كتاب الصلاة من المحرر في الحديث - 39

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين والمستمعين.

قال الإمام ابن عبد الهادي -رحمه الله تعالى- في كتابه المحرر:

باب: صلاة المسافر

عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: الصلاة أول ما فرضت ركعتين، فأقرت صلاة السفر، وأتمت صلاة الحضر" قال الزهري: فقلت لعروة: ما بال عائشة تتم؟ قال: تأولت ما تأول عثمان -رضي الله عنهما-. متفق عليه.

وللبخاري عنها قالت: "فرضت الصلاة ركعتين ثم هاجر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ففرضت أربعاً وتركت صلاة السفر على الأولى".

وعن عطاء عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "إن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقصر في السفر ويتم ويفطر ويصوم" رواه الدارقطني وقال: إسناده صحيح، وكلهم ثقات، والصحيح أن عائشة هي التي كانت تتم، كما رواه البيهقي بإسناد صحيح عن شعبة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة -رضي الله عنها- أنها كانت تصلي في السفر أربعاً، فقلت لها: لو صليت ركعتين؟ فقالت: يا ابن أختي إنه لا يشق علي".

وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معاصيه)) رواه أحمد وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما، وأبو يعلى الموصلي ولفظه: ((إن الله -عز وجل- يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه)).

وروى شعبة عن يحيى بن يزيد الهنَّائي.

الهنائي.

الهنائي قال: سألت أنس بن مالك عن قصر الصلاة؟ فقال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ -شعبة الشاك- صلى ركعتين" رواه مسلم.

وقال ابن عبد البر في يحيى: ليس هو ممن يوثق به في ضبط مثل هذا الأصل.

وعن العلاء بن الحضرمي -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((مكث المهاجر بعد قضاء نسكه ثلاثاً)) متفق عليه.

وعن يحيى بن إسحاق سمعت أنس بن مالك يقول: "خرجنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- من المدينة إلى مكة، فكان يصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة، قلت: أقمتم بها شيئاً؟ قال: أقمنا بها عشراً" متفق عليه. واللفظ للبخاري.

وعن ابن عباس -رضي الله عنه- قال: "أقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تسعة عشر يقصر، فنحن إذا سافرنا تسع عشر قصرنا...

تسعة عشر.

تسعة عشر قصرنا، وإن زدنا أتممنا" وفي لفظ: "أقام النبي -صلى الله عليه وسلم- بمكة تسعة عشر يوماً" رواه البخاري.

وعند أبي داود: "أقام سبع عشرة بمكة يقصر الصلاة".

قال: وقال عباد بن منصور عن عكرمة عن ابن عباس: "أقام تسع عشرة" وعنده من رواية ابن إسحاق: "أقام بمكة عام الفتح خمس عشرة يقصر الصلاة" وقال البيهقي: اختلفت الروايات في تسع عشرة وسبع عشرة، وأصحها عندي رواية من روى تسع عشرة.

وعن جابر -رضي الله عنهما- قال: "أقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بتبوك عشرين يوماً يقصر الصلاة" رواه أحمد وأبو داود، وقال: غير معمر لا يسنده.

يكفي، بركة.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:

فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:

باب: صلاة المسافر

والمسافر معذور لوجود المشقة في السفر في الجمع بين الصلاتين، وفي قصر الصلاة على ما تقدم بيانه في الدرس السابق، وهو من أهل الأعذار في الجملة، وإن كان بدنه سليماً صحيحاً معافى ليس كالمريض الذي تقدم الكلام فيه، ولا كالخائف الذي يأتي الكلام فيه.

المسافر: من السفر، مسافر اسم فاعل من سافر مسافرة، والأصل في المفاعلة أن تكون بين طرفين كالمضاربة والمقاتلة، لكن قد تأتي هذه الصيغة من طرف واحد، كما في قولهم: سافر زيد، وطارقت النعل، وما أشبه ذلك في أحرف خرجت عن هذه القاعدة، وإلا فالأصل أن المفاعلة تكون بين طرفين.

مسافر: من السفر وهو البروز والخروج من البلد، ومنه قيل للمرأة التي تكشف عن شيء من بدنها: سافرة، ومنه السفور وهو إبراز شيء من بدن المرأة، يقال له: سفور؛ لأنه يظهر ويبرز، ومثله السفر، فالوصف المؤثر المغير للأحكام هو السفر، وهو الذي علقت عليه الأحكام، وهو البروز والخروج من مكان الإقامة، ولذا لا يجوز الترخص إلا بعد السفور والبروز والخروج من البلد حتى يفارق عامر البلد لا بد من مفارقته ليترخص؛ ليتحقق الوصف المؤثر، وهذا قول جماهير أهل العلم، وإن كان بعضهم يرى أن له أن يترخص قبل أن يخرج من البلد إذا أزمع على الخروج، لكن الرخص إنما علقت بالسفر، فهو الوصف المؤثر، فلا يتحقق الترخص إلا بتحقق الوصف المؤثر، وعلى هذا إذا وصل إلى مطار البلد سواءً كان في سفره أو رجوعه، في ذهابه أو إيابه، مطار البلد المضاف إليه منه، وحينئذٍ لا يترخص حتى يركب وسيلة السفر التي هي الطائرة، ويصدق عليه الوصف، وما دام في المطار فإنه لا يصدق عليه الوصف أنه سافر، ولو كان المطار منفصلاً عن البلد لأنه جزء منه؛ لأنه قد يوجد فواصل في داخل البلد، ويوجد فواصل في أحياء البلد، فمنها -من أحياء البلد- ما يفصله عن البلد أرض بوار، ميتة، هذه لا تكفي في أن يقال: إنه سافر، ما دام هذا الحي جزء من هذا البلد، وما دام المطار يضاف إلى البلد، ولذا لا تستطيع أن تقول: إني سافرت وأنت في المطار، وإذا رجعت قيل: وصلنا إلى الرياض أو إلى جدة أو إلى غيرهما، إذا وصلت المطار، فهو جزء من البلد، والسفر إنما يبدأ بمفارقته، وإن كان منفصلاً عن البلد.

