شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (094)

 

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

أيها الإخوة والأخوات السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً بكم إلى حلقة جديدة ضمن برنامجكم: شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح، فأهلاً ومرحبًا بكم شيخ عبد الكريم.

حياكم الله وبارك فيكم وفي الإخوة المستمعين.

المقدم: لازلنا في باب فضل من استبرأ لدينه في حديث النعمان بن بشير -رضي الله تعالى عنهما-، أشرتم إلى شيء من معاني ألفاظ الحديث في حلقة مضت، لعلكم تتفضلون باستكمال ما تبقى من ألفاظ هذا الحديث.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ذكرنا شيئًا مما قاله الحافظ ابن رجب في أنواع الشُّبَه، وأنها تختلف بقوة قربها من الحرام وبعدها عنه، ثم قال -رحمه الله تعالى­-: وقد يقع الاشتباه في الشيء من جهة اشتباه وجود أسباب حله وحرمته، كما يشك الإنسان فيه هل هو ملكه أم لا؟ وما يشك في زوال ملكه عنه، وذكرنا مثالاً في كتاب وجدْتَه في مكتبة أحد زملائك، وعليه اسمك، لا تدري هل بعته عليه أو أعرته إياه؟ وهو كذلك لا يدري، فأنت تشك في زوال ملكك عنه، وهو يشك في دخوله في ملكه. يقول الحافظ ابن رجب -رحمه الله تعالى-: وهذا قد يُرجَع فيه إلى الأصل فيُبنَى عليه، الأصل أن الكتاب عليه اسمك، هذا الأصل إنه لك، وقد يُرجَع في كثير منه إلى الظاهر إذا قوي على الأصل، وقد يقع التردد عند تساوي الأمرين. وقد يقع الاشتباه لاختلاط الحلال بالحرام في الأطعمة والأشربة من المائعات وغيرها، قد تكون بعض القرائن أقوى من بعض، يعني كونه عليه اسمك هذه قرينة قوية، لكن لو وُجِد عليه تعليق اشتبه أنه خطك، والكتاب في مكتبة زميلك؟

المقدم: لا، ليست قوية هذه.

هذه قرينة لكنها ضعيفة، تقوى هذه القرائن بحيث تصل إلى حد يغلب على الظن فيكون الظاهر أنه ملكك، وقد تضعف هذه القرائن، والله المستعان.

سائل: مثل -أحسن الله إليك- تعارُض الأصل مع الظاهر في هذه الصورة أو في غيرها هل يُعَد من المشتبهات؟ وما المرجَّح؟

نعم، تعارُض الأصل مع الظاهر عند تساوي الأمرين، يعني إذا كان الكتاب عليه اسمك، الأصل أنه لك، لكن وجوده في مكتبة زميلك، وأيضًا قراءة زميلك فيه، وتعليقه عليه، يعني يدل على أنه يعتقد أنه ملكه، أنه انتقل إليه، وإلا لما تصرف فيه، فمثل هذا يقع فيه التردد على التساوي، وقد يترجح جانبك، وقد يترجح جانبه، ولا شك أن مثل هذا يوقع في الاشتباه.

وقد يقع الاشتباه لاختلاط الحلال بالحرام في الأطعمة والأشربة من المائعات وغيرها من المكيلات والموزونات والنقود، فكل هذه الأنواع من كان عنده فيها علم يدله على حكم الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- فيها فتبعه فهو المصيب، يعني من كان عنده نص يدل على أن هذه حلال أو هذا حرام فتبع النص هذا مصيب، ومن اشتبهت عليه فإن اتقاها واجتنبها فقد فعل الأولى واستبرأ لدينه وعرضه فسَلِم من تبعتها في الدنيا والآخرة، ومن اشتبهت عليه فلم يتوقَّها؛ بل وقع فيها فمثله كمثل راع يرعى حول الحمى، فإنه يوشك أن يواقعه، كما في الحديث، وفي رواية: «ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه» ومعنى هذا أن من وقع في الشبهات كان جديرًا بأن يقع في الحرام بالتدريج؛ لماذا؟ لأنه يسامح نفسه في الوقوع في الأمور المشتبهة، وهذه مرحلة أولى، يستمر في الشبهات، فتدعوه نفسه إلى مواقعة الحرام بعد ذلك؛ ولهذا جاء في رواية: «من خالط الرِّيبة يوشك أن يَجْسُر» يعني يَجْسُر على الوقوع في الحرام الذي لا ريب فيه.

