التعليق على الموافقات (1430) - 19

 

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد،

فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: "المسألة الثامنة: التكاليف إذا علم قصد المصلحة فيها فللمكلف في الدخول تحتها ثلاثة أحوال: أحدها: أن يقصد بها ما فهم من مقصد الشارع في شرعها فهذا لا إشكال فيه، ولكن ينبغي أن لا يخليه من قصد التعبد؛ لأن مصالح العباد إنما جاءت من طريق التعبد؛ إذ ليست بعقلية حسبما تقرر في موضعه، وإنما هي تابعةٌ لمقصود التعبد، فإذا اعتُبِر صار أمكن في التحقق بالعبودية، وأبعد عن أخذ العاديات للمكلف، فكم ممن فهم المصلحة فلم يلوِ على غيرها فغاب عن أمر الآمر بها، وهي غفلة تفوت خيرات كثيرة بخلاف ما إذا لم يهمل التعبد".

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد: فإن التكاليف كما تقدَّم، التكاليف الشرعية منها ما يظهر فيه المصلحة، بحيث يدركها كل أحد، وقد يُدرِك بعض الناس من الحِكم والمصالح ما لا يدركه غيره من المصالح، من التكاليف ما يخفى فيه ظهور المصلحة، فيُعلَّل بأنه تعبد، فمثلاً النفقات الإنسان ينفق على نفسه، وعلى ولده، وعلى زوجه، وعلى خادمه، هو مأمور بذلك شرعًا، ويجب عليه أن ينفق، والمصلحة في هذا ظاهرة، هو حينما ينفق على زوجته ممتثلاً لأمر الله- جل وعلا- ملاحظًا المصلحة فقط، ملاحظًا المصلحة فقط، أو ينفق على نفسه أو ولده أو على من يمون وهو، هذه يؤجر بقدر ما يُحقق من هذه المصلحة، لكن أين هذا من أجل ملاحظة التعبد؟ وأن الإنسان يؤجر على كل شيء حتى ما يضعه في فِي امرأته؟

يعني لو أن الإنسان إذا ذهب إلى أماكن بيع المواد الغذائية، أو الملبوسات، أو غيرها، ذهب لماذا؟ ذهب ليشتري أكلًا، وغذاءً له ولأولاده وزوجته، لكن إن لاحظ أنه يمتثل أمر الله بذلك، ويحقِّق المصلحة التي من أجلها شُرِع هذا الحكم كان أجره أعظم، وكم من أجرٍ يفوت بسبب الغفلة عن امتثال الأمر، والناس يتفاوتون، أحدهم يذهب إلى هذه الأماكن وليس في ذهنه ولا في قلبه شيء من امتثال الأمر، إنما جرت العادة أنه في آخر كل شهر يذهب إلى هذا المكان ويشتري منه ما يكفي لمدة شهر، يُؤمِّن أغراض هذا الشهر، صارت المسألة عادة، لكن لو امتثل الأمر وقال: أنا مأمور بهذا شرعًا، وبهذا الذي أُنفق فيه أتمكن من تحقيق العبودية، ومن تحت يدي من الزوجة والأولاد كذلك يعبدون الله -جل وعلا-، ويتمكنون بهذا الذي أشتريه لهم من أكل وشرب من تحقيق العبودية يؤجر أعظم.

 وتجدون الناس في آخر شهر شعبان يكادون أن يقتتلوا في الأسواق، زحام عظيم، وبعضهم يقول: لا، أنا ما أتقدم رمضان في سبع وعشرين ثمانٍ وعشرين تسع وعشرين، أنتظر ليلة الأول من رمضان؛ لتكون نفقتي في رمضان، فيكون الأجر أعظم، فالناس في ملاحظتهم لهذه الأمور يتفاوتون، ولذلك يقول المؤلف -رحمه الله-: وهي غفلة تفوت خيراتٍ كثيرة، يعني لو أن إنسانًا يستحضر مثل هذه الأمور في كل ما يأتي وفي كل ما يذر لبلغ منازل لا تخطر على باله، لكن كثيرًا من الناس بحسب العادة، حتى في أمورهم التي أُمروا بها من برّ الوالدين وصلة الأرحام وغير ذلك تجد كثيرًا من الناس لا يؤجر على شيءٍ من هذا، وفي تشييعه للجنائز وفي صلاته على الميت تجد أجورًا عظيمة تفوته، لماذا؟

لأنه ما يقصد بذلك وجه الله، طيب إذا ما رحت لفلان، من يفكنا من شره؟ من يكفينا لسانه؟ هو ما يتعبد والله بذهابه لفلان القريب أو كذا، لا، أو يقول: والله أنا ما أنا بذاهب لفلان لأنه صارت لنا مناسبة ولا جاء، ولا هو مصلٍّ على فلان؛ لأن أخي فلان مات ولا صلى عليه أو أبوي، صارت كلها مكافآت.

 التعبد لا يخطر على قلب كثير من الناس، وبهذه الغفلة كما يقول المؤلف تفوت خيرات كثيرة، فعلينا أن نستحضر التعبد لله -جل وعلا- في جميع أعمالنا، حتى العادات تنقلب عبادات بالنيات الصالحة.