الرخص التي تُستباح في السفر هي القصر -قصر الصلاة- والجمع بين الصلاتين الظهرين والعشاءين، والفطر في رمضان، والمسح ثلاثة أيام بلياليها، هذه رخص السفر، والجمهور على أن السفر له مدة وله مسافة، سيأتي ذكرها، وأطلق بعض أهل العلم الحكم تبعاً لإطلاق النصوص، فما دام يسمى مسافراً فله أن يترخص، ولو زادت المدة أو قصرت المسافة، وعامة أهل العلم على أنه لا يترخص إلا في سفر مباح، ولو كان للنزهة، ومنهم من قال: لا يترخص إلا في سفر طاعة كالحج والعمرة والغزو وطلب العلم، وما أشبه ذلك، ومنهم من أجازه في مطلق السفر؛ لأن النصوص ما قيدت حتى في سفر المعصية، وهذا هو المعروف عند الحنفية، وكأن شيخ الإسلام -رحمه الله- يميل إليه؛ لأن النصوص مطلقة، وعمدة الجمهور ومعولهم على أن العاصي لا يُعان على معصيته، ولا شك أن الترخص يوفر له الجهد، ويوفر له الوقت، فلا يعان على معصيته، والمضطر لأكل الميتة يشترط ألا يكون غير باغٍ ولا عادٍ، فإن كان باغياً أو عادياً عاصياً فإنه لا يباح له أن يترخص فيأكل من الميتة، ومن باب أولى ألا يترخص في عباداته، فلا يعان على معصيته بتوفير الجهد وتوفير الوقت، ولعل هذا هو الصحيح؛ لأن شرعية الرخص في السفر إنما هي للتخفيف؛ لأن السفر قطعة من العذاب كما جاء في الحديث الصحيح، والمشقة لازمة له في الأصل، وإن كان السفر في هذه الأزمان خفت مشقته كثيراً، وصار في بعض صوره متعة، وقد يكون بعض الناس في بيته وبين أولاده أكثر مشقة منه في السفر، وبأسفاره يتخلص من كثير من الأعباء التي يقوم بها في بلده، لكن علقت هذه الرخص بوصف وهو السفر، فإذا وجد هذا الوصف فإنه يوجد ما علق عليه.

القصر كان مشروطاً بالخوف {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ} [(101) سورة النساء] وكان هذا في أول الأمر، ومشروعية القصر من أجل الخوف، ولكنها صدقة تصدق الله بها، فرُفعت العلة وبقي الحكم كالرمل في الطواف، مشروعية الرمل لأن المشركين قالوا: يقدم محمد وأصحابه وقد وهنتهم حمى يثرب، فرمل النبي -عليه الصلاة والسلام- وأمر به، فشرع الرمل في الطواف، ولذا في عمرة القضاء كانوا يرملون من الحجر الأسود إلى الركن اليماني، ويمشون بين الركنين؛ لأن المشركين لا يرونهم، ولكن في حجة الوداع كان يرمل من الحجر إلى الحجر؛ لأنه لا يوجد من يراقبهم، فلا داعي للمشي بين الركنين، هذه العلة التي من أجلها شرع الرمل ارتفعت وبقي الحكم؛ لأنه لا يوجد من يقول: يأتي المسلمين وقد أنهكهم السفر أو تعبوا من شيء من الأشياء كما قيل، ومثله مشروعية قصر الصلاة في السفر للسفر، وارتفع القيد الذي هو الخوف واستمر الحكم، فهي صدقة تصدق الله بها على عبادة فاقبلوا صدقته.

"عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "الصلاة أول ما فرضت ركعتين" فرضت الصلاة على النبي -عليه الصلاة والسلام- ليلة الإسراء خمسين، حصلت المراجعة بين النبي -عليه الصلاة والسلام- وبين ربه -جل وعلا- بمشورة موسى -عليه السلام- إلى أن صارت خمس صلوات، هذا أول فرضها وكانت ركعتين ركعتين.

"الصلاة أول ما فرضت ركعتين" فرضت عند جمهور أهل العلم الذين لا يرون وجوب القصر معناها: قدرت ركعتين، وعند من يرى الوجوب فرضت يعني وجبت، أو أوجبت ركعتين.

قدرت ركعتين، وأوجبت الجمهور يرون أن القصر رخصة، وصدقة من الله -جل وعلا- على عباده، والأصل هو الإتمام؛ لأن الأصل هو الإقامة، والحنفية يرون وجوب القصر، طيب بما يستدل الحنفية؟ يستدلون بمثل هذا: "أول ما فرضت الصلاة ركعتين، فأقرت صلاة السفر" على الفرض الأول، أو على الفريضة الأولى كما سيأتي، والجمهور يقولون: على التقدير الأول، طيب لماذا لا يقول الحنفية: إن قصر الصلاة في السفر فرض؟ يقولون: واجب، مع أن اللفظ "فرضت" أما أن يستدلوا به بحرفيته، أو يقولون بما قاله الجمهور، أما أن النص يقول: "فرضت" وتقولون: واجبة وليست بفرض! فرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زكاة الفطر من رمضان، يقولون: زكاة الفطر واجبة وليست فريضة! الصحابي يقول: فرض رسول الله، وهنا فرضت؛ لأنهم يفرقون بين الفر ض والواجب، فالفرض ما ثبت بدليل قطعي، والواجب ما ثبت بدليل ظني عندهم.