المقدم: من خالط الرِّيْبَة.

«من خالط الرِّيبة يوشك أن يَجْسُر» يعني يَجْسُر على الوقوع في الحرام الذي لا ريب فيه.

ومن هنا كان السلف يحبون أن يجعلوا بينهم وبين الحرام حاجزًا من الحلال، يكون وقاية بينهم وبين الحرام، فإن اضطروا واقعوا ذلك الحلال ولم يتعدوه، عندهم احتياط من الحلال يجعلونه للضرورة، لكن لو ما كان عندهم احتياط من الحلال فاحتاجوا إلى شيء من المكروه تعدَّوا الحلال إلى المكروه، وهكذا تجرُّهم الحاجات والضرورات إلى مواقعة ما هو أعظم من ذلك.

وأما من وقع في المشتبه فإنه لا يبقى له إلا الوقوع في الحرام المحض، فيوشك أن يتجرأ عليه ويَجْسُر.

يقول ابن حجر: وحاصل ما فسر به العلماء الشبهات أربعة أشياء: أحدها تعارُض الأدلة، يعني تكافؤ الأدلة، إذا كانت المسألة ينتابها أدلة تقتضي الإباحة وأدلة تقتضي الحظر فمثل هذا يوقع في الاشتباه.

ثانيها: اختلاف العلماء وهي منتزَعة من الأولى؛ لأن اختلاف العلماء سببه، تعارض الأدلة.

ثالثها: أن المراد بها مسمى المكروه، لا شك أن المكروه برزخ بين الحلال والحرام؛ لأنه لا إثم في ارتكابه، والأجر حاصل باجتنابه، أن المراد به مسمى المكروه؛ لأنه يجتذبه جانبا الفعل والترك.

رابعها: أن المراد بها المباح، المراد بالشبهات المباح، كيف؟ يقول ابن حجر: ولا يمكن قائل هذا أن يحمله على متساوي الطرفين من كل وجه؛ لأن هذا حله بيِّن، المباح حله بيِّن، بل يمكن حمله على ما يكون من قسم خلاف الأولى؛ لأن من يفعل خلاف الأولى ينتقل منه إلى المكروه؛ لأن خلاف الأولى أقل مرتبة من المكروه، ثم إذا احتاج أو اضطر إلى أن يتجاوز ذلك بأن لم يكفه المكروه تجاوزه إلى المحرم، فالمسألة تدريج، بل يمكن حمله على ما يكون من قسم خلاف الأولى، بأن يكون متساوي الطرفين باعتبار ذاته، راجح الفعل أو الترك باعتبار أمر خارج.

ونقل ابن المنيِّر في مناقب شيخه القَبَّاري عنه أنه كان يقول: المكروه عقبة بين العبد والحرام، فمن استكثر من المكروه تطرق إلى الحرام، والمباح عقبة بينه وبين المكروه، فمن استكثر منه تطرق إلى المكروه، وهو منزع حسن، ويؤيده رواية ابن حبان من طريق ذكر الإمام مسلم إسنادها، ولم يسق لفظها فيها من الزيادة: «اجعلوا بينكم وبين الحرام سترًا من الحلال، فمن فعل ذلك استبرأ لدينه وعرضه، ومن أرتع فيه كان كالمرتِع إلى جنب الحمى، يوشك أن يقع فيه».

يقول ابن حجر: والمعنى أن الحلال حيث يخشى أن يؤول فعله مطلقًا إلى مكروه أو محرم ينبغي اجتنابه، كالإكثار مثلاً من الطيبات، فإنه يحوج إلى كثرة الاكتساب الذي يسترسل في الطيبات، ويريد أن يأكل كل ما تقع عليه عينه، ويشرب من جميع ما يراه، ويلبس من أفخر ما يلبسه الناس، ويركب كذلك ويسكن، مثل هذا كيف يحصل على الأموال التي يؤمِّن فيها هذه الأمور؟ لا يستطيع الحصول عليها إلا بواسطة كثرة الاكتساب، وكثرة الاكتساب توقع في أخذ ما لا يُستحَق، أو يفضي إلى بطر النفس، وأقل ما فيه، أقل ما في ذلك يعني اضطر شخص إلى كثرة الاكتساب فاكتسب على الوجوه التي أباحها الله -عز وجل-، وصرف هذه فيما أباح الله -عز وجل-.

