كتاب الإيمان (61)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فيقول الشارح -رَحِمَهُ اللهُ تعالى-: (قوله: فقالوا: يا رسول الله" فيه دليل على أنهم كانوا حين المقابلة مسلمين)؛ لأن الذي يعترف له بالرسالة -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- هو المسلم، (وكذا في قولهم: "كفار مضر"، وفي قولهم: "الله ورسوله أعلم")، يدل على أنهم أسلموا قبل قدومهم إلى النبي -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-.
(قوله: "إلا في الشهر الحرام"، وللأصيلي وكريمة: إلا في شهر الحرام)، "في الشهر الحرام": "الشهر" مجرور، و"الحرام" صفته، يقول: (وللأصيلي وكريمة: إلا في شهر الحرام، وهي رواية مسلم، وهي من إضافة الشيء إلى نفسه: كمسجد الجامع ونساء المؤمنات)، وحينئذٍ نحتاج إلى تقدير، قدروا في مسجد الجامع: مسجد المكان الجامع، وهنا: (إلا في شهر الحرام) هل يمكن أن نقدر: إلا في شهر الله الحرام؛ لئلا نضيف الشيء إلى نفسه؟
طالب: ما يمكن.
ما يمكن لماذا؟
طالب: .......
الصفة للمضاف.
طالب: بيت الله الحرام.
صفة للمضاف، اكتسب التعريف بالإضافة وأضيف.
طالب: .......
شهر الزمن الحرام كمسجد المكان الجامع.
قال: (والمراد بالشهر الحرام الجنس فيشمل الأربعة الحرم)، وهي ثلاثة سرد، والرابع فرد: ذو القعدة وذو الحجة ومحرم ورجب. قال: (ويؤيده رواية قرة عند المؤلف في المغازي بلفظ: إلا في أشهر الحرم).
طالب: .......
نعم، ستأتي.
(ورواية حماد بن زيد عنده في المناقب بلفظ: إلا في كل شهر حرام، وقيل: اللام للعهد)، الأول اللام للجنس فتشمل الأربعة، (وقيل: اللام للعهد) وحينئذٍ ينصرف إلى رجب؛ لأن الأشهر الثلاثة متقاربة، فقد يكون في آخر أحدها وأول الذي يليه، لكن إفراد الشهر يدل على أنه واحد لا يختلط به غيره وهو رجب.
(وقيل: اللام للعهد، والمراد شهر رجب، وفي رواية للبيهقي التصريح به، وكانت مضر تبالغ في تعظيم شهر رجب؛ فلهذا أضيف إليهم في حديث أبي بكرة حيث قال: رجب مضر كما سيأتي، والظاهر أنهم كانوا يخصونه بمزيد التعظيم مع تحريمهم القتال في الأشهر الثلاثة الأخرى، إلا أنهم ربما أنسأوها بخلافه)، يعني (أنسأوها) أخروا التحريم إلى الشهر الذي يلي، (ربما أنسأوها بخلافه، وفيه دليل على تقدم إسلام عبد القيس على قبائل مضر الذين كانوا بينهم وبين المدينة، وكانت مساكن عبد القيس بالبحرين وما والاها من أطراف العراق؛ ولهذا قالوا كما في رواية شعبة عند المؤلف في العلم: وإنا نأتيك من شُقة بعيدة. قال ابن قتيبة: الشُّقة السفر).
يعني للزوم المشقة فيه، فيقال: شُقة المراد به السفر الذي يلزم منه في الغالب المشقة، (وقال الزجاج: هي الغاية التي تُقصد)، (الغاية التي تُقصد) وهم يأتون من شُقة بعيدة، الغاية لها بداية، ولها نهاية، طرفَا الشيء كالطريق مثلاً له بداية، وله غاية، والغاية ما الذي يدخل عليها من الحروف؟
طالب: إلى.
إلى التي لانتهاء الغاية، وهنا يقولون: من شُقة بعيدة، فيدل على أنه الابتداء هذا وليس الانتهاء، (هي الغاية التي تُقصد)، والغاية يناسبها من الحروف إلى التي هي لانتهاء الغاية. (ويدل على سبقهم إلى الإسلام أيضًا ما رواه المصنف في الجمعة من طريق أبي جمرة أيضًا عن ابن عباس قال: إن أول جمعة جمِّعت بعد جمعة في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مسجد عبد القيس بجُواثَى من البحرين)، وهو مكان معروف في الأحساء، وما زال المكان قائمًا، لكنه مسجد مكان صغير، ويرد إليه الناس يصلون فيه، ولا أظنه مسجد فروض، إنما متروك للبركة. هل هنا من أحد من تلك الجهات يعرف عنه شيئًا؟
طالب: أنا جئته، قديمًا يا شيخ.
أنا جئته قديمًا؟
طالب: ما يصلى فيه فروض.
يصلى فيه فروض؟
طالب: لا.
نعم، هذا الذي أراه، أنا جئته قبل عشرين سنة مثل صندقة ومساحته صغيرة، وكأنه متروك للصلاة، ما تُرك للصلاة.
طالب: البناء قديم يا شيخ .......
طالب: طين طين.
ما هو ببناء، مثل ما تقول: صبرة وأسورة قصيرة بعد ليست بطويلة.
طالب: رُمِّم الآن.
رُمِّم؟ نعم السياحة ما هي بتاركته، هذا مَعلم ثاني جمعة جمعت في الإسلام، لا شك أن له شأنًا، ولو علم به أهل المشرق أو أهل المغرب، شيئًا ما، مثل مسجد البيعة ومثل المولد الذي هو مكتبة مكة -نسأل الله العافية- يزاول فيها الشرك من الغلاة.
