التعليق على تفسير القرطبي - سورة الرعد (03)

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

 قال الإمام القرطبي -رحمه الله تعالى-:

"قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [سورة الرعد:15] قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمَا".

في مثل هذه الحالة، في مثل هذا الموضع، وهو الموضع الثاني من مواضع سجود التلاوة بالنسبة للقرآن، وهي أربعة عشر أو خمسة عشر أو أحد عشر، على خلاف بين أهل العلم، لكن هذا منها اتفاقًا، فإذا قرأ الإنسان مثل هذه الآية في مثل هذا المكان للتعلم مثلًا، أو التعليم، هل يسجد أو لا يسجد؟ لاسيما في وضعنا الآن، تُليت الآية وسمعناها هل يسجد القارئ والمستمع أو لا يسجد؟ ومثله في دروس التحفيظ، إذا قرأها الطالب وقرأها الشيخ يلقنه إياها، هل يسجد الشيخ أو لا يسجد؟

مسألةٌ معروفة عند أهل العلم، والخلاف فيها مشهور، وهذا في صحيح مسلم، في متن الصحيح في أول الجزء الخامس يقول -رحمه الله تعالى-: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ، قال: أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، قال: حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَزِيدَ التَّيْمِيِّ، قَالَ: كُنْتُ أَقْرَأُ عَلَى أَبِي الْقُرْآنَ فِي السُّدَّةِ، فَإِذَا قَرَأْتُ السَّجْدَةَ سَجَدَ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَتِ، أَتَسْجُدُ فِي الطَّرِيقِ؟ قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ أَبَا ذَرٍّ يَقُولُ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ –صلى الله عليه وسلم-... إلى آخر الحديث، ثم جاء فقال: «أَوَّلِ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ؟». 

المقصود أنه جاء بهذا الحديث في مواضع السجود والصلاة، وأن الأرض كلها مسجد وطهور. وشاهد الخبر عندنا: كُنْتُ أَقْرَأُ عَلَى أَبِي الْقُرْآنَ فِي السُّدَّةِ، فَإِذَا قَرَأْتُ السَّجْدَةَ سَجَدَ، هذا في موضع التعليم، يسجد القارئ، ويسجد المستمع، والنووي -رحمه الله تعالى- يقول: "واختلف العلماء في المعلم والمتعلم، إذا قرأ السجدة فقيل: عليهم السجود لأول مرة"؛ لأن المسألة مفترضة في عالِم ومتعلم يُلقن الآية، ويحتاج أحيانًا إلى تكرارها، ومثله لو كانت آية السجدة متضمنة لوعد أو وعيد، وأراد الإمام أن يكررها مثلًا، هل يسجد في كل مرة أو يسجد مرة واحدة؟

يقول النووي -رحمه الله تعالى-: "واختلف العلماء في العالِم والمتعلم، إذا قرأ السجدة، فقيل: عليهما السجود لأول مرة، وقيل: لا سجود "، والقول الصحيح في هذا، والراجح في هذا : العالِم والمتعلم ماذا؟

طالب:....................

نعم.

طالب:......................

سجد وسجدوا معه أم ما سجدوا؟

طالب:........................

كلهم، النبي -عليه الصلاة والسلام- في سورة النجم سجد وسجدوا معه، لكن التلاوة مقصودة، تلاوة السورة مقصودة، عندنا هل المقصود التلاوة أو فهم الآية وتفسيرها؟

طالب:.............

نعم، الكلام على السياق ماذا يقتضي؟ هذه (ص) هذه (ص)، هذه سجدة (ص)، التي يقول بها هنا، إنها ليست من عزائم السجود، ليست من عزائم السجود، سجدة شكر. يعني مسألة فيها تخيير بالنسبة لسجدة ص، لكن غيرها من السجدات جمعٌ من أهل العلم يرى وجوب السجود، وشيخ الإسلام ابن تيمية وغيره يرون وجوب السجود، من لم يسجد يأثم.

على كل حال، نرجع إلى مسألتنا هل يسجد أو لا يسجد؟ العالم والمتعلم، القارئ والمستمع؟ لا شك إذا كان المقصود التلاوة، كما هو لتلاوة القرآن، لا شك أن السجود مطلوب، والأصل، لكن إذا كان المقصود فهم الآية وتعليمها وتفهيمها للناس وليست تلاوتها مقصودة، هي المقصود الأصلي، فالحكم ماذا؟

 من أهل العلم من يرى أنه لا سجود في مثل هذه الصور أو غيرها. ومنهم من يقول: يسجد مرة ولو كررت مرارًا.

طالب:............................

حكمها حكم ...

طالب:..........................

 الجمهور على أنها لا تُصلى إلا في السفر، لا تُصلى إلا في السفر.

طالب:....................

ليس في السفر، ما يلزم الاتجاه.

الحرم قال به أنس -رضي الله عنه-، وكأنه متجه لاسيما في مثل هذه الأوقات التي تُقضى فيها الساعات في السيارة داخل البلدان، فإهدار الأوقات عن مثل هذه العبادة والتلاوة والتدبر أو غير ذلك..

طالب:.............................

شريطة ألا يترتب عليه ضرر؛ لأنه إذا أراد أن يصلي وأراد أن يسجد سجودًا قريبًا من الحقيقي، لا شك أنه يترتب عليه ضرر، فيومئ إيماءً، يكون سجوده أخفض من ركوعه.

طالب:..........................

صلى النافلة؟ حتى في السفر يمكن، حتى في السفر يمكن أن يصلي.

طالب:.........................

المسألة نافلة، المسألة نافلة، والفريضة لا تجوز بحال، ولم يكونوا يفعلون ذلك بفريضة كما هو معروف. ونأخذ بالقول الذي يقول: يسجد لأول مرة أو لا سجود عليه؟

طالب:.........................

تسجد، فيه أحد من ورائك سجد.

طالب:........................

نعم.

طالب:....................

نعم، في مثل هذا الوقت والوقت فيه سعة، والشمس بيضاء نقية أمرها خفيف. الكلام على إذا صادف قراءة السجدة وقت طلوع الشمس أو وقت غروبها، الوقت الشديد المُغلَّظ. لا شك أن النهي جاء عن الصلاة، «لا صلاة بعد العصر»، «لا صلاة بعد الصبح»، ثلاث ساعات كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ينهانا أن نصلي، والقول المحقق عند أهل العلم: إن السجود ليس بصلاة، السجود بمفرده ليس بصلاة، فعلى هذا لا يتناوله النهي.

طالب:......................

نعم، حتى يسجد القاريء، هو في حكم المأموم، في حكم المأموم، هذا كلام أهل العلم في هذه المسألة.

طالب:.................................

على كل حال الأمر فيه سعة، مادامت المسألة خلافية، والتلاوة في ذاتها ليست مقصودة، ما قصدنا التلاوة لذاتها، فالأمر فيه سعة إن شاء الله، ومثله في الحِلَق، مثله في الحِلَق.

طالب:.............

 ما فيه شك، لاسيما تكرار.

طالب:................

كيف؟

طالب:................

ونسي أن يسجد، متى ذكر؟ بعد أن فات وقتها.

طالب:................

نعم، السنة إذا فات وقتها لا تُقضى، في مثل هذا السنة المطلقة لا تُقضى.

طالب:...................

هذا كلام ابن عمر، وليست بصلاة، ولا تشترط لا قبلة، ولا طهارة، ولا شيء، ليست بصلاة.

نعم.

طالب:..................

لا شك أن هذا أحوط على قول الآخرين: يسجد مرة واحدة، على كل حال المسألة فيها سعة إن شاء الله.

 نعم.

"قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمَا: الْمُؤْمِنُ يَسْجُدُ طَوْعًا، وَالْكَافِرُ يَسْجُدُ كَرْهًا بِالسَّيْفِ. وَعَنْ قَتَادَةَ أَيْضًا: يَسْجُدُ الْكَافِرُ كَارِهًا حِينَ لَا يَنْفَعُهُ الْإِيمَانُ .وَقَالَ الزَّجَّاجُ: سُجُودُ الْكَافِرِ كَرْهًا مَا فِيهِ مِنَ الْخُضُوعِ وَأَثَرِ الصَّنْعَةِ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: {طَوْعًا} مَنْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ رَغْبَةً، وَ{كَرْهًا} مَنْ دَخَلَ فِيهِ رَهْبَةً بِالسَّيْفِ. وَقِيلَ: {طَوْعًا} مَنْ طَالَتْ مُدَّةُ إِسْلَامِهِ فَأَلِفَ السُّجُودَ، وَ{كَرْهًا} مَنْ يُكْرِهُ نَفْسَهُ لِلَّهِ تَعَالَى، فَالْآيَةُ فِي الْمُؤْمِنِينَ".

وأيهما أفضل؟

 من صارت نفسه تجود بذلك، مقبلة عليه، مُحبة للعبادة، وبين من يُكره نفسه على ذلك، ويحملها مع نوع مشقة، وهذا يأتي في العبادات كلها، قيام الليل، وصيام الهواجر، والنفل.

طالب: .......

 نعم، أيهما أفضل؟

طالب:..................

من يأتي وهو محب للعبادة أفضل.

طالب:........................

له أجران، له أجران، مع المجاهدة له أجران، لكن يبقى أن الذي تجاوز مرحلة المجاهدة، مثل الذي يقرأ وهو ماهر بالقرآن.

طالب:..........................

المسألة مفترضة أن شخصًا وصل، شخص وصل وتلذذ بقيام الليل، ويتلذذ بصيام الهواجر، إذا وصل للأمر صار مثل الماهر بالقرآن، فرق بين من يُعطى الأجر مرتين، وبين من هو مع السفرة الكرام البررة، الله المستعان.

طالب:...........................

نعم.

طالب: .......

وسببه؟

طالب:....................

سببه: نتيجة جهاد ومعالجة، أم ضعف في الدواعي؟

طالب:...........................

أما الضعف في الدواعي فلا، الذي يجاهد أفضل، يعني إذا كان هناك ضعف في الدواعي فالذي يجاهد أفضل، وإذا كان هذا الترك نتيجة لمجاهدةٍ سابقة فهو مثل الذي يتلذذ بالعبادة.

"وَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَعْنَى "وَالْأَرْضُ" وَبَعْضُ مَنْ فِي الْأَرْضِ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَفِي الْآيَةِ مَسْلَكَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا عَامَّةٌ، وَالْمُرَادُ بِهَا التَّخْصِيصُ؛ فَالْمُؤْمِنُ يَسْجُدُ طَوْعًا، وَبَعْضُ الْكُفَّارِ يَسْجُدُونَ إِكْرَاهًا وَخَوْفًا كَالْمُنَافِقِينَ؛ فَالْآيَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى هَؤُلَاءِ، ذَكَرَهُ الْفَرَّاءُ.  وَقِيلَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ: الْآيَةُ فِي الْمُؤْمِنِينَ؛ مِنْهُمْ مَنْ يَسْجُدُ طَوْعًا لَا يَثْقُلُ عَلَيْهِ السُّجُودُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَثْقُلُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْتِزَامَ التَّكْلِيفِ مَشَقَّةٌ، وَلَكِنَّهُمْ يَتَحَمَّلُونَ الْمَشَقَّةَ إِخْلَاصًا وَإِيمَانًا، إِلَى أَنْ يَأْلَفُوا الْحَقَّ وَيَمْرُنُوا عَلَيْهِ. وَالْمَسْلَكُ الثَّانِي، وَهُوَ الصَّحِيحُ، إِجْرَاءُ الْآيَةِ عَلَى التَّعْمِيمِ.