"وأيضًا فإن المصالح لا يقوم دليل على انحصارها فيما ظهر".

نعم قد تقصد، تظن أن هذه مصلحة وتحاول أن تُحقِّق هذه المصلحة؛ لأنها هي التي لاحت، هي التي لاحت لك من تشريع هذا الحكم، وغفلت عن غيرها، طيب النكاح من يحصر مصالح النكاح؟ لا تكاد تُحصر، فتجد كل إنسان نصيبه من الثواب بقدر ما استحضر من تحقيق المصالح الشرعية.

"إلا دليلٌ ناصٌّ على الحصر، وما أقله إذا نظر في مسلك العلة النصي؛ إذ يقل في كلام الشارع أن يقول مثلاً: لم أشرع هذا الحُكم إلا لهذه الحِكَم".

نعم، هناك علل منصوصة، علل منصوصة، لكن منها ما يفيد الحصر، ومنها ما لا يفيد الحصر على حسب الأسلوب والسياق، ومنها ما هي علل مستنبَطة، منها القريب، ومنها البعيد، ولكل عالم من نصيبه من هذه العلل، يستنبط هذا ما لا يستنبطه ذاك، ويجعل الحكم يدور على هذه العلة، ويلحق به بالحكم ما يشاركه في هذه العلة، ويغفل عما هو أقوى منها من العِلل، ولذلك تجدون بعض الأقيسة لا تطَّرد مع بعض الناس؛ لأن العلة التي بنى عليها الإلحاق هناك ما هو أظهر منها، هناك ما هو أظهر منها.

"فإذا لم يثبت الحصر، أو ثبت في موضع ما ولم يطرد كان قصد تلك الحكمة ربما أُسقِط".

أَسقط.

"ربما أَسقط ما هو مقصود أيضًا من شرع الحكم فنقص عن كمال غيره.

والثاني: أن يقصد بها ما عسى أن يقصده الشارع مما اطلع عليه، أو لم يطلع عليه، وهذا أكمل من الأول إلا أنه ربما فاته النظر إلى التعبد، والقصد إليه في التعبد، فإن الذي يعلم أن هذا العمل شُرِع لمصلحة كذا ثم عمل لذلك القصد، فقد يعمل العمل قاصدًا للمصلحة غافلاً عن امتثال الأمر فيها".

يظهر هذا جليًّا في الأذكار التي رُتِّب عليها مصالح دنيوية من قال كذا حُفِظ مثلاً من كذا، من قال: أعوذ بكلمات الله التامة لم يضره في ذلك اليوم شيء، من أكل تصبَّح بسبع تمرات لم يضره بذلك اليوم سُمّ ولا سحر. هذه أمور ومصالح دنيوية، بعض الناس لا يلحظ غيرها، لا يلحظ غيرها، لا يلحظ أنه ممتثِل لأمرٍ شرعي أو لتوجيه شرعي وممتثل لذكرٍ يقرِّبه من الله- جل وعلا- ويحطُّ عنه ذنوبه وأوزاره. لكن قصد هذه الأمور التي وردت النصوص بها يؤثر في النية أو لا يؤثر؟

قال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق؛ لئلا يصاب بأذى هل نقول: هذا تشريك؟ لا يؤثر؛ لأنه لو كان مؤثرًا ما جاء به النصّ، النصّ ما يمكن أن يقحمك في شيء يضرك، ولولا أنه لولا أن ملاحظته لا تؤثر لما ذكره الشارع، لكن تمحيص القصد لهذا الأمر دون قصد التعبد بهذا هذا الذي يجعل الخلل يدخل للإنسان وإن لم يضره في الأصل، لكنه يؤثر عليه يحرمه من خيراتٍ كثيرة كما قال المؤلف.

"فقد يعمل العمل قاصدًا للمصلحة غافلاً عن امتثال الأمر فيها فيشبه من عملها من غير ورود أمر، والعامل على هذا الوجه عمله عادي فيفوت قصد التعبد".

يعني الآن عندنا التداوي بالأدوية والعلاجات، والتداوي بالقرآن، التداوي بالعلاج فيه أجر أم ما فيه؟ الأصل ما فيه أجر، هذا الأصل، التداوي بالقرآن إذا لم يقصد به إلا الشفاء مثله مثل العلاج، مثل العلاج هو شفاء، لكن إذا قصد مع ذلك أنه يتداوى بأمرٍ شرعي هو في الحقيقة ذكرٌ لله -جل وعلا- يقرب منه، وينتفع به امتثالاً للتوجيه الشرعي يؤجر على ذلك.

"وقد يستفزه فيه الشيطان فيَدخل عليه قصد التقرب إلى المخلوق".

يُدخِل.

"فيُدخِل عليه قصد التقرب إلى المخلوق، أو الوجاهة عنده، أو نيل شيء من الدنيا، أو غير ذلك من المقاصد المردية بالأجر، وقد يعمل هنالك لمجرد حظه، فلا يكمل أجره كمال من يقصد التعبد".

