التعليق على الموافقات (1429) - 09
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى- في المسألة السادسة:
"فصل: وإن كان الحظ المطلوب بالعبادات ما في الدنيا، فهو قسمان: قسم يرجع إلى صلاح الهيئة وحسن الظن عند الناس واعتقاد الفضيلة للعامل بعمله. وقسم يرجع إلى نيل حظه من الدنيا، وهذا ضربان".
يعني الأول، القسم الأول كأنه يشير به إلى ما يشرئب إليه الإنسان من شرف، والثاني ما يرنو إليه من مال، فإذا كان المطلوب بالعبادات الشرف كما في القسم الأول، أو المال كما في القسم الثاني، الجاه والشرف لا شك أنه قاتل، وملاحظته في العمل الصالح لا شك أنه مؤثر، فإذا كان هو الباعث فالعمل حابط بلا شك، والثاني الذي هو طلب المال والاكتساب التكسب بالدين هذا أيضًا مؤثر، وكلاهما خطره على العبادة مما يتقرب به إلى الله -جل وعلا- لا شك أنه عظيم. هذا في العبادات المحضة، وأما في العبادات أو في المعاملات التي ليست من قسم العبادات المحضة أيضًا لا يؤثر في صحتها، ولا يترتب عليه عقوبة، إلا أنه يؤثر في الثواب المرتب عليها، وجاء في الحديث عند الترمذي وغيره: «ما ذئبان جائعان أُرسلا في زريبة غنم بأفسد لدين المرء من حب الشرف والمال».
فالأول الذي قال فيه المؤلف: "يرجع إلى صلاح الهيئة وحسن الظن عند الناس واعتقاد الفضيلة للعامل بعمله"، هذا حب الشرف، وله وجود في واقعنا وقبله تجد الإنسان يعمل الأعمال الصالحة من أجل أن يثق الناس به، أو يثق به المسؤولون، وتتسنى له المناصب والرئاسات، وهذا يكفيه، هذه النتيجة تكفيه؛ هذا حب الشرف. وتجده يقدم القرابين، ويتنازل عن واجبات، أو قد يرتكب محظورات؛ من أجل أن يحصل له ما أراد من هذا الشرف. وكذلك المال، وأحبار بني إسرائيل يشترون بآيات الله ثمنًا قليلاً، ولكل قوم وارث، يوجد أيضًا من هذه الأمة من يفعل ذلك، تجده يساير أهل الأهواء وأهل والحكام وغيرهم؛ لينال من دنياهم، ويتنازل عن بعض الأشياء التي أُمر ببيانها وتبليغها وتعليمها.
على كل حال: على الإنسان أن يسعى في خلاص نفسه، وأن يبرأ من هاتين الآفتين اللتين تفسدان عليه دينه.
طالب: ........
أين؟
طالب: ........
نعم، ما فيه إشكال، يعني الصلاة لا يجوز أن يقال عليها شيء، لكن هناك عبادات يشوبها أمور دنيا، يعني أمور مختلطة بين دنيا وآخرة، مثل الحج مثلاً: يجوز أن تذهب إلى الحج وتبتغي من فضل الله، تبيع، تتكسب. الجهاد مثلاً يجوز أن تذهب تجاهد وتغنم، نعم، يكون لها جانب من هذا وجانب من هذا.
طالب: البيع والشراء.........
لا، البيع والشراء، هو أمور الدنيا كالطب وغيرها من الأمور، كل هذه أمور دنيوية محضة، لا يؤجر عليها إلا بما يترتب عليها من حسن قصد، فقط، وإلا فالأصل أن علم الطب وعلم الهندسة وغيرها من العلوم الدنيوية مثل الصناعة ومثل الزراعة ومثل كسائر الأعمال، المزارع إذا قصد بزراعته الكسب المحض فهذا ما عليه شيء، لكنه لا يؤجر بهذا، إن قصد بذلك إضافة إلى ذلك أن يتكسب من وجه حلال، وأن يستغني به عن الحرام، وأن يكفي نفسه ومن يعول، وأيضًا يستفيد منه الخلق، هذا كله يؤجر عليه.