 وَعَلَى هَذَا طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُؤْمِنَ يَسْجُدُ طَوْعًا، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَمَأْمُورٌ بِالسُّجُودِ مُؤَاخَذٌ بِهِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ الْحَقُّ".

وهذا جارٍ على قول من يقول: إن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، وهو قول الجمهور كما هو معروف.

"وَالثَّانِي: وَهُوَ الْحَقُّ أَنَّ الْمُؤْمِنَ يَسْجُدُ بِبَدَنِهِ طَوْعًا، وَكُلُّ مَخْلُوقٍ مِنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ يَسْجُدُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مَخْلُوقٌ، يَسْجُدُ دَلَالَةً وَحَاجَةً إِلَى الصَّانِعِ؛ وَهَذَا كَقَوْلِهِ: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ}  [سورة الإسراء:44] وَهُوَ تَسْبِيحُ دَلَالَةٍ لَا تَسْبِيحُ عِبَادَةٍ. 

{وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} أَيْ: ظِلَالُ الْخَلْقِ سَاجِدَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ؛ لِأَنَّهَا تَبِينُ فِي هَذَيْنَ الْوَقْتَيْنِ".

الظلال أطول، الظل في هذين الوقتين أطول وأبين، في الغدو والآصال. أما ما قرب من الزوال قبله أو بعده، فإنه لا يتبين الظل مثل تبينه في الغدو والآصال.

طالب:.......................

ماذا؟

طالب:............................

أيهم؟

طالب:..............................

الآية خبر، الآية خبر أنه يسجد، {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [سورة الرعد:15]، هذه خبر، أو نقول: هو خبر أريد به الأمر ل {يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} طائعًا إن كان مؤمنًا، أو كارهًا إذا لم يكن كذلك. وكونه لا يقع كغيره من الأوامر، يؤمر بالشيء ولا يقع، من المخلوقات من لا يمتثل.

التسبيح ومثله السجود، ومثله الخضوع وغيره، إما أن تكون بلسان الحال، أو تكون بلسان الفعل والمقال، قد يكون السجود حقيقيًّا هذا بالفعل، قد يكون التسبيح حقيقيًّا بالقول، وقد يكون بالحال. قد يكون بلسان الحال أو بلسان المقال، هذا موجود في جميع الأمور، إذا استدللت بشيء على فاعله، فكأنك قلت له: من صنعك؟ قال: فلان. إذا رأيت خطًّا لشخص تعرف خطه، كأنك سألت هذا الخط، وقلت: خط من؟ نعم، فأجابك، ومثل سؤال علي لأهل القبور، سألهم، وأجابوا بلسان الحال كما هو معروف.

طالب:.......................

هي وغيرها، هي وغيرها مما لا ينطق، قد يكون يسبح وأنت لا تسمع نطقه.

طالب:.....................

منهاج المصدر، المصدر، هو نقَّال ينقل عن المبتدعة، وينقل عن أهل السنة ولا يتعقب.

طالب:...........

ما بهم، رجعت لهم أنت؟ رجعت لهم؟ ارجع لهم، كتبهم موجودة.

طالب:................

اقرأ، اقرأ أنت مؤهل، وعندك الكتب، اقرأ، إذا أشكل عليك شيء فاسأل؛ لأن السؤال يُقبل ممن لا يُحسن التعامل مع الكتب، يُدل ويُرشد، لكن شخصٌ مؤهل، لا ينفع في مثل هذا السؤال.

"لِأَنَّهَا تَبِينُ فِي هَذَيْنَ الْوَقْتَيْنِ، وَتَمِيلُ مِنْ نَاحِيَةٍ إِلَى نَاحِيَةٍ؛ وَذَلِكَ تَصْرِيفُ اللَّهِ إِيَّاهَا عَلَى مَا يَشَاءُ؛ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: { أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ}  [سورة النحل:48]، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ.  وَقَالَ مُجَاهِدٌ: ظِلُّ الْمُؤْمِنِ يَسْجُدُ طَوْعًا وَهُوَ طَائِعٌ؛ وَظِلُّ الْكَافِرِ يَسْجُدُ كَرْهًا وَهُوَ كَارِهٌ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: يُجْعَلُ لِلظِّلَالِ عُقُولٌ تَسْجُدُ بِهَا وَتَخْشَعُ بِهَا، كَمَا جُعِلَ لِلْجِبَالِ أَفْهَامٌ".

تخشع بها، تسجد بها وتخشع، تخشع بها.

"كَمَا جُعِلَ لِلْجِبَالِ أَفْهَامٌ حَتَّى خَاطَبَتْ وَخُوطِبَتْ.

 قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: فِي هَذَا نَظَرَ؛ لِأَنَّ الْجَبَلَ عَيْنٌ، فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لَهُ عَقْلٌ بِشَرْطِ تَقْدِيرِ الْحَيَاةِ، وَأَمَّا الظِّلَالُ فَآثَارٌ وَأَعْرَاضٌ، وَلَا يُتَصَوَّرُ تَقْدِيرُ الْحَيَاةِ لَهَا، وَالسُّجُودُ بِمَعْنَى الْمَيْلِ؛ فَسُجُودُ الظِّلَالِ مَيْلُهَا مِنْ جَانِبٍ إِلَى جَانِبٍ، يُقَالُ: سَجَدَتِ النَّخْلَةُ، أَيْ: مَالَتْ".

القدرة الإلهية التي تسخر هذه الأعيان كالجبال للسجود قادرة على أن تسخر الأعراض للسجود، والشمس كما هو معروف في كل ليلة تسجد تحت العرش، وهي في مسارها ومدارها تسجد سجودًا حقيقيًّا تحت العرش وتستأذن، كما جاء في الحديث الصحيح، هذه قدرة إلهية، ولا يمكن أن يقال: كيف تسجد وهي في مدارها وفلكها، ما غابت عن كثير من الأقطار؟ وفي أي وقت تسجد؟ لأنه معروف أنه إذا غابت عن المشرق طلعت على المغرب وهكذا، فلا يقول قائل: كيف تسجد؟ نقول: تسجد على ما يريده الله سبحانه وتعالى من غير تناقض في الفعل، وهناك أمور يقف العقل عندها ولا يستطيع أن يتصورها تصورًا كاملًا، الله سبحانه وتعالى ينزل كل ليلة في الثلث الأخير، ومع ذلك قرر أهل العلم أنه لا يخلو منه العرش سبحانه وتعالى، فالعقول مهما بلغت هي قاصرة عن إدراك مثل هذه الأشياء.

طالب:................

كيف؟

طالب:.......................

{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ}

طالب:......................

هذه من صيغ العموم (من) من صيغ العموم، لكن {طَوْعًا وَكَرْهًا}، {طَوْعًا وَكَرْهًا}، يسجد سواء طائع أو كاره، لابد أن يعفر وجهه بالتراب مرة يومًا ما.

طالب:.......................

لا لا لا، الذي لا يُدرك ينبغي ... لاسيما وأنهم ليس لهم حاجة لا تقوم حاجتهم به.

"وَالْآصَالُ جَمْعُ أُصُلٍ، وَالْأُصُلُ جَمْعُ أَصِيلٍ؛ وَهُوَ مَا بَيْنَ الْعَصْرِ إِلَى الْغُرُوبِ، ثُمَّ أَصَائِلُ جَمْعُ الْجَمْعُ، قَالَ أَبُو ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيُّ:

لَعَمْرِي لَأَنْتَ الْبَيْتُ أُكْرِمُ أَهْلَهُ           وَأَقْعُدُ فِي أَفْيَائِهِ بِالْأَصَائِلِ

وَ{ظِلَالُهُمْ} يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى {مَنْ}، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ارْتَفَعَ بِالِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ، التَّقْدِيرُ: وَظِلَالُهُمْ سُجدٌ".

سُجَّدٌ.

"وَظِلَالُهُمْ سُجدٌ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ، وَ{بِالْغُدُوِّ} يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ غَدَاةٍ، يُقَوِّي كَوْنَهُ جَمْعًا مُقَابَلَةُ الْجَمْعِ الَّذِي هُوَ الْآصَالُ بِهِ". 

مقابلة الجمع بالجمع، مقابلة الجمع به، أي: بالجمع الآخر، وغدو جمع غدوة؛ لتتم المقابلة مع الآصال وهو جمع.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ} [سورة الرعد:16] أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ يَقُولَ لِلْمُشْرِكِينَ: { قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ: هُوَ اللَّهُ إِلْزَامًا لِلْحُجَّةِ إِنْ لَمْ يَقُولُوا ذَلِكَ، وَجَهِلُوا مَنْ هُوَ.

 {قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} هَذَا يَدُلُّ عَلَى اعْتِرَافِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْخَالِقُ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِلِاحْتِجَاجِ بِقَوْلِهِ: {قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} مَعْنًى، دَلِيلُهُ قَوْلُهُ: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} أَيْ فَإِذَا عَرَفْتُمْ".

اعترفتم، اعترفتم، فإذا اعترفتم.

 "أَيْ: فَإِذَا اعْتَرَفْتُمْ فَلِمَ تَعْبُدُونَ غَيْرَهُ؟! وَذَلِكَ الْغَيْرُ لَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ، وَهُوَ إِلْزَامٌ صَحِيحٌ. 

{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} ثُمَّ ضَرَبَ لَهُمْ مَثَلًا فَقَالَ: { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ}  فَكَذَلِكَ لَا يَسْتَوِي الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُبْصِرُ الْحَقَّ، وَالْمُشْرِكُ الَّذِي لَا يُبْصِرُ الْحَقَّ. وَقِيلَ: الْأَعْمَى مَثَلٌ لِمَا عَبَدُوهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَالْبَصِيرُ مَثَلُ اللَّهِ تَعَالَى: {أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّور} أَيِ: الشِّرْكُ وَالْإِيمَانُ".

واللفظ محتمل الأعمى والبصير، محتمل للعابد والمعبود، {هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى} الذي يعبد غير الله سبحانه وتعالى وهذا قد عميت بصيرته، نسأل الله العافية، {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [سورة الحج:46]، {وَالْبَصِيرُ} الذي يعبد الله سبحانه وتعالى على بصيرة، وأما الآخر، التأويل الآخر أو الاحتمال الآخر أن يكون للمعبود، والله المستعان.

