التعليق على الموافقات (1432) - 01

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

طالب: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد،

فيقول المؤلف -رحمه الله- في كتاب الموافقات: "المسألة السابعة: الأوامر والنواهي ضربان: صريح، وغير صريح. فأما الصريح فله نظران؛ أحدهما: من حيث مجرده لا يعتبر فيه علة مصلحية، وهذا نظر من يجري مع مجرى الصيغة مجرى التعبد المحض من غير تعليل، فلا فرق عند صاحب هذا النظر بين أمر وأمر، ولا بين نهي ونهي، كقوله: {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [الأنعام: 72] مع قوله: «اكلفوا من العمل ما لكم به طاقة»".

لأن المنظور إليه في هذه الحال هو الآمر، والآمر واحد وإن تعدد الأمر، وإن اختلفت مراتبه، الأمر بين: أمر بالتوحيد، وأمر بالصلاة، وأمر بأركان الإسلام، وأمر بالمستحبات والمندوبات؛ لا شك أن المراتب متفاوتة. وكذلك النهي: نهي عن الشرك، نهي عن الزنا، نهي عن الربا، نهي عن أكل مال اليتيم، نهي عن العقوق، نهي عن المكروهات، المراتب متعددة ومتفاوتة، لكن الآمر واحد؛ فمن نظر إلى أن الآمر واحد قال: لا فرق بين أمر وأمر ولا نهي ونهي، في هذا يقول من يقول: انظر إلى قدر من عصيت ولا تنظر إلى قدر المعصية. ولا شك أن الآمر إما أن يأمر بجزم وتشديد، وإما أن يقترن بالأمر أو ينفك عنه ما يدل على أنه أخف. وأنت حينما تهتم للأمر المشدد فيه من قِبل الآمر على أنه أشد وأهم من الأمر الذي اقترن به ما يقتضي تخفيف أمره وشأنه، فإذًا لا شك أنك ناظر للآمر بالدرجة الأولى بغض النظر عن الأمر.

طالب: "وقوله: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] مع قوله: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9]، وقوله: «ولا تصوموا يوم النحر» مثلاً".

{أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [الأنعام: 72] هذا من أعظم الأوامر، «اكلفوا من العمل ما لكم به طاقة»، «اكلفوا من العمل ما تطيقون»، هذا أمر لكنه مراعى فيه حال المكلف، ولذلك تجد من يخالف مثل هذا الأمر من الجلة، كما أن عبد الله بن عمرو خالف النهي حينما قال له النبي -عليه الصلاة والسلام-: «اقرأ القرآن في سبع ولا تزد»، صار يزيد، هل نقول: إنه قلل من شأن الناهي والآمر؟

طالب: لا.

وإنما رأى أن هذا الأمر وهذا النهي من باب الشفقة عليه وهو يطيق أكثر من ذلك، يتقرب بذلك إلى الله -جل وعلا-، فحقيقة مثل هذه الأمور بينها فروق كبيرة، ولذلك حينما يرد: «لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث»، وتجد من السلف من يقرأ القرآن في ليلة، هل نقول: إن هؤلاء ما فقهوا هذا الكلام؟ فقهوه، لكنهم عرفوا أنه إنما سيق رأفة بهم وشفقة عليهم.

طالب: "وقوله: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] مع قوله: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9]، وقوله: «ولا تصوموا يوم النحر» مثلاً مع قوله: «لا تواصلوا»، وما أشبه ذلك مما يُفهم فيه التفرقة بين الأمرين. وهذا نحو ما في الصحيح أنه -عليه الصلاة والسلام- خرج على أُبي بن كعب وهو يصلي، فقال -عليه الصلاة والسلام-: «يا أُبي!»، فالتفت إليه ولم يُجبه، وصلى فخفَّف ثم انصرف، فقال رسول الله : «يا أُبي! ما منعك أن تجيبني إذ دعوتك؟». فقال: يا رسول الله! كنت أصلي. فقال: «أفلم تجد فيما أوحي إليَّ: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24]؟». قال: بلى يا رسول الله، ولا أعود إن شاء الله".

لكنه تعارض عنده أمران: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} مع قوله -جل وعلا-: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238]، هذا أمر وهذا أمر، فتعارض عنده الأمران ولم يستطع الترجيح في الحال، إنما رجح: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] فلم يستجب للنبي -عليه الصلاة والسلام-، لا استخفافًا بأمره ولا استخفافًا بشأنه -عليه الصلاة والسلام-، إنما عارضه أمر آخر.