طالب: ....... بالطائف.
نعم، في مساجد أكثر من مسجد في الطائف. لكن هذا له شأن، ثاني جمعة جمعت بعد مسجد النبي -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-، مثل هذه إذا لم تُقم فيها الجماعة ويؤمَن معها أن يكون وسيلة وذريعة إلى الشرك، مثل هذا يُهدم. نعم هيئة السياحة ضد ذلك وبعض من ينتسب إلى التصوف يقفون وراء ذلك، ولكن التوحيد رأس المال، لا بد من حماية جناب التوحيد ولا بد من سد جميع الذرائع الموصلة إلى الشرك.
طالب: لو تُرك يا شيخ من غير تبرك؟
ما يمكن، ما يمكن، انظر مسجد البيعة يسجدون إلى غير القبلة! ومسجد بالعلا رُمم بوادي القرى قالوا: إن الرسول -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- لما جاء من تبوك صلى ركعتين هناك، أقيم مكانه مسجد.
طالب: ومسجد في تبوك يا شيخ .......
المقصود أن مثل هذه الآثار التي هي من وسائل وذرائع الشرك ينبغي أن يُهتم بأمرها وشأنها، وأن توصد جميع المنافذ الموصلة إلى الشرك، وأن يُسد ذلك كله، وأن يُحمى جناب التوحيد.
طالب: .......
هذا لو كان يُصلى فيه ....... ما هو يصلى فيه.
قال: (وجُوَاثَى بضم الجيم وبعد الألف مثلثة مفتوحة، وهي قرية شهيرة لهم، وإنما جمَّعوا بعد رجوع وفدهم إليهم، فدل على أنهم سبقوا جميع القرى إلى الإسلام.
قوله: "بأمرٍ فصلٍ" بالتنوين فيهما لا بالإضافة)، "بأمرٍ فصلٍ"، "فصل" نعت للأمر، (والأمر واحد الأوامر، أي مُرنا بعمل بواسطة افعلوا)، التي هي صيغة الأمر الصريح، أو آمركم بكذا التي هي التعبير عن الأمر. (بواسطة افعلوا، ولهذا قال الراوي: "أمرهم"، وفي رواية حماد بن زيد وغيره عند المؤلف قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «آمركم»)؛ لأن صيغة افعلوا هي صيغة الأمر الصريحة، ولا تحتمل غيره إلا المعاني التي ذُكرت للأمر، أنه قد يكون لغير اللزوم، وقد يكون لمعانٍ كثيرة كما هو مبين في الأصول وأيضًا البلاغة. أما «آمركم» هذا تعبير عن الأمر وليست بصيغة أمر، صيغة الأمر تختص بافعل أو المضارع المقترن بلام الأمر.
(وله عن أبي التياح بصيغة افعلوا، والفصل بمعنى الفاصل كالعدل بمعنى العادل، أي بفصل بين الحق والباطل أو بمعنى المفصَّل أي المبين المكشوف؛ حكاه الطيبي. وقال الخطابي: الفصل البيِّن وقيل: المحكَم)، (الفصل البين) نعم الأمر الفصل الواضح الذي لا يحتمل معنى آخر.
(قوله: "نُخبِرُ به" بالرفع على الصفة لأمر)، "لأمرٍ فصلٍ نخبرُ به" (بالرفع على الصفة لأمر)، "فمُرنا بأمرٍ فصلٍ" هو مجرور، وتكون الجملة "نخبرُ به" في محل جر مرفوعة؛ لأنه فعل مضارع مجرد عن العوامل يرفع، لكن محل الجملة الجر صفة لأمر. (وكذا قوله: «وندخلُ»)، "فمرنا بأمر فصل نخبر به من وراءه وندخل به الجنة". (وكذا قوله: «وندخلُ»، ويروى بالجزم فيهما)، "مُرنا... نخبرْ" جواب الطلب، وكذلك: "ندخلْ" معطوف عليه. أو يكون جواب شرط مقدر: إن تُخبرنا نخبرْ وندخلْ، (على أنه جواب الأمر، وسقطت الواو من "وندخل" في بعض الروايات فيُرفَع "نخبر" ويُجزَم "ندخل")، (يُرفَع "نخبر" ويُجزَم "ندخل")؛ لأن الجواب جواب الطلب: مُرنا لِنَدخل، وإن كان إخبارهم وتبليغهم ما يأمرهم به النبي -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- امتثال: «بلغوا عني»، «ليبلغ الشاهد الغائب»، فالجواب الحقيقي للأمر وامتثال الأمر بما في ذلك الإخبار: "ندخلْ به الجنة" هذا غاية.
(قال ابن أبي جمرة)، وهذا ذكرناه مرارًا صاحب المختصر وبدء الغاية، مختصر البخاري ذكرناه في الدرس الماضي، وشرحه بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما لها وما عليها، شرح فيه فوائد، وفيه بسط لبعض المسائل، لكنه لا يخلو من مخالفة عقدية، رجل صوفي. (قال ابن أبي جمرة: فيه دليل على إبداء العذر عند العجز عن توفية الحق واجبًا أو مندوبًا)، (فيه دليل على إبداء العذر عند العجز) "بيننا وبينك هذا الحي من مضر" لا يستطيعون القدوم إليه في كل وقت. (عن توفية الحق واجبًا أو مندوبًا، وعلى أنه يُبدأ بالسؤال عن الأهم، وعلى أن الأعمال الصالحة تُدخل الجنة إذا قُبلت)، {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 32]، مع أن أصل الدخول إنما يكون برحمة الله -جَلَّ وعَلا-، أصل الدخول: «لن يدخل أحدًا منكم عملُه الجنة»، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته». لكن منازل الجنة تُستحق بالأعمال.