"{أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّور} أَيِ: الشِّرْكُ وَالْإِيمَانُ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ وَأَبُو بَكْرٍ وَالْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ" يَسْتَوِي" بِالْيَاءِ لِتَقَدُّمِ الْفِعْلِ، وَلِأَنَّ تَأْنِيثَ الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِحَقِيقِيٍّ. وقرأ الْبَاقُونَ بِالتَّاءِ؛ وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدٍ، قَالَ: لِأَنَّهُ لَمْ يَحُلْ بَيْنَ الْمُؤَنَّثِ وَالْفِعْلِ حَائِلٌ".

نعم، تأنيث الفعل إذا كان الفاعل مؤنثًا، أما إذا كان الفاعل مؤنثًا حقيقيًّا ولم يقع الفصل بينه وبين الفعل، فإنه يجب تأنيث الفعل. شذَّ بعضهم فأنَّث، كما قال سيبويه: إن بعضهم حكى قال فلانة. وأما إذا كان التأنيث حقيقيًّا وقد فُصل بينه وبين الفاعل، يجوز التذكير والتأنيث حينئذٍ، وإذا كان المؤنث غير حقيقي يجوز التذكير والتأنيث، إذا كان بعد الفعل. أما إذا كان الفاعل ضميرًا يعود على المؤنث، ويستوي في ذلك الحقيقي وغير الحقيقي، فإنه يجب تأنيثه حينئذٍ، تقول: الشمس طلعت، ولا تقول: الشمس طلع، بينما لو أخرته تقول: طلع الشمس وطلعت الشمس، لا بأس؛ لأن المؤنث غير حقيقي.

"وَ{ الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ}  مَثَلُ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ؛ وَنَحْنُ لَا نَقِفُ عَلَى كَيْفِيَّةِ ذَلِكَ.

{أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِم} هَذَا مِنْ تَمَامِ الِاحْتِجَاجِ؛ أَيْ: خَلَقَ غَيْرُ اللَّهِ مِثْلَ خَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ، فَلَا يَدْرُونَ خَلْقَ اللَّهِ مِنْ خَلْقِ آلِهَتِهِمْ. 

{قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} أَيْ: قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ: { اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}، فَلَزِمَ لِذَلِكَ أَنْ يَعْبُدَهُ كُلُّ شَيْءٍ".

ولكون هذا الأمر مما يستدل به على وحدانية الله سبحانه وتعالى، جاء الوعيد الشديد، بل أشد الناس عذابًا الشديد للذين يضاهئون خلق الله، ويزعمون أنهم يخلقون مثله، وهم المصورون، نسأل الله العافية.

طالب:................

الذي يشمله النص تصوير ذوات الأرواح.

"وَالْآيَةُ رَدٌّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَالْقَدَرِيَّةِ، الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّهُمْ خَلَقُوا كَمَا خَلَقَ اللَّهُ. {وَهُوَ الْوَاحِدُ} قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ.

{الْقَهَّارُ} الْغَالِبُ لِكُلِّ شَيْءٍ، الَّذِي يَغْلِبُ فِي مُرَادِهِ كُلَّ مُرِيدٍ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ أَبُو نَصْرٍ: وَلَا يَبْعُدُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ وَارِدَةٌ فِيمَنْ لَا يَعْتَرِفُ بِالصَّانِعِ؛ أَيْ: سَلْهُمْ عَنْ خَالِقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، فَإِنَّهُ يَسْهُلُ تَقْرِيرُ الْحُجَّةِ فِيهِ عَلَيْهِمْ، وَيَقْرُبُ الْأَمْرُ مِنَ الضَّرُورَةِ؛ فَإِنَّ عَجْزَ الْجَمَادُ وَعَجْزَ كُلِّ مَخْلُوقٍ عَنْ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَعْلُومٌ، وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا وَبَانَ أَنَّ الصَّانِعَ هُوَ اللَّهُ، فَكَيْفَ يَجُوزُ اعْتِدَادُ الشَّرِيكِ لَهُ؟! وَبَيَّنَ فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ لِلْعَالَمِ صَانِعَانِ لَاشْتَبَهَ الْخَلْقُ، وَلَمْ يَتَمَيَّزْ فِعْلُ هَذَا عَنْ فِعْلِ ذَلِكَ، فَبِمَ يُعْلَمُ أَنَّ الْفِعْلَ مِنَ اثْنَيْنِ؟!"

لا شك أنه لو قُدر أن للعالم صانعين {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ}، ماذا؟ {لَفَسَدَتَا} [سورة الأنبياء:22]، لا يمكن أن ينتظم شمل العالم مع وجود الصانعين. وهذا يقر به أهل الكلام بدليل التمانع، وأنه لو افترض أن اثنين اشتركا في خلق العالم، لكان كونهما على حدٍّ سواء بحيث لا يتميز أحدهما عن الآخر، أدى ذلك إلى الفساد والاضطراب؛ لأن المغالبة لابد منها، ولو غلب أحدهما الآخر لاستقل الغالب بالأمر دون المغلوب، والله المستعان، والآية أبلغ من ذلك.

طالب:.......................

ماذا؟

طالب:.......................

 ما عندك؟

طالب:..........................

المرآة تقف عندها وسوف ترى صورتك مرة ثانية، أم لا؟

طالب:……………………

وهي أشد مضاهاة، التصوير بالآية أشد مضاهاة، أشد مضاهاة. بعضهم يتذرع ويقول: وكيف يرتب الوعيد الشديد على من ضغط زرًّا في آلة وأخرجت هذه الصورة؟ أمرٌ يسير يرتب عليه شيءٌ عظيم، ويستبعدون هذا، نقول: نظيره من ضغط زر المسدس فقتل إنسانًا، الذي قتلته الآلة، هو ضغط زرًّا مثلما ضغط ذلك زر الكاميرا، فلا فرق.

طالب:…………………….

نعم.

طالب:……………..

نعم، هذا ما يسمونه، ما اسمه؟ الدائرة المغلقة، أو الدوائر التليفزيونية، لما كُلفنا بتدريس الطالبات سألت الشيخ عبد الرزاق -رحمه الله-، وهو من أشد الناس في باب التصوير، فقال: إن كانوا يستطيعون أن يعيدوا الدرس متى شاءوا فلا، فهو تصوير. وإن كانوا لا يستطيعون إعادته بعد نهاية الدرس فليس بتصوير.

طالب:……………………..

ماذا؟

طالب:.......................

 على كل حال الاحتياط مطلوب، الاحتياط مطلوب.

طالب:…………………..

وكل ما جدَّ ودخل تحت كل نص وُجد بعد النبي –صلى الله عليه وسلم- وهو لا يشمله النص، نصوص كثيرة.

طالب:…………..

نقول: القتل بغير السكين وبغير السيف، ما به بأس؛ لأنه ما وُجد في عصره –عليه الصلاة والسلام- نقول هذا ممكن؟ ما يشمله النص، الشريعة جاءت بنصوصٍ عامة يندرج تحتها صور كثيرة، والله المستعان، وهي باقية إلى قيام الساعة.

طالب:.................

والله، إذا حُكِم بتحريمه، فمشاهدة الحرام حرام بلا شك، لكن يبقى أن المسألة تسديد ومقاربة بارتكاب أخف الضررين، أنه إذا كان عنده ناس يريدون مثل هذه الأمور، أو يريدون ما هو أعظم منها، ارتكاب أخف الضررين لا شك أنه أمر مقر به في الشرع، هذا إذا عجز، حاول ما استطاع، والله يعفو ويسامح، والله يعفو ويسامح مع الاعتراف بالخطأ.

طالب:...........................

نعم.

طالب:.......................

 الكلام على أنه يعمل بما يدين الله به، يعمل بما يدين الله به واجب.

طالب:...........................

لا إذا كنت تأخذ ولا يترتب عليه مصلحة راجحة، لا، اتركه.

طالب:.................

ماذا؟

طالب:..................

ماذا قررنا؟ إنه حلال أم حرام، التصوير؟

طالب:....................

مشاهدة الحرام حرام.

تبقى مسألة النظر في المصالح والمفاسد، وأولاده لو حُبسوا بهذه الوسيلة، ارتكبوا ما هو أعظم منه، وأمور الشر كلها متيسرة عند الجيران والأقارب، والآن في أسواق المسلمين، والمقاهي المشئومة -نسأل الله العافية- التي تبث الرزيلة والفساد بين شباب الأمة، مثل هذه الله يعفو ويسامح.

طالب:.......................

نعم.

طالب:....................

على كل حال إن وجدت غيره، ولك مندوحة عن اقتنائه فهو المتعين، إن لم تجد، إن لم تجد فعلى ما بعث النبي -عليه الصلاة والسلام- عليًّا، وبعث به عليٌّ أبا الهياج كما هو معروف، الله المستعان.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا} [سورة الرعد:17] ضَرَبَ مَثَلًا لِلْحَقِّ وَالْبَاطِلِ؛ فَشَبَّهَ الْكُفْرَ بِالزَّبَدِ الَّذِي يَعْلُو الْمَاءَ، فَإِنَّهُ يَضْمَحِلُّ وَيَعْلَقُ بِجَنَبَاتِ الْأَوْدِيَةِ، وَتَدْفَعُهُ الرِّيَاحُ، فَكَذَلِكَ يَذْهَبُ الْكُفْرُ وَيَضْمَحِلُّ، عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ. قَالَ مُجَاهِدٌ: { فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا}  قَالَ: بِقَدْرِ مِلْئِهَا. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: بِقَدْرِ صِغَرِهَا وَكِبَرِهَا. وَقَرَأَ الْأَشْهَبُ الْعُقَيْلِيُّ وَالْحَسَنُ" :بِقَدْرِهَا" بِسُكُونِ الدَّالِ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ. وَقِيلَ: مَعْنَاهَا بِمَا قُدِّرَ لَهَا. وَالْأَوْدِيَةُ جَمْعُ الْوَادِي؛ وَسُمِّيَ وَادِيًا لِخُرُوجِهِ وَسَيَلَانِهِ؛ فَالْوَادِي عَلَى هَذَا اسْمٌ لِلْمَاءِ السَّائِلِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: { فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ}  تَوَسُّعٌ؛ أَيْ: سَالَ مَاؤُهَا فَحُذِفَ".

وعلى هذا تكون اسم الأودية، الوادي اسم للمكان، اسم للمكان، يعني سواءٌ كان اسمًا للماء، سال الوادي يعني سال الماء، فإطلاقه على محله من باب إطلاق الحال وإرادة المحل، والعكس إذا قلنا: إنه اسمٌ للمكان.

طالب:......................

كلام فارسي، نعم.

طالب:.....................

ما يلزم، مثله مستعمل في لغة العرب، ما يلزم أن نركب عليه اسم ما سموه به، هم ما سموه بهذا، العرب ما سموه، نعم. ما سموه مجازًا، هم استعملوه ولا سموه مجازًا، هنا اللبس يصير من غير سببه.

طالب:....................

كيف؟

طالب:....................

نعم، سُمي بعد المئتين، ما كان له أصل.

طالب:...................