طالب: "وهو في البخاري عن أبي سعيد بن المُعلى، وأنه صاحب القصة؛ فهذا منه -عليه الصلاة والسلام- إشارة إلى النظر لمجرد الأمر وإن كان ثَم معارض. وفي أبي داود أن ابن مسعود جاء يوم الجمعة والنبي يخطب، فسمعه يقول: «اجلسوا»، فجلس بباب المسجد، فرآه النبي ، فقال له: «تعال يا عبد الله»".

يعني ليس المقصود «اجلسوا» أنك تجلس في مكان غير مناسب، ليس المقصود من الأمر بالجلوس أن تجلس لا تتقدم خطوة ولا تتأخر خطوة، فتجلس في مكان غير مناسب، والحديث فيه كلام.

طالب: "وسمع عبد الله بن رواحة رسول الله وهو بالطريق يقول: «اجلسوا»، فجلس بالطريق، فمر به -عليه الصلاة والسلام-، فقال: «ما شأنك؟»، فقال: سمعتك تقول: «اجلسوا»، فقال له: «زادك الله طاعة»".

وهذا مثله أيضًا فيه كلام قوي لأهل العلم.

طالب: "وفي البخاري: قال -عليه الصلاة والسلام- يوم الأحزاب: «لا يصل أحد العصر إلا في بني قريظة»، فأدركهم وقت العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها، وقال بعضهم: بل نصلي، ولم يُرد منا ذلك. فذُكر ذلك للنبي ، فلم يُعنف واحدة من الطائفتين".

لأن طائفة تعلقت بالحرفية، وطائفة تعلقت بالمعنى وقالوا: المطلوب منا المبادرة، وليس المطلوب منا مخالفة أحاديث التوقيت، إنما المبادرة إلى بني قريظة، والطائفة الأخرى طبقت حرفيًّا ولو فاتهم الوقت. لم يُعنف واحدة منهم؛ لأنهم كلهم مأجور، كلهم مأجورون، كلهم اجتهدوا فأصابت طائفة وأخطأت الأخرى، فللطائفة المصيبة أجران فلا يستحقون التعنيف، وللطائفة المخطئة أجر واحد فلا يستحقون التعنيف.

طالب: "وكثير من الناس فسخوا البيع الواقع في وقت النداء لمجرد قوله تعالى: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9]".

باعتبار أن هذا النهي عن البيع مقتض للفساد.

طالب: "وهذا وجه من الاعتبار يمكن الانصراف إليه والقول به عامًّا، وإن كان غيره أرجح منه، وله مجال في النظر منفسح، فمن وجوهه أن يقال: لا يخلو أن نعتبر في الأوامر والنواهي المصالح أو لا، فإن لم نعتبرها فذلك أحرى في الوقوف مع مجردها".

يعني مع حروفها، يعني التطبيق الحرفي إذا لم ننظر إلى ما وراء هذه الأوامر وهذه النواهي. نعم.

طالب: "وإن اعتبرناها فلم يحصل لنا من معقولها أمر يتحصل عندنا دون اعتبار الأوامر والنواهي، فإن المصلحة وإن علمناها على الجملة فنحن جاهلون بها على التفصيل، فقد علمنا أن حد الزنا مثلاً لمعنى الزجر بكونه في المحصن: الرجم دون ضرب العنق، أو الجلد إلى الموت، أو إلى عدد معلوم، أو السجن، أو الصوم، أو بذل مال كالكفارات، وفي غير المحصن: جلد مائة، وتغريب عام دون رجم، أو القتل، أو زيادة عدد الجلد على المائة أو نقصانه عنها، إلى غير ذلك من وجوه الزجر الممكنة في العقل".

يعني التحديد بدقة: مائة جلدة، لماذا لا يُزاد عليها في بعض القضايا وينقص منها في بعض القضايا؟ لا شك أن بعض القضايا يحتف بها من الاستخفاف بحدود الله ما يجعل المرتكب يستحق الزيادة، وبعض القضايا ما يحتف بها من ندم لمرتكبها، واعتراف بالتقصير مما يستحق معه التخفيف، لكن لو تُرك هذا الأمر لتقدير الناس ضاعت الحدود، تضيع الحدود بهذه الطريقة؛ ولذلك جاءت بجزم بدون النظر إلى التفاصيل.