طيب إذا جئنا لآية القصر {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ} [(101) سورة النساء] وجئنا إلى آية السعي {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [(158) سورة البقرة] هل قول الحنفية في القصر مثل قولهم في السعي؟ يعني قولهم في القصر أشد من قول الجمهور، وقولهم في السعي أخف من قول الجمهور، لماذا لا يقولون: إن قوله {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ} [(101) سورة النساء] لا يدل على الوجوب وجوب القصر كما قالوا في السعي؟ وإن كان عندهم القول المرجح الوجوب في السعي، ومنهم من يقول بسنيته؛ لأن رفع الجناح يعني رفع الإثم، ورفع الإثم لا يعني ثبوت الإثم على الترك، يعني هذا يرد على الجمهور ويرد على الحنفية، فالجمهور يرون أن الآية..، وإن كان بعضهم يقول: إن الآية ليس فيها دليل على وجوب السعي من الأصل يعني، حتى من الجمهور يقولون: الدلالة من أمر خارج، وإن وجهت عائشة دلالة الآية على الوجوب بخلاف قول عروة، والمسألة معروفة، لكن الذي جرنا إلى الكلام عليها هو قوله: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ} [(101) سورة النساء] هذه الآية تدل وجوب وإلا مجرد رفع الجناح؟ ليس فيها ما يدل على الوجوب، يستدلون بمثل هذا الحديث: "أول ما فرضت الصلاة ركعتين" ويقولون: إن الفرض هو الواجب، وعرفنا تفريقهم بين الفرض والواجب مع أنه يلزمهم أن يقولوا: بأنها فريضة ما دام الصحابية تقول: فرضت، والصحابي يقول: فرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زكاة الفطر، لكن هذا لا شك أنه من باب إخضاع النصوص للاصطلاحات الحادثة، والاصطلاحات كلما قربت من اللفظ الشرعي كانت أصح وأدق، وإلا قد يوجد اصطلاحات سواءً كانت عرفية عند أهل العلم أو عرفية بالنسبة للعرف العام يعني اصطلاحية عند أهل العلم أو عرفية بالعرف العام، أو في عرف العرف الخاص عند أهل اللغة قد يكون هناك شيء من الاختلاف عن العرف الشرعي، وشيخ الإسلام -رحمه الله- يرى أن العرف الشرعي لا يلغي العرف اللغوي، بل يبقه كما هو ويزيد عليه بعض القيود، لا يمكن أن يؤتى بلفظة بعيدة في اللغة عن معناها الاصطلاحي تنقل من معنى لغوي بعيد جداً عن المعنى الاصطلاحي، إنما يكون فيها نوع اتصال بالمعنى الاصطلاحي، لو نظرنا مثلاً إلى الإيمان مثلاً أو إلى الصلاة أو إلى الإسلام أو إلى الزكاة، كلها الاصطلاحات الشرعية والحقائق الشرعية تحتوي وتشتمل على الاصطلاح اللغوي وزيادة.

في آية ياسين {فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} [(14) سورة يــس] في اصطلاح أهل الحديث العزيز: ما يرويه اثنان، تمنى صاحب فتح الملهم أن لو كان العزيز عندهم ما رواه ثلاثة؛ ليكون ذلك قريب من الاستعمال القرآني، والتعزيز كما يكون بثالث يكون بثاني، ويكون برابع أيضاً؛ لأن التعزيز هو التقوية، ولا شك أنه كلما قرب الاصطلاح العلمي من اللفظ الشرعي كان أولى وأحرى وأقرب إلى الإصابة.

هنا الفرق بين الفرض والواجب عند الحنفية لا شك أنه اصطلاح وهو اصطلاح حادث، وهو لمجرد التفريق بين الأمرين، يريدون به التيسير، تيسير الفهم على الطالب، ويوجد نظيره في المذاهب الأخرى في اصطلاحات أخرى، في الاصطلاح العام، عند عموم الناس، يعني في اللفظ الشرعي في القرآن {جِمَالَتٌ صُفْرٌ} [(33) سورة المرسلات] ولو طبقت هذا اللون على الألفاظ المتداولة من الألوان الموجودة الآن ما وجدت جمل أصفر، جمل أصفر بالمتداول بين الناس اليوم تجد وإلا ما تجد؟ لو قال شخص: والله أنا عمري كله أنا صاحب إبل من سبعين سنة ما وجدت جمل أصفر، هو باعتبار العرف العام -عرف الحقيقة العرفية بين الناس- نقول: كلامك صحيح، وإلا لو لم يقصد هذه الحقيقة العرفية قلنا: صادمت القرآن؛ لأن القرآن يثبت الجمالة الصفر.

وفي ألوان الإبل عند أهلها ما يختلف عن الحقائق بالنسبة للألوان عند عامة الناس، فيوجد الاتفاق ويوجد الاختلاف، والأمور العرفية الاصطلاحات لا مشاحة فيها، الاصطلاحات لا مشاحة فيها، لكن ما يترتب عليه خلل في حكم شرعي هذا لا يقر عليه مهما كان، يشاحح فيه، أما ما لا يترتب عليه خلل في حكم شرعي أو تغيير في أحكام شرعية هذا لا مشاحة فيه.