(وعلى أن الأعمال الصالحة تُدخل الجنة إذا قُبلت، وقبولها يقع برحمة الله كما تقدم)، وهذا جواب ثانٍ عن الاختلاف بين {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ} يعني بسبب ما كنتم، وبين «لن يدخل أحدًا منكم عمله الجنة». الذي يُدخل العمل المقبول، والقبول برحمة الله. وما الفرق بين القولين؟ القول الثاني العمل أكثر في التأثير في دخول الجنة، له أثر في دخول الجنة أكثر من الأول. الأول الدخول كله لا أثر لشيء غير رحمة أرحم الراحمين، ثم إذا دخل استحق المنازل بالعمل. والثاني لا، الدخول بسبب العمل المشروط بالقبول، والقبول بالرحمة. فصار الدخول الأصل فيه العمل، وعلى القول الأول الدخول الأصل فيه الرحمة.
(قوله: "فأمرهم بأربع" أي خصال أو جمل؛ لقولهم: حدِّثنا بجمل من الأمر، وهي رواية قرة عند المؤلف في المغازي، قال القرطبي: قيل إن أول الأربع المأمور بها إقام الصلاة)، (إقام الصلاة) طيب والشهادتين؟ كم عددها في الحديث؟ "«آمركم بأربع»، فأمرهم بأربع ونهاهم عن أربع، أمرهم بالإيمان بالله وحده، ثم قال: «أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟»، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان وأن تعطوا من المغنم الخمس»"، أمرهم بالإيمان بالله وحده، ثم فصل: «شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وأن تعطوا الخمس»، كم؟
طالب: .......
شهادة أن لا إله إلا الله -محمد رسول الله تبع-، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تعطوا الخمس. كيف يأمرهم بأربع وهي خمس؟ أولاً هذه الخمس كلها فروع عن المأمور به الأول، أمرهم بالإيمان بالله وحده ثم فصل. أمرهم بالإيمان بالله وحده، نعتبر هذا واحدًا وبقية الأربع ما جاءت أو ما نُقلت؟ أو نقول: إن التفصيل داخل في العدد المجمل، ثم نحتاج إلى جواب عن كونها خمسًا؟ فيه إشكال أم ما فيه إشكال. إن نظرنا إلى الإجمال فهو واحد، وإن نظرنا إلى التفصيل فهي خمسة، وقد أمرهم بأربعة؟
يقول الشارح -رَحِمَهُ اللهُ تعالى-: (قيل: إن أول الأربع المأمور بها إقام الصلاة، وإنما ذكر الشهادتين؛ تبركًا بهما كما قيل في قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41]، وإلى هذا نحا الطيبي فقال: عادة البلغاء أن الكلام إذا كان منصوبًا لغرض جعلوا سياقه له وطرحوا ما عداه، وهنا لم يكن الغرض في الإيراد ذِكر الشهادتين؛ لأن القوم كانوا مؤمنين مقرِّين بكلمتي الشهادة)، يعني مثل قوله -جَلَّ وعَلا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا} [النساء: 136]، أمرهم بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله من أجل أن يثبتوا عليها، (مقرين بكلمتي الشهادة، ولكن ربما كانوا يظنون أن الإيمان مقصور عليهما كما كان الأمر في صدر الإسلام)، يعني قبل الشرائع.
(قال: فلهذا لم يعد الشهادتين في الأوامر، قيل: ولا يرد على هذا الإتيان بحرف العطف فيحتاج إلى تقدير)، آمركم بكذا وكذا وكذا... إلى أن عد الخمس. ألا يمكن أن يقول: إنه أمرهم بأربعة فذكر واحدة؟ أمرهم بالإيمان بالله وحده، هذه الأولى، ثم بين لهم المراد بالإيمان بالله وحده بالأقسام، وثلاث مطوية إنما بُينت في نصوص أخرى؛ لأنه لا يلزم البيان في كل مناسبة.
طالب: .......
علمهم الشهادتين.
طالب: ....... الأصل في الشهادة النطق، علمهم ما بعد ذلك.
وعلمهم الشهادتين، هو علمهم أمرهم بالإيمان بالله وحده: «أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟» ثم فصَّل لهم ما ذكر من الخمس.
طالب: .......
لكن ظاهر السياق ما المأمور به؟
طالب: .......
الإيمان بالله وحده، ثم بيَّن لهم وفصَّل لهم هذا الإيمان.
طالب: الجملة الأخيرة أليست من الأوامر؟
ماذا؟
طالب: «احْفَظُوهُنَّ وَأَخْبِرُوا بِهِنَّ مَنْ وَرَاءَكُمْ».
«آمركم بأربع».
طالب: الإيمان بالله وحده، وأن تعطوا الخمس، واحفظوهن، وأخبروا بهن من وراءكم.
طالب: .......
لا، الإشكال في اختصار الحديث، وهذا معروف ومجوز عند أهل العلم، إذا روى بقيته في موضع آخر، أو رواه من تقوم الحجة الملزمة بروايته، أكثر الحديث معروف عند أهل العلم.
طالب: .......