نعم التعزيرات يُنظر فيها إلى مثل هذه الأمور، لكن الحدود لا يزاد فيها، ولا ينقص. لو قال قائل: بدل أن نجيء بحصى ونرجم هذا الزاني، نقتله بالسيف، فلا تمرإلا لحظة إلا وهو منتهٍ. نقول: لا، العقل لا مدخل له في هذه الأمور، وهناك مصالح لا تدركها العقول. بعضهم رأى المصلحة فغيَّر الحكم الشرعي، تبعًا للمصلحة، فالذي جامع امرأته في رمضان، الملك الذي جامع امرأته في رمضان قال: صم شهرين متتابعين، مع أن الحكم عتق رقبة، قال: هذا لما نقول له: أعتق رقبة وطأ امرأته كل يوم، يطأ امرأته في كل يوم، سهلة رقبة، لكن لما يصوم شهرين متتابعين لن يعود فيها ما بقي. فمثل هذه الأمور غير منظور إليها، إنما المنظور إليه تطبيق الشرع من غير نظر إلى ما وراء ذلك، مع جزمنا وعلمنا يقينًا أن هذا الشرع إنما هو من حكيم خبير، لا يخلو من مصلحة ولا حكمة أدركناها أو لم ندركها.

طالب: "هذا كله لم نقف على تحقيق المصلحة فيما حُدَّ فيه على الخصوص دون غيره، وإذا لم نعقل ذلك، ولا يمكن ذلك للعقول؛ دل على أن فيما حُد من ذلك مصلحة لا نعلمها، وهكذا يجري الحكم في سائر ما يُعقل معناه. أما التعبدات، فهي أحرى بذلك، فلم يبقَ لنا إذًا وزر دون الوقوف مع مجرد الأوامر والنواهي".

الوزر يقول: الملجأ والمعتصم، {كَلَّا لَا وَزَرَ} [القيامة: 11].

طالب: "وكثيرًا ما يظهر لنا ببادئ الرأي للأمر أو النهي معنًى مصلحي، ويكون في نفس الأمر بخلاف ذلك، يُبينه نص آخر يعارضه، فلا بد من الرجوع إلى ذلك النص دون اعتبار ذلك المعنى. وأيضًا فقد مر في كتاب المقاصد: أن كل أمر ونهي لا بد فيه من معنًى تعبدي، وإذا ثبت هذا لم يكن لإهماله سبيل، فكل معنى يؤدي إلى عدم اعتبار مجرد الأمر والنهي لا سبيل إلى الرجوع إليه؛ فإذًا المعنى المفهوم للأمر والنهي إن كُرَّ عليه".

"كَرَّ".

طالب: "إن كَرَّ عليه بالإهمال".

يعني رجع إلى الأمر والنهي فألغى اعتباره؛ فإنه لا سبيل إلى الرجوع إليه، السبيل إلى الرجوع إلى هذه المصلحة وترك المفسدة؛ لأن الأصل اعتبار الأمر والنهي، ولذا ليس كل الأوامر وكل النواهي معقول الحكمة أو مدرك الحكمة، وإذا قلنا: إن الحكمة معتبرة باطراد، ولا نفعل إلا ما وقفنا على مصلحته، معناه أننا عطلنا كثيرًا من الأوامر والنواهي.

طالب: "فإذًا المعنى المفهوم للأمر والنهي إن كرَّ عليه بالإهمال فلا سبيل إليه، وإلا فالحاصل الرجوع إلى الأمر والنهي دونه، فآل الأمر في القول باعتبار المصالح أنه لا سبيل إلى اعتبارها مع الأمر والنهي، وهو المطلوب".

هي معتبرة، لكن... أقول: هي المصالح والمفاسد المعتبرة في الشرع، لكنها لا تؤثر على الأمر والنهي، لا في ثبوته ولا في قوته.

طالب: لكن ما تصرف أحيانًا مثلاً بعض الأوامر والنواهي؛ الوجوب للندب، أو التحريم للكراهة؟

إذا كانت العلة منصوصة، أما إذا كانت مستنبطة فلا، إذا كانت منصوصة.

طالب: أحسن الله إليك، من المصيب........ ؟

في الوقت، الذين صلوا في الوقت.

طالب: .......

نعم.