"أول ما فرضت الصلاة ركعتين" يعني في ليلة الإسراء "فأقرت صلاة السفر" يعني استمرت، كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصلي في السفر ركعتين "وأتمت صلاة الحضر" يعني ما عدا المغرب، وما عدا الصبح، كما جاء في المسند من حديث عائشة "إلا المغرب فإنها وتر النهار، وإلا الصبح فإنها تطول فيها القراءة".

المغرب وتر النهار هل المغرب في النهار وإلا في الليل؟

طالب: في الليل.

نعم في الليل، لكن لقربها من النهار أضيفت إليه، كما أضيف عيد الفطر إلى رمضان، وإلا فهو في اليوم الأول من شوال ((شهرا عيد لا ينقصان)) العيد في شوال ما هو في رمضان، لكن لقربه منه، إلا المغرب فإنها وتر النهار، وإلا الصبح فإنها تطول فيها القراءة، هذه صفتها، فلا يجتمع طول القراءة مع كثرة عدد الركعات؛ لأن هذا يشق على المأمومين، وأتمت صلاة الحضر.

"قال الزهري: فقلت لعروة: ما بال عائشة تتم؟ قال: تأولت ما تأول عثمان" عثمان -رضي الله عنه- كان النبي -عليه الصلاة والسلام- يقصر الصلاة وكذلك أبو بكر وعمر وعثمان في صدر خلافته، ثم إنه أتم بعد ذلك، أتم في السفر إما لكونه تأهل، أو لكونه باعتباره أميراً للمؤمنين فبلاد المسلمين هي بلاده، وهو مقيم في أي بلد يتبعه، ولعل هذا تأويله، وكذلك أم المؤمنين تأولت أن بيوت المؤمنين وبلاد المؤمنين بلد لها؛ لأنها أم المؤمنين، ولذلك قال: تأولت ما تأول عثمان، وإن كان سيأتي عنها من قولها إنه لا يشق علي، وقصر الصلاة إنما هو من أجل السفر الذي تصحبه المشقة غالباً.

بالنسبة للقصر والإتمام هل يربط بالمشقة كما يربط الصيام؟ لا، النبي -عليه الصلاة والسلام- قصر الصلاة وهو مقيم في مكانه لم يجد به السير، ولا يشق عليه الإتمام، ولذا فإن الأفضل هو القصر، وعرفنا أن الحنفية يوجبونه، بينما الصيام مربوط بالمشقة إن ارتفعت المشقة فالصيام، فقد صام النبي -عليه الصلاة والسلام- وكان يسافر ومعه أصحابه منهم المفطر، ومنهم الصائم، ولا ينكر هذا على هذا، ولا هذا على ذاك، فدل على مشروعية الصوم في السفر إذا انتفت المشقة، وإذا وجدت المشقة ذهب المفطرون بالأجر، وإذا زادت المشقة فأولئك العصاة، وليس كذلك القصر، سواءً وجدت المشقة أم لم توجد ما دام الوصف الذي هو السفر موجوداً فإنه يقصر الصلاة على الخلاف الذي سيأتي ذكره في المسافة والمدة.

"متفق عليه".

"وللبخاري عنها" يعني عن عائشة "قالت: فرضت الصلاة ركعتين ثم هاجر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" دل على أن إتمام الصلاة في الحضر إنما كان بعد الهجرة، وكان في مكة يصلي ركعتين ركعتين، "ثم هاجر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ففرضت أربعاً، وتركت صلاة السفر على الأولى" في بعض النسخ: "على الأول" يعني على الفرض الأول، أو على الفريضة الأولى.

"وعن عطاء عن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقصر في السفر ويتم، ويفطر ويصوم" رواه الدارقطني، وقال: إسناده صحيح، وكلهم ثقات" إسناده صحيح، من حيث الإسناد لا إشكال فيه، ورواته كلهم ثقات، لكن هل هو بهذا اللفظ "يقصر ويتم، ويفطر ويصوم" بالياء في الأفعال الأربعة أو يقصر وتتم، يقصر النبي -عليه الصلاة والسلام- وتتم عائشة، ويفطر وتصوم عائشة؟ ولذلك قال المؤلف: والصحيح أن عائشة هي التي كانت تتم، كما رواه البيهقي بإسناد صحيح عن شعبة.

وأما النبي -عليه الصلاة والسلام- فإنه لم يحفظ عنه أنه كان يتم في السفر، نعم صام في السفر، لكن لم يحفظ عنه أنه كان يتم في السفر، والصحيح أن عائشة هي التي كانت تتم، كما "رواه البيهقي بإسناد صحيح عن شعبة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة -رضي الله عنها- أنها كانت تصلي في السفر أربعاً، فقلت لها: لو صليت ركعتين؟ فقالت: يا ابن أختي إنه لا يشق علي".

ابن القيم تبعاً لشيخ الإسلام يرون أنه لا يثبت عن النبي -عليه الصلاة والسلام- أنه كان يتم، بل هذا كذب عليه، ولا يصح عن عائشة أنها كانت تتم معه -عليه الصلاة والسلام-، إذ كيف يظن بها أنها تخالفه؟ كيف يظن بأم المؤمنين الفقيهة العالمة العابدة الزاهدة أنها تخالف النبي -عليه الصلاة والسلام-؟

أما كونها تتم بعده هذا لا إشكال فيه، يعني بعد وفاته كانت تتم، وأنها تأولت مثل ما تأول عثمان، وكانت تقول: لا يشق عليه، لكن معه وتخالفه؟! شيخ الإسلام يرى أن هذا لا يصح عنها، ولا يمكن أن يظن بها مثل هذا، لكن ما دام ثبت عنها أنها أتمت بعده فلا يبعد أن تتم وهي معه؛ لأن المخالفة للنبي -عليه الصلاة والسلام- سواءً كانت في حياته بإقراره -عليه الصلاة والسلام- مما يكون صارفاً لمعنى فرضت إلى قدرت، فيكون هذا دليل للجمهور على أن القصر رخصة وليس بواجب، وإن كان هو الأفضل؛ لأنه هو الذي فعله النبي -عليه الصلاة والسلام-.