طالب: "وقسم يرجع إلى نيل حظه من الدنيا، وهذا ضربان: أحدهما يرجع إلى ما يخص الإنسان في نفسه، مع الغفلة عن مراءاة الناس بالعمل. والآخر يرجع إلى المراءاة لينال بذلك مالاً أو جاهًا أو غير ذلك، فهذه ثلاثة أقسام: أحدها يرجع إلى تحسين الظن عند الناس واعتقاد الفضيلة، فإن كان هذا القصد متبوعًا".
إذا صار هو الأصل، وما عداه تبع له.
طالب: "فإن كان هذا القصد متبوعًا فلا إشكال في أنه رياء؛ لأنه إنما يبعثه على العبادة قصد الحمد، وأن يُظن به الخير، وينجر مع ذلك كونه يصلي فرضه أو نفله، وهذا بيِّن. وإن كان تابعًا، فهو محل نظر واجتهاد، واختلف العلماء في هذا الأصل".
يعني كون الذي ينهزه من بيته إلى الصلاة مراءاة الناس، تحسين الظن به عند الناس، هذا لا شك أن عمله حابط. لكن إذا كان الذي ينهزه من بيته الصلاة، ثم طرأ عليه ما طرأ، هذا كونه تابعًا غير كونه متبوعًا.
طالب: "وإن كان تابعًا، فهو محل نظر واجتهاد، واختلف العلماء في هذا الأصل، فوقع في العُتْبِيَّة في الرجل الذي يصلي لله، ثم يقع في نفسه أنه يحب أن يُعلم، ويحب أن يُلقى في طريق المسجد، ويكره أن يُلقى في طريق غيره، فكره ربيعة هذا، وعدَّه مالك من قبيل الوسوسة العارضة للإنسان، أي أن الشيطان يأتي للإنسان إذ سرَّه مرأى الناس له على الخير، فيقول له: إنك لمراءٍ وليس كذلك، وإنما هو أمر يقع في قلبه لا يُملك، وقد قال تعالى: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} [طه: 39]، وقال عن إبراهيم -عليه السلام-: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِين} [الشعراء: 84]، وفي حديث ابن عمر: «وقع في نفسي أنها النخلة، فأردت أن أقولها، فقال عمر: لأن تكون قلتها أحب إلي من كذا وكذا»".
يعني لو أن، كما حصل في إلقاء السؤال من النبي -عليه الصلاة والسلام-، يلقي المعلم على الطلاب؛ لتحصل الفائدة في الجواب، يعني هل يستوي عند جميع الطلاب أن يكون الجواب منه أو من غيره؟ أو أن كل واحد يتمنى أن يكون الجواب منه؟ الأخير. يعني الشافعي -رحمه الله تعالى- في المناظرات يقول: لا فرق بين أن يكون الحق على لساني أو على لسان غيري! هذا غاية في الإخلاص، لكن قد لا يُطيقه جميع الناس، ولا شك أن هذا له وقع في القلب، وإن لم يكن له أثر كبير؛ لأن الأصل الباعث قد يكون اختبار النفس هل أدركت أو لم تدرك؟ يعني عمر -رضي الله عنه- حينما سره أن يكون الجواب على لسان ولده، من هذا النوع: أن يكون ولده قد أدرك من هذا العلم من الذي سمعه من النبي -عليه الصلاة والسلام-.
طالب: "وطلب العلم عبادة، قال ابن العربي: سألت شيخنا الإمام أبا منصور الشيرازي الصوفي عن قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا} [البقرة: 160]، ما بينوا؟ قال: أظهروا فِعالهم للناس بالصلاح والطاعات. قلت: ويلزم ذلك؟ قال: نعم؛ لتثبت أمانته، وتصح إمامته، وتُقبل شهاداته".