طالب: "ولا يقال: إن عدم الالتفات إلى المعاني إعراض عن مقاصد الشارع المعلومة، كما في قول القائل: لا يجوز الوضوء بالماء الذي بال فيه الإنسان، فإن كان قد بال في إناء ثم صبه في الماء جاز الوضوء به!".

يعني هذا من لوازم قول الظاهرية: «لا يبولن أحدكم في الماء الدائم»، يُمنع أن يبول فيه، لكن إن بال في إناء وصبه فيه ما يصح أنه قال إنه بال فيه، إنما صب فيه البول. فرقوا بين هذا وهذا، وهذا لا شك أنه جمود غير مرضي. وكذا لو بال حول المال فانساب البول إلى الماء. نعم.

طالب: "لأنا نقول: هذا أيضًا معارض بما يضاده في الطرف الآخر في تتبع المعاني مع إلغاء الصيغ، كما قيل في قوله -عليه الصلاة والسلام-: «في أربعين شاة شاة»، إن المعنى قيمة شاة؛ لأن المقصود سد الخلة، وذلك حاصل بقيمة الشاة، فجعل الموجود معدومًا والمعدوم موجودًا، وأدى ذلك إلى أن لا تكون الشاة واجبة، وهو عين المخالفة. وأشباه ذلك من أوجه المخالفة الناشئة عن تتبع المعاني".

قد يقول قائل: إن اتباع الحرفية قد يكون مرجوحًا حتى في الواقع، والمصلحة الظاهرة تقتضي عدم اتباع الحرفي. في زكاة الفطر صاع من طعام، يأخذ الفقير هذا الصاع من هذا الغني، ويأخذ ثانيًا وثالثًا ورابعًا وعاشرًا، ويكدس الأطعمة ثم يبيعها بثمن بخس. أخذ ليلة العيد خمسين صاعًا من طعام، ثم باعها الصاع بريالين؛ لأن العرض كثير في ليلة العيد. لو قال قائل: نحن نعطيه بدل الصاع عشرة ريالات، فأيهما أفضل له؟ هو بائع بائع، فأيهما أفضل؟

طالب: ........

النظر للمعنى، وأننا نعطيه القيمة. لكن هل مثل هذا يسوغ في أمة تتعبد بالأوامر والنواهي؟ لا، ما يسوغ أبدًا، حتى لو رماه وقال: لا أحتاج إليه. أدركنا أن الهدي من كثرة الهدايا ألوف مُؤلفة مئات الألوف، فتركناها يحفر لها بالحفار وتُدفن. من نظر إلى المعنى قال: مثل هذا يأتي به شرع؟ لا. لكنه أمر حتمي لا بد منه، هذه عبادة، هذا دين، كون الناس أساءوا في الطريقة ما يُنسب إلى الشرع هذا. فقد وجد من يذبح الهدي بنفسه، ويقطعه إربًا، ويجعله في قدر، ويطبخه، ويقف في الطرقات، ويوزع على الناس، هذا الذي أدى الغرض من الهدي، وترتبت عليه المصلحة كاملة. أما الناس الذين يذبحون ويمشون ويتركونه فهؤلاء...؟ نعم العج والثج أفضل الحج، لكن يبقى أن المعاني أيضًا لها مدخل، هو برئت ذمته من هذا الهدي، لكنه أساء في كيفية تصريفه.

طالب: "وإذا كانت المعاني غير معتبرة بإطلاق، وإنما تعتبر من حيث هي مقصود الصيغ؛ فاتباع أنفس الصيغ التي هي الأصل واجب؛ لأنها مع المعاني كالأصل مع الفرع، ولا يصح اتباع الفرع مع إلغاء الأصل، ويكفي من التنبيه على رجحان هذا النحو ما ذُكر.

والثاني من النظرين: هو من حيث يُفهم من الأوامر والنواهي قصد شرعي بحسب الاستقراء، وما يقترن بها من القرائن الحالية أو المقالية الدالة على أعيان المصالح في المأمورات، والمفاسد في المنهيات، فإن المفهوم من قوله: {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [الأنعام: 72] المحافظة عليها والإدامة لها، ومن قوله: «اكلفوا من العمل ما لكم به طاقة» الرفق بالمكلف خوف العنت أو الانقطاع، لا أن المقصود نفس التقليل من العبادة، أو ترك الدوام على التوجه لله. وكذلك قوله: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9]".

