شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (018)

لا شك أن هذه الأسئلة تنم عن عقلٍ راجح، لكن إرادة الله -سبحانه وتعالى- له وإيثاره للدنيا على الآخرة، والفاني على الباقي لا شك أن هذا شيء مقدر عليه لكن باختياره وبإمكانه أن يختار الباقي على الفاني، والأمر يومئذٍ لله.

المقدم: "فقال: للترجمان، قل له: سألتك عن نسبه فذكرتَ أنه فيكم ذو نسب، فكذلك الرسل تُبعَث في نسب قومها، وسألتك هل قال أحد منكم هذا القول؟ فذكرتَ: أن لا، فقلتُ: لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلتُ رجل يتـ...".

يتأسى ويأتسي كلها جاءت في هذا وذاك.

المقدم: لأنه كتب عندنا "يأتسي" هكذا.

ولا فرق بين الروايتين، يأتسي أو يتأسى كلاهما وارد.

المقدم: "يتأسى بقولٍ قيل قبله، وسألتك هل كان في آبائه من ملِك؟ فذكرتَ: أن لا، فقلتُ: لو كان من آبائه من ملِك قلتُ: رجل يطلب مُلْك أبيه، وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فذكرتَ أن لا، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله، وسألتك أشراف الناس اتَّبعوه أم ضعفاؤهم؟ فذكرتَ أن ضعفاءهم اتَّبعوه، وهم أتباع الرسل، وسألتك أيزيدون أم ينقصون؟ فذكرتَ أنهم يزيدون، وكذلك أمر الإيمان حتى يتم، وسألتك أيرتد أحد سخطةً لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فذكرتَ أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب، وسألتك هل يغدر؟ فذكرتَ أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر، وسألتك بما يأمركم؟ فذكرتَ أنه يأمركم أن تعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئًا، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف، فإن كان ما تقول حقًا فسيملك موضع قدمَيَّ هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج لم أكن أظن أنه منكم، فلو أعلم أني أَخْلُص إليه لتجشَّمت لقاءه، ولو كنتُ عنده لغسلتُ عن قدمه."

بعد أن أنهى هرقل الأسئلة التي سألها أبا سفيان عن حاله -عليه الصلاة والسلام-، والإجابات من أبي سفيان عقّب هرقل على هذه الأسئلة واحدًا بعد الآخر، "فقال هرقل للترجمان: قل له" أي لأبي سفيان "سألتك عن نسبه" أشريف هو أم لا؟ "فذكرتَ أنه فيكم ذو" أي صاحب "نسبٍ" أي شريفٍ عظيم، "فكذلك الرسل تبعث في" أشرف "نسب قومها" وجزم به هرقل لِمَا تقرر عنده في الكتب السابقة، "وسألتك هل قال أحد منكم هذا القول؟" وفي نسخةٍ: "قبله" "فذكرتَ: أن لا، فقلتُ: لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلتُ: رجل يأتسي بقولٍ قيل قبله"، يأتسي يقتدي ويتَّبع، وفي رواية: يتأسى.

"وسألتك: هل كان من آبائه من ملك؟ فذكرتَ: أن لا، قلتُ: فلو كان من آبائهم ملك قلتُ: رجل يطلب مُلْك أبيه" بالإفراد، وفي روايةٍ بالجمع "آبائه" فإن قيل: لِمَ قال هرقل في هذين الموضعين "فقلتُ"؟ يعني في السؤال الثاني والثالث "فقلتُ" في السؤال الثاني: "قلتُ فلو كان" في السؤال الأول والرابع، انظر صيغة السؤال والجواب "سألتك عن نسبه فذكرتَ أنه فيكم ذو نسب فكذلك" ما قال: قلت فكذلك، وفي الرابع -على ما سيأتي- ما فيه (قلت)، الثاني والثالث "سألتك: هل قال أحد منكم هذا القول؟ فذكرتَ: أن لا، فقلتُ" "وسألتك هل كان من آبائهم من ملك؟ فذكرتَ: أن لا، قلتُ: فلو كان" فإن قيل: لِمَ قال هرقل في هذين الموضعين: فقلتُ؟ نسب التعقيب له؛ لأنهما مقاما فِكْرٍ ونظر، بخلاف غيرهما من الأسئلة فإنها مقام نقل، بقية الأسئلة، الأسئلة مجموعها عشرة، في هذين الموضعين قال: قلتُ، نسب التعقيب له، الأسئلة الثمانية ما قال: قلتُ؛ لأنه تلقاها من الكتب السابقة نقلاً، في الموضعين السؤال الثاني والثالث قال: قلتُ؛ لأن هذين الموضعين مقام فِكْر ونظر، هذا من تلقاء نفسه جاء بهذا التعقيب، بخلاف غيرهما من الأسئلة فإنها مقام نقل.

"وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فذكرتَ: أن لا، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر" اللام فيه تسمى لام الجحود، لملازمتها النفي، وفائدتها تأكيد النفي {وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ} [سورة الأنفال 33] هذه تسمى لام الجحود، "الكذب على الناس" قبل أن يظهر رسالته "ويكذب على الله" بعد إظهارها.

"وسألتك أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فذكرت: أن ضعفاءهم اتبعوه وهم أتباع الرسول" غالبًا لأنهم أهل الاستكانة، بخلاف أهل الاستكبار المصرِّين على الشقاق بغيًا وحسدًا كأبي جهل، ويؤيد استشهاده على ذلك قوله تعالى: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ} [سورة الشعراء 111] المفسَّر بأنهم الضعفاء على الصحيح.

"وسألتك أيزيدون أم ينقصون؟ فذكرتَ: أنهم يزيدون، وكذلك أمر الإيمان" فإنه لا يزال في زيادة "حتى يتم" بجميع أموره المعتبَرة فيه من صلاةٍ وزكاةٍ وصيامٍ وغيرها، ولهذا نزل في آخر عمره -عليه الصلاة والسلام-: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [سورة المائدة 3].

"وسألتك: أيرتد أحد سخطةً لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فذكرتَ: أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب" القلوب مفعول، وبشاشته فاعل، أي تخالط بشاشةُ الإيمان القلوبَ التي يدخل فيها، وفي رواية: "يخالط بشاشةَ" بالنصبِ، و"القلوبِ" مجرور على الإضافة، والمراد ببشاشة القلوب انشراح الصدور، والفرح والسرور بالإيمان.

"وسألتك هل يغدر؟ فذكرت: أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر" لأنها لا تطلب حظ الدنيا الذي لا يبالي طالبه بالغدر بخلاف من طلب الآخرة، من طلب الآخرة لا يمكن أن يسعى من أجل تحقيقها والسعي إليها بأمرٍ يحرمه الله عليه، لا شك أن ما عند الله لا يُنال بسخطه -كما هو معروف-.

"وسألتك بما يأمركم" "بما يأمركم" بإثبات الألف مع (ما) الاستفهامية وهو قليل، قاله الزركشي وغيره، الأصل الحذف (بِمَ) هذا الكثير الغالب {عَمَّ يَتَسَاءلُونَ} [سورة النبأ 1] ما فيه (عمَّا) يتساءلون؟ الأصل حذف الألف، وإثباتها قليل كما هنا، "فذكرتَ: أنه يأمركم أن تعبدوا الله، ولا تشركوا به شيئًا، وينهاكم عن عبادة الأوثان" جمع وثن وهو الصنم، واستفاده هرقل من قوله: "ولا تشركوا به شيئًا، واتركوا ما يقوله: آباؤكم" لأن مقولهم الأمر بعبادة الأوثان، "ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف" وهذا تقدَّم، ولم يعرِّج هرقل على الدسيسة التي دَسَّها أبو سفيان، يعني قوله: "ونحن منه في مدة ما ندري ما هو صانع فيها؟" لم يعرِّج عليها، لأنها لا رصيد لها من الواقع، وهي أيضًا من عدُو.

وسقط هنا إيراد السؤال العاشر وجوابه، وثبت ذلك في كتاب الجهاد "وسألتك هل قاتلتموه وقاتلكم؟ فزعمت أنه قد فعل، وأن حربكم وحربه تكون دُوَلاً، يُدَال عليكم المَرَّة وتدالون عليه الأخرى، وكذلك الرسل تُبتلى وتكون لها العاقبة"، هذا السؤال العاشر سقط هنا إيراده.