لأن البيان كما يكون بالقول يكون بالفعل، والاقتداء في الغالب إنما هو بالأفعال، لا شك أن الأقوال مؤثرة، لكن المعول على الأفعال. من وعظ الناس وخالف فعله قوله، هذا أثره ضعيف جدًّا، وإذا اتفق البيان بالفعل إضافة إلى القول فإن هذا هو الذي يقتدى به، وهو الذي ينبغي أن يقتدى به؛ ولذلك يوم خجة الوداع النبي لما وضع الربا وضع الدماء في خطبة حجة الوداع كانت الأمثلة من أهل بيته -عليه الصلاة والسلام-: «أول ربا أضع ربانا ربا العباس». بخلاف من يسنون القوانين والأنظمة من البشر، تجد أن أول من يخالف هذه الأنظمة وهذه القوانين هم وحواشيهم وذووهم.
طالب: ......
لا لا ما يُعذر، هو صار سببًا في الصد، لكن ما الذي باشر الصد؟ هو نفسه، يعني لو أن طلاب في حلقة تحفيظ، أخطأ المدرس على واحد منهم فترك، يعني لولا هذا الخطأ، والعلم عند الله -جل وعلا- يعني في تقدير الناس، في تقدير الناس أنه يستمر كغيره من الطلاب ويحفظ القرآن، هذا المدرس صار سببًا في صده عن الحفظ، لكن هل يُعفى الذي لم يحفظ؛ لأن فلانًا صده؟ لا.
طالب: "قال ابن العربي: ويقتدي به غيره، فهذه الأمور وما كان مثلها تجري هذا المجرى، والغزالي يجعل مثل هذا مما لا تتخلص فيه العبادة. والثاني: ما يرجع إلى ما يخص الإنسان في نفسه، مع الغفلة عن مراءاة الغير، وله أمثلة: أحدها الصلاة في المسجد للأنس بالجيران، أو الصلاة بالليل لمراقبة أو مراصدة أو مطالعة أحوال".
"الصلاة في المسجد للأنس بالجيران"، مثل ما يقول: يطلع الإنسان يتمشى ويوسع صدره، فيجيء للمسجد يقابل فلانًا وعلانًا لا ليرائيهم بصلاته، الصلاة خالصة لله سواء كانت بالمسجد أو في غيره أو في البيت أو في أي مكان، لكنه الذي ينشطه للصلاة بالمسجد هو أنسه بالجيران غافلاً عن مراءاة الناس.
طالب: "والثاني: الصوم توفيرًا للمال".
يعني بعض الناس من بخله يصوم! يقول: نرتاح من وجبتين، بدل ثلاث وجبات تصير واحدة؛ "توفيرًا للمال"، نعم.
طالب: "أو اسحجتراحةً من عمل الطعام وطبخه".
نعم. بعض الناس الذي يحدوه على العمل الكسل، وبعضهم الشح والبخل، نسأل الله العافية. نعم.
طالب: "أو احتماءً لألم يجده أو مرض يتوقعه أو بطنة تقدمت له".
يعني يخشى أن يزيد وزنه مثلاً، أو يرجو أن يخف وزنه، وهو لا يصوم مراءاة للناس، وإنما لهذا الغرض. قلنا مرارًا: إن من صام حمية أن صومه صحيح ويؤجر عليه، لكن ليس أجره مثل أجر الذي صام يبتغي بذلك وجه الله خالصًا لوجهه؛ لأن هذا له ملاحظتان. لكن الذي جعله يميل من مجرد الحمية إلى الصيام لا شك أن له أثرًا في عبادته، في نيته، مثل ما قلنا في الطواف أو المشي في الأسواق والبراري والقفار، لا شك أن من يعدل إلى المشي في المطاف، وتقرب بذلك لله -عزَّ وجلَّ- أن له شأنًا، يختلف عما لو مشى في الأسواق، لكنه يختلف أيضًا عمن طاف مخلصًا لله -جل وعلا- لا نظر له آخر.
طالب: "والثالث: الصدقة للذة السخاء والتفضل على الناس".
نعم. بعض الناس يتلذذ بالعطاء، يعني يختلف هذا فيمن يعطي؛ ليقال جواد، من الناس من يعطي ليقال جواد، ومنهم من يعطي يتلذذ بهذا العطاء ولا يهمه أن يقال جواد ولَّا لا، يعني باعث داخلي لا خارجي، ومنهم لا هذا ولا هذا قد لا يتلذذ بالعطاء بل يجاهد نفسه في العطاء لكنه يعطي لله -جل وعلا-، ولا شك أن هذا هو الأكمل.
