شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (108)

المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم.

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أيها الإخوة والأخوات، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلًا بكم إلى حلقة جديدة ضمن برنامجكم شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح.

 مع بداية حلقتنا يسرنا أن نرحب بصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور: عبد الكريم بن عبد الله الخضير، عضو هيئة التدريس بكلية أصول الدين قسم السنة وعلومها، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض فأهلًا بكم شيخ عبد الكريم.

حياكم الله، وبارك فيكم وفي الإخوة المستمعين.

المقدم: أسلفتم في الحلقة الماضية الحديث عن كتاب العلم، والحديث حول العلم، وأشرتم إلى جملة من النصوص حول هذا الموضوع، ووعدنا المستمع أن نستكمل ما تبقى في المقدمة حول كتاب العلم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، في آخر الحلقة السابقة نقلنا عن القسطلاني في "إرشاد الساري" في تقسيم العلم باعتبار ما يتعلق بالظاهر وما يتعلق بالباطن؛ فقال: ينقسم العلم بانقسام المعلومات وهي لا تحصى، فمنها الظاهر، والمراد به العلم الشرعي المقيد بما يلزم المكلف في أمر دينه عبادة ومعاملة، وهو يدور على التفسير والفقه والحديث، يقول: وقد عد الشيخ عز الدين بن عبد السلام تعلم النحو، وحفظ غريب الكتاب والسنة، وتدوين أصول الفقه من البدع الواجبة، جرى -رحمه الله- على تقسيم البدع إلى الأحكام التكليفية الخمسة، فذكر منها: الواجبة والمستحبة و...

المقدم: المباحة.

والمباحة والمكروهة والمحظورة، وقال: من البدع الواجبة التصنيف في العلوم والرد على المخالفين، وذكر من البدع المستحبة بين الأربطة والمدارس وما أشبه ذلك. لكنها دلت عليها النصوص الشرعية، الرد على المخالفين جاءت به النصوص من نصوص الكتاب والسنة، التصنيف دل عليه الأمر بكتابة الحديث، جاء في أحاديث "اكتبوا لأبي فلان"، أذن النبي -عليه الصلاة والسلام- بالكتابة، بل أمر بها، فهذه بداية تصنيف، إذًا ما لا يتم الواجب إلا به، وهو حفظ الدين، فواجب، ما لا يتم إلا به فهو واجب.

وهنا نقول: ليس من البدع ما يُستحسن، وليس منها ما يُمدح، فضلًا أن يكون واجبًا، فالبدع كلها ضلالة كما قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: «كل بدعة ضلالة»، وهنا تندرج تحت ما ذكره من تعلم النحو وحفظ الغريب قد لا يتم فهم الكتاب والسنة إلا بهذا، لا يتم فهم الكتاب والسنة إلا بهذا، يقول: وقد عد الشيخ عز الدين بن عبد السلام تعلم النحو، وحفظ غريب الكتاب والسنة وتدوين أصول الفقه من البدع الواجبة، نقول: ليست بدعة، وإنما هي مما لا يتم الواجب إلا به، فهي واجبة بالشرع، يقول بعد ذلك: ومنها علم الباطن وهو نوعان. هذا خلاف الظاهر، خلاف الظاهر ما تحتاجه الجوارح من عمل، وعلم الباطن ما تحتاجه القلوب. الأول: علم المعاملة، وهو فرض عين في فتوى علماء الآخرة، فالمعرض عنه هالك، وحقيقته النظر في تصفيه القلب وتهذيب النفس باتقاء الأخلاق الذميمة التي ذمها الشارع كالرياء والعُجب والغش وحب العلو والثناء والفخر والطمع؛ ليتصف بالأخلاق الحميدة المحمدية كالإخلاص والشكر والصبر والزهد والتقوى والقناعة وغير ذلك من الأعمال القلبية.