(وقال القاضي أبو بكر بن العربي: لولا وجود حرف العطف لقلنا: إن ذكر الشهادتين ورد على سبيل التصدير، لكن يمكن أن يقرأ قوله: «وإقامِ الصلاة» بالخفض، فيكون عطفًا على قوله: "أمرهم بالإيمانِ")، ومع ذلك يكون العدد كم؟
طالب: خمس.
خمس، يكون العدد خمسًا، ولا يزال الإشكال.
(لكن يمكن أن يقرأ قوله: «وإقامِ الصلاة» بالخفض فيكون عطفًا على قوله: "أمرهم بالإيمانِ" والتقدير: أمرهم بالإيمان مصدرًا به وبشرطه من الشهادتين، وأمرهم بإقام الصلاة... إلى آخره. قال: ويؤيد هذا حذفهما في رواية المصنف في الأدب من طريق أبي التَّياح عن أبي جمرة، ولفظه: «أربع وأربع أقيموا الصلاة» إلى آخره)، يعني ما أمرهم بالشهادتين.
(فإن قيل: ظاهر ما ترجم به المصنف من أن أداء الخمس من الإيمان يقتضي إدخاله مع باقي الخصال في تفسير الإيمان)، «أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟»، فذكر في تفسير: «وأن تؤدوا خمس ما غنتم». (من أن أداء الخمس من الإيمان يقتضي إدخاله مع باقي الخصال في تفسير الإيمان والتقدير المذكور يخالفه.
أجاب ابن رُشيد بأن المطابقة تحصل من جهة أخرى، وهي أنهم سألوا عن الأعمال التي يَدخلون بها الجنة، وأجيبوا بأشياء منها أداء الخمس، والأعمال التي تُدخل الجنة هي أعمال الإيمان، فيكون أداء الخمس من الإيمان بهذا التقرير. فإن قيل: فكيف قال في رواية حماد بن زيد عن أبي جمرة: «آمركم بأربع: الإيمان بالله وحده، وشهادة أن لا إله إلا الله» وعقد واحدة، كذا للمؤلف في المغازي، وله في فرض الخمس: وعقد بيده، فدل على أن الشهادة إحدى الأربع)، ما دام عد واحدة هذا نص في كونها الأولى.
(وأما ما وقع عنده في الزكاة من هذا الوجه من زيادة الواو في قوله: «وشهادة أن لا إله إلا الله» فهي زيادة شاذة لم يُتابِع عليها حجاجَ بن منهال أحدٌ. والمراد بقوله: «شهادة أن لا إله إلا الله» أي وأن محمدًا رسول الله كما صرح به في رواية عباد بن عباد في أوائل المواقيت، ولفظه: «آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع، الإيمان بالله» ثم فسّرها لهم: «شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله» الحديثَ. والاقتصار على شهادة أن لا إله إلا الله على إرادة الشهادتين معًا؛ لكونها صارت عَلمًا على ذلك كما تقدم تقريره في باب زيادة الإيمان).
نعم قد يقتصر الإنسان على جملة من بين الجمل؛ لأنها صارت كالعَلم على الحديث، كما تُختصر الأحاديث ويعبر عنها، حديث «إنما الأعمال بالنيات» مثلاً هل يُقصد به فقط هذه الجملة أو يُقصد جميع الحديث؟ جميع الحديث.
طالب: .......
أين؟
طالب: .......
لا لا لا، اختلاف الروايات تدل على أن هذا من تصرف الرواة حتى عند المؤلف.
طالب: .......
ماذا؟
طالب: جميع الروايات التي وردت ما .......
لماذا ما حصل؟
طالب: ما حلت الإشكال .......
نعم، ما حلت الإشكال، لكن بقية الأربع لعلها حُملت عنه -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- وأديت في أحاديث أخرى فلم يرَ الراوي الضرورة إلى ذكرها. ظاهر اللفظ واللفظ صريح، الحديث صريح في أن الخمس تفسير للإيمان بالله وحده، والإيمان بالله وحده هو الأمر الأول.
(وهذا أيضًا يدل على أنه عد الشهادتين من الأربع؛ لأنه أعاد الضمير في قوله: "ثم فسرها" مؤنثًا فيعود على الأربع، ولو أراد تفسير الإيمان لأعاده مذكرًا، وعلى هذا فيقال: كيف قال «أربع» والمذكورات خمس؟
وقد أجاب عنه القاضي عياض تبعًا لابن بطال بأن الأربع ما عدا أداء الخمس، قال: كأنه أراد إعلامهم بقواعد الإيمان وفروض الأعيان، ثم أعلمهم بما يلزمهم إخراجُه إذا وقع لهم جهادٌ؛ لأنهم كانوا بصدد محاربة كفار مضر، ولم يقصد ذكرها بعينها؛ لأنها مسبَّبة عن الجهاد)، يعني كون المأمور به هو الأصل الذي هو الجهاد، وهذه تابعة لذلك الأصل. (ولم يكن الجهاد إذ ذاك فرض عين، قال: وكذلك لم يذكر الحج لأنه لم يكن فُرض، وقال غيره: قوله: «وأن تعطوا» معطوف على قوله: «بأربع»)، «آمركم بأربع» وبـ«أن تعطوا». الآن كونه أمرهم بالإيمان بالله وحده: «أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟» ثم فسَّره بالخصال الخمس. طالب: ...
نعم.
طالب: ....... والرابع قوله: «وَأَخْبِرُوا بِهِنَّ مَنْ وَرَاءَكُمْ».
نعم، لكن عندك الترجمة ما هي؟ ترجمة البخاري يقول: "بابٌ: أداء الخمس من الإيمان"، فهي داخلة في تفسير الإيمان: «أتدرون ما الإيمان بالله؟» إلى آخره، ثم فسَّره بالخَمس.