طالب: "والرابع: الحج لرؤية البلاد، والاستراحة من الأنكاد، أو للتجارة، أو لتبرمه بأهله وولده، أو إلحاح الفقر".
نعم. يحج سياحة، "لرؤية البلاد" مثل ها الرحالة يجوبون الأقطار يقولون نروح المشاعر المقدسة أحج وأشوف ها المشاهد وألتقي بالناس، وأشوف أنواع وأصناف وأجناس من الخلق، وأسمع أصوات ولغات مختلفة ومتباينة، وهذا فيه متعة، إضافة إلى كونه يحج لله -جل وعلا-، ولا يقصد بذلك لا رياءً ولا سمعة، ما يقال: واللهِ حج فلان كذا حجة خمسين ستين حجة، ومن الطرائف أنه نُشر في الجرائد هذه السنة شخص حج ستة وتسعين حجة من بادية الشمال، ستة وتسعين حجة! تمنى أن يكمل المائة لكن، الله المستعان، الأعمار بيد الله، لكن ما أظن أحدًا حج هذا العدد، يعني يذكرون سبعين، يذكرون السبعين السبعين، لكن ستة وتسعين مائة إلا أربعًا.
طالب: سبق أن ذكرت........ التشريك في العبادة.
بالعبادة.
طالب: بالعبادة.
نعم.
طالب: يجوز ويقل الأجر.
نعم.
طالب: ولكن هل التشريك بالعبادة بالمباح.......
لا لا ما يبطل، هذه أمور الحج لرؤية البلاد هو بيحج، وبدل من أن يذهب إلى الشام أو مصر أو الهند قال: نحج، ونشهد تلك البقاع المقدسة، ونتعرض لنفحات الله ونشاهد هذه الأماكن، يعني تابع لا متبوع.
طالب: ........
لا، هذا تابع تابع تابع ليس بمتبوع، ما ينفك عنه.
طالب: ..... لما يقول: حج لرؤية....
نعم؛ لأن المسألة التي ذكرها حج لرؤية البلاد والاستراحة، يعني شخص مدين مثلاً ولا يستطيع، هرب من الدين إلى الحج، أو في بيته مشاكل بينه وبين أولاده وزوجاته وكذا، قال: نتخلص منه، هذا ليس بباعث له على الحج إلا هذا الأمر، فليس له إلا ما نوى.
طالب: ....... هل يأثم على هذا؟
«أول من تسعر بهم النار».
طالب: هو ما.... أعطى الناس عطايا.
المهم «أعطى ليقال جواد»، هذا النص.
طالب: "والخامس: الهجرة مخافة الضرر في النفس أو الأهل أو المال. والسادس: تعلم العلم ليحتمي به عن الظلم. والسابع: الوضوء تبردًا. والثامن: الاعتكاف فرارًا من الكراء".
نعم. يقول: أذهب العشر الأخيرة من رمضان بدلاً من أستأجر مكانًا والبيوت غالية في ذلك، يعني مكة في العشر الأواخر يعني الأجور مرتفعة جدًّا، يقول: بدل ما ندفع إيجارًا نعتكف. نعم. بدل ما يدفع إيجار يعتكف.
طالب: "والتاسع: عيادة المرضى والصلاة على الجنائز ليُفعل به ذلك".
يعني بعض الناس يعود المرضى ليُقابَل بمثل ما فعل، إذا مرض يُعاد، ويصلي على الجنائز ليكافأ إذا مات يصلى عليه؛ لأن بعض الناس يعتقد هذه الأمور مقايضة، تقول: نذهب نصلي على فلان؟ يقول: واللهِ مات أبوي ولا جاء يصلي عليه، أو مات والدي ما جاء يصلي عليه معنا. طيب نعزي آل فلان؟ قال: واللهِ ما جاؤوا يعزوننا. بعض الناس يتخذ هذه الأمور مقايضة، هذا موجود في أوساط العامة، موجود، تجده من هذا النوع، يقول: ما جاء يعزينا ولا يصلي معنا ولا شيء، ما يستحق من يواسيه. ولا يستحضر الأجر المرتب على ذلك؛ ولذلك يقول: "عيادة المرضى والصلاة على الجنائز ليُفعل به ذلك"، والله المستعان.