يعني لما يقال: «اقرأ القرآن في سبع»، هل المقصود من هذا أنك لا تقرأ في اليوم إلا ساعة، فلو قرأت ساعة إذًا صرت مخالفًا؟ لا. المقصود من التقليل ألا تنقطع، وأن تتدبر ما تقرأ، ليس المقصود التقليل. يعني لو قال: أنا أقرأ في الساعة خمسة أجزاء، وأريد أن أقرأ بعد صلاة الصبح ساعة، وبعد صلاة الظهر ساعة، وبعد صلاة العصر ساعة، بحيث أقرأ فأختم في يومين؟ قال: لا «اقرأ القرآن في سبع»، إذا انتهى السُّبع فقف لا تقرأ، ولن تتغير طريقتك لا في القراءة ولا في التدبر، لكن المسألة تقليل وقت، بدل ما تقرأ ثلاث ساعات باليوم تقرأ ساعة واحدة. هل هذا مقصود الشرع؟ لا، {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99]. المقصود أن تشغل هذا الوقت هذا العمر بطاعة، محققًا ما خُلقت من أجله، وهو العبودية، لا أن المقصود منه أن تقلل زمن العبادة، إنما المقصود أن تلتفت إلى معناها ولبها.

طالب: أحسن الله إليك، هذا ما هو استنباط أيضًا؟

أين؟

طالب: مسألة أنا استنبطنا أن هذا نص الشارع القصد منه الرفق وليس...

بلى استنباط، لكنه ظاهر، لما يجيء عبد الله بن عمرو مندفعًا يقرأ القرآن في يوم.

طالب: نعم.

ويقول له الرسول -عليه الصلاة والسلام-: «اقرأ القرآن في شهر»، هل المقصود الشهر ذاته، وأنه ما يقرأ في اليوم إلا جزءًا واحدًا في ربع ساعة؟

طالب: لا لكن استنباط.

استنباط، لكنه مع ذلك قطعي ما يحتاج، معروف أن هذا من أجل الرفق به.

طالب: يعني ما يرد عليه.....

مثل ما كان عبد الله بن عمرو ومن معه عثمان بن مظعون حينما قال واحد منهم: أنا لا آكل اللحم، وأنا لا أنام الليل، وأنا أصوم الدهر. المقصود الرفق بهم.

طالب: أنا قصدي كلامك الأول الذي أصّلته أنه إذا جاءت العلة غير منصوص عليها فما يمكن يوجه هذا الأمر إلى......

لا، لكن العلل غير منصوصة هي في حكم المنصوصة في ظهورها، يعني الرسول ماذا يقصد من عبد الله بن عمرو؟

طالب: الظاهر الرفق.

بلا شك، طبعًا، هذا مقطوع به الرفق، يعني بعض الناس لو يجيئك يقول لك: واللهِ ما أنا بزائد القرآن إلا في شهر؟ تقول: لا يا أخي السلف يقرؤون. شخص مفرط ما يقرأ القرآن إلا من رمضان إلى رمضان، ما تقول: إن السلف يختمون بليلة؟ وما قصدك تشق عليه؟ قصدك تقربه قليلًا.

طالب: "وكذلك قوله: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] مقصوده الحفظ على إقامة الجمعة وعدم التفريط فيها، لا الأمر بالسعي إليها فقط، وقوله: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] جارٍ مجرى التوكيد لذلك بالنهي عن ملابسة الشاغل عن السعي، لا أن المقصود النهي عن البيع مطلقًا في ذلك الوقت، على حد النهي عن بيع الغرر، أو بيع الربا، أو نحوهما".

يعني هل النهي عن البيع لذاته أو لأمر خارج؟

طالب: أمر خارج.

نعم. لأمر خارج. نعم.

طالب: "وكذلك إذا قال: «لا تصوموا يوم النحر» المفهوم مثلاً قصد الشارع إلى ترك إيقاع الصوم فيه خصوصًا".

نعم. لذاته.

