، الفريضة لا تصح من قعود مع القدرة، ولذلك يقولون في أركان الصلاة: القيام مع القدرة، ركن من أركانها. والنافلة تصح من قعود، لكن على النصف.

طيب النص عام: «صلاة القاعد على النصف من أجر صلاة القائم»، عُورض بما هو أقوى منه، فاحتجنا أن نقصر النص على سببه، نظرنا في السبب، وهو أن النبي -عليه الصلاة والسلام- دخل المسجد والمدينة محمة، يعني فيها حمى، فوجدهم يصلون من قعود، فقال: «صلاة القاعد على النصف من أجر صلاة القائم»، فتجشم الناس الصلاة قيامًا، فدل على أنها نافلة، بدليل أنهم صلوا قبل أن يحضر، والفريضة لا يصلون إلا وراءه -عليه الصلاة والسلام-. وهي أيضًا في القادر؛ لأن غير القادر إذا صلى قاعدًا فأجره تام سواء كانت فريضة أو نافلة، لكن إذا كان قادرًا على النصف من الأجر؛ لأنهم تجشموا القيام، واستطاعوا أن يقوموا فصلوا من قيام. فقصرنا الحديث على سببه، ولم نعمل بعمومه؛ لأن عمومه معارض بما هو أقوى منه.

طالب: "ولهذا الموضع من كلامهم أمثلة، منها أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كان يتخذ الخشن من الطعام، كما كان يلبس المرقَّع في خلافته، فقيل له: لو اتخذت طعامًا ألين من هذا؟ فقال: أخشى أن تعجل طيباتي، يقول الله تعالى: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} [الأحقاف: 20] الحديث. وجاء أنه قال لأصحابه وقد رأى بعضهم قد توسع في الإنفاق شيئًا: أين تذهب بكم هذه الآية: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} [الأحقاف: 20]، وسياق الآية يقتضي أنها إنما نزلت في الكفار".

نعم. هذا موقوف على عمر، وفيه ضعف. لكن ثبت عنه -عليه الصلاة والسلام- أنهم لما خرجوا جياعًا، الرسول -عليه الصلاة والسلام- وأبو بكر وعمر، ثم وجدوا من يقريهم ويضيفهم، وأكلوا من أطايب الطعام، قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: «لتسألن يومئذ عن النعيم»، يسأل عن هذا النعيم الذي يعيشه.

طالب: هل نقول كلام عمر غير صحيح يا شيخ يعني أم ..؟

ماذا؟

طالب: يعني هل نقول إن.......

لا، هو كلام عمر ما فيه شك أنه في صميم الموضوع، لكن يبقى أنه موقوف عليه، ثم إنه أيضًا فيه كلام لأهل العلم، مُضعف، فما ثبت عنه -عليه الصلاة والسلام- أقوى في الموضوع.

طالب: "وسياق الآية يقتضي أنها إنما نزلت في الكفار الذين رضوا بالحياة الدنيا من الآخرة، ولذلك قال: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ} [الأحقاف: 20]، ثم قال: {فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} [الأحقاف: 20]، فالآية غير لائقة بحالة المؤمنين، ومع ذلك فقد أخذها عمر مستندًا في ترك الإسراف مطلقًا.

 وله أصل في الصحيح في حديث المرأتين المتظاهرتين على النبي ، حيث قال عمر للنبي : ادع الله أن يوسع على أمتك، فقد وسع على فارس والروم وهم لا يعبدونه. فاستوى جالسًا، فقال: «أوَفي شك أنت يا ابن الخطاب؟! أولئك قوم عُجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا». فهذا يشير إلى مأخذ عمر في الآية، وإن دل السياق على خلافه.

وفي حديث الثلاثة الذين هم أول من تُسعر بهم النار يوم القيامة، أن معاوية قال: صدق الله ورسوله {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} [هود: 15] إلى آخر الآيتين. فجعل مقتضى الحديث وهو في أهل الإسلام، داخلًا تحت عموم الآية وهي في الكفار؛ لقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ} [هود: 16] إلى آخره، فدل على الأخذ بعموم (مَن) في غير الكفار أيضًا.

وفي البخاري، عن محمد بن عبد الرحمن، قال: قُطع على أهل المدينة بعثٌ، فاكتُتبت فيه..".

الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار: الرجل يُقتل في سبيل الله، ثم يؤتى به فيقرَّر فيقال له: ماذا صنعت؟ فيقول: قاتلت فيك حتى قُتلت، فيقال له: كذبت، إنما قاتلت ليقال: جريء، فيؤمر به فيلقى في النار.

والثاني: رجل تعلم العلم وعلمه فيقرر فيقول: تعلمت العلم وعلمته فيك، فيقال: كذبت، علمت ليقال: عالم، فيؤمر به فيلقى في النار.