طالب: "والعاشر: تعليم العلم ليتخلص به من كرب الصمت ويتفرج بلذة الحديث".
لكن ها الملحظ هذا: "يتخلص من كرب الصمت"؟! يعني هناك وسائل كثيرة للكلام، وهناك أيضًا كلام يُتلذذ به ويستطاب، لا سيما الكلام الذي لا يكلف شيء، يعني الكلام المباح يعني متاح. فليس الفرار من التعليم أو إلى التعليم من كرب الصمت، يعني الملحظ هذا تراه بعيدًا جدًّا: "يتفرج بلذة الحديث"! كيف يتفرج بلذة الحديث؟ نعم، إذا كان في مجلس وأراد أن يتصدر ويتكلم مع الناس، هذا يتلذذ، لكن كونه... اللهم إلا من جهة أخرى تصحبها المراءاة، يعني كون الناس تشرئب إليه، وتنظر إليه، ويرفعون له أعناقهم، ويملك المجالس، فهذا ممكن. أما مجرد التخلص من كرب الصمت، فهناك مجالات للكلام والأحاديث والسواليف ما تكلف شيئًا بخلاف تعليم العلم. بل التعليم من أشق الأمور لأوساط الناس وعادييهم ومن هم في البداية تعتبر من أشق الأمور، والمجاهدة للتعليم يعني لا يعرف قدرها إلا من يكابدها، نعم هناك مراحل، وهناك أناس بلغوا إلى... وصلوا إلى مراحل يتلذذون بالتعليم، والله المستعان. نعم.
طالب: "والحادي عشر: الحج ماشيًا؛ ليتوفر له الكراء".
مثل "الاعتكاف فرارًا من الكراء".
طالب: "وهذا الموضع أيضًا محل اختلاف إذا كان القصد المذكور تابعًا لقصد العبادة، وقد التزم الغزالي فيها وفي أشباهها أنها خارجة عن الإخلاص، لكن بشرط أن يصير العمل عليه أخف بسبب هذه الأغراض".
نعم. إذا كان العمل عليه أخف، إذا وُجدت هذه الأغراض فهو خارج عن دائرة الإخلاص وخادش في الإخلاص، أما إذا كان العمل ليس أخف، توجد هذه الأغراض لكن ليست أخف على رأي الغزالي. لكن كيف يوجد اعتكاف فرارًا من الكراء والاعتكاف مع الكراء مساوٍ له؟ ما صار علة، ومثله ما ذُكر معه.
طالب: "وأما ابن العربي فذهب إلى خلاف ذلك، وكأن مجال النظر في المسألة يلتفت إلى انفكاك القصدين أو عدم انفكاكهما".
ابن العربي يبالغ في مسائل الانفكاك، يبالغ جدًّا، يعني الانفكاك، أحيانًا الجهات لا تنفك، فمثلاً: اجتمع قوم على شرب الخمر أو على الزنا أو على فاحشة من الفواحش، فوقع عليهم السقف.
طالب: وقع عليهم ماذا يا شيخ؟
السقف السقف، خر عليهم السقف، سقط عليهم وماتوا، ابن العربي يقول: شهداء، لهم الشهادة بالهدم، وعليهم إثم الشرب، وعليهم إثم الفواحش التي يرتكبونها؛ نظرًا إلى أن الجهة منفكة، هذا له حكمه وهذا له حكمه. لكن غيره لا يقول هذا الكلام. يعني قوله نظير ما يقوله بعض الأشعرية، أنه يجب على الزاني أن يغض بصره عن المزني بها! يعني كونهما في حالة واحدة هل يتصور الانفكاك بينهما؟ يعني إذا تصورنا انفكاك الصلاة في الدار المغصوبة، وأنه يؤدي واجبًا ويرتكب محرمًا، لكن لا يُتصور مثل هذا؛ لأن النظر تحريمه لأنه وسيلة إلى الزنا، فإذا حصلت الغاية تُمنع الوسائل؟ يقول: هو منهي عن الزنا أو منهي عن النظر، فإذا زنا عليه ألا ينظر. كونه إذا نظر عليه ألا يزني هذا معروف؛ لأن هذه وسيل،ة والغاية أشد منها، لكن إذا حصلت الغاية يقال: لا تنظر.