(وقال غيره: قوله: «وأن تعطوا» معطوف على قوله «بأربع» أي: آمركم بأربع، وبأن تعطوا، ويدل عليه العدول عن سياق الأربع والإتيان بأن والفعل مع توجه الخطاب إليهم. قال ابن التين: لا يمتنع الزيادة إذا حصل الوفاء بوعد الأربع)، أمرهم بأربع وزادهم، والمحظور في النقص، (لا يمتنع الزيادة إذا حصل الوفاء بوعد الأربع. قلت: ويدل على ذلك لفظ رواية مسلم من حديث أبي سعيد الخدري في هذه القصة: «آمركم بأربع، اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، وأقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وصوموا رمضان، وأعطوا الخمس من الغنائم». وقال القاضي أبو بكر بن العربي: ويحتمل أن يقال: إنه عد الصلاة والزكاة واحدةً؛ لأنها قرينتها في كتاب الله، وتكون الرابعة أداء الخمس)، لكن هذا صحيح أم ضعيف؟ ضعيف، (أو أنه لم يعد أداء الخمس؛ لأنه داخل في عموم إيتاء الزكاة، والجامع بينهما أنهما إخراج مال معين في حال دون حال.
وقال البيضاوي: الظاهر أن الأمور الخمسة المذكورة هنا تفسير للإيمان، وهو أحد الأربعة الموعود بذكرها)، هذا ظاهر السياق (الظاهر أن الأمور الخمسة المذكورة هنا تفسير للإيمان وهو أحد الأربعة الموعود بذكرها، والثلاثة الأخر حذفها الراوي اختصارًا، أو نسيانًا)، قد يحذفها اختصارًا إذا لم يتعين عليه روايتها، أما إذا قامت الحجة برواية غيره من الثقات فإنه لا يلزمه الإتيان بها.
(كذا قال، وما ذكر أنه الظاهر لعله بحسب ما ظهر له، وإلا فالظاهر من السياق أن الشهادة أحد الأربع؛ لقوله: وعقد واحدةً، وكأن القاضي أراد أن يرفع الإشكال من كون الإيمان واحدًا والموعود بذكره أربعًا، وقد أجيب عن ذلك بأنه باعتبار أجزائه المفصلة أربع، وهو في حد ذاته واحد، والمعنى أنه اسم جامع للخصال الأربع التي ذكر أنه يأمرهم بها ثم فسَّرها، فهو واحد بالنوع، متعدد بحسب وظائفه، كما أن المنهي عنه -وهو الانتباذ فيما يسرع إليه الإسكار- واحد بالنوع متعدد بحسب أوعيته، والحكمة في الإجمال بالعدد قبل التفسير)، إذا ذُكر العدد المجمل ثم فُسّر: «اجتنبوا السبع الموبقات» لماذا ما قال: اجتنبوا الموبقات، وعدَّها سبعًا؟ دليل على الضبط والإتقان، وأن الإنسان إذا حفظها وذكرها أو استرجعها يعدها، فإن تخلف منها واحدة.
أحيانًا إذا أراد أن يعد، أنت الآن لما تقول للطالب: عد لي أركان الصلاة؟ هو يعد لك سبعة ثمانية عشرة، ويقف، ولا عنده مشكلة، ولا يمكن أن يراجع نفسه ويعصر ذهنه ليأتي بالباقي، لكن لما تقول له: عد لي أركان الصلاة الأربعة عشر؟ لن يسلم الورقة ورقة الإجابة إلا بعد أن يعجز عنها تمامًا، لكن لما تقول له: عد لي أركان الصلاة؟ سيعد لك ما تيسر ويظنها انتهت.
(أن تَتشوف النفس إلى التفصيل ثم تسكن إليه وأن يحصل حفظها للسامع، فإذا نسي شيئًا من تفاصيلها طالَب نفسه بالعدد)، واحد من الأولاد يذاكر في الفقه في الزاد قلت له: كم المعتدات؟ صاحب الزاد قال: المعتدات ست، كم المعتدات؟ قال: ثنتين، قلت له: المؤلف يقول المعتدات ست؟ فحاول أن يعصر ذهنه ويجمعهن، لكن لو تقول: كم المعتدات؟ ما همه العدد، فيأتي بما يتيسر، ويترك الباقي على ظنه أنها تمت. مثل ما نقول في أركان الصلاة، لو تقول: عدِّد أركان الصلاة؟ جاء لك بعشرة أو دون وظن أنها انتهت؛ لأنه ما فيه ما ينبِّهه على أنه باقي شيء، لكن لما تقول: الأربعة عشر؟ فلن يتعدى إلا إذا عجز.
طالب: .......
الوفد؟
طالب: نعم.
لا، قبل.
طالب: .......
لا، الظاهر أنهم قبل.
طالب: .......
كيف؟
طالب: .......
والله، أنا ما زلت أقول: إنه ما أخبرهم إلا بواحدة، وما ذُكر تفصيل لهذه الواحدة، إجمال ثم تفصيل.
طالب: .......
لا، من التفسير الخمس، الخُمس من تفسير الإيمان.
طالب: .......
ولذلك الترجمة، ترجمة البخاري: "بابٌ: أداء الخمس من الإيمان"، ما هو بقسيم، قسم من الإيمان.
طالب: .......
يعني على ما سبق في الفرق بين الإيمان والإسلام؛ لأنه فسّر الإسلام في حديث جبريل بهذه الأمور.