"أنها كانت تصلي في السفر أربعاً، فقلت لها -عروة ابن أختها-: لو صليت ركعتين؟ فقالت: يا ابن أختي إنه لا يشق علي" وتقدم أنها تأولت مثل ما تأول عثمان، يعني قد يعجب الإنسان من إتمام عثمان ومن إتمام عائشة، مع أنه لم يحفظ عن النبي -عليه الصلاة والسلام- أنه أتم في السفر، ولعل في ذلك من الحكمة الإلهية ما يكون صارفاً لملازمته -عليه الصلاة والسلام- للإتمام، وقولها: "فرضت" من الوجوب إلى الاستحباب كما هو قول جماهير أهل العلم.

في بعض المسائل التي يختلف فيها أهل العلم مثل هذه المسائل الكبرى في القصر والإتمام قد يحمل الإنسان الحرص كما حمل عثمان وعائشة -رضي الله عنهما- على الإتمام حينما يتردد، هل المسافة التي قطعتها مسافة قصر أو ليست مسافة قصر؟ هل المدة التي مكثتها مدة تقصر فيها الصلاة أو لا؟ ثم بعد ذلك بعد هذا التردد يقول: صلاتي إن أتممت فهي صحيحة عند عامة أهل العلم، عند الجماهير، وإن قصرت الصلاة فصلاتي مشكوك فيها عند الجمهور، وحينئذٍ يحمله مثل هذا التردد على الإتمام، فلعل ما حصل من عثمان وعائشة من هذا النوع، يعني هذا يجده كل إنسان من نفسه، يجده كل إنسان، يخرج إلى النزهة وليس هناك ما تحسب به المسافة، أو يتردد في دلالة النصوص، كما سيأتي تسعة عشر، سبعة عشر، خمسة عشر، أربعة أيام على ما يقول الجمهور، يتردد في هذه المدة.

بعضهم يكون عنده من الحزم والشجاعة والإقدام على القول الذي لا تردد فيه، ويعمل بمقتضى هذا الإقدام ولا يلتفت إلى غيره مثل هذا موجود في أهل العلم، لكن منهم أيضاً بالمقابل من يحمله الاحتياط، من يحمله الاحتياط على نوع من التردد، فيريد أن يخرج من عهدة الواجب بيقين، يعني شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- عنده شيء من الجرأة المستندة إلى النصوص والقواعد الشرعية لا يقال: جرأة من فراغ لا، مثل ما يوجد عند بعض الناس، لا ليس من فراغ، ولذلك تجدونه يفتي ويتكلم بكل ارتياح، ويجزم بما يريد بدون تردد، لكن بعض أهل العلم تجد عنده شيء من التردد بسبب قوة القول الثاني، أو عدم تحقق ما يطلبه أصحاب القول الأول لتطبيق ما يرونه من حكم.

عندك مسألة زكاة الفطر دفعها من الأرز مثلاً عموم الناس لا يتردد في أن يدفع زكاة الفطر من الأرز لأنه طعام، وتدخل في عموم الطعام، لكن يقول بعضهم: كوني أدفع زكاة الفطر من شعير وهو أقل بكثير من الأرز إلا أنه مقطوع به، جاء به النص، فلماذا أعمد إلى شيء لم يرد به نص بخصوصه، وأترك ما جاء فيه النص؟ ألا يورد هذا بعض التردد من بعض الناس، وهل يلام على مثل هذا التردد؟ لا ما يلام على مثل هذا التردد، نعم من أوتي علماً..، هذا التردد لا يورث إمامة بحال، لا يمكن أن يكون إمام للناس وعنده مثل هذا التردد، لا بد من الشجاعة والإقدام على القول الصحيح؛ لأن الحق واحد لا يتعدد، لكن بعض الناس يقول: أنا لا بد أن أخرج من عهدة الواجب بيقين، وليس عندي من اليقين ما أرجح به هذا على هذا، فتجده يعمل بالأحوط، ولكن الاحتياط في بعض الأحوال في ترك الاحتياط الذي يراه بعض أصحاب الوسوسة، كما قال شيخ الإسلام: "إن الاحتياط إذا أدى إلى ارتكاب محظور، أو ترك مأمور فالاحتياط في ترك هذا الاحتياط" وهذه أمور لا شك أن الناس يتفاوتون فيها، تجد بعض الناس عنده شيء من الجرأة حتى أنه ينسب إلى مخالفة الجمهور لأنه عنده شذوذ وعنده كذا، فهذا أحد شخصين: إما أن يكون لديه من العلم الشرعي ما يجعله راسخاً في علمه، ويذهب إلى ما يراه بقوة وحزم وعزم دون تردد، فمثل هذا إذا كان يأوي إلى نصوص وإلى قواعد عامة نصوص الشريعة، وأن الشريعة لا تأتي بمثل هذا، هذا له ذلك، والأئمة كلهم على شيء من هذا.

يعني عند الإمام أحمد شيء من الورع أحياناًَ تجد في بعض ألفاظه ما يوحي بأنه لم يجزم بهذا الحكم، لكن غيره من الأئمة يجزمون.