طالب: "ومن قوله: «لا تواصلوا»، أو قوله: «لا تصوموا الدهر» الرفق بالمكلف أن لا يدخل فيما لا يحصيه ولا يدوم عليه، ولذلك كان -عليه الصلاة والسلام- يواصل ويسرد الصوم، كان يصوم حتى يقال: لا يُفطر، ويفطر حتى يقال: لا يصوم. وواصل -عليه الصلاة والسلام-، وواصل السلف الصالح مع علمهم بالنهي، تحققًا بأن مغزى النهي الرفق والرحمة؛ لا أن مقصود النهي عدم إيقاع الصوم ولا تقليله. وكذلك سائر الأوامر والنواهي التي مغزاها راجع إلى هذا المعنى. كما أنه قد يُفهم من مغزى الأمر والنهي الإباحة، وإن كانت الصيغة لا تقتضي بوضعها الأصلي ذلك".

لا سيما إذا كان بعد نهي. {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا} [الجمعة: 10]، نُهي عن البيع ثم إذا قضيت الصلاة فانتشروا {وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10]، فهذا لا يقال: إنه للوجوب، وإن كانت الصيغة في الأصل تقتضي، مثل: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2]؛ لأنهم مُنعوا من الصيد ثم أُبيح لهم.

طالب: قد لا يسلم أنه يعاد للإباحة يا شيخ؛ لكونه....

هم يقولون: المتقرر عند أهل العلم عند جلهم أن الأمر بعد الحظر للإباحة، ويختار بعضهم أن الأمر يعود إلى ما كان عليه قبل الحظر. نعم. فالصيد بعد الحل من الإحرام لا شك أنه بحسب الحاجة الداعية إليه، قد يكون مضطرًّا للأكل، فيكون حينئذٍ الصيد واجبًا إذا لم يكن ثَم وسيلة غيره.

طالب: "كقوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2]، {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} [الجمعة: 10]؛ إذ عُلم قطعًا أن مقصود الشارع ليس ملابسة الاصطياد عند الإحلال، ولا الانتشار عند انقضاء الصلاة، وإنما مقصوده أن سبب المنع من هذه الأشياء قد زال، وهو انقضاء الصلاة وزوال حكم الإحرام. فهذا النظر يعضده الاستقراء أيضًا، وقد مر منه أمثلة.

وأيضًا، فقد قام الدليل على اعتبار المصالح شرعًا، وأن الأوامر والنواهي مشتملة عليها، فلو تركنا اعتبارها على الإطلاق، لكنَّا قد خالفنا الشارع من حيث قصدنا موافقته؛ فإن الفرض أن هذا الأمر وقع لهذه المصلحة، فإذا ألغينا النظر فيها في التكليف بمقتضى الأمر كنا قد أهملنا في الدخول تحت حكم الأمر ما اعتبره الشارع فيه، فيوشك أن نخالفه في بعض موارد ذلك الأمر؛ وذلك أن الوصال وسرد الصيام قد جاء النهي عنه، وقد واصل -عليه الصلاة والسلام- بأصحابه حيث نهاهم فلم ينتهوا. وفي هذا أمران إن أخذنا بظاهر النهي؛ أحدهما: أنه نهاهم فلم ينتهوا، فلو كان المقصود من النهي ظاهرًا لكانوا قد عاندوا نهيه بالمخالفة مشافهة، وقابلوه بالعصيان صراحًا، وفي القول بهذا ما فيه".

مثل صنيع عبد الله بن عمرو حينما قال له: «اقرأ القرآن في سبع ولا تزد» وزاد، هل نقول: إن هذه معاندة من عبد الله بن عمرو، أم نقول: عبد الله بن عمرو فهم أن هذا من أجله؛ شفقة ورفقًا به، فهو أعرف طاقته وقدرته ويريد أن يتزود من الطاعة فلا يوجد ما يمنع.

طالب: "والآخر: أنه واصل بهم حين لم يمتثلوا نهيه، ولو كان النهي على ظاهره لكان تناقضًا".

كيف ينهى عن الوصال ويواصل؟

طالب: "وحاشا لله من ذلك، وإنما كان ذلك النهي للرفق بهم خاصة، وإبقاءً عليهم، فلما لم...".

لا، واصل هو -عليه الصلاة والسلام-.

طالب: .......

هو واصل بهم ليلتين أو ثلاثًا وانتهى الشهر، ولو تم الشهر لواصل بهم، لزاد.

طالب: .........

من باب التنكيل، لكن هل يكون التنكيل بمحرم، بارتكاب محرم؟ ما يكون التنكيل بارتكاب محرم.