طالب: في حاجة.....
نعم؟
طالب: لا مقصود للوسيلة.
نعم. بدون فائدة، بدون جدوى، نقول: إن بعض الأمور قد يكون الأمر بها متضمن للاستهزاء، يعني عادي شخص حالق للحيته ينصح شخصًا حالقًا للحيته ويقول: حلق اللحية حرام، والنصوص فيه ثابتة، هذا يُتصور، نعم. لماذا؟ يقول: والله أنا ظروفي غير ظروفك مثلاً، أنا في مجتمع فيه كذا وكذا. وقل مثل هذا في شرب الدخان، الأب ينصح أبناءه ألا يدخنوا، وهو يدخن، يقول: أنا اسمي الذي تورطت، ولا أستطيع، وكذا، من هذه الأعذار. لكن كونهما جالسين على كرسيي حلاق يلتفت أحدهما إلى الآخر ويقول: حرام عليك تحلق لحيتك! أليس هذا استهزاءً؟
طالب: بلى.
منهم من يقول: أبدًا، عليه أن يؤدي ما أُمر به، ينكر المنكر ولو كان مرتكبًا له. نعم أهل العلم لا يشترطون في منكر المنكر العصمة، ولا من الذنب الذي ينهى عنه، لكن ليست بهذه الطريقة، على الكرسي يلتفت إلى صاحبه ويقول: لا تحلق لحيتك، هذا استهزاء.
طالب: "فابن العربي يلتفت إلى وجه الانفكاك فيصحح العبادات، وظاهر الغزالي الالتفات إلى مجرد الاجتماع وجودًا، كان القصدان مما يصح انفكاكهما أو لا، وذلك بناءً على مسألة الصلاة في الدار المغصوبة، والخلاف فيها واقع، ورأي أصبغ فيها البطلان، فإذا كان كذلك اتجه النظران، وظهر مغزى المذهبين. على أن القول بصحة الانفكاك فيما يصح فيه الانفكاك أوجه؛ لما جاء من الأدلة على ذلك، ففي القرآن الكريم: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198]، يعني: في مواسم الحج.
وقال ابن العربي في الفرار من الأنكاد بالحج أو الهجرة: إنه دأب المرسلين، فقد قال الخليل- عليه السلام-: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات: 99]، وقال الكليم: {فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ} [الشعراء: 21]".
الآن "الفرار من الأنكاد بالحج أو الهجرة"، يعني ابن العربي جعله هو دأب المرسلين، وجعل هجرة الخليل والكليم وغيرهما من هذا النوع. أقول: فرق بين الأنكاد المتعلقة بالدين، فالفرار منها عبادة لا سيما إذا خشي على دينه، أو الأنكاد المرتبة على الدنيا أو المتعلقة بأمور الدنيا فهذه ليست من العبادة، إذا هرب من الأنكاد المتعلقة بأمور الدنيا هذه ليست عبادة. فالخليل: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات: 99] فرارًا بدينه، وكذلك الكليم: {فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ} [الشعراء: 21]، يعني خافهم لا سيما على دينه. فإذا خاف الإنسان على دينه وفر، فهذا يؤجر على هذا الفرار، ويؤجر على هذه الهجرة، أما إذا خاف على دنياه فيكفيه أنه يُحرز دنياه من غير إثم، أما ترتب الأجر والهجرة عليه فلا.
طالب: «فهجرته إلى ما هاجر إليه»؟
نعم.
طالب: "وقد كان رسول الله جعلت قرة عينه في الصلاة، فكان يستريح إليها من تعب الدنيا، وكان فيها نعيمه ولذته، أفيقال: إن دخوله فيها على هذا الوجه قادح فيها؟ كلا، بل هو كمال فيها وباعث على الإخلاص فيها".