 وأما النوع الثاني -يعني من علم الباطن- فهو علم المكاشفة، وهو نور يظهر في القلب عند تزكيته، فتظهر به المعاني المجملة، فتحصل له المعرفة بالله تعالى وأسمائه وصفاته وكتبه ورسله. يعني كان يقصد بذلك الفِراسة، إن كان يقصد بذلك ما يفتح الله به على من صدق معه وأخلص في طلبه لله -جل وعلا- وصدق أن لجأ إليه في فهم النصوص، ما يقذف في قلبه من نور يفهم به مراد الله -جل وعلا- ومراد نبينه -عليه الصلاة والسلام- من نصوص فهذا حق، وهذا عليه كبار أئمة المسلمين وعلمائهم، أما إن كان يريد بذلك قدرًا زائدًا مما يدعيه غلاة المتصوفة فأشرنا سابقًا إلى أنه باطل، وهو مدخل واسع ولجوا فيه إلى إقرار بعض الأمور الباطلة والتنصل من بعض الواجبات بسببه.

المقدم: هو ما يسمونه الحقيقة أو علم الحقيقة؟

علم الحقيقة يشمل النوعين.

سائل: أحسن الله إليكم فضيلة الشيخ، يتشاغل يا شيخ بعض طلاب العلم بتصنيف أهل العلم وتقسميهم حسب المواقف أو المناهج التي ارتئوها واتخذوها بناءً على اجتهاد منهم، ويزعمون أن نصح الأمة وبراءة الذمة إنما تكون بهذا، وأن طلب العلم لا يقوم إلا على هذه الدرجة، فما تعليقك حول هذا؟ وهل العلم لا ينال إلا ممن سلم من كل موقف أو من كل اجتهاد قد يخالف عليه؟

أقول: اشتغال طلاب العلم بهذا لا شك أنه سبب لحرمانهم من العلم والعمل، والواقع يشهد بذلك، وهم أو كثير ممن نصب نفسه حكمًا بين العباد ليس بأهلٍ، ولا تنطبق عليه شروط ما اشترطه أهل العلم فيمن يجرح ويعدل، الأمر الثاني: أن أهل العلم هم أقرب الناس إلى الإصابة، ومع ذلكم لا ندعي فيهم العصمة، فلا بد أن يقع الخطأ، لا بد أن يقع الخطأ، والمسألة مفترضة في عالم عامل يقتفي نصوص الكتاب والسنة، فمثل هذا إذا اجتهد وأصاب فله أجران، وإذا أخطأ فله أجر واحد أجر الاجتهاد وخطأه مغفور، فعلى طالب العلم أن يكف عن مثل هذه الأمور ويترك هذا الأمر إلى من وُكل إليه، وينصرف إلى ما هو بصدده من تحصيل العلم النافع، ويعتصم لاسيما في مثل هذه الظروف ومثل هذه الأوقات، يعتصم بالكتاب والسنة، ففيهما المخرج من جميع الفتن والمحن، وهما أصل العلوم كلها، فيحرص على مداومة النظر كتاب الله -جل وعلا- قراءة وحفظًا وتدبرًا وترتيلًا وعملًا، وفيه العلوم كلها، ومعه سنة النبي -عليه الصلاة والسلام- التي هي المبينة له، ويحرص على معرفة ما يخدم هذين العلمين الأصليين.

المقدم: أحسن الله إليكم، في بعض النسخ في الآية التي صَدَّر البخاري -رحمه الله- كتاب العلم بها {يَرْفَعِ اللَّهُ}[المجادلة:11] هكذا.

على قراءة.

المقدم: نعم، بعضهم يقول: يرفعُ هذه قراءة.

نعم هذه أيضًا قراءة.

المقدم: لكن وجه الكسر في الفعل يرفعِ.

ما الذي قبلها؟

 اقرأ.

المقدم: {إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ}[المجادلة:11].

إن تفعلوا يرفع، إما جواب الطلب أو جواب شرط مقدر على خلافٍ عليه.