يعني من إطلاق الحال وإرادة المحل، أنت أردت المحل الذي هو الوادي، الذي هو المكان، والذي سال الماء الذي في المكان، توسع في التعبير.

"قَالَ: وَمَعْنَى {بِقَدَرِهَا} بِقَدْرِ مِيَاهِهَا؛ لِأَنَّ الْأَوْدِيَةَ مَا سَالَتْ بِقَدْرِ أَنْفُسِهَا.

 { فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا} أَيْ: طَالِعًا عَالِيًا مُرْتَفِعًا فَوْقَ الْمَاءِ، وَتَمَّ الْكَلَامُ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ. ثُمَّ قَالَ: { وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّار} وَهُوَ الْمَثَلُ الثَّانِي.

 { ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ} أَيْ: حِلْيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ. { أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ}  قَالَ مُجَاهِدٌ :الْحَدِيدُ وَالنُّحَاسُ وَالرَّصَاصُ.

وَقَوْلُهُ: {زَبَدٌ مِثْلُهُ}  أَيْ: يَعْلُو هَذِهِ الْأَشْيَاءَ زَبَدٌ كَمَا يَعْلُو السَّيْلَ، وَإِنَّمَا احْتَمَلَ السَّيْلُ الزَّبَدَ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ خَالَطَهُ تُرَابُ الْأَرْضِ فَصَارَ ذَلِكَ زَبَدًا، كَذَلِكَ مَا يُوقَدُ عَلَيْهِ فِي النَّارِ مِنَ الْجَوْهَرِ وَمِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ مِمَّا يَنْبَثُّ فِي الْأَرْضِ مِنَ الْمَعَادِنِ فَقَدْ خَالَطَهُ التُّرَابُ، فَإِنَّمَا يُوقَدُ عَلَيْهِ؛ لِيَذُوبَ فَيُزَايِلُهُ تُرَابُ الْأَرْضِ.

وَقَوْلُهُ: { كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً}"

كلامه ظاهر في أن الذهب والفضة وغيرها يخالطها ما يخالطها من التراب، فإذا عُرضت على النار وصُفيِّت، ذهب الزبد، وهو التراب، وما لا نفع فيه، ويبقى ما ينفع. لكن لو قيل بأن كل هذه الأمور من الذهب، والفضة، والنحاس، ومتاع الدنيا كله زبد، يذهب جفاءً في النهاية، إذا لم يُستعن به على ما يرضي الله -سبحانه وتعالى- ويوصل إلى جناته. ويبقى أن الباقيات الصالحات غير هذا الزبد، وكل ما ينفع في الآخرة، {ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ} [سورة الرعد:17]، كل هذا زبد.

طالب:..................

ينفع، هذا مثل، على كل حال هو مثل، الذي ينفع الناس سواءٌ كان في دنياهم أو في أخراهم، لكن العبرة بالنفع الحقيقي وهو ما ينفع في الآخرة.

"قَالَ مُجَاهِدٌ: جُمُودًا. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: قَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ: أَجْفَأَتِ الْقِدْرُ إِذَا غَلَتْ حَتَّى يَنْصَبَّ زَبَدُهَا، وَإِذَا جَمَدَ فِي أَسْفَلِهَا. وَالْجُفَاءُ مَا أَجْفَاهُ الْوَادِي، أَيْ: رَمَى بِهِ. وَحَكَى أَبُو عُبَيْدَةَ أَنَّهُ سَمِعَ رُؤْبَةَ يَقْرَأُ: "جُفَالًا" قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: يُقَالُ أَجَفَلَتِ الْقِدْرُ إِذَا قَذَفَتْ بِزَبَدِهَا، وَأَجْفَلَتِ الرِّيحُ السَّحَابَ إِذَا قَطَعَتْه.

{وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} قَالَ مُجَاهِدٌ :هُوَ الْمَاءُ الْخَالِصُ الصَّافِي. وَقِيلَ: الْمَاءُ وَمَا خَلَصَ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْحَدِيدِ وَالنُّحَاسِ وَالرَّصَاصِ، وَهُوَ أَنَّ الْمَثَلَيْنِ ضَرَبَهُمَا اللَّهُ لِلْحَقِّ فِي ثَبَاتِهِ، وَالْبَاطِلِ فِي اضْمِحْلَالِهِ، فَالْبَاطِلُ وَإِنْ عَلَا فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ فَإِنَّهُ يَضْمَحِلُّ كَاضْمِحْلَالِ الزَّبَدِ وَالْخَبَثِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ مَثَلٌ".

وإن طالت مدته أحيانًا، ابتلاءً واختبارًا وامتحانًا.

"وَقِيلَ: الْمُرَادُ مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِلْقُرْآنِ وَمَا يَدْخُلُ مِنْهُ الْقُلُوبَ، فَشَبَّهَ الْقُرْآنَ بِالْمَطَرِ؛ لِعُمُومِ خَيْرِهِ وَبَقَاءِ نَفْعِهِ، وَشَبَّهَ الْقُلُوبَ بِالْأَوْدِيَةِ، يَدْخُلُ فِيهَا مِنَ الْقُرْآنِ مِثْلُ مَا يَدْخُلُ فِي الْأَوْدِيَةِ بِحَسَبِ سَعَتِهَا وَضِيقِهَا.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} قَالَ: قُرْآنًا، {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا}  قَالَ: الْأَوْدِيَةُ قُلُوبُ الْعِبَادِ. قَالَ صَاحِبُ (سُوقِ الْعَرُوسِ)".

أليس شوق؟ الذي يظهر أن الكتاب اسمه (شوق العروس)، ليست بسوق؛ لأني أعرف أن الكتاب لأبي معشر الطبري، (شوق العروس)، أعرف اسم الكتاب قديمًا.

طالب:....................

ماذا؟

طالب:...........................

قال صاحب (شوق العروس)، وهو أبو معشر الطبري معروف، شيعي.

طالب:....................

أبو عبيدة معمر بن المثنى نعم.

"قَالَ صَاحِبُ (شوقِ الْعَرُوسِ) إِنْ صَحَّ هَذَا التَّفْسِيرُ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ مَثَّلَ الْقُرْآنَ بِالْمَاءِ، وَمَثَّلَ الْقُلُوبَ بِالْأَوْدِيَةِ، وَمَثَّلَ الْمُحْكَمَ بِالصَّافِي، وَمَثَّلَ الْمُتَشَابِهَ بِالزَّبَدِ.

 وَقِيلَ: الزَّبَدُ مَخَايِلُ النَّفْسِ وَغَوَائِلُ الشَّكِّ تَرْتَفِعُ مِنْ حَيْثُ مَا فِيهَا فَتَضْطَرِبُ مِنْ سُلْطَانِ تِلَعِهَا، كَمَا أَنَّ مَاءَ السَّيْلِ يَجْرِي صَافِيًا فَيَرْفَعُ مَا يَجِدُ فِي الْوَادِي بَاقِيًا، وَأَمَّا حِلْيَةُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَمِثْلُ الْأَحْوَالِ السَنِّيَّةِ وَالْأَخْلَاقِ الزَّكِيَّةِ؛ الَّتِي بِهَا جَمَالُ الرِّجَالِ، وَقَوَامُ صَالِحِ الْأَعْمَالِ، كَمَا أَنَّ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ زِينَة النِّسَاءِ، وَبِهِمَا قِيمَةُ الْأَشْيَاءِ.

 وَقَرَأَ حُمَيْدٌ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَيَحْيَى وَالْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ: يُوقِدُونَ بِالْيَاءِ، وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدٍ؛  لِقَوْلِهِ: يَنْفَعُ النَّاسَ، فَأَخْبَرَ، وَلَا مُخَاطَبَةَ هَاهُنَا. وقرأ الْبَاقُونَ بِالتَّاءِ لِقَوْلِهِ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ: {أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ}.

 وَقَوْلُهُ: {فِي النَّارِ} مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ، وَهُوَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَذُو الْحَالِ الْهَاءُ الَّتِي فِي "عَلَيْهِ" التَّقْدِيرُ: وَمِمَّا تُوقِدُونَ عَلَيْهِ ثَابِتًا فِي النَّارِ أَوْ كَائِنًا".

صاحب الحال الضمير المجرور في "عليه"، "وقوله: {فِي النَّارِ} متعلق بمحذوف، هو في موضع الحال"، متعلق الجار والمجرور في موضع نصب على الحال. وفي قوله: {فِي النَّارِ} ضميرٌ يعود إلى الهاء التي هي اسم ذي الحال.

طالب:.................

الالتفات من الخطاب إلى الغيبة؟ هو ما يحصل العكس، وهو أولى، الالتفات من الغيبة إلى الخطاب، وأبلغ.

طالب:......................

اختاره أبو عبيد، اختاره أبو عبيد، "يوقدون" بالياء.

طالب:.......................

 اختاره أبو عبيد رجحه.

طالب:.......................

 نعم، رجحه، ما المانع؟ من حيث الثبوت هما سواء، لكن من حيث ملاءمة الكلام والسياق يُرجح بعضها على بعض، كما ترجح مالك على ملك، والعكس، رُجحت هذه من وجوه، ورجحت تلك من وجوه.

طالب:......................

نعم.

طالب:.......................

كيف كانت متواترة وقد نطق بها؟ ما أحد يُنكرها.

طالب:...................

ماذا؟

طالب:.......................

عندك أمران كلاهما ثابت، لكن هذا أقرب إلى السياق حسب فهمك أنت، أنت تشك أن مالك وملك في سورة الفاتحة سبعيتان، تشك في هذا؟ عندك شك؟

طالب:.......................

إذًا كيف ترجح مالك على ملك؟ أتوا بكل واحد، العلماء ذكروا مرجحات المالك، وآخرون ذكروا مرجحات الملك، وكلٌ على حسب ما يقتضي السياق بالنسبة لفهمه.

"وَفِي قَوْلِهِ: {فِي النَّارِ}  ضَمِيرٌ مَرْفُوعٌ يَعُودُ إِلَى الْهَاءِ الَّتِي هِيَ اسْمُ ذِي الْحَالِ وَلَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يَتَعَلَّقَ {فِي النَّارِ} بِ{ يُوقِدُونَ} مِنْ حَيْثُ لَا يَسْتَقِيمُ أَوْقَدْتُ عَلَيْهِ فِي النَّارِ؛ لِأَنَّ الْمُوقَدَ عَلَيْهِ يَكُونُ فِي النَّارِ، فَيَصِيرُ قَوْلُهُ: {فِي النَّارِ} غَيْرُ مُفِيدٍ.

وَقَوْلُهُ: {ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ} مَفْعُولٌ لَهُ".

في النار غير مفيد، يعني هو مجرد تصريح لما هو مجرد توضيح، هو تصريح بما هو مجرد توضيح، {وَلا تَخُطُّهُ} بماذا؟

{بِيَمِينِكَ} [العنكبوت:48]، تخطه بأي شيء؟ نعم، هذا الأصل الأصل بيمينك مجرد توضيح، ويكون هذا منه، نعم.