(فإذا نسي شيئًا من تفاصيلها طالَب نفسه بالعدد، فإذا لم يستوفِ العدد الذي في حفظه علم أنه قد فاته بعض ما سمع، وما ذكره القاضي عياض من أن السبب في كونه لم يذكر الحج في الحديث؛ لأنه لم يكن فُرض هو المعتمد، وقد قدمنا الدليل على قِدم إسلامهم، لكن جزم القاضي بأن قدومهم كان في سنة ثمان قبل فتح مكة تَبِع فيه الواقدي، وليس بجيد؛ لأن فرض الحج كان سنة ست على الأصح).
هذا عنده، بل هو قول الأكثر أنه سنة ست، لكن المرجح عند جمع من أهل التحقيق أنه سنة تسع كما بيَّن ذلك البخاري فيما سيأتي، وابن القيم وضَّح أكثر. (كما سنذكره في موضعه إن شاء الله، ولكن القاضي يختار أن فَرض الحج كان سنة تسع حتى لا يرد على مذهبه أنه على الفور. انتهى)، (حتى لا يرد على مذهبه أنه على الفور)، فكيف يُفرض سنة ست والنبي ما حج إلا سنة تسع -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-؟ وكونه فُرض سنة تسع، والنبي -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- ما حج إلا سنة عشر قد يستدل به من يقول: إنه ليس على الفور، وإن قال: إنه فرض سنة تسع. لكن النبي -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- منعه من الحج سنة تسع..
طالب: .......
لا.
طالب: .......
لا، عراة، يطوفون عراة، طواف العراة، كان هذا يمنع. الأمر الثاني مسألة النسي، حجة أبي بكر سنة تسع كانت في القعدة، ما كانت في ذي الحجة كما هو مقرر. وفي حجته -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-: «إن الزمان استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض» فوقعت حجته في وقتها -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-.
(وقد احتج الشافعي لكونه على التراخي بأن فرض الحج كان بعد الهجرة، وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان قادرًا على الحج في سنة ثمانٍ، وفي سنة تسع، ولم يحج إلا في سنة عشر. وأما قول من قال: إنه ترك ذكر الحج؛ لكونه على التراخي فليس بجيد؛ لأن كونه على التراخي لا يمنع من الأمر به، وكذا قول من قال: إنما تركه؛ لشهرته عندهم ليس بقوي؛ لأنه عند غيرهم ممن ذكره لهم أشهر منه عندهم، وكذا قول من قال: إن ترك ذكره لأنهم لم يكن لهم إليه سبيل من أجل كفار مضر ليس بمستقيم؛ لأنه لا يلزم من عدم الاستطاعة في الحال ترك الإخبار به ليُعمل به عند الإمكان كما في الآية)، يعني نظير ذلك ما يطالَب به من حذف بعض الأمور التي لا توجد عندنا من المقررات، مثل العتق والرق وما يتعلق بذلك، يقولون: خلاص ليس هناك رقيق، فلماذا نكلف أنفسنا بدراسته؟ يحذف منه؟ ما هو بصحيح هذا، هذا ليس بصحيح.
(لم يكن لهم إليه سبيل من أجل كفار مضر ليس بمستقيم؛ لأنه لا يلزم من عدم الاستطاعة في الحال ترك الإخبار به ليُعمل به عند الإمكان كما في الآية، بل دعوى أنهم كانوا لا سبيل لهم إلى الحج ممنوعة؛ لأن الحج يقع في الأشهر الحرم، وقد ذكروا أنهم كانوا يأمنون فيها).
إلى وقت قريب، يعني إلى توحيد المملكة على يد الملك عبد العزيز والناس على خوف، في طريق الحج على خوف. سمعت مقابلة مع شيخ من شيوخ الأحساء توفي -رَحِمَهُ اللهُ- قال: إننا لا نستطيع الحج إلا عن طريق البحر، الصحاري فيها قطاع طرق، ما نستطيع أن نمر من نجد إلى الحجاز، صعب، فيها قطاع طرق، ولا نستطيع إلا عن طريق البحر، نروح للبحرين ونركب عن طريق البحر إلى جدة. يقول: ذهبنا إلى البحرين وإذا العدد غير كافٍ، قالوا: ما نقدر أن نخرج لكم الباخرة، لكن روحوا بومباي بالهند وحجوا معهم!
طالب: جهاد يا شيخ.
وأي جهاد، يمكن ستة أشهر. وقد حصل قبل خمس سنوات شخص صائم يوم عرفة في بيته عند أولاده، ويرى انصراف الناس بالتليفزيون فبكى، فقال له ولده: ما الذي يبكيك يا أبت؟ قال: الناس حجوا وأنا قعدت، قال: اركب، يفرش له بالسيارة وينام وذهب به إلى عرفة قبل طلوع الفجر، وحج مع الناس.
طالب: الله أكبر.
وابن جبير رحلة الحج سنتان وثلاثة أشهر، يقول: ركبنا من سواحل الشام إلى الأندلس ستة أشهر مع الرياح ومع هذه ريح تردهم وهذه ريح تدفعهم، ستة أشهر، يقول: ولما شارفنا على الأندلس جاءت ريح عاتية فردتنا إلى الشام! وابن بطوطة يقول: خرجنا من طنجا ومشينا عشرة أيام مات القاضي، ورجعنا ندفنه بطنجا عشرة أيام، ثم رجعنا إلى مكاننا الثاني راح شهر ، أما الآن فقد تيسرت الأمور، ومع ذلك مع المشقة الشديدة وطول الوقت القلوب مرتاحة، مبسوطين في حلهم وترحالهم مع أن الوسائل شاقة، ويؤلفون ويتهجدون ومرتاحين مرتاحة قلوبهم. لكن الآن الرحلة ساعة أو ساعة وربع، إذا تأخرت الرحلة ربع ساعة المريض عليه خطر، كل شيء يرتفع، ولو وقف قدامه في سلم الطائرة واحد وتأخر انظر لوضعه!