المقدم: أيضًا في موضوع آخر يا شيخ، الآن بدأ البعض التركيز على قضية أن من لم يتلقَ العلم على يد عالم كان هذا سببًا لانجرافه، هذه الأمور بدأ التركيز عليها في ظل ظهور بعض من انتسب إلى العلم وتلقاه من الكتب ونحو ذلك، هل هذا على إطلاقه؟ هل يقال: إن كل من تلقى العلم من الكتب ولم يلازم عالمًا فإنه في الغالب يزل وتحصل منه أخطاء؟ وهل هذا المنهج صحيح؟ يعني ثبت عليه سلف الأمة- عليهم رحمة الله- أن الجميع منهم تلقى العلم على يد العلماء، ولم يتلقوه بمفردهم؟

نعم، لا يوجد عالم لم يطلب العلم على غيره، وفي الغالب أن من يقتصر على القراءة لا يصل إلى مرتبة تؤهله للقيادة العلمية والتصدر العلمي، وفي الغالب أن مجالسة العلماء ليس فيها الأخذ من علمهم فحسب، بل إنما الأخذ من علمهم وهديهم وسمتهم وطريقتهم، وتنوع العلماء وكثرة الشيوخ تفيد الطالب، كل شيخ من الشيوخ مدرسة مستقلة، ثم بعد ذلك يتبلور من هذا الطالب الذي أخذ العلم من هذه المدارس مدرسة مستقلة متكاملة، أما من تعامل مع الكتب، الكتب قد يحصل فيها إشكالات، كيف يسأل مؤلفيها؟ كيف يسأل هذا المتعلم مؤلفيها عن حل هذا الإشكال؟! لابد له، لا يمكن أن يستقل بنفسه.

 لكن بعض الناس يستعجل، يطلب العلم مدة يسيرة، ثم يظن أنه أدرك ما يكفيه، ثم ينزوي في بيته ويقرأ، ولا شك أنه يحصّل، والقراءة وسيلة من وسائل التحصيل، وهي رافد، رافد قوي للتحصيل، إضافة إلى ثني الكتب بين يدي أهل العلم، أما أن يكون شيخ الشخص كتابه هذا كما قال أهل العلم: خطؤه أكثر من صوابه. ولا بد أن تجد في تصرفاته ما لا يُحمد، في طباعه وفي خلقه ما لا يليق بطالب العلم، وهذا له أمثلة لا نريد أن نسمي، لكن له أمثلة في القديم موجود، أما من ثنى الركب وجثا بين يدي العلماء مثل هذا تجده في الغالب على الجادة، ويسدد في أقواله وأفعاله.

سائل: أحسن الله إليكم يا شيخ، بعض من يوفقه الله سبحانه وتعالى لطلب العلم ما إن يوفق لسلوك مثل هذا المسلك الحميد إلا ويتصدى لنقد العلماء وللرد عليهم، ويكتب الردود في ذلك، وبخاصة أن هذا سبب لحرمان العلم كما قال ابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله": من استعجل النقد حُرم العلم. فما توجيه فضيلتكم حفظكم الله لمن يقع في مثل هذه الأشياء؟ والله يحفظكم.

تقدم أن العلماء المفترض فيهم أنهم أهل العلم والعمل أهل الاجتهاد، أهل الاقتفاء لنصوص الكتاب والسنة، ولا يعني أنهم معصومون، يكفيهم أنهم استفرغوا الوسع، وبذلوا الجهد في التحصيل والتعليم والفتيا، وحل المنازعات وفصل الخصومات على ما تحملوه من علم، وما حملوه من عهد، ولا يعني هذا أنهم معصومون يقع منهم الخطأ، لكن الشأن فيمن كثر خطؤه يحذر منه بقدر ما فيه من خطر، إذا خُشي أن يتعدى خطره يحذّر منه بقدر الحاجة، ولا يُقصد من ذلك النيل من شخصه بقدر ما يُقصد منه نصح الآخرين، نصح الأمة، ويحذر من المبتدعة بقدر ما عنده من بدع، لكن أهل التحقيق ممن يقتفي الكتاب والسنة وهو على منهج أهل السنة وسلف الأمة مثل هذا يبين الخطأ ولا يُنسب إلى شخص، إذا وقع عالم في زلة يقال: أفتى بعضهم بكذا، والصواب كذا.