على كل حال الناس يتفاوتون في هذا تفاوتًا عظيمًا؛ منهم من يقصد التعبد، فهذا شأنه أعظم بلا شك، ومنهم من يقصد المصلحة فقط فهذا أقل، ومنهم من يقصد النظر إلى مخلوق يُرائيه في هذا العمل، فهذا لا شك أنه شر.

"والثالث: أن يقصد مجرد امتثال الأمر فهم قصد المصلحة، أو لم يفهم، فهذا أكمل وأسلم. أما كونه أكمل فلأنه نصب نفسه عبدًا مؤتمرًا، ومملوكًا ملبيًا؛ إذ لم يعتبر إلا مجرد الأمر. وأيضًا فإنه لما امتثل الأمر...".

هذا حال كثير من العامة، هذا حال كثير من العامة إذا قالوا الأذكار التي لُقنوها هل يستحضرون ما رُتِّب عليها من أجور دنيا؟ ما يستحضرون، طالب العلم الذي يقف على هذه النصوص بنفسه، ويذكر الأذكار ويستحضر ما رُتِّب عليها قد يستحضر المصلحة فقط، وقد يستحضر التعبد مع المصلحة، لكن العامي الذي لم يلحظ المصلحة إنما قصده التعبد فقط، قصد المصلحة مع التعبد هل يؤثر زيادة أو نقصًا؟

طالب: نقصًا.

يعني يكون حال العامي أكمل من من حال طالب العلم.

طالب:...

هي قد تؤثر في تمكُّن التعبد من القلب، نعم، والثقة بموعود الشارع، والاطمئنان والركون إلى كل ما يؤثر كل ما يأمر به، إذا وصلت إلى هذا الحد، يعني لماذا يبحث الناس عن العلل والحِكَم والمصالح وكذا؟ من أجل أن يرسخ الإيمان في قلوبهم؛ ليكون قبولهم للحُكم قناعة وليس مجرد تقليد أو تلقين، وفرقٌ بين من يقتنع بحيث لا تتزعزع قناعته لأي مؤثر وإن قوي، وبين من يأخذ الشيء تلقينًا، نعم هو يؤجر على هذا، لكن ما هو مثل من دخل في الإسلام عن قناعة.

"وأيضًا فإنه لما امتثل الأمر فقد وكل العلم بالمصلحة إلى العالم بها جملة وتفصيلاً، ولم يكن ليقصر العمل على بعض المصالح دون بعض، وقد علم الله تعالى كل مصلحة تنشأ عن هذا العمل فصار مؤتمِرًا في تلبيته التي لم يقيدها ببعض المصالح دون بعض. وأما كونه أسلم؛ فلأن العامل بالامتثال عاملٌ بمقتضى العبودية، واقفٌ على مَرْكَزُ الخدمة، فإن عَرَضَ له قَصْدُ غير الله رده قصد التعبد، بل لا يدخل عليه في الأكثر إذا عمل على أنه عبد مملوك لا يملك شيئًا، ولا يقدر على شيء، بخلاف ما إذا عمل على جلب المصالح، فإنه قد عد نفسه هنالك واسطة بين العباد، ومصالحهم، وإن كان واسطة لنفسه أيضًا فربما دَاخَلَه شيءٌ من اعتقاد المشاركة، فتقوم لذلك نفسُه.

 وأيضًا فإن حظه هنا ممحٌو من جهته بمقتضى وقوفه تحت الأمر والنهي، والعمل على الحظوظ طريقٌ إلى دخول الدواخل، والعملُ على إسقاطها طريقٌ إلى البراءة منها، ولهذا بسط في كتاب الأحكام، وبالله التوفيق".

العمل على الحظوظ وملاحظة المصالح طريقٌ إلى دخول الدواخل، يعني منفذ إلى القلب، قد يحرفه عن الاتجاه الصحيح وعن المسار الصحيح، إذا نظر إلى المصالح، ومن لم ينظر إلى المصالح ونظر إلى محض التعبد طريقٌ إلى البراءة منها من هذه الدواخل، فهو من هذه الحيثية أكمل، لكن يبقى أن من نظر إلى المصالح، ولم تؤثر في إخلاصه لله -جل وعلا- لا شك أن امتثاله أكمل وأمكن، مثل ما قلنا فيمن أخذ الدين تقليدًا، ومن أخذه عن قناعة.

"المسألة التاسعة: كل ما كان من حقوق الله، فلا خِيَرةَ فيه للمكلف على حال".

{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}[سورة الأحزاب: 36] الإنسان ليس له أن يختار؛ لأنه عبد، والعبد يأتمر يلزمه أن يأتمر بأوامر سيده.

"وأما ما كان من حق العبد في نفسه فله فيه الخيرة".

نعم إذا لُحِظ من الأمر أو النهي مصلحة العبد، إذا كان الملحوظ في الأمر أو النهي مصلحة العبد، «اقرأ القرآن في سبع ولا تزد» ما الملحوظ في هذا؟ الملحوظ الرفق بالعبد، ولذلك جوَّزوا القراءة في أقل من سبع؛ لأن الملحوظ فيه مصلحة العبد، لكن إذا كان الملحوظ حق الله- جل وعلا- المحض الذي ليس للعبد فيه مدخل فلا تجوز الزيادة ولا النقص، كأعداد ركعات الصلوات.