يقول: أقل ما فيه الاشتغال عن مواقف العبودية، لا شك أن للمأكول وإن كان حلالاً لا سيما إذا كثر أثرًا في القلب، أثرًا على القلب.

يقول: وأقل ما فيه الاشتغال عن مواقف العبودية، وهذا معلوم بالعادة، مشاهد بالعيان.

يعني تصور شخصًا في بيت مزخرف، وآخرًا في بيت عادي، هل القلب واحد أثناء المثول بين يدي الله -عز وجل-؟ ولذا يحرص كثير من طلاب العلم، وهذا مع الأسف صار همًّا لكثير من الناس، وهذا مما يؤسف له يوجد في بعض طلاب العلم أنه إذا سافر للعبادة، لسفر عبادة مثلاً إلى مكة لعمرة أو حج، أو سافر إلى المدينة لزيارة المسجد النبوي والتعبد هناك يحرص على أن يسكن أفخر الفنادق مثلاً، فمثل هذا في الغالب أن قلبه لا يجتمع، سافر الشخص سفر طاعة ليتعبد، ليخلو، ليبتعد عن مشاكله وأعماله، فمثل هذا إذا سكن في مثل هذه الأماكن التي تشغل قلبه وتلهيه، وإذا كانت الإنبجانية كادت أن تفتن النبي -عليه الصلاة والسلام- وهي فيها كساء مخطط، فكيف بما فوق ذلك مما جعله الناس في بيوتهم وفي المساكن العامة كالفنادق وغيرها، مثل هذه الأمور لا شك أن لها أثر على القلب، ولذا أقول: أقل ما فيه الاشتغال عن مواقف العبودية، وهذا معلوم بالعادة، مشاهد بالعيان، وليس معنى هذا أن الإنسان يضيِّق على نفسه، ويسكن الخرب التي قد تؤول إلى السقوط، وقد يزدريه الناس بسببها، المقصود التوسط في الأمور.

يقول ابن حجر: والذي يظهر لي رجحان الوجه الأول، وهو تعارض الأدلة، والذي يظهر لي رجحان الوجه الأول على ما سأذكره، ولا يبعد أن يكون كل من الأوجه مرادًا، ويختلف ذلك باختلاف الناس، فالعالم الفطن لا يخفى عليه تمييز الحكم، فلا يقع له ذلك إلا في الاستكثار من المباح، يعني العالم تتميز لديه الأحكام ويعرف أن هذا حلال وهذا حرام، ما فيه اشتباه عنده، لا يقع له الاشتباه في هذه العين هل هي حلال أم حرام؟ لكن يأتيه الاشتباه في الاستدراج، يكثر من هذا، أول مرة ثاني ثالث عاشر مائة، ثم يضطر إلى ما وراءه.

يقول: فالعالم الفطن لا يخفى عليه تمييز الحكم، فلا يقع له ذلك إلا في الاستكثار من المباح، أو المكروه كما تقرر قبل، ودونه دون العالم الفطن تقع له الشبهة في جميع ما ذكر، من الأوجه التي ذكرها، الأربعة، بحسب اختلاف الأحوال.

ولا يخفى أن المستكثر من المكروه تصير فيه جرأة على ارتكاب المنهي في الجملة، أو يحمله اعتياده ارتكاب المنهي غير المحرم على ارتكاب المنهي المحرم إذا كان من جنسه، أو يكون ذلك لشبهة فيه، وهو أن من تعاطى ما نهي عنه يصير مظلم القلب لفقدان نور الورع فيقع في الحرام، ولو لم يختر الوقوع فيه.