وينبغي أن تبحث معه المسألة قبل أن تُبحث مع غيره، ينبغي أن تُبحث المسألة معه قبل أن تُبحث مع غيره؛ ليتراجع إن رأى أن قوله مرجوح، وليبين وجه نظره إن أصر أن قوله هو الراجح، ثم بعد ذلكم إن احتيج إلى البيان يبين، لكن لا يقصد من ذلك التشفي من أعراض أهل العلم، لا يقصد من ذلك التشفي منهم، إنما يقصد من ذلك البيان والنصح فقط، والله المستعان.

المقدم: أحسن الله إليكم، قال: -رحمه الله- عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: «بينما رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في مجلسٍ يُحدث القوم، جاءه أعرابي فقال: متى الساعة؟ فمضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُحدث، فقال بعض القوم: سمع ما قال، فكرِه ما قال، وقال بعضهم: بل لم يسمع، حتى إذا قضى حديثه قال: أين أُراه السائل عن الساعة؟ قال: ها أنا يا رسول الله، قال: فإذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة، فقال: كيف إضاعتها؟ قال: إذا وسد إلى غير أهله فانتظر الساعة».

يلاحظ في المختصر الترجمة باب فضل العلم، ثم ذكر أحاديث، والترجمة في الأصل باب فضل العلم وقول الله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}[المجادلة:11]، وقوله -عز وجل-: {رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114] فحسب، وليس تحت هذه الترجمة حديث، فضل العلم ليس تحتها حديث، واكتفى المصنف -رحمه الله تعالى- بالآيتين الكريمتين، ولم يتيسر له حديثٌ على شرطه فيه المطابقة التامة لفضل العلم، لعله كذا، أو بيض له كما يقول الشراح ليلحق به ما يناسبه ولم يتيسر له، وبهذا نعلم أن الترجمة لهذا العلم بباب فضل العلم خطأ، الترجمة على هذا الحديث، الإمام البخاري ترجم على هذا الحديث بقوله: باب من سُئل علمًا وهو مشتغل في حديثه فأتم الحديث ثم أجاب السائل، باب من سُئل علمًا وهو مشتغل في حديثه فأتم الحديث ثم أجاب السائل.

 يقول العيني: وجه المناسبة بين البابين، يعني باب فضل العلم، وباب من سئل علمًا إلى آخره، من حيث إن الباب الأول وإن كان المذكور فيه فضل العلم، ولكن المراد به التنبيه على فضل العلماء، التنبيه على فضل العلم هل هو لذاته؟ أو للتنبيه على فضل حملته؟ التنبيه على فضل حملته، على فضل العلماء؟ وهذا الباب فيه حال العالم المسؤول عن مسألة معضلة، ولا يُسأل عن المسائل المعضلات إلا العلماء الفضلاء العاملون الداخلون في قوله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}[المجادلة:11]. مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة، حيث ترك النبي -صلى الله عليه وسلم- السائل ومضى يُحدث حتى إذا فرغ من حديثه أقبل على السائل.

 يقول ابن حجر: ومطابقة الحديث لكتاب العلم أن إسناد الأمر إلى غير أهله، إنما يكون عند غلبة الجهل، أن إسناد الأمر إلى غير أهله إنما يكون عند غلبة الجهل ورفع العلم، وذلك من جملة الأشراط ومقتضاه أن العلم ما دام باقيًا، ففي الأمر فسحة. (بينما) أصله (بين) فزيدت عليه (ما) وهو ظرف زمان بمعنى المفاجأة، النبي- صلى الله عليه وسلم- مبتدأ خبره «يحدث القوم»، و«القوم» هم الرجال دون النساء كما في قوله تعالى: {لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ}[الحجرات:11]، وقد يدخل النساء فيه على سبيل التبع؛ لأن قوم كل نبي رجالٌ ونساء، وجمعه أقوام، وجمع الجمع أقاوم، «جاءه أعرابي» هو الذي يسكن البادية ومنسوب إلى الأعراب ساكني البادية من العرب، الذين لا يقيمون في الأمصار ولا يدخلونها إلا لحاجة.