"أما حقوق الله تعالى فالدلائل على أنها غير ساقطة ولا ترجع لاختيار المكلف كثيرة، وأعلاها الاستقراء التام في موارد الشريعة، ومصادرها كالطهارة على أنواعها والصلاة والزكاة والصيام والحج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي أعلاه الجهاد، وما يتعلق بذلك من الكفارات والمعاملات والأكل والشرب واللباس، وغير ذلك من العبادات والعادات التي ثبت فيها حق الله تعالى، أو حق الغير من العباد، وكذلك الجنايات كلها على هذا الوِزَان جميعها، لا يصح إسقاط حق الله فيها ألبتة.

 فلو طمع أحدٌ في أن يسقِط طهارةً للصلاة أي طهارة كانت، أو صلاةً من الصلوات المفروضات، أو زكاةً، أو صومًا، أو حجًّا، أو غير ذلك لم يكن له ذلك، وبقي مطلوبًا بها أبدًا حتى يَتَقَصَّى عن عهدتها، وكذلك لو حاول استحلال مأكول حي مثلاً من غير ذكاة، أو إباحة ما حرم الشارع من ذلك، أو استحلال نكاحٍ بغير ولي أو صداق، أو الربا، أو سائر البيوع الفاسدة، أو إسقاط حد الزنا، أو الخمر، أو الحرابة، أو الأخذ بالغرم والأداء على الغير بمجرد الدعوى عليه، وأشباه ذلك لم يصح شيء منه، وهو ظاهر جدًّا في مجموع الشريعة حتى إذا كان الحكم دائرًا بين حق الله، وحق العبد لم يصح للعبد إسقاط حقه إذا أدى إلى إسقاط حق الله".

نعم إذا كان الملحوظ حق الله -جل وعلا- فقط أو حق الله -جل وعلا- مع حق العبد، أما إذا كان الملحوظ حق العبد المُجرد فله أن يسقطه، ففرقٌ بين حد الزنا وحد القذف، حد الزنا لا يملك إسقاطه أحد، وحد القذف المقذوف يملك إسقاطه، حد السرقة للمسروق منه ألا يطالب، وحد الخمر مثلاً حق لله محض لا يجوز إسقاطه، المقصود أن الحدود المحددة المقررة في الشرع إذا وصلت إلى الحاكم فليس لأحدٍ أن يتدخل فيها، ولا يشفع فيها، والحاكم أيضًا إذا بلغته وهي محددة مقررة فإن عفا كما في الخبر، فلا عفا الله عنه، سواءً كانت من الحدود المقررة أو التعزيرات التي ثبتت بحكم الحاكم.

 على كل حال هذه لا يملك أحد إسقاطها، نعم قبل أن تصل إلى الحاكم وكان المقترف لها من أصحاب الهيئات حصلت له زلة أو هفوة، فأراد من اطلع عليه أن يستر عليه، فمن ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة، أما من كان من أصحاب السوابق والجرائم والمنكرات بحيث إذا سُتر عليه اليوم ارتكب فاحشة غدًا فهذا لا يجوز الستر عليه، ونسمع في وسائل الإعلام من يطالب بالستر المطلق، هذا فيه تعطيلٌ لحدود الله، وتوطئة للإباحية، يعني الستر المطلق، يعني ما يمكن أن يرفع ولا واحدًا هذه إباحية، معناه لا تأمر ولا تنهى، إذن فحدود الله لماذا شرعت؟

لكن من حصلت منه هفوة أو زلة يدخل في "من ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة"، وهذا ما قرره أهل العلم بدءًا من الإمام مالك لمن دونه -رحمهم الله تعالى-؛ لأن هذه حقوق لله، يعني فيها حقوق للعباد، وفيها مصلحة للعباد ظاهرة، وفيها استقرار لأحوال العباد، لكن يبقى أيضًا أن حق الله -جل وعلا- ملحوظ، يعني القتل وهو القتل، القتل الخطأ مركب، مركب من حق لله -جل وعلا- وحق للعبد، فما كان من نصيب العبد وهو الدية فله أن يعفو، وما كان حق الله -جل وعلا- وهو الكفارة فليس لأحدٍ أن يعفو عنه، لكن إذا امتزج الحقان بحيث لا يمكن فصل أحدهما من الآخر، فإنه لا يجوز العفو تغليبًا لحق الله -جل وعلا-، فحدُّ الزنا مثلاً هو فيه حق للمزني بها وذويها وأهلها؛ لأن شرفهم متعلق بشرفها، فهل لهم أن يعفو عنه؟ ليس لهم أن يعفو عنه؛ لأن فيه حقًّا لله ملحوظًا ممتزجًا بحق المخلوق، ولا يمكن فصلهما، إذا أمكن الفصل مثل الدية والكفارة، فما للمخلوق له أن يعفو عنه، وما كان لله ليس لأحد أن يعفو عنه.