الشافعي أحياناً يقول: إن صح الحديث فهو مذهبي، فيه شيء من التردد تبعاً لتردده في مستند هذا الحكم، وهل يمكن أن نقول: إن مثل هذا التردد الذي يحمل على ارتكاب المفضول عند بعض أهل العلم، يعني قد يقول: أنا أتم الصلاة، لماذا تتم الصلاة والنبي -عليه الصلاة والسلام- ما حفظ عنه أنه أتم؟ قال: يا أخي ما أنا جازم أن هذه المسافة مسافة قصر، يعني مسافة القصر مختلف فيها، كوني صلاتي إذا صليت أربع عامة أهل العلم يبطلونها وإلا يصححونها؟ يصححونها، نعم قد أكون آثم عند الحنفية، لكن صلاتي صحيحة حتى عند الحنفية، لكن إذا صليت ركعتين يوجد من يبطل صلاتي وإلا ما يوجد؟ يوجد من يبطل صلاتي، إذاً أتم الصلاة.

ولذا تجدون بعض من ارتكب شيء من الجرأة والشجاعة والفتوى بقول حازم عازم تبعاً لإطلاق النصوص ترتب من الأثر على فتواه ما ضيع بسببه بعض العبادات، يذهب إلى بلد من البلدان يدرس أربع سنوات خمس سنوات ولا يزال يقصر ويجمع ويفطر في رمضان بناءً على أن النصوص مطلقة، يعني هل هي مطلقة إلى هذا الحد؟ لا يمكن، وترك تقييد النصوص إلى أفهام الناس المختلفة الذي بعضهم لديه أهلية، وبعضهم لا أهليه لديه، هل يمكن أن يترك مثل هذا الأمر إلى أفهام عموم الناس؟ وهذا ما جعل بعض أهل التحقيق من أهل الحديث أن يقول بقول الجمهور في تحديد المسافة والمدة وإن كان مستنده الشرعي ليس بقوي على ما سيأتي، لكن احتياطاً للعبادات، وخروجاً من عهدة الواجب بيقين، ولو ترك الأمر لأفهام الناس وتقييد الناس لضاعت العبادات، وقد حصل.

وقد كان الشيخ ابن باز كما نص على ذلك في فتاويه يفتي بقول شيخ الإسلام بإطلاق النصوص، وأنه ما دام مسافراً له أن يجمع، وله أن يقصر، وله أن يفطر، ويمسح ثلاثة أيام؛ لأن النصوص مطلقة، فما الداعي لتقييدها؟ يقول: ثم رأيت بعض التلاعب من بعض المسلمين إذا سافروا سنين طويلة رأيت أن الاحتياط للعبادة أن يعمل بقول الجمهور ولو لم يكن في أدلته ما يلزم المسلم بالتقييد، وهذا الكلام سيأتي -إن شاء الله تعالى-.

"وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إن الله يحب أن تؤتى رخصه، كما يكره أن تؤتى معاصيه))" الله -جل وعلا- يحب ويكره، وهاتان الصفتان ثابتتان له في نصوص الكتاب والسنة على ما يليق بجلاله وعظمته، يحب أن تؤتى رخصه، ويكره أن تؤتى معاصيه، يحب أن تؤتى رخصه؛ لماذا لم يلزم بذلك إذا كان يحب؟ وإذا كان يكره أن تؤتى معاصيه لماذا لم يمنع؟ لماذا يوجد العصاة؟ يوجدون تبعاً للإرادة الكونية، وأنه لا بد من وجودهم، ولا بد من مخالفة الإرادة الشرعية؛ لأنه وجد من يخالفها، وكتب عليهم مخالفتها، فالله -جل وعلا- يحب محبة شرعية وتوجد المعصية ويوجد مخالفة ما يحب تبعاً للإرادة الكونية القدرية.

يكره أن تؤتى معاصيه، يكره شرعاً لكنه أراد ذلك كوناً وقدراً، فهذا دليل على..، يعني إدخال الحديث في هذا الباب يدل على أن الترخص في السفر ليس بواجب، وإن كان محبوباً لله -جل وعلا-، ليس بواجب، وهذا هو المعروف عند المؤلف، وهو من الحنابلة والجمهور على ذلك.

يقول: "رواه أحمد وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما، وأبو يعلى الموصلي، ولفظه: ((إن الله -عز وجل- يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه))" والرخص: جمع رخصة، والأصل فيها التيسير والتسهيل، والعزائم فيها التكليف، ومنها ما يشق، بعض التكاليف منها ما يشق، كما جاء في أن الجنة حفت بالمكاره، والعزيمة في الأصل ما جاء على وفق الدليل الشرعي من غير معارض راجح، والرخصة ما جاء على خلاف الدليل لمعارض راجح، المعارض دليل، لكن الأصل المنع، ثم رخص بهذا الممنوع لمعارض راجح، فالميتة محرمة رخص في أكلها للمضطر لوجود هذه الضرورة التي أبيحت بالنص.

"وروى شعبة عن يحيى بن يزيد الهنائي قال: سألت أنس بن مالك عن قصر الصلاة؟ فقال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ -شعبة الشاك- صلى ركعتين" رواه مسلم" والميل مقداره كيلوين إلا ثلثاً، الميل، أو ثلاثة فراسخ (أو) هذه للشك وليست للتخير، والذي شك في الأميال أو الفراسخ شعبة، روى شعبة عن يحيى بن يزيد الهنائي، فالشك منه.

"صلى ركعتين" رواه مسلم.