هذه في غاية الأهمية، أو يكون ذلك لشبهة فيه، وهو أن من تعاطى ما نهي عنه يصير مظلم القلب، إذا كان نور الإيمان يسطع في القلب مثل هذا لا تشتبه عليه مثل هذه الأمور، لكن بكثرة ممارسة المباحات، ثم المكروهات يبدأ القلب يظلم، ولا يدرك مثل هذا إلا من كان قلبه سليمًا نقيًّا، كثير من الناس الذين تورطوا في مسائل الشبهات وتجاوزوها إلى ما فوقها مثل هؤلاء لا يميزون، لو تصورنا النووي -رحمه الله تعالى- لما اقتنى كتاب القانون لابن سينا، كتاب في الطب كتاب علاج، يقول: لما اقتنيت الكتاب أظلم قلبي، وصار لا يحفظ ولا يفهم حتى أخرج الكتاب، لكن كم من كتاب من القانون وما هو فوق القانون وشر من القانون في مكتبات طلاب العلم ولا يدركون مثل هذه الأمور؛ لماذا؟ لأن القلوب كثر عليها الران.

ومما يرجِّح الوجه الأول ما وقع عند المصنف في البيوع من رواية أبي فروة عن الشعبي في هذا الحديث: «فمن ترك ما شُبِّه عليه من الإثم كان لما استبان له أترك، ومن اجترأ على ما يشك فيه من الإثم أوشك أن يواقع ما استبان».

وفي عمدة القاري يقول العيني: وقد اختلف أصحاب الشافعي -رحمه الله تعالى- في ترك الطيب، وترك لبس الناعم، يعني هل هذا مما ينبغي ترك الطيبات؟ لبس الناعم هل ينبغي تركه؟ يقول: فقال الشيخ أبو حامد الإسفرائيني: إن ذلك ليس بطاعة، ترك هذه الأمور، إن ذلك ليس بطاعة، واستدل بقوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [سورة الأعراف 32] وقال الشيخ أبو الطيب الطبري: إنه طاعة، يعني ترك هذه الأمور طاعة، يعني ديانة، من أي وجه والله -سبحانه وتعالى- أباح الطيبات؟ يقول: إنه طاعة، ودليله ما علم من أمر السلف من خشونة العيش.

النبي -عليه الصلاة والسلام- أفضل الخلق، يُرَى الهلال ثم الهلال ثم الهلال ثلاثة أهلة لا يوقَد في بيته نار، ولم يأكل المرقق، ولا رأى شاة سميطًا -عليه الصلاة والسلام-، مع أنه بإمكانه أن تقاد الدنيا كلها بحذافيرها له، فالاقتداء بهم في هذا الباب ديانة، كما قال أبو الطيب الطبري، ويبقى أنه مع تركه لهذه الأمور لا يقول بتحريمها؛ لأن الله أباح الطيبات، يعني فرق بين أن يتركها الشخص مع اعتقاد حلها، خشية أن توقعه فيما ورائها، وبين أن يحرمها على الناس، فالورع شيء، والحكم الشرعي شيء آخر.

المقدم: وهذا ربما يُنقَل عن بعض أئمة السلف -رحمهم الله- في مثل هذا، يعني التضييق على أنفسهم في بعض المباحات، ولم ينقل عنهم التحريم مثل ما ينقل في سيرة الإمام أحمد مثلاً.

نعم هذا هو الواقع، وبعضهم ينقل عنه ضد ذلك، من باب إبانة أن هذا الشيء مباح، قد يفعل يأكل الطيبات، وقد يلبس أفخر الثياب من أجل أن يبين للناس أن هذا مما أباحه الله -عز وجل-؛ لأنه حتى العلماء لو تواطؤوا كلهم على مثل هذه الأمور الخشنة غير الناعمة، لظن بعض العامة أن لبس الناعم حرام.

سائل: لكن يا شيخ -أحسن الله إليك- «إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده»، فهل مثلاً إذا كان الأمر ميسورًا بالنسبة للمرء فتجافى كثير من هذه الملبوسات أو المأكولات الطيبة لأجل التقشف أو الزهد، هل هذا فعلاً يكون مما ذكرتم؟

نعود إلى ما قررناه سابقًا وهو أن التوسط في الأمور هو الأصل، لا يعزف الإنسان بحيث يُزدرَى، وتُظَن به الظنون، ولا يتوغل الإنسان في مزاولة هذه الأمور بحيث تؤثر على قلبه، وتجره إلى ما ورائها.