 لكن إذا كان الحقان ممتزجين بحيث لا يمكن فصل أحدهما، فلا يقول قائل: إن هذا البكر زنا فيجلد مائة، وسمحت الزوجة وأهلها يجلد خمسين حق لله -جل وعلا-، يمكن أن يقال بهذا؟ لا، هذا أمر ممتزج، لكن إذا قُتل القتيل خطأً، فأراد أولياء الدم أن يعفوا عن الدية يمنعون أم ما يمنعون؟ وأن تعفوا أقرب للتقوى، لهم ذلك، لكن يستطيعون أن يعفوا عن الكفارة؟ لا يستطيعون.

"فلأجل ذلك لا يعترض هذا بأن يقال مثلاً: إن حق العبد ثابت له في حياته وكمال جسمه وعقله وبقاء ماله في يده، فإذا أسقط ذلك بأن سلط يد الغير عليه فإما أن يقال بجواز ذلك له أو لا".

فإذا أسقط.

"فإذا أسقط ذلك: بأن سلط يد الغير عليه، فإما أن يقال بجواز ذلك له أو لا، فإن قلت: لا، وهو الفقه، كان نقضًا لما أصَّلت؛ لأنه حقه، فإذا أسقطه اقتضى ما تقدم أنه مخير في إسقاطه".

الأصل أن المال مال الله، فلا يجوز للإنسان أن يضيع ماله، فنهى عن إضاعة المال، يعني بدون مقابل، وأما ما كان بمقابل فإنه ليس بإضاعة، ما كان له مقابل معتبر فإنه ليس بإضاعة، يعني لو أن إنسانًا تبرع بنصف ماله لجهة خير أو لإصلاح ذات بين أو ما أشبه ذلك فهذا مقابل ما يقال هذا أضاع ماله، لكن لو صرفه فيما لا ينفع، أو أتلفه فيما يضره، هذا كله لا يجوز له ذلك، وجاء الوعيد الشديد على أقوام يملكون الأموال في آخر الزمان، يتخبطون فيها، نسأل الله العافية.

"والفقه يقتضي أن ليس له ذلك، وإن قلت: نعم خالفت الشرع؛ إذ ليس لأحد أن يقتل نفسه ولا أن يفوت عضوًا من أعضائه ولا مالاً من ماله".

ولا أن يفوت عضوًا من أعضائه؛ لأنه لا يملك نفسه، وأعضاؤه ليست ملكًا له، ولذا المرجَّح في مسألة التبرع بالأعضاء المنع مطلقًا.

"فقد قال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29]، ثم توعد عليه، وقال: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188]. وقد جاء الوعيد الشديد فيمن قتل نفسه، وحرم شرب الخمر؛ لما فيه من تفويت مصلحة العقل برهة".

برهة يعني مدة يسيرة من الزمن، نعم فما ظنك...

"فما ظنك بتفويته جملة! وحجرَ على مبذر المال، ونهى -عليه الصلاة والسلام- عن إضاعة المال، فهذا كله دليل على أن ما هو حق للعبد لا يلزم أن تكون له فيه الخيرة؛ لأنَّا نجيبُ بأن إحياء النفوس، وكمال العقول والأجسام من حق الله تعالى في العباد، لا من حقوق العباد، وكون ذلك لم يجعل إلى اختيارهم هو الدليل على ذلك، فإذا أكمل الله تعالى على عبد حياته وجسمه، وعقله الذي به يحصل له ما طلب به من القيام بما كُلِّفَ به، فلا يصحُّ للعبد إسقاطه، اللهم إلا أن يبتلى المكلف بشيء من ذلك من غير كسبه ولا تسببه، وفات بسبب ذلك نفسه، أو عقله، أو عضو من أعضائه، فهنالك يتمحض حق العبد؛ إذ ما وقع لا يمكن رفعه".

كيف يتمحض حق العبد؟ يعني حصل له حادث، ففقد عضوًا من أعضائه؛ بسبب هذا الحادث، أو فقد العقل، أو فقد السمع أو البصر، أو ما أشبه ذلك من غير كسبه ولا تسببه، يكون محض حقه، فله أن يعفو، له أن يعفو عن دية السمع وعن دية البصر أو ما أشبه ذلك.

 "فله الخيرة فيمن تعدى عليه؛ لأنه قد صار حقًّا مستوفىً في الغير كدين من الديون، فإن شاء استوفاه، وإن شاء تركه، وتركه هو الأولى إبقاءً على الكلي، قال الله تعالى: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى: 43]، وقال: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40]".

يعني فرقٌ بين أن يتعرض لحادث فيفقد البصر، من غير تسبب منه، هذا صار الأمر إليه، له أن يأخذ الدية، وله أن يعفو، لكن شخصًا مدينًا أو محتاجًا، هل له أن يعرض سمعه أو بصره على أحد ليأخذ مقابله؟ ليس له ذلك، لا يجوز له أن يتصرف بنفسه أو بشيء منه.

"وذلك أن القصاص والدية إنما هي جبر لما فات المجني عليه من مصالح نفسه، أو جسده، فإن حق الله قد فات، ولا جبر فيه، وكذلك ما وقع مما يمكن رفعه كالأمراض إذا كان التطبب غير واجبٍ، ودفع الظالم عنك غير واجب على تفصيل في ذلك مذكور في الفقهيات، وأما المال فجارٍ على ذلك الأسلوب، فإنه إذا تعيَّن الحق للعبد فله إسقاطه، وقد قال تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 280]، بخلاف ما إذا كان في يده فأراد التصرُّف فيه، وإتلافه في غير مقصد شرعي يبيحه الشارع، فلا، وكذلك سائر ما كان من هذا الباب.