يعني الصلاة تُطلب بها الجنة، وحفت بها الجنة، والأصل أنها من المكاره، يعني الصلاة ثقيلة على كثير من عموم الناس، فإذا وصل الإنسان إلى هذه المرحلة بأن تكون الصلاة قرة عينه، لا شك أنه يكون تجاوز مراتب ومراحل، ودل على أنه ذو صلة وثيقة بالله -جل وعلا-، وأن لديه من الإخلاص وعنده منه ما لا يوجد عند كثير من الناس، ولا يصل إلى هذه المرحلة إلا بعد أن يتجاوز عقبات.
ولذلك يُفضل على من يأتي بالعبادة، وهي شاقة عليه، لماذا؟ لأن هذه مراحل، ما وصلها إلا بعد أن تجاوز هذه العقبات، والذي ما زال في العقبات لم يصل إلى هذه الغاية؛ لأن الأصل أن الجنة حُفت بالمكاره، هذا الأصل، وهذا موجود في جميع العبادات وبالنسبة لعموم الناس. لكن من يتجاوز هذه المرحلة، ويصل إلى أن يتلذذ بما حفت به الجنة، من وصل إلى مرحلة «جعلت قرة عيني في الصلاة»، بعض الناس يتلذذ بالقيام قيام الليل، بعضهم يتلذذ بتلاوة القرآن، بعضهم يتلذذ بأنواع من العبادات، فتجد التلاوة خفيفة عليه، وهي ديدنه، لكن الصلاة ثقيلة، لماذا؟
لأنه تجاوز مراحل بالنسبة لهذه العبادة التي خُففت عليه، وقل مثل هذا في الصيام، مثل هذا في الحج، أن يحج الإنسان سنين عديدة وإذا رجع من الحج: متى يأتي موسم الحج؟ يتلذذ به، والله المستعان.
طالب: "وفي الصحيح: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه لو وجاء». ذكر ابن بشكوال عن أبي علي الحداد، قال: حضرت القاضي أبا بكر بن زرب شكا إلى الترجيلي المتطبب ضعف معدته وضعف هضمه، على ما لم يكن يعهد من نفسه، وسأله عن الدواء، فقال: اسرد الصوم تصلح مَعِدَتُكَ. فقال له: يا أبا عبد الله! على غير هذا دلني، ما كنت لأعذب نفسي بالصوم إلا لوجهه خالصًا، ولي عادة في الصوم الاثنين والخميس، لا أنقل نفسي عنها. قال أبو علي: وذكرت في ذلك المجلس حديث الرسول ، يعني: هذا الحديث، وجبنت عن إيراد ذلك عليه في ذلك المجلس، وأحسبني ذاكراته في ذلك في غير هذا المجلس، فسلَّم للحديث".
نعم. ما الذي بعث على الصوم بالنسبة لمن لم يستطع الباءة «فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج»؟ يعني صام لا لذات الصيام، وإنما ليحصن فرجه ويغض بصره. وكل هذا إنما يحصل من الضعف الذي يورثه الصيام؛ لأنه بمنزلة الوجاء، «من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، فإن لم يستطع فعليه بالصوم»، فهو صام من أجل أن تضعف عنده هذه الشهوة وهذه الغريزة، فلا يقع في محظور. فكونه صام لا لذات الصيام وإنما لجأ إلى الصيام؛ فرارًا عن محظور، وهذا يختلف عما لو لجأ إلى الصيام طلبًا لاستشفاء مثلاً واستطباب، هذا يختلف؛ لأن كونه يفر من محرم غير كونه يفر من ضار بصحته، وإن كان حفظ صحته مطلوب، لكن الأمور تختلف باختلاف المقاصد.
طالب: "وقد بعث -عليه الصلاة والسلام- رجلاً ليكون رصدًا في شعب، فقام يصلي ولم يكن قصده بالإقامة في الشعب إلا الحراسة والرصد. والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، ويكفي من ذلك ما يراعيه الإمام في صلاته من أمر الجماعة، كانتظار الداخل ليدرك الركوع معه على ما جاء في الحديث، وما لم يعمل به مالك فقد عمل به غيره".