"{زَبَدٌ مِثْلُهُ} ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ؛ أَيْ: زَبَدٌ مِثْلُ زَبَدِ السَّيْلِ. وَقِيلَ: إِنَّ خَبَرَ {زَبَدٌ} قَوْلُهُ: {فِي النَّارِ}. قال الْكِسَائِيُّ {زَبَدٌ} ابْتِدَاءٌ، وَ{مِثْلُهُ} نَعْتٌ لَهُ، وَالْخَبَرُ فِي الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهُ، وَهُوَ مِمَّا يُوقِدُونَ. { كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} أَيْ: كَمَا بَيَّنَ لَكُمْ هَذِهِ الْأَمْثَالَ فَكَذَلِكَ يَضْرِبُهَا بَيِّنَاتٍ، تَمَّ الْكَلَامُ. ثُمَّ قَالَ: { لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى} [سورة الرعد:18] أَيْ: أَجَابُوا؛ وَاسْتَجَابَ بِمَعْنَى أَجَابَ، قَالَ:

فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبٌ
  

وَقَدْ تَقَدَّمَ. أَيْ: أَجَابَ إِلَى مَا دَعَاهُ اللَّهُ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّاتِ. {الْحُسْنَى}؛ لِأَنَّهَا فِي نِهَايَةِ الْحُسْنِ. وَقِيلَ: مِنَ الْحُسْنَى النَّصْرُ فِي الدُّنْيَا، وَالنَّعِيمُ الْمُقِيمُ غَدًا. {وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ} أَيْ: لَمْ يُجِيبُوا".

الحسنى هي الجنة، {لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ} [سورة الرعد:18] استجابوا لأوامره، وازدجروا عن نواهيه، وامتثلوا ما أمر به، فهؤلاء لهم الحسنى، ولهم الزيادة أيضًا، وهي النظر إلى وجهه الكريم، والذين لم يستجيبوا، أي: تنكبوا عن أوامره ونواهيه لهم الأخرى.

"{وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ} أَيْ: لَمْ يُجِيبُوا ِلَى الْإِيمَانِ بِهِ. { لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا}  أَيْ مِنَ الْأَمْوَالِ. {وَمِثْلهُ مَعَهُ} مِلْكٌ لَهُمْ".

مثلَه.

"{وَمِثْلَهُ مَعَهُ} مِلْكٌ لَهُمْ. {لَافْتَدَوْا بِهِ} مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ؛ نَظِيرُهُ فِي آلِ عِمْرَانَ {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [سورة آل عمران:116] ،{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} [سورة آل عمران:91] حَسَبَ مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ هُنَاك".

هو مدة يسيرة مهما بغوا، وطغوا، وتجبروا، وعاندوا وأصروا واستكبروا، كما قال الله -سبحانه وتعالى-: {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ. مَتَاعٌ قَلِيلٌ} [سورة آل عمران:-196-197]، { مَتَاعٌ قَلِيلٌ} هذه الدنيا كلها متاع قليل ولو طالت، وكونها تطول على بعض الناس مع شقائه، زيادة في الشقاء نسأل الله العافية، «شركم من طال عمره وساء عمله».

"{أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ} ، أَيْ: لَا يُقْبَلُ لَهُمْ حَسَنَةٌ، وَلَا يُتَجَاوَزُ لَهُمْ عَنْ سَيِّئَةٍ. وَقَالَ فَرْقَدٌ السَّبَخِيُّ: قَالَ لِي إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: يَا فَرْقَدُ! أَتَدْرِي مَا سُوءُ الْحِسَابِ؟ قُلْتُ: لَا! قَالَ: أَنْ يُحَاسَبَ الرَّجُلُ بِذَنْبِهِ كُلِّهِ لَا يُفْقَدُ مِنْهُ شَيْءٌ".

من نوقش الحساب عُذب، من نوقش، يعني: دقق عليه في النقاش، ولم يتجاوز له عن شيء، هذا مآله إلى العذاب، نسأل الله العافية. لأنه مهما عمل من الأعمال، فكل هذه الأعمال لا تعدل نعمة من نعم الله، نسأل الله العافية، فإذا أضيف إلى ذلك سوء عمله، تضاعفت عليه، نسأل الله العافية، نعم. 
"{وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} أَيْ مَسْكَنُهُمْ وَمَقَامُهُمْ. {وَبِئْسَ الْمِهَادُ} أَيِ: الْفِرَاشُ الَّذِي مَهَّدُوا لِأَنْفُسِهِمْ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: { أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} [سورة الرعد:19] هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، وَرُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَأَبِي جَهْلٍ لَعَنَهُ اللَّهُ. وَالْمُرَادُ بِالْعَمَى عَمَى الْقَلْبِ، وَالْجَاهِلُ بِالدِّينِ أَعْمَى الْقَلْبِ. إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: { الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ} [سورة الرعد:20] فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: { الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ}  هَذَا مِنْ صِفَةِ ذَوِي الْأَلْبَابِ، أَيْ: إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ الْمُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ. وَالْعَهْدُ اسْمٌ لِلْجِنْسِ؛ أَيْ: بِجَمِيعِ عُهُودِ اللَّهِ، وَهِيَ أَوَامِرُهُ وَنَوَاهِيهِ الَّتِي وَصَّى بِهَا عَبِيدَهُ؛ وَيَدْخُلُ فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الْتِزَامُ جَمِيعِ الْفُرُوضِ، وَتَجَنُّبُ جَمِيعِ الْمَعَاصِي.

وَقَوْلُهُ: {وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ} يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ جِنْسَ الْمَوَاثِيقِ، أَيْ: إِذَا عَقَدُوا فِي طَاعَةِ اللَّهِ عَهْدًا لَمْ يَنْقُضُوهُ. قَالَ قَتَادَةُ: تَقَدَّمَ اللَّهُ إِلَى عِبَادِهِ فِي نَقْضِ الْمِيثَاقِ وَنَهَى عَنْهُ فِي بِضْعٍ وَعِشْرِينَ آيَةً، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُشِيرَ إِلَى مِيثَاقٍ بِعَيْنِهِ، هُوَ الَّذِي أَخَذَهُ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ حِينَ أَخْرَجَهُمْ مِنْ صُلْبِ أَبِيهِمْ آدَمَ".

وعلى هذا تكون ال على القول الأول للجنس، وعلى القول الثاني للعهد.

"وَقَالَ الْقَفَّالُ: هُوَ مَا رُكِّبَ فِي عُقُولِهِمْ مِنْ دَلَائِلَ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّات.

 الثَّانِيَةُ: رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- سَبْعَةٌ أَوْ ثَمَانِيَةٌ أَوْ تِسْعَةٌ فَقَالَ: أَلَا تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَكُنَّا حَدِيثَ عَهْدٍ بِبَيْعَةٍ فَقُلْنَا: قَدْ بَايَعْنَاكَ حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا؛ فَبَسَطْنَا أَيْدِيَنَا فَبَايَعْنَاهُ، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّا قَدْ بَايَعْنَاكَ فَعَلَى مَاذَا  نُبَايِعُكَ؟ قَالَ: «أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَتُصَلُّوا الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ، وَتَسْمَعُوا وَتُطِيعُوا»، وَأَسَرَّ كَلِمَةً خَفِيَّةً قَالَ: «لَا تَسْأَلُوا النَّاسَ شَيْئًا» قَالَ: وَلَقَدْ كَانَ بَعْضُ أُولَئِكَ النَّفَرُ يَسْقُطُ  سَوْطُهُ فَمَا يَسْأَلُ أَحَدًا أَنْ يُنَاوِلَهُ إِيَّاهُ.

قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَمِنْ أَعْظَمِ الْمَوَاثِيقِ فِي الذِّكْرِ أَلَّا يُسْأَلَ سِوَاهُ؛ فَقَدْ كَانَ أَبُو حَمْزَةَ الْخُرَاسَانِيُّ مِنْ كِبَارِ الْعُبَّادِ سَمِعَ أَنَّ أُنَاسًا بَايَعُوا رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَلَّا يَسْأَلُوا أَحَدًا شَيْئًا، الْحَدِيثَ؛ فَقَالَ أَبُو حَمْزَةَ: رَبِّ! إِنَّ هَؤُلَاءِ عَاهَدُوا نَبِيَّكَ إِذْ رَأَوْهُ، وَأَنَا أُعَاهِدُكَ أَلَّا أَسْأَلَ أَحَدًا شَيْئًا، قَالَ: فَخَرَجَ حَاجًّا مِنَ الشَّامِ يُرِيدُ مَكَّةَ فَبَيْنَمَا هُوَ يَمْشِي فِي الطَّرِيقِ مِنَ اللَّيْلِ إِذْ بَقِيَ عَنْ أَصْحَابِهِ لِعُذْرٍ ثُمَّ أَتْبَعَهُمْ، فَبَيْنَمَا هُوَ يَمْشِي إِلَيْهِمْ إِذْ سَقَطَ فِي بِئْرٍ عَلَى حَاشِيَةِ الطَّرِيقِ؛ فَلَمَّا حَلَّ فِي قَعْرِهِ، قَالَ: أَسْتَغِيثُ لَعَلَّ أَحَدًا يَسْمَعُنِي، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الَّذِي عَاهَدْتُهُ يَرَانِي وَيَسْمَعُنِي، وَاللَّهِ! لَا تَكَلَّمْتُ بِحَرْفٍ لِلْبَشَرِ، ثُمَّ لَمْ يَلْبَثْ إِلَّا يَسِيرًا إِذْ مَرَّ بِذَلِكَ الْبِئْرِ نَفَرٌ، فَلَمَّا رَأَوْهُ عَلَى حَاشِيَةِ الطَّرِيقِ قَالُوا: إِنَّهُ لَيَنْبَغِي سَدُّ هَذَا الْبِئْرِ، ثُمَّ قَطَعُوا خَشَبًا وَنَصَبُوهَا عَلَى فَمِ الْبِئْرِ وَغَطَّوْهَا بِالتُّرَابِ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَبُو حَمْزَةَ قَالَ: هَذِهِ مَهْلَكَةٌ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَسْتَغِيثَ بِهِمْ، ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ! لَا أَخْرُجُ مِنْهَا أَبَدًا؛ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى نَفْسِهِ، فَقَالَ: أَلَيْسَ قَدْ عَاهَدْتَ مَنْ يَرَاكَ؟ فَسَكَتَ وَتَوَكَّلَ، ثُمَّ اسْتَنَدَ فِي قَعْرِ الْبِئْرِ مُفَكِّرًا فِي أَمْرِهِ، فَإِذَا بِالتُّرَابِ يَقَعُ عَلَيْهِ؛ وَالْخَشَبِ يُرْفَعُ عَنْهُ، وَسَمِعَ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ مِنْ يَقُولُ: هَاتِ يَدَكَ! قَالَ: فَأَعْطَيْتُهُ يَدِي فَأَقَلَّنِي فِي مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ إِلَى فَمِ الْبِئْرِ؛ فَخَرَجْتُ فَلَمْ أَرَ أَحَدًا، فَسَمِعْتُ هَاتِفًا يَقُولُ: كَيْفَ رَأَيْتَ ثَمَرَةَ التَّوَكُّلِ، وَأَنْشَدَ:

نَهَانِي حَيَائِي مِنْكَ أَنْ أَكْشِفَ الْهَوَى

فَأَغْنَيْتَنِي بِالْعِلْمِ مِنْكَ عَنِ الْكَشْفِ

تَلَطَّفْتَ فِي أَمْرِي فَأَبْدَيْتَ شَاهِدِي

إِلَى غَائِبِي وَاللُّطْفُ يُدْرَكُ بِاللُّطْفِ

تَرَاءَيْتَ لِي بِالْعِلْمِ حَتَّى كَأَنَّمَا

تُخَبِّرُنِي بِالْغَيْبِ أَنَّكَ فِي كَفِّ

أَرَانِي وَبِي مِنْ هَيْبَتِي لَكَ وَحْشَةٌ

فَتُؤْنِسُنِي بِاللُّطْفِ مِنْكَ وَبِالْعَطْفِ

وَتُحْيِي مُحِبًّا أَنْتَ فِي الْحُبِّ حَتْفُهُ

وَذَا عَجَبٌ كَيْفَ الْحَيَاةُ مَعَ الْحَتْفِ

قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: هَذَا رَجُلٌ عَاهَدَ اللَّهَ فَوَجَدَ الْوَفَاءَ عَلَى التَّمَامِ وَالْكَمَالِ، فَاقْتَدُوا بِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَهْتَدُوا. قَالَ أَبُو الْفَرَجِ الْجَوْزِيِّ: سُكُوتُ هَذَا الرَّجُلِ فِي هَذَا الْمَقَامِ عَلَى التَّوَكُّل  بِزَعْمِهِ إِعَانَةً عَلَى نَفْسِهِ، وَذَلِكَ لَا يَحِلُّ؛ وَلَوْ فَهِمَ مَعْنَى التَّوَكُّلِ لَعَلِمَ أَنَّهُ لَا يُنَافِي اسْتِغَاثَتَهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ؛ كَمَا لَمْ يَخْرُجْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنَ التَّوَكُّلِ بِإِخْفَائِهِ الْخُرُوجَ مِنْ مَكَّةَ، وَاسْتِئْجَارِهِ دَلِيلًا، وَاسْتِكْتَامِهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ، وَاسْتِتَارِهِ فِي الْغَارِ، وَقَوْلِهِ لِسُرَاقَةَ:  اخْفِ عَنَّا.

 فَالتَّوَكُّلُ الْمَمْدُوحُ لَا يُنَالُ بِفِعْلٍ مَحْظُورٍ، وَسُكُوتُ هَذَا الْوَاقِعِ فِي الْبِئْرِ مَحْظُورٌ عَلَيْهِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ خَلَقَ لِلْآدَمِيِّ آلَةً يَدْفَعُ عَنْهُ بِهَا الضَّرَرَ، وَآلَةٌ يَجْتَلِبُ بِهَا النَّفْعَ، فَإِذَا عَطَّلَهَا مُدَّعِيًا لِلتَّوَكُّلِ كَانَ ذَلِكَ جَهْلًا بِالتَّوَكُّلِ، وَرَدًّا لِحِكْمَةِ التَّوَاضُعِ؛ لِأَنَّ التَّوَكُّلَ إِنَّمَا هُوَ اعْتِمَادُ الْقَلْبِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَتِهِ قَطْعَ الْأَسْبَابِ: وَلَوْ أَنَّ إِنْسَانًا جَاعَ فَلَمْ يَسْأَلْ حَتَّى مَاتَ دَخَلَ النَّارَ، قَالَهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَغَيْرُهُ، لِأَنَّهُ قَدْ دُلَّ عَلَى طَرِيقَةِ السَّلَامَةِ، فَإِذَا تَقَاعَدَ عَنْهَا أَعَانَ عَلَى نَفْسِهِ. وَقَالَ أَبُو الْفَرَجِ: وَلَا الْتِفَاتَ إِلَى قَوْلِ أَبِي حَمْزَةَ: "فَجَاءَ أَسَدٌ فَأَخْرَجَنِي" فَإِنَّهُ إِنْ صَحَّ ذَلِكَ فَقَدْ يَقَعُ مِثْلُهُ اتِّفَاقًا وَقَدْ يَكُونُ لُطْفًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِالْعَبْدِ الْجَاهِلِ، وَلَا يُنْكَرُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى لَطَفَ بِهِ، وَإِنَّمَا يُنْكَرُ فِعْلُهُ الَّذِي هُوَ كَسْبُهُ، وَهُوَ إِعَانَتُهُ عَلَى نَفْسِهِ الَّتِي هِيَ وَدِيعَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى عِنْدَهُ، وَقَدْ أَمَرَهُ بِحِفْظِهَا".

مباشرة الأسباب لا تنافي التوكل عند من حقق التوكل، وإلا قد يلتبس الأمر على بعض الناس، فلا يستطيع مباشرة الأسباب إلا مع خدش التوكل، ولا يستطيع تحقيق التوكل إلا مع ترك الأسباب، بعض الناس لا يستطيع التوفيق بين الأمرين، يقول: لا يمكن أن أذهب إلى طبيب يعالجني وأنا لا ألتفت إليه بحالٍ من الأحوال، وإلا فلماذا أذهب إليه؟

الناس يضيق عليهم مثل هذا الأمر، فلا يستطيع أن يوفق بينهم، النبي -عليه الصلاة والسلام- باشر الأسباب، مع أنه كامل التوكل، كامل التوكل، ومن الناس من لا يستطيع ذلك، لا يستطيع أن يرضى ويسلم، ومع ذلك تدمع عينه، ويحزن قلبه، ولا يخدش ذلك في رضاه بالمصيبة، بعض الناس لا يستطيع مثل هذه المضايق، حتى إن بعضهم لما مات ولده ضحك، أأبكي وأنا راضٍ بقدري؟ مستحيل، هذا تصور بعض الناس الذي لم يحقق هذا المقام.

 ولا شك أن هذه المقامات مضايق، لا يستطيع التوفيق بينهما إلا من وُفِّق، فالرسول كما قلنا يباشر الأسباب، وأمرنا بمباشرة السباب لا شك. لكن مع ذلك أمرنا بالتوكل، وألا نلتفت إلى هذه الأسباب ونظن تأثيرها استقلالًا، كما تقوله المعتزلة، نعم هي مؤثرة بجعل الله -سبحانه وتعالى- التأثير فيها، فلا مانع من مباشرة الأسباب مع وجود التوكل، لكن إذا قال: لا أستطيع، لا يمكن بحال من الأحوال التوكل على مباشرة الأسباب، ماذا نقول له؟

ما أستطيع أن ألبس فروًا، وما أزعم أنها ما تدفئني، والحافظ هو الله -سبحانه وتعالى- وحده.

طالب:.......................

 نعم، ويمشي عاريًا أم  ما أُمر به؟

طالب:............................

أهل العلم يقولون: إن زعم عدم تأثير الأسباب قدح في العقل، والالتفات إلى هذه الأسباب قدح في الشرع، قدح في الشرع، تلتفت للأسباب، تذهب إلى الطبيب، أنه هو الذي يشفيك، أنت تأتي له لتبحث عن العافية، يضيق النظر أحيانًا، يضيق النظر، بعض الناس لا يستطيع أن يوفق بين أن يرضى ويسلم بالمصيبة، ويحزن قلبه وتدمع عيناه، ما يمكن، يقول: مستحيل هذا، لكن إذا تصور أنه إن ترك الفرو مات من البرد، هذا نُسميه متوكلًا؟

طالب:..........................

ماذا؟

طالب:..........................

 أما بالنسبة للعلاج وعدمه فالأمر فيه سعة؛ لأن شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- يقول: لا أعلم سالفًا أوجب العلاج، وإلا انتهى الإشكال. والتوكل والرضا من أنفع الأدوية، ومن أنجحها، وكم من شخص وجد فيه المرض العضوي، فتوكل على الله حق التوكل، ولجأ إلى ربه فشُفي، وعجِب الأطباء كيف شفي، نعم، العين موجودة، شيء موجود محسوس أين ذهب؟ لاشك أن لطف الله -سبحانه وتعالى- فوق ذلك كله، نعم، هو الشافي، لكن يبقى أنه إذا توكل، وترك العلاج، ثم كل من جاء يزوره، أنا والله متوكل، وتارك العلاج، ومعتمدٌ على ربي، هذا أضر عليه هذا.

طالب:.............................

كيف؟

طالب:.......................

لا، يعالجها.

طالب:.........................

لا، لا، هذا العلاج غير جائز، لا، ولو أدى.

طالب:....................

نعم، الكي شرعي، وتركه أفضل؛ لأنه لما بُين أنه علاج ما أمر باستعماله، بُيِّن أن فيه الشفاء، لكن ... ما به الشفاء، فليتوكل على الله، ولا يعالج؟

طالب:......................

فيه شفاء للناس، من أراد أن يستعمل هذا الشفاء، يريد العافية، يستعمل، لكن ما أريد العافية، أنا أريد الآخرة، بُينت لا على سبيل الإلزام والأمر.

طالب:........................

ماذا؟

طالب:..................

لا، الدعاء مأمورٌ به، {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي} [سورة غافر:60].

طالب:...........................

أولًا العلاج ظني، والأكل قطعي، العلاج ظني قد يعالج فيزيد مرضه، كم واحد عالجوه وصار لعلاجه آثار ما توقع.

طالب:.......................

لا، لا يفعل؛ لأن السبب غير ظاهر.

طالب:.......................

لا، لا، كلامنا أعم من المسألة، الكلام الذي ذكرناه في مباشرة الأسباب أعم من هذه المسألة.

طالب:.......................

كيف؟

طالب:.........................

لكن السبب ظني، مثل ما ذكرنا.

طالب:........................

والاعتماد على الأسباب مقصد الشرع.

طالب:.........................

لا يلتزم بما جاء عن الله وعن رسوله، لا يأتي بجديد، لا يأتي بجديد، لا يضيق على نفسه؛ لأنه إذا عاهد وأخلف الأمر كبير.

يعني فرق بين شخص قال: إذا طلع الراتب أتصدق بألف، وبين شخصٍ آخر قال: علي عهدٌ، أو لله علي أن أتصدق بألف إذا خرج، هذا إذا ما وفى فالحمد لله، الأمر فيه سعة، الثاني يدخل في قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ} [سورة التوبة:75]، {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا} [سورة التوبة:77] نسأل الله العافية، لا يُضيِّق الإنسان على نفسه.

طالب:.....................

مثله، مثله، لا يأتي بخير، ونقصد التوكل، والتوكل من الشرع.

طالب:.......................