وأما تحريم الحلال، وتحليل الحرام، وما أشبهه فمن حق الله تعالى؛ لأنه تشريع مبتدِئ، وإنشاء كلية شرعية ألزمها العباد فليس لهم فيها تحكم؛ إذ ليس للعقول تحسينٌ ولا تقبيحٌ تحلل به، أو تحرم".

مسألة التحسين والتقبيح العقليين مضى الكلام فيها، وللعلماء فيها كلام طويل؛ منهم من ينفيها بالكلية كالأشعرية، ومنهم من يثبتها بالإطلاق كالمعتزلة، ومنهم من يتوسط كأهل السُّنَّة، المقصود أن التشريع حق لله -جل وعلا- لا يجوز لأحدٍ أن يشركه فيه، {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ}[سورة الشورى: 21] هذا تشريك، هذا شرك في التشريع- نسأل الله السلامة والعافية- لكن هناك مسائل مبنية على المصالح والمفاسد، المصالح المرعية، وليس لها نصٌّ يمنع منه، إنما إقرارها من باب المصالح المرسلة، مثل هذه متروكة للعباد، لكن يبقى أن الأصل أن {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّـهِ}[سورة يوسف: 41].

" إذ ليس للعقول تحسينٌ ولا تقبيحٌ تحلل به، أو تحرم، فهو مجرد تعدٍ فيما ليس لغير الله فيه نصيب؛ فلذلك لم يكن لأحدٍ فيه خيرة. فإن قيل: فقد تقدَّم أيضًا أن كل حق للعبد لا بد فيه من تعلق حق الله به، فلا شيء من حقوق العباد إلا وفيه لله حق فيقتضي أن ليس للعبد إسقاطه، فلا يبقى بعد هذا التقرير حقٌ واحدٌ يكون العبد فيه مخيرًا، فقِسمُ العبد إذًا ذاهب ولم يبق إلا قسم واحد".

لأنه ما من حقٍ للعبد إلا وجاء فيه حُكم لله -جل وعلا- فإذا لحظنا حق العبد ولم نلحظ الحكم الشرعي فيه أهدرنا حق الله -جل وعلا-، وإذا نظرنا حق الرب -جل وعلا- في امتثال الأمر أو النهي أهدرنا فيه حق العبد، فلا بد من النظر إلى الأمرين، لكن هناك من من الحقوق ما هو محض حق الله -جل وعلا-، ومنها ما هو محض حق العبد، ومنها ما هو مشترك، مثل ما مثّلنا سابقًا.

"فالجواب: أن هذا القسم الواحد هو المنقسم؛ لأن ما هو حق للعبد إنما ثبت كونه حقًّا له بإثبات الشرع ذلك له لا بكونه مستحقًّا لذلك بحكم الأصل، وقد تقدم هذا المعنى مبسوطًا في الكتاب، وإذا كان كذلك فمن هنا ثبت للعبد حق ولله حق. فأما ما هو لله صرفًا، فلا مقال فيه للعبد، وأما ما هو للعبد فللعبد فيه الاختيار من حيث جَعلَ الله له ذلك، لا من جهة أنه مستقلٌ بالاختيار، وقد ظهر بما تقدَّم آنفًا تخيير العبد فيما هو حقه على الجملة، ويكفيك من ذلك اختياره في أنواع المتناولات من المأكولات والمشروبات والملبوسات، وغيرها مما هو حلالٌ له، وفي أنواع البيوع والمعاملات والمطالبات بالحقوق، فله إسقاطها، وله الاعتياض منها، والتصرُّف فيما بيده من غير حجرٍ عليه إذا كان تصرفه على ما أُلِفَ من محاسن العادات، وإنما الشأن كله في فهم الفرق بين ما هو حق لله، وما هو حق للعباد، وقد تقدَّمت الإشارة إليه في آخر النوع الثالث من هذا الكتاب، والحمد لله.

المسألة العاشرة: التحيُّل بوجه سائغ مشروع في الظاهر، أو غير سائغ على إسقاط حكم، أو قلبه إلى حكم آخر بحيث لا يسقط، أو لا ينقلب إلا مع تلك الواسطة فتفعل ليتوصل بها إلى ذلك الغرض المقصود مع العلم بكونها لم تشرع له فكأن التحيُّل مشتمل على مقدمتين: إحداهما: قلب أحكام الأفعال بعضها إلى بعض في ظاهر الأمر، والأخرى: جعل الأفعال المقصود بها في الشرع معانٍ وسائل إلى قلب تلك الأحكام هل يصح شرعًا القصد إليه والعمل على وفقه أم لا؟".