وأنت انظر وضع الناس عند الإشارات، تريد أن تلف يمينًا وواحد يقف قدامك ماذا تفعل؟ فتزعج الناس بالمنبه، ومن المشاكل التي حصلت، ومع الأسف أنها حصلت بين شخصين واحد عمره 45 وواحد 50، واحد طبيب وواحد محامٍ الظاهر أو ما أدري أيش، ووقف هذا قدام ذا، ونزل الثاني يضربه بالعقال، وتشاجروا بين الناس! هل هذه حياة ذي؟
صحيح أن الأجسام ارتاحت، لكن القلوب شقيت، بخلاف السابق، في الأول يؤلفون وهم على البعارين، يؤلفون كتبًا، والطريق شهر، شهران ما فيه إشكال فلمَ التعجل؟ كل شيء في مكانه، كما ما قال واحد يركب من تبوك إلى الرياض على النقل الجماعي، قال: يا أخي تبوك ساعة ونصف وأنت بالرياض؟ قال: لماذا العجلة، أنا على النقل مريح، ومعي كتاب نقرأه، ومتى ما وصلت. الذي ينظر إلى الدنيا والحياة بهذه النظرة لا شك أنه يرتاح، أما الذي دائمًا...
طالب: .......
نعم. هذا يشقى.
طالب: .......
ما فيه شك، والناس الآن ينوون الخير والعبادة، لكن في السابق الأبدان تعبة، والقلوب مرتاحة، والآن العكس تمامًا: الأبدان راحة، وتسافر، والسفر مظنة المشقة، وتترخص، كثير من المسافرين الآن سفرهم أريح من بيوتهم، طائرة لمدة ساعة وإذا وصل إلى فندق وخدم وما أدري أيش، كل شيء ميسر. لكن الكلام على القلوب، الناس يتحملون من قبل. الله المستعان.
طالب: ...
ماذا يقول؟
(بل دعوى أنهم كانوا لا سبيل لهم إلى الحج ممنوعة؛ لأن الحج يقع في الأشهر الحرم، وقد ذكروا أنهم كانوا يأمنون فيها، لكن يمكن أن يقال: إنه ربما إنما أخبرهم ببعض الأوامر؛ لكونهم سألوه أن يخبرهم بما يدخلون بفعله الجنة، فاقتصر لهم على ما يمكنهم فعله في الحال).
الآن طلاب علم يأتي موسم الحج ويقول: والله تسليم البحث بعد الحج مباشرة، ما أقدر أحج وورائي بحث، هذا طالب علم في كلية شرعية. وأما غيرهم يقولون: والله السنة ربيع، نريد أن نستأنس بهذا الربيع والعام القادم نحج. هذا كلام؟! وسمعت مقابلة قبل سنة لشخص من بادية الشمال عمره 130 سنة، يقول في المقابلة: ما الذي تتمناه بعد هذا العمر الطويل؟ قال: أتمنى أن أحج هذه السنة! قال: يا عم أنت ما أفرضت؟ قال: بل لأكمل مائة حجة! حج تسعًا وتسعين. محمد بن أبي العمر العدني حج من عدن على رجليه سبعين حجة على قدميه، ونحن الحج أربعة أيام، وكأنها رحلة ونزهة، ومع ذلك أشق من نقل الجبال، والله المستعان.
(لكن يمكن أن يقال: إنه أخبرهم ببعض الأوامر؛ لكونهم سألوه أن يخبرهم بما يدخلون بفعله الجنة، فاقتصر لهم على ما يمكنهم فعله في الحال، ولم يقصد إعلامهم بجميع الأحكام التي تجب عليهم فعلاً وتركًا، ويدل على ذلك اقتصاره في المناهي على الانتباذ في الأوعية مع أن في المناهي ما هو أشد في التحريم من الانتباذ، لكن اقتصر عليها؛ لكثرة تعاطيهم لها. وأما ما وقع في كتاب الصيام).
هم لا ينتبذون في الأسقية، إنما ينتبذون في أوعية صلبة، يفسد ويتغير ما فيها ولا يُعلم بأنه تغير. ولماذا لا ينتبذون في الأسقية؟ لأن بلادهم كانت كثيرة الفئران. ثم بعد ذلك نُسخ النهي هذا على ما سيأتي.
(وأما ما وقع في كتاب الصيام من السنن الكبرى للبيهقي من طريق أبي قلابة الرقاشي عن أبي زيد الهروي عن قرة في هذا الحديث من زيادة ذِكر الحج ولفظه: «وتحجوا البيت الحرام» ولم يتعرض لعدد، فهي رواية شاذة. وقد أخرجه الشيخان ومن استخرج عليهما والنسائي وابن خزيمة وابن حبان من طريق قرة، لم يذكر أحد منهم الحج، وأبو قلابة تغير حفظه في آخر أمره، فلعل هذا مما حدَّث به في التغير. وهذا بالنسبة لرواية أبي جمرة، وقد ورد ذكر الحج أيضًا في مسند الإمام أحمد من رواية أبان العطار عن قتادة عن سعيد بن المسيب وعن عكرمة عن ابن عباس في قصة وفد عبد القيس، وعلى تقدير أن يكون ذكر الحج فيه محفوظًا، فيُجمع في الجواب عنه بين الجوابين المتقدمين فيقال: المراد بالأربع ما عدا الشهادتين وأداء الخُمس والله أعلم.