طالب: "وإنما كان ذلك النهي للرفق بهم خاصةً وإبقاءً عليهم، فلما لم يسامحوا أنفسهم بالراحة، وطلبوا فضيلة احتمال التعب في مرضاة الله؛ أراد -عليه الصلاة والسلام- أن يُريهم بالفعل ما نهاهم لأجله، وهو دخول المشقة، حتى يعلموا أن نهيه -عليه الصلاة والسلام- هو الرفق بهم، والأخلق بالضعفاء الذين لا يصبرون على احتمال اللأواء في مرضاة ربهم. وأيضًا، فإن النبي -عليه الصلاة والسلام- نهى عن أشياء، وأمر بأشياء، وأطلق القول فيها إطلاقًا ليحملها المكلف في نفسه وفي غيره على التوسط، لا على مقتضى الإطلاق الذي يقتضيه لفظ الأمر والنهي، فجاء الأمر بمكارم الأخلاق وسائر الأمور المطلقة، والنهي عن مساوئ الأخلاق وسائر المناهي المطلقة، وقد تقدم أن المكلف جُعل له النظر فيها بحسب ما يقتضيه حاله ومنته، ومثل ذلك لا يتأتى مع الحمل على الظاهر مجردًا من الالتفات إلى المعاني".

فيُترك مثل هذا للمكلف لينظر الأصلح، والأصلح في إطار الشريعة الوسط، مثل ما جاء في الكرم، مثل ما جاء في الشجاعة، مثل ما جاء في الغيرة، مثل ما جاء في جميع الخلال، ولها طرفان ووسط، والمطلوب الوسط.

طالب: "وقد نهى -عليه الصلاة والسلام- عن بيع الغرر، وذكر منه أشياء، كبيع الثمرة قبل أن تُزْهِي، وبيع حبل الحبلة، والحصاة، وغيرها. وإذا أخذنا بمقتضى مجرد الصيغة، امتنع علينا بيع كثير مما هو جائز بيعه وشراؤه، كبيع الجوز واللوز والقسطل في قشرها، وبيع الخشبة والمغيبات في الأرض، والمقاثي كلها، بل كان يمتنع كل ما فيه وجه مغيب، كالديار والحوانيت المغيبة الأسس والأنقاض، وما أشبه ذلك مما لا يحصى ولم يأت فيه نص بالجواز. ومثل هذا لا يصح فيه القول بالمنع أصلاً؛ لأن الغرر المنهي عنه محمول على ما هو معدود عند العقلاء غررًا مترددًا بين السلامة والعطب، فهو مما خُص بالمعنى المصلحي، ولا يُتبع فيه اللفظ بمجرده".

لو تشتري منزلًا معمورًا بالجدران والأعمدة وكذا، أليس من الغرر أن يكون في الأعمدة حديد لا تعرف سمكه؟

طالب: بلى.

وفي القواعد أشياء مغيبة عنك لا يمكن أن تصل إلى كنهها وحقيقتها؟ هل نقول: إن هذا داخل في النهي عن بيع الغرر؟ هناك غرر يتسامح الناس فيه، وغرر لا يُتسامح الناس فيه. من يستدل بهذا على بعض الصور التي يتداولها الناس اليوم وفيها الغرر الكبير الذي لا يمكن أن يُتجاوز، هذه مكابرة، هو نهي عن بيع الغرر. لكن من الغرر ما يحتمل، ومنه ما لا يُحتمل. نعم.

طالب: "وأيضًا، فالأوامر والنواهي من جهة اللفظ على تساوٍ في دلالة الاقتضاء، والتفرقة بين ما هو منها أمر وجوب أو ندب، وما هو نهي تحريم أو كراهة لا تُعلم من النصوص، وإن علم منها بعض فالأكثر منها غير معلوم".

هي تُعلم من النصوص، لكن نصوص متصلة ونصوص منفصلة.

طالب: "فالأكثر منها غير معلوم، وما حصل لنا الفرق بينها إلا باتباع المعاني، والنظر إلى المصالح، وفي أي مرتبة تقع؟ وبالاستقراء المعنوي، ولم نستند فيه لمجرد الصيغة، وإلا للزم في الأمر أن لا يكون في الشريعة إلا على قسم واحد لا على أقسام متعددة، والنهي كذلك أيضًا؛ بل نقول: كلام العرب على الإطلاق لا بد فيه من اعتبار معنى المساق في دلالة الصيغ، وإلا صار ضحكة وهزأة، ألا ترى إلى قولهم: فلان أسد أو حمار، أو عظيم الرماد، أو جبان الكلب، وفلانة بعيدة مهوى القرط، وما لا ينحصر من الأمثلة".