يعني التحيل بوجه سائغ هل يصحّ القصد إليه أو لا يصحّ؟ أولاً بالنسبة للحِيل منها المباح، ومنها الواجب، ومنها المحرم، يعني تعتريها الأحكام الخمسة، فالمحرم منها ما استُعمِل للتوصل إلى إسقاط واجبٍ شرعي أو انتهاك محرمٍ شرعًا، هذه حيل اليهود، نسأل الله العافية، وما ارتُكِب للتوصل إلى فعل الواجب أو ترك المحرم هذه هي الحيل الشرعية، وتتفاوت بتفاوت ما تُوصل إليه، فالحيلة للانتقال من بلاد الإسلام إلى بلاد الكُفر يزوِّر جواز من أجل أن ينتقل من بلاد الإسلام إلى بلاد الكفر، جائزة أم محرمة؟ حيلة يتوصل بها إلى محرم شرعًا فهي محرمة.

 لكن العكس إذا كان مقيمًا في دار الكفر، واحتال حاول أن ينتقل إلى بلاد المسلمين ولم يستطع فحاول بحيلةٍ أن ينتقل ويحقِّق ما أمره الله به هذه واجبة، ولم ينصّ على الحيلة في كتاب الله إلا في هذا الموضع {لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا}[سورة النساء: 98]، ففرقٌ بين هذا وهذا، فمن يحتال لترك المأمور أو لفعل المحظور هذا يشبه اليهود، ومن يحتال لتحقيق المأمور أو ترك المحظور هذا فعله شرعي هذه الحيل الشرعية.

"وهو محل يجب الاعتناء به، وقبل النظر في الصحة، أو عدمها لا بد من شرح هذا الاحتيال. وذلك أن الله تعالى أوجب أشياء، وحرم أشياء إما مطلقًا من غير قيد ولا ترتيب على سبب كما أوجب الصلاة والصيام والحج، وأشباه ذلك، وكما حرم الزنا والربا والقتل، ونحوها، وأوجب أيضًا أشياءً مرتبةً على أسباب، وحرم أُخَرًا كذلك كإيجاب الزكاة والكفارات والوفاء بالنذور والشُّفعَة للشريك، وكتحريم المطلقة والانتفاع بالمغصوب، أو المسروق، وما أشبه ذلك، فإذا تسبب المكلف في إسقاط ذلك الوجوب عن نفسه، أو في إباحة ذلك المحرم عليه بوجهٍ من وجوه التسبب، حتى يصير ذلك الواجب غير واجب في الظاهر، أو المحرم حلالاً في الظاهر أيضًا، فهذا التسبب يسمى حيلة وتحيلاً، كما لو دخل وقت الصلاة عليه في الحضر فإنها تجب عليه أربعًا، فأراد أن يتسبب في إسقاطها كلها بشرب خمرٍ، أو دواء مسبِت حتى يخرج وقتها".

مسبت من السبات وهو النوم.

 "حتى يخرج وقتها وهو فاقد لعقله كالمغمى عليه، أو قصرها فأنشأ سفرًا ليقصر الصلاة، وكذلك من أظله شهر رمضان فسافر ليأكل، أو كان له مال يقدر على الحج به فوهبه، أو أتلفه بوجهٍ من وجوه الإتلاف كي لا يجب عليه الحج، وكما لو أراد وطء جارية الغير فغصبها، وزعم أنها ماتت فقضي عليه بقيمتها فوطئها بذلك، أو أقام شهود زور على تزويج بكرٍ برضاها، قضى الحاكم بذلك ثم وطئها، أو أراد بيع عشرة دراهم نقدًا بعشرين إلى أَجَل، فجعل العشرةَ ثمنًا لثوب ثم باع الثوب من البائع الأول بعشرين إلى أَجَل".

يعني هذه حيل للتوصل إلى ما حرم الله -جل وعلا-، هذه حيل للتوصل إلى ما حرم الله -جل وعلا-، وبعضها يجاز في بعض المذاهب في أقوالٍ مرجوحة، يعني عندك أقام شهود زور على تزويج بكرٍ برضاها جاء بشهود زور، فحكم الحاكم بأن النكاح صحيح، بواسطة هؤلاء الشهود الزور، والزوج يعرف هو الذي جاء بهؤلاء الشهود وأن النكاح باطل، لكن القاضي حكم على نحو ما يسمع، عند الحنفية النكاح صحيح أم باطل؟ صحيح، صحيح، وعامة أهل العلم على أنه باطل، الإشكال أن الحنفية يُفرِّقون بين الأبضاع في هذا الباب وبين الأموال، فيحتاطون للأموال أكثر مما يحتاطون للأبضاع، يصححون هذا النوع من النكاح، ويبطلون ما لو كان شهود الزور في عقد بيع، «إنما أنا بشر أقضي على نحو مما أسمع فمن حكمت له بشيء من حق أخيه أو من حق أخيه شيئًا فإنما أحكم له بقطعة من نار فليأخذها أو ليدعها» حملوه على الأموال دون الأبضاع.

طالب: يقولون فاسد.

لا لا، يصححونه، هذا يصححونه، معروف عندهم هذا التفريق بين الأموال والأبضاع، لكن أيهما أهم للاحتياط للفروج والأبضاع أو الأموال؟ حتى في عُرف الناس وعامة الناس من مسلمين وغير مسلمين، الذين هم على أصولهم، يعني ما اجتالتهم الشياطين، يعني المقصود أن مثل هذا كل يدركه، لكن قالوا: إن النصّ فإنما أقضي له بشيء من مال أخيه، جعلوا الحديث في الأموال خاصّة، جعلوا الحديث في الأموال خاصّة، بخلاف الأبضاع.