يقول ابن الصباغ: يختلف ذلك باختلاف أحوال الناس وتفرغهم للعبادة وقصودهم واشتغالهم بالضيق والسعة، وقال الرافعي: هو الصواب، يختلف باختلاف الناس، وأما ما يخرج إلى باب الوسوسة من تجويز الأمر البعيد بعيد جدًّا، فهذا ليس من المشتبهات المطلوب اجتنابها، وقد ذكر العلماء له أمثلة فقالوا: هو ما يقتضيه تجويز أمر بعيد كترك النكاح من نساء بلد كبير، بلد فيه مائة مليون مثلاً تتركه تقول: أنا ما أروح أتزوج من تلك الجهة؛ لماذا؟ لأن واحد من أجدادي تزوج هناك ويُخشَى أنه ترك شيئًا مما يحرم علي.

يقول: كترك نكاح من نساء بلد كبير خوفًا أن يكون له فيها محرم، وترك استعمال ماء في فلاة لجواز عروض النجاسة، أو غسل ثوب مخافة طروء نجاسة عليه لم يشاهدها إلى غير ذلك مما يشبهه، فهذا ليس من الورع، هذا ووسوسة.

يقول القرطبي: الورع في مثل هذا وسوسة شيطانية، إذ ليس فيها من معنى الشبهة شيء، وسبب الوقوع في ذلك عدم العلم بالمقاصد الشرعية، قلت العيني يقول: قلت: من ذلك ما ذكره الشيخ الإمام عبد الله بن يوسف الجويني، والد إمام الحرمين، فحكى عن قوم أنهما لا يلبسون ثيابًا جددًا حتى يغسلوها؛ لما فيها ممن يعاني قصر الثياب ودقها وتجفيفها وإلقائها وهي رطبة على الأرض النجسة، ومباشرتها بما يغلب على الظن نجاسته من غير أن يغسل بعد ذلك، فاشتد نكيره عليهم، وقال: هذه طريقة الخوارج الحرورية أبلاهم الله بالغَلَق في غير موضع القَلَق، وبالتهاون في موضع الاحتياط، وفاعل ذلك معترض على أفعال النبي –صلى الله عليه وسلم- والصحابة والتابعين، فإنهم كانوا يلبسون الثياب الجدد قبل غسلها، وحال الثياب في أعصارهم كحالها في عصرنا، ولو أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بغسلها ما خفي؛ لأنه مما تعم به البلوى، وذكر أيضًا أن قومًا يغسلون أفواههم إذا أكلوا الخبز، إذا أكلوا الخبز غسلوا أفواههم؛ لماذا؟ خوفًا من روث الثيران عند الدياس، فإنها تقيم أيامًا في المداسة، ولا يكاد يخلو طحين عن ذلك، قال الشيخ: وهذا غلو وخروج عن عادة السلف، وما روى أحد من الصحابة والتابعين أو ما رؤي أحد من الصحابة والتابعين أنهم رأوا غسل الفم من ذلك، فإن قيل: كيف قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في التمرة التي وجدها في بيته: «لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها» ودخول الصدقة بيت النبي -عليه الصلاة والسلام- بعيد؛ لأنها كانت محرمة عليه، عنه أن ما توقعه النبي -عليه الصلاة والسلام- لم يكن بعيدًا؛ لأنهم كانوا يأتون بالصدقات إلى المسجد، وتوقع أن يكون صبي أو من لا يعقل أدخل التمرة البيت، فاتقى ذلك لقربه، البيت قريب من المسجد جدًّا.

وأقول: هناك فرق بين من يحصل له مثل هذا الورع وإن كان بعيدًا مرة، وبين من يكون ديدنه ذلك، فرق بين من يكون ديدنه التوقِّي من هذه الأمور التي بعيدة جدًّا، وبين من تحصل له مرة في عمرة ليضرب مثالاً في الورع مثلاً.

الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى- ذكر عن النووي أنه كان يصوم الدهر ولا يجمع بين إدامين، وكان غالب قوته مما يحمله إليه أبوه من نوى، بلد (نوى) ما هو نوى التمر، لا، بلدهم التي يُنسَب إليها.