هذا دليل من يقول: إن القصر والترخص يحصل لكل مسافر، سواءً كان السفر طويلاً أو قصيراً، يعني حدود خمسة كيلو، أو خمسة عشر كيلو على ثلاثة فراسخ، وهذه لا يقول بها الجمهور الذي يختلفون في المسافة هل هي مسيرة يوم كما يرجحها البخاري، ويقدر بأربعين كيلاً، أو مسيرة يومين قاصدين كما يقول به الشافعية والحنابلة، أو مسيرة ثلاثة أيام كما يقول الحنفية، فهي أربعين كيلو أو ثمانين أو مائة وعشرين، أما ثلاثة أميال خمسة كيلو ما قال به إلا أهل الظاهر، أهل الظاهر قالوا بأنه يقصر في السفر ولو قصُر، ولو بلغ ثلاثة أميال أو أقل، والحديث مخرج في صحيح مسلم، نعم تكلم فيه ابن عبد البر وهو في صحيح مسلم، تكلم ابن عبد البر في يحيى بن يزيد الهنائي قال: ليس هو ممن يوثق به في ضبط مثل هذا الأصل.

هو من رجال مسلم فجاز القنطرة عند أهل العلم، لكن الحديث محمول عند الجمهور على أنه إذا بلغ هذه المسافة، وفارق البلد في بداية سفر يبلغ المسافة، إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال بحيث يفارق عامر القرية وليست هذه هي الغاية ثلاثة أميال، وإنما الغاية المسافة المطلوبة عند الجمهور على هذا يحمل عند جمهور أهل العلم الذين يحددون بالمسافة.

قال: "وعن العلاء بن الحضرمي -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((مكث المهاجر بعد قضاء نسكه ثلاثاً))".

المهاجر الذي ترك مكة لله ورسوله، هاجر إلى الله ورسوله، لا يجوز له أن يقيم في مكة، لا يجوز له الإقامة في مكة، أذن له في ثلاثة أيام مما يدل على أن الأربعة إيش؟ إقامة، المهاجر الذي ترك البلد الذي هاجر منه لله ورسوله لا يجوز له أن يقيم فيه، وأذن للمهاجر المكث بعد قضاء نسكه ثلاثاً، مما يدل على أن الثلاثة الأيام أو ثلاث الليالي ليست إقامة، ومفهومه أن الأربع إقامة، والأربعة أيام هي المدة التي تسمى إقامة، ويحكم عليها بأحكام المقيم عند الأئمة الثلاثة عند المالكية والشافعية والحنابلة، وأما بالنسبة للحنفية فخمسة عشر يوماً على ما سيأتي.

"متفق عليه".

لأن الإنسان، قد يقول: لماذا جيء بحديث: ((إن الله يحب أن تؤتى رخصه)) في باب قصر صلاة المسافر؟ في باب صلاة المسافر، وأيضاً مكث المهاجر ويش علاقته بصلاة المسافر؟ نقول: جيء بالحديث الأول ليبين أن الترخص ليس على سبيل الإلزام والوجوب، وجيء بالحديث الثاني ((مكث المهاجر)) على أن مفهوم الخبر يدل على أن الأربع ليال إقامة، وما دونها لا يسمى إقامة وهو في حكم السفر.

"متفق عليه".

"وعن يحيى بن أبي إسحاق سمعت أنس بن مالك يقول: "خرجنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- من المدينة إلى مكة فكان يصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة، قلت: أقمتم بها شيئاً؟ قال: أقمنا بها عشراً" يعني في حجة الوداع دخل المدينة في اليوم الرابع وخرج في اليوم الرابع عشر، أقام بها عشراً، لكن الجمهور يقولون: إنه لم يقم في مكة إلا أربعة أيام، ما أقام بها عشر، يعني مجموع المدة في المناسك كلها، وفي المشاعر عشر، من اليوم الرابع إلى الرابع عشر عشر، لكنه أقام بمكة الرابع والخامس والسادس والسابع، يوم التروية خرج من مكة إلى منى، ما أقام بها، فلا يرد مثل هذا على قول الجمهور، إنما ينظرون إلى الإقامة في مكانه في مكة أقام بها أربعاً، ولذا يشترطون للترخص ألا تزيد المدة على أربعة أيام بلياليها.

"متفق عليه، واللفظ للبخاري".

"وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "أقام النبي -صلى الله عليه وسلم- تسعة عشر يقصر، فنحن إذا سافرنا تسعة عشر قصرنا، وإذا زدنا أتممنا" هذا رأي ابن عباس أن هذه المدة هي مدة السفر، وما عداها إقامة.

"أقام النبي-صلى الله عليه وسلم- تسعة عشر يقصر" وهذا في عام الفتح، لما فتح مكة -عليه الصلاة والسلام- أقام بها يجمع العدة، يعد العدة لغزو ثقيف وهوازن، وهذا محمول عند أهل العلم على أنها ليست إقامة، وأنه في كل يوم يقول: يتم أمرنا ونذهب لغزوهم، والمسافر إذا لم يزمع الإقامة، بل ينتظر عملاً لا يدري ما نهايته وما غايته فإنه يكون مسافراً ولو أقام ما أقام، الذي لا يدري متى ينتهي؟ ولا يدري متى يرجع؟ ولا يدري متى يعود؟ هذا لا يزال يترخص، فنحن إذا سافرنا تسعة عشر قصرنا، وإذا زدنا أتممنا، هذا رأي ابن عباس فهم من هذا الحديث أن هذه المدة المحددة الفارقة بين الإقامة والسفر.
"وفي لفظ: "أقام النبي -صلى الله عليه وسلم- بمكة تسعة عشر يوماً" رواه البخاري، وعند أبي داود: "أقام بمكة سبع عشرة"
هناك تسعة عشر وهنا سبع عشرة، لما ذكر التمييز يوماً مشى على القاعدة أنث الأول وذكر الثاني، ولما حذف التمييز جاز التذكير والتأنيث، أقام سبع عشرة يعني ليلة بمكة يقصر الصلاة، ولو قال: سبعة عشر لصح، ما دام ليس فيه تمييز ((من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال)).