"أو أراد قتل فلان، فوضع له في طريقه سببًا مجهزًا كإشراع الرمح، وحفر البئر، ونحو ذلك".

نعم، زرع لغم في الطريق، ووقَّتَهُ على مرور فلان، هذا قتل ولا حيلة على القتل؟ أو أراد قتل فلان، فوضع له في طريق سببًا مجهزًا كإشراع الرمح وحفر البئر ونحو ذلك، حفر بئر، وجاء بورق مقوى، ووضعه على فوهتها، وذرّ عليه شيئًا من التراب الرقيق، هذا الذي لا يمنع من السقوط فيه، المار يجزم بأنه ما فيه بئر؛ لأن الذي أمامه تراب، مثل هذا قاتل بلا شك، ومثله من أشرع الرُمح في الطريق أو زرع اللغم أو ما أشبه ذلك، هذا قاتل، لكن وُجِد حُفر في الطريق، في الطريق الذي يرتاده الناس كلهم، المبصر يتقيها، والأعمى لا يُحسُّ بها، بعض من يلزم الأعمى بالعصا ليتحسس به الطريق، فإن ترك العصا فهو مُفرِّط، ترك العصا فهو مُفرِّط، مع أن بعض العميان ومرّ بنا كثير من قصصهم، أنه يُدرك هذه الحُفر بدقة لا يدركه فيها المبصر، لا يدركه المبصر.

 وهناك أمثلة ونماذج كثيرة، مبصر يقود زميله الأعمى في طريقه إلى محل دراستهم، يقول: أمسكت بيده خمس سنوات؛ لأن المعهد كان خمس سنوات، رائح جاي وفي طريقنا حصاة، يقول: والله إني ما أذكر أني قلت له الحصاة، يرفع رجله وأنا مرارًا أطيح، فهل يُلزم مثل هذا بأخذ العصا أو نقول من يغلب على الظن أنه يقع في هذه الحُفَر يفعل من الأسباب ما يقيه ولو العصا؟

على كل حال من أهل العلم من يقول: إنه إذا لم يحمل عصاه فهو مُفرِّط، فيكون هدرًا.

"وكالفرار من وجوب الزكاة بهبة المال، أو إتلافه، أو جمع متفرقه، أو تفريق مجتمعه، وهكذا سائر الأمثلة في تحليل الحرام، وإسقاط الواجب، ومثله جارٍ في تحريم الحلال".

ابن القيم -رحمه الله-  في إغاثة اللهفان أطال على الحيل ونظيره في إعلام الموقعين.

طالب:...

لا لا، الحيل أطول، إغاثة اللهفان أطول، في إغاثة اللهفان في كلام طويل جدًّا على الحيل، وذكر من الأمثلة الشيء الكثير، ومن الحيل المحرمة المجمع على تحريمها، بل أفتى بعضهم بكفر فاعلها المفتي بها، امرأة حاولت التخلص من زوجها بشتى الوسائل، بالطلاق بالخلع، ما استطاعت، ما استطاعت، فأفتاها من أفتاها أن ترتد عن الإسلام، يقول ابن المبارك: من أفتاها بهذه الفتوى فقد كفر، وغيره من أهل العلم أفتوا بكفره، هذه حيلة وحيل أخرى، ذكرها ابن القيم عن بعض الناس، أقسم ابن القيم أن إبليس لا يعرف هذه الحيل، حتى جاء هؤلاء فتلقاها منهم، حيل شيطانية، ثم ضرب أمثلة لحيل يخرج بها الناس من الإشكالات أو من الأمور التي تعترض طريق مصالحهم الدنيوية، فضرب لذلك أمثلة كثيرة جدًّا، فليُرجع إلى كلامه في إغاثة اللهفان وفي إعلام الموقعين.

"ومثله جارٍ في تحريم الحلال كالزوجة ترضع جارية الزوج، أو الضرة لتحرم عليه".

طيب امرأة زوجة أولى تزوج زوجها زوجة صغيرة، فغررت بها وأرضعتها، أيهما التي تحرُم؟ الصغيرة؛ لأنها صارت بنته أو الأولى؛ لأنها صارت أم زوجته؟

طالب:...

نعم؟

طالب:...

أيهما؟

طالب:...

أو كلاهما؟

طالب:...

لكن ما القصد من إرضاع الصغيرة في هذه الحالة؟ تحريمها عليه، فتعاقب بنقيض قصدها، فتعاقب بنقيض قصدها.

طالب:...

ماذا؟

طالب:...

صارت أم زوجته.

طالب:...

بنته، نعم.

"أو إثبات حق لا يثبت كالوصية للوارث في قالب الإقرار بالدين. وعلى الجملة فهو تحيُّل على قلب الأحكام الثابتة شرعًا إلى أحكام أُخَر بفعلٍ صحيح الظاهر، لغوٌ في الباطن كانت الأحكام من خطاب التكليف، أو من خطاب الوضع".

يعني سواء كانت الأحكام من هذا أو من هذا.

والله أعلم.

 اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.