والثالث: رجل يتصدق، ما من باب من أبواب الخير إلا وله فيه سهم، يتصدق فيؤتى به فيقرر فيقول ذلك ويذكر، فيقال له: كذبت، إنما فعلت ليقال: جواد، فيؤمر به فيلقى في النار. هؤلاء الثلاثة هم أول من تُسعر بهم النار، نسأل الله العافية.

وهذا الحديث لا شك أنه مخيف، يعني رجل يمضي عمره ووقته وجهده وماله في تحصيل العلم وفي بذله ونشره، وفي قلبه هذه الدخيلة الخبيثة، والرجل ينفق أمواله يتعب على جمعها ثم ينفقها كل من جاءه يقول خذ. هل نظن أن هذا ليس موجودًا في المسلمين؟ لا، موجود ووجود كثرة، إذا وُجد من الأغنياء من إذا أتاه الفقير أو صاحب مشروع خيري وكان في مجمع من الناس، كتب له شيكًا وأجزل، أكثر من مرة، إذا سلم الشيك في هذا المجمع دخل واتصل على البنك قال: وقفوا هذا الصرف!

هذا موجود وحصل، ومثل هذا كثير. وعاد في الجهاد -نسأل الله العافية- الذي يقاتل ليقال شجاع، هذا أيضًا له وجود.

وأما في العلم والتعليم، فحدث ولا حرج، لا سيما بعد أن دخلت الدنيا في هذا السبيل، وصار العلم والتعليم من أبواب الكسب، بل من الأبواب المربحة للكسب،- نسأل الله السلامة-. نعم.

طالب: شيخ، قوله تعالى: {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} [الغاشية: 3، 4] يدخل في هذا المعنى؟

على القول، وهو قول الأكثر، أنها {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} في الدنيا و{تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} في الآخرة، هذا على القول تدخل. لكن من قال: إنها {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ}؛ {عَامِلَةٌ} في النار و{نَاصِبَةٌ} في النار أيضًا، ويشهد له قوله: {يَوْمَئِذٍ} [الغاشية: 2]، يعني يوم القيامة. وهذا قول لجمع من أهل العلم، وله الحظ من النظر.

طالب: "وفي البخاري عن محمد بن عبد الرحمن قال: قطع على أهل المدينة بعث، فاكتتبت فيه، فلقيت عكرمة مولى ابن عباس، فأخبرته، فنهاني عن ذلك أشد النهي، ثم قال: أخبرني ابن عباس أن أناسًا من المسلمين كانوا مع المشركين يكثِّرون سواد المشركين على عهد رسول الله ، يأتي السهم يُرمى به فيصيب أحدهم فيقتله، أو يضرب فيُقتل، فأنزل الله- عز وجل-: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} الآية [النساء: 97]. فهذا أيضًا من ذلك؛ لأن الآية عامة فيمن كثَّر سواد المشركين، ثم إن عكرمة أخذها على وجه أعم من ذلك.

وفي الترمذي والنسائي عن ابن عباس لما نزلت".

وهو موجود في مسلم، وهو أعلى من الترمذي والنسائي، فنسبته إلى الترمذي والنسائي تقصير في التخريج.

طالب: "عن ابن عباس لما نزلت: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ} [البقرة: 284]، دخل قلوبهم منه شيء لم يدخل من شيء".

يعني: "لم يدخل من شيء" أشد منه.

طالب: "فقالوا للنبي ، فقال: «قولوا سمعنا وأطعنا»".

يعني استسلموا، ثم بعد ذلك يأتي التخفيف إن شاء الله.

طالب: "فألقى الله الإيمان في قلوبهم، فأنزل الله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ} الآية [البقرة: 285]، {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]. قال: «قد فعلت».

 {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة: 286]. قال: «قد فعلت»... الحديث إلى آخره.

 فهموا من الآية العموم، وأقره النبي ونزل بعدها: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] على وجه النسخ أو غيره مع قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، وهي قاعدة مكية كلية، ففي هذا ما يدل على صحة الأخذ بالعموم اللفظي، وإن دل الاستعمال اللغوي أو الشرعي على خلافه.

وكذلك قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى} الآية [النساء: 115]، فإنها نزلت فيمن ارتد عن الإسلام بدليل قوله بعد: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48].

 ثم إن عامة العلماء استدلوا بها على كون الإجماع حجةً، وأن مخالفه عاصٍ، وعلى أن الابتداع في الدين مذموم".

وهذا من استدلالهم على أن العبرة بعموم اللفظ.

طالب: "وقوله تعالى: {أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ} [هود: 5] ظاهر مساق الآية أنها في الكفار والمنافقين أو غيرهم بدليل قوله: {لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ} [هود: 5]، أي: من الله تعالى أو من رسول الله ، وقال ابن عباس: إنها في أناس كانوا يستحيون أن يتخلوا فيفضوا إلى السماء، وأن يجامعوا نساءهم فيفضوا إلى السماء، فنزل ذلك فيهم، فقد عم هؤلاء في حكم الآية مع أن المساق لا يقتضيه. ومثل هذا كثير، وهو كله مبني على القول باعتبار عموم اللفظ لا خصوص السبب.