نعم. هذه "فلان أسد" يعني شجاع، "حمار" يعني بليد، "عظيم الرماد" يعني كريم، "جبان الكلب" ماذا تدل عليه؟

طالب: ........

لا.

طالب: ........

"جبان الكلب"؟

طالب: ........

نعم. كثرة الزائرين، يعني هو من كثرة الزائرين ما ينبح على كل أحد، ولا يتبع كل أحد، ولا يخيف كل أحد؛ لأنه يصير وقته كله على هذا الحال.

طالب: ........

ويدل على الكرم، كثرة الزوار. "وفلانة بعيدة مهوى القرط" يعني طويلة العنق.

طالب: "وما لا ينحصر من الأمثلة، ولو اعتبر اللفظ بمجرده لم يكن له معنى معقول، فما ظنك بكلام الله وكلام رسوله -عليه الصلاة والسلام-؟ وعلى هذا المساق يجري التفريق بين البول في الماء الدائم وصبه من الإناء فيه. وقد حكى إمام الحرمين عن ابن سُريج أنه ناظر أبا بكر بن داود الأصبهاني في القول بالظاهر، فقال له ابن سريج: أنت تلتزم الظواهر، وقد قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7]، فما تقول فيمن يعمل مثقال ذرتين؟ فقال مجيبًا: الذرتان ذرة وذرة. فقال ابن سريج: فلو عمل مثقال ذرة ونصف؟ فتبلد وانقطع. وقد نقل عياض عن بعض العلماء أن مذهب داود بدعة ظهرت بعد المائتين، وهذا وإن كان تغاليًا في رد العمل بالظاهر، فالعمل بالظواهر أيضًا على تتبع وتغالٍ بعيد عن مقصود الشارع، كما أن إهمالها إسراف أيضًا، كما تقدم تقريره في آخر كتاب المقاصد، وسيذكر بعدُ إن شاء الله تعالى".

طالب: .......

هو الأصل النظر إلى الصيغة والآمر، هذا الأصل، ولا شك أن مراعاة المصالح والمفاسد تابعة لهذا. أهل الظاهر وما جاء عنهم ونقل عنهم ولزموا به، الكلام فيه كثير، ومن أهل العلم من شدد في شأنهم وحقهم، ومنهم من رفع من شأنهم. المقصود أن ابن العربي في العارضة، الجزء الثاني يقول: لما جاء القوم الذين هم كالحمير يطلبون الدليل في كل صغير وكبير. هذا مدح أم ذم؟

طالب: ذم.

يطلبون الدليل في كل صغير وكبير!

طالب: ذم، ذم يا شيخ.

طالب: ........

دع مسألة الحمير، لكن هل طلب الدليل في كل صغير وكبير يقتضي الذم؟ خطيب من الخطباء على المنبر يذم طائفة يقول: من علاماتهم تقصير الثياب وحمل كتب الحديث، ما هذا الكلام؟ إذا لم تقع العلة موافقة للحكم صار الكلام ينقض بعضه بعضًا.

طالب: لكن يا شيخ النظر الثاني هذا الذي ذكره المؤلف، يعني ما كأنه يُجرئ الناس على مسألة النصوص يعني تضعف من هيبتها من حيث النظر إلى الالتفات في المعاني......

لا، المنصف ينظر بالتوازن، لا يكون ظاهريًّا ولا يكون من أهل الرأي المجرد، لا بد أن يكون متوسطًا في أمره.

طالب: أحسن الله إليكم.........

نعم، يعني لأن هذا أمر شديد جدًّا، ضرر الربا وهذا أخف، فالأوامر متفاوتة.

طالب: ........

لا، الجمهور ما يقتضي الفساد {وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9]؛ لأن النهي عاد لأمر خارج.

طالب: ........

لا، ما نهى عنه إلا لأنه تأثر.

طالب: ........

أقول: ما نهى عنه إلا لتأثره.

طالب: لكن يا شيخ الرسول سكت ما حرم يا شيخ؟

لكنه نهى، لماذا نهى؟ لأنه ما يتأثر؟

طالب: منكر أعظم.

لا لا لا، لا ليس المنكر، أمره شديد.

اللهم صلِّ على محمد.