 قال ابن حجر: لم أقف على تسمية الأعرابي، «فقال: متى الساعة»؟ أي متى تقوم الساعة؟ والمراد القيامة وانقضاء الدنيا، «فمضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-» أي استمر يُحدث القوم الذي كان فيه، «فقال بعض القوم: سمع ما قال فكره ما قال، قال بعضهم: بل لم يسمع». قال بعضهم إن النبي -عليه الصلاة والسلام- تركه وانصرف عنه ليحدث القوم، فبعضهم يعلل ذلك بأنه سمع ما قال فكرِه أن يرد عليه، كرِه ما قال، وقال بعضهم: لم يسمع.

المقدم: تعليل أثناء الجلسة.

مداولة بينهم، إنما حصل لهم التردد في ذلك لما ظهر من عدم التفات النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى سؤاله وإصغائه نحوه، ولكونه كان يكره السؤال عن هذه المسألة بخصوصها، وقد بيَّن في مناسبات أنه لا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله -جل وعلا-، قال ابن حجر: وقد تبيَّن عدم انحصار ترك الجواب في الأمرين المذكورين. بل احتمل أن يكون أخره ليكمل الحديث الذي هو فيه، أو أخر جوابه ليوحي إليه به، كثيرًا ما يسئل النبي -عليه الصلاة والسلام- فيسكت ثم يجيب، فهو إما أن ينتظر الجواب بالوحي أو ليربي من يتصدى لإفتاء الناس أن لا يتسرع في الجواب، ولذا تجدون من يتسرع في الإجابة أحيانًا قبل استكمال السؤال في الغالب لا يكون الصواب حليفه، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- في مناسبات كثيرة يُسأل فيسكت وهذه احتمالات.

 وعلى كل حال ينبغي لمن يتصدى لإفتاء الناس أن لا يبادر بالجواب حتى ينتهي السائل من سؤاله، ويستفهم عما يحتاج الاستفهام منه من السائل، النبي -عليه الصلاة والسلام- أخّر الجواب ليوحي إليه به، أو ليكمل الحديث الذي هو بصدده، ولذا ترجم الإمام البخاري بقوله: باب من سُئل علمًا وهو مشتغل في حديثه فأتم الحديث ثم أجاب السائل، هؤلاء أهم الذين هو بصدد الحديث معهم؛ لئلا يأتي أحد يقاطع ثم إذا انصرف عنهم، فلا شك أن الأولية لها دخل في الأولوية، الأولية لها نصيب من الأولوية، «قال: أين أراه السائل»؟ «أين» سؤال عن المكان بُني لتضمنه معنى حرف الاستفهام. وقوله: «أراه» بضم الهمزة أي أظنه أنه قال. السائل بالرفع على الحكاية، قال ابن حجر: والشك من محمد بن فليح «عن الساعة» أي عن زمانها، «قال: ها أنا». أي قال الأعرابي: ها أنا السائل يا رسول الله، فالسائل المقدر خبر لمبتدأ الذي هو أنا، «وها»: حرف تنبيه.

 قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «فإذا ضُعيت الأمانة» إذا متضمنة معنى الشرط، ولذا جاء جوابها بالفاء «فانتظر الساعة» قال -أي الأعرابي-: كيف إضاعتها؟ كيف تضيع الأمانة؟ كأن هذا استبعاد، كيف تضيع الأمانة؟ لا يخطر على بال مثل هذا أن الأمانة سوف تضيع، بالمناسبة شيخ من شيوخ المغاربة يقول: إن خلاف العلماء في كفر تارك الصلاة مسألة افتراضية، لماذا؟

المقدم: ما كانوا يتخيلون.