"يقصر الصلاة" لا شك أن الرواية الراجحة: تسعة عشر، هذه أرجح الروايات، وجاء: سبع عشرة، ولعل من روى هذه المدة وهذا العدد لم يعتد بيوم الدخول ولا بيوم الخروج، ومن قال: تسعة عشر اعتد بهما.

قال: "وقال عباد بن منصور عن عكرمة عن ابن عباس: "أقام تسع عشرة" يعني ليلة "وعنده -أي عند أبي داود من رواية ابن إسحاق-: أقام بمكة عام الفتح خمس عشرة" وهذه الرواية مضعفة عند أهل العلم؛ لأن فيها ابن إسحاق وهو مدلس، وهو روى بالعنعنة، وكأن الراوي فهم أن المدة سبع عشرة لا تسع عشرة، سمع الرواية: سبع عشرة، فحذف يوم الدخول والخروج فصارت خمس عشرة، يعني لو جاء ثالث وقال: ثلاث عشرة، نقول: فهم خمس عشرة وحذف؟ إذاً لا تنتهي، ولذا حكموا على رواية: خمس عشرة بالضعف.

"يقصر الصلاة" وقال البيهقي: اختلفت الروايات في تسع عشرة وسبع عشرة، وأصحها عندي رواية من روى: تسع عشرة".

"وعن جابر -رضي الله عنهما- قال: "أقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بتبوك عشرين يوماً يقصر الصلاة" رواه أحمد وأبو داود، وقال: غير معمر لا يسنده".

على كل حال هو صحيح، وإن كان يروى موصولاً ومرسلاً، لكن هو صحيح على كل حال، النبي -عليه الصلاة والسلام- في آخر عمره في السنة العاشرة غزا بنفسه وبصحابته غزوة تبوك، ذهب إليها لغزو الروم بما يسمى جيش العسرة؛ لأنه زمان عسرة، حر شديد، ووقت طيب الثمر، وكثر الاعتذار من المنافقين والتخذيل منهم، المقصود أنه ذهب إليهم -عليه الصلاة والسلام- وحصل في قلوب الروم من الرعب ما حصل، ولم يحصل منهم أدنى شيء على مشارف بلادهم، بل تبوك في ذلك الوقت من بلاد الشام، وهو ينتظر منهم شيء -عليه الصلاة والسلام-، فكونه أقام بتبوك عشرين يوماً يقصر الصلاة يجيب عنه الجمهور الذين يحددون المدة بأربعة أيام أنه ينتظر إغارتهم، فلا يدري هل يغيرون اليوم أو غداً، أو يغير عليهم أو يغيرون هم، فلم يزمع إقامة مدة معينة.

قال: "رواه أحمد وأبو داود، وقال: غير معمر لا يسنده" وأقام بعض الصحابة أشهر في بعض البلدان يقصرون الصلاة كلهم لعدم إزماعهم وإجماعهم على المقام مدة معينة، بل ينتظرون أمراً متى فرغ انتقلوا.

هذا ما يتعلق بالقصر، وأما ما يتعلق بالجمع فسيأتي -إن شاء الله تعالى- في درس الغد، وعرفنا أن النصوص في الجملة تعلق الترخص بالسفر، فهو الوصف المؤثر ومتى وجد وجد ما رتب عليه من رخص، وعمل بإطلاق النصوص جمع من أهل العلم، ويرجحه شيخ الإسلام ابن تيمية، ويفتي به بعض العلماء المعاصرين، ولا شك أنه من حيث الدلالة في النصوص وضعف التقييدات والأجوبة التي أجيب بها عن بعض النصوص لا شك أن فيها ما فيها، يعني ليست بملزمة، ولذا لا يثرب على من قال بقول خلاف قول الجمهور، لا يثرب عليه، لكن مع ذلك قول الجمهور أحوط وأضبط للعبادات، ويمكن الإجابة عما يستدل به أصحاب القول الآخر، منهم من حدد بالمدة، ومنهم من حدد بالمسافة، ومنهم من حدد حتى المسافة بالمدة، يعني إذا قطعت المسافة بمدة لا تسمى سفراً، يعني مائة كيلو قطعت بساعة مثل في يومنا هذا، الساعة لا تعتبر سفر في عرف المتقدمين، وإن كانت المسافة مسافة قصر، ولذا ينص الفقهاء على أن مسافة القصر مسيرة يومين ولو قطعها في ساعة، فهم يعتدون بالمسافة بغض النظر عن المدة، ومنهم من يقول: إن المعتبر المدة، مدة السفر إذا كانت في الغالب تسمى سفر فمسيرة يوم أو يومين سفر عندهم، لكن المسافة تقطع في ساعة يعني ألف كيلو يقطع في ساعة الآن، فهذا لا يعتبر سفر عند بعض أهل العلم، وإن كان سفراً في عرف المتقدمين؛ لأنه يحتاج إلى استعداد، ويحتاج إلى زاد، ويحتاج إلى تعب ومشقة، وأما مسائل الجمع فستأتي غداً -إن شاء الله تعالى-، والله أعلم.

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

"