نعم. عند المالكية أن هذا تشريك، لا يجوز، لا يجوز أن ينتظر الإمام الداخلَ، فيطيل من أجله، فهذا القدر الزائد على ما قصده من الركوع في الأصل إنما هو لأجل هذا الداخل، فهو تشريك. لكن ثبت عن النبي -عليه الصلاة والسلام- أنه يطيل السجود إذا ارتاح له الحسن أو الحسين، ويقصر السجود لما يسمع من بكاء الصبي، فهذه لها أصول شرعية.
طالب: "وكالتخفيف لأجل الشيخ والضعيف وذي الحاجة، وقوله -عليه الصلاة والسلام-: «إني لأسمع بكاء الصبي...» الحديث، وكردِّ السلام في الصلاة، وحكاية المؤذن، وما أشبه ذلك مما هو عمل خارج عن حقيقة الصلاة، مفعول فيها مقصود يشرك قصد الصلاة، ومع ذلك فلا يقدح في حقيقة إخلاصها؛ بل لو كان شأن العبادة أن يقدح في قصدها قصد شيء آخر سواها، لقدح فيها مشاركة القصد إلى عبادة أخرى، كما إذا جاء المسجد قاصدًا للتنفل فيه، وانتظار الصلاة، والكف عن إذاية الناس، واستغفار الملائكة له؛ فإن كل قصد منها شاب غيره وأخرجه عن إخلاصه عن غيره".
لكن، كل قصد منها مما يُتقرب به إلى الله –سبحانه وتعالى-، فيؤجر على قدر هذه المقاصد. نعم.
طالب: "وهذا غير صحيح باتفاق، بل كل قصد منها صحيح في نفسه، وإن كان العمل واحدًا؛ لأن الجميع محمود شرعًا، فكذلك ما كان غير عبادة من المأذون فيه؛ لاشتراكهما في الإذن الشرعي، فحظوظ النفوس المختصة بالإنسان لا يمنع اجتماعها مع العبادات، إلا ما كان بوضعه منافيًا لها، كالحديث والأكل والشرب والنوم والرياء، وما أشبه ذلك".
وهذه تنافي، مبطلة للصلاة، الأكل والشرب والكلام والضحك والنوم والرياء، هذه كلها مبطلات للصلاة على قدرها.
طالب: "أما ما لا منافاة فيه، فكيف يقدح القصد إليه في العبادة؟ هذا لا ينبغي أن يقال، غير أنه لا ينازع في أن إفراد قصد العبادة عن قصد الأمور الدنيوية أولى، ولذلك إذا غلب قصد الدنيا على قصد العبادة كان الحكم للغالب، فلم يُعتدَّ بالعبادة، فإن غلب قصد العبادة فالحكم له، ويقع الترجيح في المسائل بحسب ما يظهر للمجتهد.
والثالث: ما يرجع إلى المراءاة، فأصل هذا إذا قصد به نيل المال أو الجاه فهو الرياء المذموم شرعًا، وأدعى ما في ذلك فعل المنافقين الداخلين في الإسلام ظاهرًا بقصد إحراز دمائهم وأموالهم، ويلي ذلك عمل المرائين العاملين بقصد نيل حطام الدنيا، وحكمه معلوم، فلا فائدة في الإطالة فيه".
يعني تختلف هذه المقاصد قوة وضعفًا، وتأثيرها بحسب قوتها: فأعلاها ما يقصده المنافقون، الداخلون في الإسلام يصلون مع الناس، لكن يقصدون بذلك إحراز دمائهم وأموالهم. ثم بعد ذلك من طرأ عليه الرياء، الرياء يتصنع من أجل الخلق، وهذا على حسب بدايته مع بداية العمل أو أثنائه أو آخره، وبحسب مجاهدة النفس لطرده. يلي ذلك "عمل المرائين العاملين بقصد نيل حطام الدنيا" على ما تقدم من أنه نيل للشرف أو نيل للمال، "وحكمه معلوم" على ما تقدم.
والله أعلم.
اللهم صلِّ على محمد.
طالب: العتبية؟
العتبية معروف من أصول المالكية، كتاب من الكتب المعول عليها عندهم.