نعم ما كانوا يتصورون في مسلم يترك الصلاة؟ يقول: إن كان في عهد الدجال وفي عهد شرار الناس ممكن، لكن المسألة افتراضية، شيخ من شيوخ المغاربة في القرن السابع، الله المستعان، هذا يقول: كيف إضاعتها؟ قال -عليه الصلاة والسلام-: «إذا وسد» أي أسند، وأصله من الوسادة. قال ابن حجر: وكأن من شأن الأمير عندهم إذا جلس أن تُثنى تحته وسادة، فقوله: وسد أي: جُعل له وسادًا، فتكون إلى بمعنى اللام وأتي بها هنا ليدل على تضمين معنى أسند، وفي شرح ابن بطال قال المهلب: فيه أن من أدب المتعلم ألا يسأل العالم ما دام مشتغلًا بحديث أو غيره. ينتظر لأن من حق القوم الذين بدأ بحديثهم ألا يقطعه عنهم حتى يتمه، وفيه: الرفق بالمتعلم وإن جفا في سؤاله أو جهل؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- لم يوبخه على سؤاله قبل كمال حديثه، نعم انصرافه عنه وعدم إجابة سؤال لا شك أن فيه تربية لهذا السائل.

 وفيه وجوب تعليم السائل والمتعلم لقول النبي -عليه الصلاة والسلام-: «أين السائل»؟ ثم أخبره عن الذي سأله عنه، وفيه مراجعة العالم إذا لم يفهم السائل لقوله: كيف إضاعتها؟ وقوله: «إذا وسد الأمر إلى غير أهله» معناه أن الأئمة قد ائتمنهم الله على عباده وفرض عليهم النصيحة لهم؛ لقوله-عليه الصلاة والسلام-: «كلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته»، فينبغي لهم تولية أهل الدين والأمانة للنظر في أمر الأمة، فإذا قلدوا غير أهل الدين واستعملوا من يعينهم على الجور والظلم فقد ضيعوا الأمانة التي فرضها الله عليهم، وفي إرشاد الساري يؤخذ منه أن ينبغي للعالم والقاضي ونحوهما رعاية التقدم الأسبق فالأسبق.

 والحديث خرجه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في موضعين الأول هنا في كتاب "العلم" باب من سئل علمًا وهو مشتغل في حديثه، فأتم الحديث، ثم أجاب السائل قال: حدثنا محمد بن سنان قال: حدثنا فليح (ح) وحدثني إبراهيم بن المنذر، وتقدم مرارًا أن هذه الحاء حاء التحويل من إسناد إلى آخر، وحدثني إبراهيم بن المنذر قال: حدثنا بن محمد بن فليح قال: حدثني أبي قال: حدثني هلال بن علي عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: فذكره، وسبق ذكر الرابط بين الحديث والترجمة.

 الموضع الثاني: في كتاب "الرقاق" في باب رفع الأمانة، قال الإمام -رحمه الله تعالى-: حدثنا محمد بن سنان قال: حدثنا فليح بن سليمان، قال: حدثنا هلال بن علي عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة -رضي الله عنه- فذكره مختصرًا، ومناسبة الحديث في رفع الأمانة إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة إلى باب رفع الأمانة ظاهر، وباب رفع الأمانة مناسبته لكتاب "الرقاق" ظاهر؛ لأن فيه التخويف من تضييع الأمانة، والتخويف ترقيق للقلوب.

 والحديث تفرد بإخراجه الإمام البخاري دون غيره من أصحاب الكتب الستة.

المقدم: أحسن الله إليكم، ونفع بعلمكم.

إذًا أيها الإخوة والأخوات بهذا نصل وإياكم إلى ختام هذه الحلقة من برنامجكم شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح، سوف نستكمل بإذن الله تعالى كتاب العلم في حلقات قادمة حتى موعد الحلقة القادمة نترككم في رعاية الله وحفظه.

 والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.