ومثله قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]، مع أنها نزلت في اليهود، والسياق يدل على ذلك، ثم إن العلماء عموا بها غير الكفار، وقالوا: كفر دون كفر".

يعني كما قال ابن عباس في الآية، يعني ما قصروها على ما دل عليه السياق، وإنما عمموا لفظها، وعملوا بعمومه مما يشمل المسلمين أيضًا. لكن هل المسلم الذي يحكم بغير ما أنزل الله كافر كفرًا يخرج من الملة؟ ابن عباس يرى أنه كفر دون كفر، وهو قول الأكثر. نعم. وللمسألة تفاصيل ليس هذا محلها.

طالب: "فإذا رجع هذا البحث إلى القول بأن لا اعتبار بعموم اللفظ، وإنما الاعتبار بخصوص السبب".

وهذا معروف عند بعض المالكية: أن العبرة بخصوص السبب ولا يُلتفت إلى عموم اللفظ. ولعل المؤلف فيه نوع تأثر بهذا القول؛ لأنه مالكي.

طالب: "وفيه من الخلاف ما عُلم، فقد رجعنا إلى أن أحد القولين هو الأصح، ولا فائدة زائدة. والجواب: أن السلف الصالح إنما جاءوا بذلك الفقه الحسن بناءً على ما".

"على أمر آخر".

طالب: "بناءً على أمر آخر غير راجع إلى الصيغ العمومية؛ لأنهم فهموا من كلام الله تعالى مقصودًا يفهمه الراسخون في العلم، وهو أن الله تعالى ذكر الكفار بسيئ أعمالهم، والمؤمنين بأحسن أعمالهم، ليقوم العبد بين هذين المقامين على قدمي الخوف والرجاء، فيرى أوصاف أهل الإيمان وما أُعد لهم، فيجتهد رجاء أن يدركهم، ويخاف أن لا يلحقهم فيفر من ذنوبه، ويرى أوصاف أهل الكفر وما أُعد لهم، فيخاف من الوقوع فيما وقعوا فيه أو فيما يشبهه، ويرجو بإيمانه أن لا يلحق بهم، فهو بين الخوف والرجاء من حيث يشترك مع الفريقين في وصف ما، وإن كان مسكوتًا عنه؛ لأنه إذا ذُكر الطرفان كان الحائل بينهما مأخوذ الجانبين كمحال الاجتهاد لا فرق، لا من جهة أنهم حملوا ذلك محمل الداخل تحت العموم اللفظي، وهو ظاهر في آية الأحقاف وهود والنساء في آية: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ} [النساء: 97]، ويظهر أيضًا في قوله: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115]، وما سوى ذلك، فإما من تلك القاعدة، وإما أنها بيان فقه الجزئيات من الكليات العامة، لا أن المقصود التخصيص؛ بل بيان جهة العموم، وإليك النظر في التفاصيل، والله المستعان".

لما ذكر المؤمنين بأحسن أوصافهم، وذكر الكفار بسيئ أعمالهم أو بأسوئها؛ كان بين هذين الأمرين مراتب كثيرة جدًّا، فمن حقق أعلى هذه المراتب صار فيه وصف المؤمنين، ومن اتصف بسيئ أعمال الكفار صار منهم؛ لأن سيئ أعمال الكفار هو الشرك، وأعلى أوصاف المؤمنين هو تحقيق التوحيد. قد يحصل عنده خلل فينزل عن أعلى مراتب المؤمنين، وقد يكون عنده شيء من الخير فيرتفع عن منزلة أسوأ أعمال الكافرين.

وإذا قلنا: إن أعلى أوصاف المؤمنين يستحق من الدرجات مائة، وسيئ أعمال الكفار يستحق صفرًا؛ فإن ما بعد المائة إلى ما يمكن التجاوز عنه مثل ما يُفعل في الامتحانات، يعطونك فرصة: عشر درجات، عشرين درجة، وقد تأخذ إلى أكثر، ومع ذلك تنجح. ومثل هذا في الاختبار في الآخرة: العصمة تحقق المائة، لكن ما دون العصمة من الوقوع في بعض المخالفات التي لا تُخل بأصل التوحيد، هي في حيز ما يكون معه النجاح والأمن، لكن بقدر هذا التحقيق. وقل مثل هذا في الأسوأ وما يليه. يبقى المسلم الذي عنده شيء من المعاصي، يرجو أن يتوب من هذه المعاصي ويوفَّق لتركها، فيلتحق بركب الفائزين، ويخاف أن تزيد عنده هذه المعاصي، ويعاقَب بما هو أشد منها، فيكون من زمرة الهالكين، فيكون دائرًا في جميع أحواله بين الخوف والرجاء.

والله أعلم.

اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد.

"