 قدحٌ في التوكل، نعم.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ}  ظَاهِرٌ فِي صِلَةِ الْأَرْحَامِ، وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ وَأَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الطَّاعَاتِ. {وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} قِيلَ: فِي قَطْعِ الرَّحِمِ. وَقِيلَ: فِي جَمِيعِ الْمَعَاصِي. 

{ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ}، سُوءُ الْحِسَابِ الِاسْتِقْصَاءُ فِيهِ وَالْمُنَاقَشَةُ، وَمَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ عُذِّبَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ".

أما ما جاء من قوله تعالى: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [سورة الانشقاق:8]، قد بُيِّن في الحديث أن الحساب اليسير هو مجرد العرض، العرض وليس المناقشة.

"وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: مَعْنَى {يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ} الْإِيمَانُ بِجَمِيعِ الْكُتُبِ وَالرُّسُلِ كُلِّهِمْ. قال  الْحَسَنُ: هُوَ صِلَةُ مُحَمَّدٍ- صلى الله عليه وسلم-. وَيَحْتَمِلُ رَابِعًا: أَنْ يَصِلُوا الْإِيمَانَ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ؛ {وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} فِيمَا أَمَرَهُمْ بِوَصْلِهِ، { وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ}،  فِي تَرْكِهِ؛ وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ يَتَنَاوَلُ هَذِهِ الْأَقْوَالَ كَمَا ذَكَرْنَا، وَبِاللَّهِ تَوْفِيقُنَا".

أما دخول صلة الأرحام في الآية فهو قطعي، دخول صلة الرحم {يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ} دخول صلة الأرحام قطعي بلا شك، ودخول ما عداها يتناولها عموم الآية، نعم، وصلة القرابة وما أمر بصلتهم.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ}  قِيلَ: {الَّذِينَ} مُسْتَأْنَفٌ؛ لِأَنَّ صَبَرُوا مَاضٍ فَلَا يَنْعَطِفُ عَلَى {يُوفُونَ} وَقِيلَ: هُوَ مِنْ وَصْفِ مَنْ تَقَدَّمَ، وَيَجُوزُ الْوَصْفُ تَارَةً بِلَفْظِ الْمَاضِي، وَتَارَةً بِلَفْظِ الْمُسْتَقْبَلِ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى مَنْ يَفْعَلُ كَذَا فَلَهُ كَذَا؛ وَلَمَّا كَانَ الَّذِينَ يَتَضَمَّنُ الشَّرْطَ، وَالْمَاضِي فِي الشَّرْطِ كَالْمُسْتَقْبَلِ جَازَ ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {الَّذِينَ يُوفُونَ} ثُمَّ قَالَ: {وَالَّذِينَ صَبَرُوا} ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ فَقَالَ: {وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ}. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: صَبَرُوا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، وَصَبَرُوا عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: صَبَرُوا عَلَى الرَّزَايَا وَالْمَصَائِبِ وَالْحَوَادِثِ وَالنَّوَائِبِ".

هي أنواع الصبر الثلاثة: الصبر على طاعة الله، وعن معاصي الله، وعلى أقدار الله.

"وقَالَ أَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ: صَبَرُوا عَلَى دِينِهِمُ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ. وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ أَدَّوْهَا بِفُرُوضِهَا وَخُشُوعِهَا فِي مَوَاقِيتِهَا. {وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً} يَعْنِي الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِي هَذَا فِي "الْبَقَرَةِ" وَغَيْرِهَا".

الأصل في الإنفاق إن السر أفضل، مثل سائر الأعمال الصالحة إلا إذا ترتب على الإعلان الاقتضاء الإئتساء به، و«من سنَّ سُنةً حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها»، فالسر هو الأصل؛ لأنه أقرب إلى الإخلاص، وإذا اقترن بالعلانية ما يرجحه على السر كان أفضل. ولذا مُدح الإنفاق في السر والعلانية، ومثله فعل الصلوات والصيام، إن كان إسراره به أدعاه إلى إخلاصه فهو أرجح كما هو الأصل، وإن رأى أن ذكره بما اعتاده من العبادات؛ لكي يتشجع السامع ويقتضي به ويأتسي به كان له من الأجر بقدر هذه النية والأمور بمقاصدها. ولا يمنع أن يكون الأول عامًا ثم يطرء عليه الخاص.

"{وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} أَيْ: يَدْفَعُونَ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ السَّيِّئَ مِنَ الْأَعْمَالِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وقال  ابْنُ زَيْدٍ: يَدْفَعُونَ الشَّرَّ بِالْخَيْرِ. وقال سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: يَدْفَعُونَ الْمُنْكَرَ بِالْمَعْرُوفِ. وقال  الضَّحَّاكُ: يَدْفَعُونَ الْفُحْشَ بِالسَّلَامِ. وقال جُوَيْبِرٌ: يَدْفَعُونَ الظُّلْمَ بِالْعَفْو".

وهذا خلاف ما وصف الله به المنافقين بضد هذه الأعمال، الذين يدفعون المعروف بالمنكر، نسأل الله العافية، والخير بالشر، نسأل الله العافية.

"وقال ابْنُ شَجَرَةَ: يَدْفَعُونَ الذَّنْبَ بِالتَّوْبَةِ. وقال الْقُتَبِيُّ: يَدْفَعُونَ سَفَهَ الْجَاهِلِ بِالْحِلْمِ؛ فَالسَّفَهُ السَّيِّئَةُ، وَالْحِلْمُ الْحَسَنَةُ. وَقِيلَ: إِذَا هَمُّوا بِسَيِّئَةٍ رَجَعُوا عَنْهَا وَاسْتَغْفَرُوا. وَقِيلَ: يَدْفَعُونَ الشِّرْكَ بِشَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَهَذِهِ تِسْعَةُ أَقْوَالٍ مَعْنَاهَا كُلُّهَا مُتَقَارِبٌ، وَالْأَوَّلُ يَتَنَاوَلُهَا بِالْعُمُومِ".

وهي من اختلاف التنوع، وليس مجرد اختلاف التضاد، وأن بعضها ينافي، لا، كل هذا خلاف عموم الآية.

"وَنَظِيرُهُ: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبَنَّ السَّيِّئَاتِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِمُعَاذٍ: «وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ».

وقوله تعالى: {أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} أَيْ عَاقِبَةُ الْآخِرَةِ، وَهِيَ الْجَنَّةُ بَدَلَ النَّارِ، وَالدَّارُ غَدًا دَارَانِ: الْجَنَّةُ  لِلْمُطِيعِ، وَالنَّارُ لِلْعَاصِي؛ فَلَمَّا ذَكَرَ وَصْفَ الْمُطِيعِينَ فَدَارُهُمُ الْجَنَّةُ لَا مَحَالَةَ. وَقِيلَ: عُنِيَ بِالدَّارِ دَارُ الدُّنْيَا، أَيْ: لَهُمْ جَزَاءُ مَا عَمِلُوا مِنَ الطَّاعَاتِ فِي دَارِ الدُّنْيَا.

 قَوْلُهُ تَعَالَى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} [سورة الرعد:23] أَيْ: لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ؛ فِ{جَنَّاتُ عَدْنٍ} بَدَلٌ مِنْ عُقْبَى، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ تَفْسِيرًا لِ {عُقْبَى الدَّارِ}  أَيْ: لَهُمْ دُخُولُ جَنَّاتِ عَدْنٍ، لِأَنَّ عُقْبَى الدَّارِ حَدَثٌ وَ{جَنَّاتُ عَدْنٍ} عَيْنٌ، وَالْحَدَثُ إِنَّمَا يُفَسَّرُ بِحَدَثٍ مِثْلِهِ؛ فَالْمَصْدَرُ الْمَحْذُوفُ مُضَافٌ إِلَى الْمَفْعُولِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ {جَنَّاتُ عَدْنٍ} خَبَرَ لمبتدأٍ مَحْذُوفٍ. وَ{جَنَّاتُ عَدْنٍ} وَسَطُ الْجَنَّةِ وَقَصَبَتُهَا، وَسَقْفُهَا عَرْشُ الرَّحْمَنِ، قَالَهُ الْقُشَيْرِيُّ وأَبُو نَصْرٍ عَبْدُ الْمَلِكِ،  وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: «إِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَى الْجَنَّةِ وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ وَمِنْهُ تُفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ» فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ {جَنَّاتُ} كَذَلِكَ إِنْ صَحَّ، فَذَلِكَ خَبَرٌ.

 وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو: إِنَّ فِي الْجَنَّةِ قَصْرًا يُقَالُ لَهُ عَدْنٌ، حَوْلَهُ الْبُرُوجُ وَالْمُرُوجُ؛ فِيهِ أَلْفُ بَابٍ، عَلَى كُلِّ بَابٍ خَمْسَةُ آلَافِ حِبَرَةٍ لَا يَدْخُلُهُ إِلَّا نَبِيٌّ أَوْ صِدِّيقٌ أَوْ شَهِيدٌ وَعَدْنٌ مَأْخُوذٌ مِنْ عَدَنَ بِالْمَكَانِ إِذَا أَقَامَ فِيهِ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي سُورَةِ "الْكَهْفِ" إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. {وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ} يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى أُولَئِكَ الْمَعْنَى: أُولَئِكَ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى الضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ فِي {يَدْخُلُونَهَا} وَحَسُنَ الْعَطْفُ لَمَّا حَالَ".

يدخلونها ويدخل أولئك.

"وَحَسُنَ الْعَطْفُ لَمَّا حَالَ الضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ بَيْنَهُمَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: يَدْخُلُونَهَا، وَيَدْخُلُهَا مَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ، أَيْ مَنْ كَانَ صَالِحًا، لَا يَدْخُلُونَهَا بِالْأَنْسَابِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَوْضِعُ "مَنْ"".

ما قال: يدخلونها هم وآباؤهم، النسب لا علاقة له بالجزاء، مشابهة الجزاء لا علاقة لها بالنسب، وإنما يُلحق به من صلح.

"وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَوْضِعُ "مَنْ" نَصْبًا عَلَى تَقْدِيرِ: يَدْخُلُونَهَا مَعَ مَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ مِثْلَ أَعْمَالِهِمْ يُلْحِقُهُ اللَّهُ بِهِمْ كَرَامَةً لَهُمْ".

شرط أن يكونوا مسلمين، فإن آمنوا واتبعتهم ذريتهم، بإيمان، ألحقنا بهم ذريتهم.

"وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذَا الصَّلَاحُ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَالرَّسُولِ، وَلَوْ كَانَ لَهُمْ مَعَ الْإِيمَانِ طَاعَاتٌ أُخْرَى لَدَخَلُوهَا بِطَاعَتِهِمْ لَا عَلَى وَجْهِ التَّبَعِيَّةِ.

 قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَفِي هَذَا نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْإِيمَانِ، فَالْقَوْلُ فِي اشْتِرَاطِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ كَالْقَوْلِ فِي اشْتِرَاطِ الْإِيمَانِ. فَالْأَظْهَرُ أَنَّ هَذَا الصَّلَاحَ فِي جُمْلَةِ الْأَعْمَالِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ النِّعْمَةَ غَدًا تَتِمُّ عَلَيْهِمْ بِأَنْ جَعَلَهُمْ مُجْتَمِعِينَ مَعَ قَرَابَتِهِمْ فِي الْجَنَّةِ، وَإِنْ دَخَلَهَا كُلُّ إِنْسَانٍ بِعَمَلِ نَفْسِهِ؛ بَلْ بِرَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى.

 قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ} أَيْ بِالتُّحَفِ وَالْهَدَايَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَكْرِمَةً لَهُمْ. 

{سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} أَيْ يَقُولُونَ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ؛ فَأُضْمِرَ الْقَوْلُ، أَيْ: قَدْ سَلِمْتُمْ مِنْ الْآفَاتِ وَالْمِحَنِ".

وإضمار القول في النصوص كثير، {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ} ماذا؟ {أَكَفَرْتُمْ} [سورة آل عمران:106]، يعني فيقال لهم: أكفرتم، والنصوص في هذا كثيرة.

"وَقِيلَ: هُوَ دُعَاءٌ لَهُمْ بِدَوَامِ السَّلَامَةِ، وَإِنْ كَانُوا سَالِمِينَ، أَيْ: سَلَّمَكُمُ اللَّهُ، فَهُوَ خَبَرٌ مَعْنَاهُ الدُّعَاءُ، وَيَتَضَمَّنُ الِاعْتِرَافَ بِالْعُبُودِيَّة. {بِمَا صَبَرْتُمْ} أَيْ: بِصَبْرِكُمْ، فَ "مَا" مَعَ الْفِعْلِ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ، وَالْبَاءُ فِي "بِمَا" مُتَعَلِّقَةٌ بِمَعْنَى. {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} وَيَجُوزُ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِمَحْذُوفٍ، أَيْ: هَذِهِ الْكَرَامَةُ بِصَبْرِكُمْ، أَيْ: عَلَى أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَنَهْيِهِ، قَالَه سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ.

 وَقِيلَ: عَلَى الْفَقْرِ فِي الدُّنْيَا؛ قَالَهُ أَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ. وَقِيلَ: عَلَى الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؛ كَمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم-: «هَلْ تَدْرُونَ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ؛ قَالَ: الْمُجَاهِدُونَ الَّذِينَ تُسَدُّ بِهِمُ الثُّغُور،ُ وَتُتَّقَى بِهِمُ الْمَكَارِهُ، فَيَمُوتُ أَحَدُهُمْ وَحَاجَتُهُ فِي نَفْسِهِ لَا يَسْتَطِيعُ لَهَا قَضَاءً، فَتَأْتِيهِمُ الْمَلَائِكَةُ فَيَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ، فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ»،  وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: « كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَأْتِي قُبُورَ الشُّهَدَاءِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ حَوْلٍ، فَيَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ»، وَكَذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ، وَذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- يَأْتِي الشُّهَدَاءَ، فَإِذَا أَتَى فُرْضَةَ الشِّعْبِ يَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ. ثُمَّ كَانَ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- يَفْعَلُهُ، وَكَانَ عُمَرُ بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ يَفْعَلُهُ، وَكَانَ عُثْمَانُ بَعْدَ عُمَرَ يَفْعَلُهُ.

وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيّ- رَحِمَهُ اللَّهُ-: بِمَا صَبَرْتُمْ عَنْ فُضُولِ الدُّنْيَا. وَقِيلَ: بِمَا صَبَرْتُمْ عَلَى مُلَازَمَةِ الطَّاعَةِ، وَمُفَارَقَةِ الْمَعْصِيَة، قَالَ مَعْنَاهُ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ. وقال ابْنُ زَيْدٍ : بِمَا صَبَرْتُمْ عَمَّا تُحِبُّونَهُ إِذَا فَقَدْتُمُوهُ. وَيَحْتَمِلُ سَابِعًا بِمَا صَبَرْتُمْ عَنِ اتِّبَاعِ الشَّهَوَاتِ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْن- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- أَنَّهُمَا قَالَا: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يُنَادِي مُنَادٍ: لِيَقُمْ أَهْلُ الصَّبْرِ؛ فَيَقُومُ نَاسٌ مِنَ النَّاسِ فَيُقَالُ لَهُمُ: انْطَلِقُوا إِلَى الْجَنَّةِ فَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ فَيَقُولُونَ: إِلَى أَيْنَ؟ فَيَقُولُونَ: إِلَى الْجَنَّةِ، قَالُوا: قَبْلَ الْحِسَابِ؟ قَالُوا: نَعَمْ! فَيَقُولُونَ: نَحْنُ أَهْلُ الصَّبْرِ".

فَيَقُولُونَ: مَنْ أَنْتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: مَنْ أَنْتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: نَحْنُ أَهْلُ الصَّبْرِ.

"فَيَقُولُونَ: مَنْ أَنْتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: نَحْنُ أَهْلُ الصَّبْرِ، قَالُوا: وَمَا كَانَ صَبْرُكُمْ؟ قَالُوا: صَبَرْنَا أَنْفُسَنَا".

صبَّرنا.

"قَالُوا: صَبَّرْنَا أَنْفُسَنَا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، وَصَبَرْنَاهَا عَنْ مَعَاصِي اللَّهِ وَصَبَرْنَاهَا عَلَى الْبَلَاءِ وَالْمِحَنِ فِي الدُّنْيَا. قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ: فَتَقُولُ لَهُمُ الْمَلَائِكَةُ: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ. وَقَالَ ابْنُ سَلَامٍ  فَتَقُولُ لَهُمُ الْمَلَائِكَةُ: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} أَيْ: نِعْمَ عَاقِبَةُ الدَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ فِيهَا؛ عَمِلْتُمْ فِيهَا مَا أَعْقَبَكُمْ هَذَا الَّذِي أَنْتُمْ فِيهِ؛ فَالْعُقْبَى عَلَى هَذَا اسْمٌ، وَالدَّارُ هِيَ الدُّنْيَا. وَقَالَ أَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ: فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ الْجَنَّةُ عَنِ النَّارِ. وَعَنْهُ: فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ الْجَنَّةُ عَنِ الدُّنْيَا.

قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} [سورة الرعد:25] لَمَّا ذَكَرَ الْمُوفِينَ بِعَهْدِهِ، وَالْمُوَاصِلِينَ لِأَمْرِهِ، وَذَكَرَ مَا لَهُمْ ذَكَرَ عَكْسَهُمْ. نَقْضُ الْمِيثَاقِ: تَرْكُ أَمْرِهِ. وَقِيلَ: إِهْمَالُ عُقُولِهِمْ، فَلَا يَتَدَبَّرُونَ بِهَا لِيَعْرِفُوا اللَّهَ تَعَالَى. {وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} أَيْ: مِنَ الْأَرْحَامِ، وَالْإِيمَانِ بِجَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ. {وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} أَيْ: بِالْكُفْرِ وَارْتِكَابِ الْمَعَاصِي {أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ} أَيِ: الطَّرْدُ وَالْإِبْعَادُ مِنَ الرَّحْمَةِ.

 {وَلَهُمْ سُوءُ الدَّار} أَيْ: سُوءُ الْمُنْقَلَبِ، وَهُوَ جَهَنَّمُ. وَقَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ: وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ! إِنَّهُمُ الْحَرُورِيَّةُ". 

يفسدون في الأرض بقتل المسلمين؛ لأن الحرورية يرون السيف، ويرون الخروج على الأئمة، وهذا من الإفساد في الأرض.

طالب:................

نعم.

"قوله تعالى: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِر} لَمَّا ذَكَرَ عَاقِبَةَ الْمُؤْمِنِ وَعَاقِبَةَ الْمُشْرِكِ بَيَّنَ أَنَّهُ تَعَالَى يَبْسُطُ الرِّزْقَ وَيَقْدِرُ".

الَّذِي الَّذِي.

"بَيَّنَ أَنَّهُ تَعَالَى الَّذِي يَبْسُطُ الرِّزْقَ وَيَقْدِرُ، يَبْسُطُ الرِّزْقَ وَيَقْدِرُ فِي الدُّنْيَا".

ويضيق، يبسط ويضيق، قدر الرزق، يعني: تضييقه، {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [سورة الطلاق:7] يعني ضُيِّق عليه.

"لِأَنَّهَا دَارُ امْتِحَانٍ؛ فَبَسْطُ الرِّزْقِ عَلَى الْكَافِرِ لَا يَدُلُّ عَلَى كَرَامَتِهِ، وَالتَّقْتِيرُ عَلَى بَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَدُلُّ عَلَى إِهَانَتِهِمْ".

أولئك يُتعجل لهم حسناتهم، وهؤلاء يوفى لهم أجرهم كامل يوم القيامة.

"وَيَقْدِرُ أَيْ: يُضَيِّقُ؛ وَمِنْهُ "وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ" أَيْ ضُيِّقَ. وَقِيلَ: يَقْدِرُ يُعْطِى بِقَدْرِ الْكِفَايَةِ".
يعطي.

"يُعْطِي بِقَدْرِ الْكِفَايَة. وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا يَعْنِي مُشْرِكِي مَكَّة، فَرِحُوا بِالدُّنْيَا وَلَمْ يَعْرِفُوا غَيْرَهَا، وَجَهِلُوا مَا عِنْدَ اللَّهِ، وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ. وَفِي الْآيَةِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، التَّقْدِيرُ: وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا. {ومَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ} أَيْ: فِي جَنْبِهَا، {إِلَّا مَتَاعٌ} أَيْ مَتَاعٌ مِنَ الْأَمْتِعَةِ، كَالْقَصْعَةِ وَالسُّكُرُّجَةِ".

السُّكُرُّجَةِ السُّكُرُّجَةِ.

"كَالْقَصْعَةِ وَالسُّكُرُّجَةِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: شَيْءٌ قَلِيلٌ ذَاهِبٌ".

جاء في الحديث الصحيح، في (البخاري): «أن النبي -عليه الصلاة والسلام- ما أكل على خوانٍ ولا سُكرُّجة»، الخوان: أشبه ما يكون بالطاولة وكراسي، والسكرجة: إناء يرتفع عن الأرض، يعني مثل الصواني ذوات الأعمدة وشبهها، النبي -عليه الصلاة والسلام- يأكل فيما هو ملاصق للأرض ولم يأكل على خوان ولا على سكرجة أيضًا -عليه الصلاة والسلام-.

طالب:.................

كونه ما أكل لا يدل على المنع، لكن لا شك أنه هو الأكمل، هديه هو الأكمل -عليه الصلاة والسلام-.

طالب:.......................

نعم.

"وَقَالَ مُجَاهِدٌ: شَيْءٌ قَلِيلٌ ذَاهِبٌ مِنْ مُتَعِ النَّهَارِ إِذَا ارْتَفَعَ؛ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ زَوَالٍ. قال ابْنُ عَبَّاسٍ: زَادٌ كَزَادِ الرَّاعِي".

نعم.