قوله: "ونهاهم عن أربع، عن الحنتم..." في جواب قوله: "وسألوه عن الأشربة"، هو من إطلاق المحل وإرادة الحال)، (هو من إطلاق المحل) وهو الوعاء والظرف، (وإرادة الحال) وهو المشروب (أي ما في الحنتم ونحوه. وصرَّح بالمراد في رواية النسائي من طريق قرة فقال: «وأنهاكم عن أربع، ما ينتبذ في الحنتم» الحديثَ، والحَنْتَم بفتح المهملة وسكون النون وفتح المثناة من فوق هي الجرة، كذا فسَّرها ابن عمر في صحيح مسلم، وله عن أبي هريرة: الحنتم الجرار الخُضر، وروى الحربي في الغريب عن عطاء أنها جِرار كانت تُعمل من طين وشعر ودم. والدُّبَّاء بضم المهملة وتشديد الموحدة والمد هو القرع، قال النووي: والمراد اليابس منه).
هو ما زال في المتاحف يُحتفظ بشيء من ذلك، موجود إلى وقتنا هذا، القرع يؤخذ ما في جوفه ويبقى القشر وقد يُترك معه شيء من اللب، فإذا يبس صار إناءً ووعاءً. (قال النووي: والمراد اليابس منه، وحكى القزاز فيه القصر)، والأصل الدباء بالهمز، (وحكى القزاز) من أئمة اللغة في الجامع، حكى (فيه القصر. والنَّقِير بفتح النون وكسر القاف أصل النخلة يُنقر فيُتخذ منه وعاء)، وما زال الناس يستعملونه في المهراس، في الجريش، يضعون الحب في هذا النقير، ويضربونه بخشبة أعدت لذلك، فيصير ما يسمى بالجريش.
(أصل النخلة يُنقر فيُتخذ منه وعاءً، والمُزَفَّت بالزاي والفاء ما طُلي بالزفت، والمُقَيَّر بالقاف والياء الأخير ما طلي بالقار ويقال له: القير)، هذا الكلام يدل على أن الزفت غير القار، والمعروف والمشهور بين الناس أن الزفت والقار شيء واحد، ما هو بهذا المعروف؟ أن الزفت هو القار، لكن ما جاء في الحديث من المغايرة بينهما وعطف المقير على المزفت يدل على أنه غيره.
(وهو نبت يُحرق إذا يبس تُطلى به السفن وغيرها كما تُطلى بالزفت)، من مشتقات البترول، (قاله صاحب المحكم. وفي مسند أبي داود الطيالسي عن أبي بكرة قال: أما الدباء فإن أهل الطائف كانوا يأخذون القرع فيخرطون فيه العنب ثم يدفنونه حتى يَهدر)، يقذف بالزبد ويغلي (ثم يموت. وأما النقير فإن أهل اليمامة كانوا ينقرون أصل النخلة، ثم ينبذون الرطب والبُسر ثم يدعونه حتى يهدر ثم يموت. وأما الحنتم فجِرار كانت تُحمل إلينا فيها الخمر. وأما المزفت فهذه الأوعية التي فيها الزفت. انتهى، وإسناده حسن. وتفسير الصحابي أولى أن يعتمد عليه من غيره؛ لأنه أعلم بالمراد. ومعنى النهي عن الانتباذ في هذه الأوعية بخصوصها؛ لأنه يُسرع فيها الإسكار).
ولا يُشعَر به، ما تتأثر، الوعاء الصلب مهما تأثر الذي في جوفه ما يُشعر به، بينما اللين لو كان بلاستيك أو جلدًا أو شيئًا ينتفخ، وإذا قوي التغير انتفخ ما في جوفه ولو كان فيه نوع قوة، وأنتم ترون العلب علب المشروبات إذا تركتها في الشمس انتفخت، فضلاً عن علب اللبن وغيرها، لكن علب المشروبات فيها صلابة ومع ذلك من قوة التغير تنتفخ.
(لأنه يسرع فيها الإسكار، فربما شَرب منها من لا يشعر بذلك، ثم ثبتت الرخصة في الانتباذ في كل وعاء مع النهي عن شرب كل مُسكر)، يعني على الإنسان أن يتأكد. (كما سيأتي في كتاب الأشربة، إن شاء الله تعالى.
قوله: «وأخبروا بهن من وراءكم» بفتح «مَن» وهي موصولة، و«وراءكم» يشمل من جاءوا من عندهم، وهذا باعتبار المكان، ويشمل من يحدث لهم من الأولاد وغيرهم، وهذا باعتبار الزمان، فيحتمل إعمالها في المعنيين معًا حقيقةً ومجازًا)، هذا عند من يقول بجواز استعمال اللفظ الواحد في معنييه الحقيقي والمجازي، والجمهور على منع ذلك، والشافعية يقولون به.
(واستنبط منه المصنف الاعتماد على أخبار الآحاد على ما سيأتي في بابه إن شاء الله تعالى)، في أواخر الكتاب؛ لأنه «أخبروا بهن من وراءكم»، وهم آحاد، ليس عددهم يبلغ التواتر.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
طالب: شيخ أحسن الله إليكم، رجل قدم باسم والده في البنك العقاري، واستلم المبلغ ثم توفي
"