ذكر السخاوي في ترجمة النووي المفردة يقول: وأما ورعه وخشونة عيشه فإنه كان لا يأكل من فاكهة دمشق؛ لماذا؟ سئل عن ذلك فقال: إنها كثيرة الأوقاف والأملاك لمن هو تحت الحَجْر شرعًا، ولا يجوز التصرف في ذلك إلا على وجه الغبطة والمصلحة، والمعاملة فيها على وجه المساقاة، وفيها اختلاف بين العلماء، ومن جوَّزها قال بشرط المصلحة والغبطة لليتيم والمحجور عليه، والناس لا يفعلونها إلا على جزء من ألف جزء من الثمرة للمالك، فكيف تطيب نفسي؟

وذُكر عنه من ذلك الشيء الكثير، لا شك أن هذا ورع واحتياط من النووي، لكن بعضه قد يدخل في حيز الوسوسة التي أشير إليها سابقًا، لكن من أراد أن يحمل نفسه على العزيمة، ويتوجه همه كله إلى الآخرة مع أنه لا ينسى نصيبه من الدنيا، يزاول منها ما يقيم أوَده، ويحفظ حياته، لا أحد يستطيع منعه من ذلك.

هنا مسألة أيضًا ذكر شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- المال الذي فيه شبهة يجوز أن تُقضَى به الديون، وهذا لا يعني أن الإنسان يقصد ما في كسبه شبهة، أقول: مثل هذا لا يعني أن الإنسان يكون قصده الشبهات لأنها أيسر في الكسب من غيرها، ولا يعني هذا أن الإنسان يقصد ما في كسبه شبهة بهذه النية، يقول: أنا عَلَيَّ ديون لا مانع أني أزاول بعض المعاملات، وإن كان فيها خلاف قوي لأهل العلم.

المقدم: من أجل السداد، من أجل سداد الدين.

من أجل سداد الديون.

المقدم: وإنما المراد...

أقول: لا يعني أن الإنسان يقصد ما في كسبه شبهة بهذه النية، لكن إذا دخل في ماله من غير قصد ما فيه شبهة تخلَّص منه بقضاء الديون، وهو أسهل من إنفاقه على نفسه وعلى ولده، والله المستعان.

الشبهات في هذا الزمان لا يكاد يسلم منها أحد، فالموظف مثلاً أو الأجير الذي لا يؤدي العمل على الوجه المتفق عليه، الموظف الذي لا يؤدي ما اؤتمن عليه على الوجه المطلوب لا شك أن جزءًا من أجره بدون مقابل، يأخذ جزء من أجره بدون مقابل، في مقابل هذا الخلل، يعني إذا كان دوامه.

المقدم: من سبع ونصف إلى اثنين ونصف مثلاً.

كم؟ أربع ساعات ونصف، سبع ساعات، الدوام سبع ساعات، إذا كان يخل بالدوام بمقدار نصف ساعة مثلاً، دخلت الشبهة من هذه الجهة، إذا كان يخل بدوامه ساعة كذلك زادت الشبهة، ساعتين زادت الشبهة، إذا كان يداوم الدوام كاملا ويخل في كيفية الأداء للعمل أيضًا الشبهة تدخل عليه من هنا، ومثل هذا الذي ينبغي أن يصرف في قضاء الديون، والله المستعان.

لكن كثيرًا من الناس يدرك مثل هذه الأمور، ويحس بها، ويعرف أنه مقصِّر، لكن السعي إلى الحل يندر من يسعى إليه، ويندر من يسعى إلى إبراء ذمته، والله المستعان.

وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

المقدم: أحسن الله إليكم ونفع بعلمكم.

أيها الإخوة والأخوات، بهذا أصل وإياكم إلى ختام هذه الحلقة من برنامجكم: شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح. سوف نستكمل -بإذن الله تعالى- ما تبقى من ألفاظ وأحكام هذا الحديث في حلقة قادمة -بإذن الله تعالى-. شكرًا لكم على طيب المتابعة، شكرًا للإخوة الزملاء الذين معنا من طلبة العلم في هذا التسجيل. نلقاكم -بإذن الله تعالى- في الحلقة القادمة. نستودعكم الله.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.