ثم قال هرقل لأبي سفيان: "فإن كان من تقول حقًّا" لأن الخبر يحتمل الصدق والكذب -كما هو معروف- "فسيملك" يعني النبي -صلى الله عليه وسلم- "موضع قدمَيَّ هاتين" يعني أرض ملكه "وقد كنت أعلم أنه خارج" قاله لما عنده من علامات نبوته -عليه الصلاة والسلام- الثابتة في الكتب القديمة، وفي رواية في كتاب التفسير: فإن كان ما تقول حقًّا فإنه نبي وفي الجهاد: "وهذه صفة نبي"، "لم أكن أظن أنه منكم" يعني من قريش، "فلو أني أعلم أني أَخْلُص" أي أصل "إليه لتجشمت" أي لتكلَّفت لقاءه على ما فيه من المشقة، قال ابن بطال: هذا التجشُّم هو الهجرة، وفي مرسل ابن إسحاق عن بعض أهل العلم أن هرقل قال: ويحك، والله إني لأعلم أنه نبي مرسل، ولكني أخاف الروم على نفسي ولولا ذلك لاتبعته، وخفي على هرقل قوله -صلى الله عليه وسلم- الآتي في كتاب النبي -عليه الصلاة والسلام-: «أسلم تسلم» خفي عليه قوله -عليه الصلاة والسلام-: «أسلم تسلم» فلو حمل الجزاء السلامة تسلم، على عمومه في الدارين لَسَلِم، لَسَلِم لو أَسْلَم من جميع المخاوف في الدنيا والآخرة، "ولو كنتُ عنده لغسلتُ عن قدميه"، قال ذلك مبالغةً في الخدمة، وفي رواية: "لغسلتُ عن قدمه"، أو في رواية: "لغسلتُ قدميه" بدون عن، ثم دعا هرقل بكتاب النبي -عليه الصلاة والسلام-.

المقدم: أحسن الله إليكم، عندما قال هنا: سألتك هل كان في آبائه من ملِك؟ هل كانت قريش لا تعتبر عبد المطلب ملكًا في وقتها وليس له إمرة، وبالتالي لا يحتسبون أن النبي -صلى الله عليه وسلم- من سلالة قومٍ كان لهم رأي في قريش؟

العرب في الجاهلية عاشوا فوضى، ليس هناك مُلْك مرتَّب منظَّم كما عند غيرهم من الأمم، فهو في الاصطلاح أو في العرف السياسي سواء كان في القديم أو الحديث لا يسمى مَلِك، سيد وكبير قوم، ليس بملك عرفًا؛ لأنهم يعيشون فوضى، ما اعتُبِر مَلِك.

المقدم: هذه الحادثة كانت في أثناء فترة الصلح؟

نعم، بعد صلح الحديبية سنة ست.

المقدم: ثم حصل بعدها ما حصل من إسلام أبي سفيان -رضي الله عنه- ونقل هذه الحادثة إلى الصحابة؟

نعم، نقلها عنه ابن عباس، نقلها كما هي، وهذا يدل على أمانة الصحابة وثقتهم؛ لأن فيها بعض الأشياء التي لو كانت المسألة بالرأي كان يغطيها أبو سفيان، بل يخفيها ولا يُرَوِّيها للناس؛ لأنها قدح فيه.

المقدم: ونحن نسميه الآن هذا نسميه حديثًا كما تفضلتم قبل قليل؟

نعم، هو حديث؛ لأن فيه وصف النبي -عليه الصلاة والسلام-، والحديث ما أُثِر عن النبي -عليه الصلاة والسلام-، أو ما يُروَى عنه -عليه الصلاة والسلام- من قولٍ أو تقريرٍ أو فعلٍ أو وصف، الوصف من الحديث، ولذا الشمائل قِسْم من أقسام السنَّة.

المقدم: قال: "ثم دعا بكتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي بعث به دِحْيَة إلى عظيم بُصرَى، فدفعه إلى هرقل فقرأه فإذا فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتَّبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين، و{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [سورة آل عمران 64]» قال: قال أبو سفيان: فلما قال ما قال، وفرغ من قراءة الكتاب كَثُر عنده الصَّخَب، وارتفعت الأصوات، وأُخرجنا، فقلت لأصحابي: لقد أَمِرَ أَمْرُ ابن أبي كبشة، إنه يخافه مَلِك بني الأصفر، فما زلت موقنًا أنه سيظهر حتى أدخل الله عليَّ الإسلام."

في تتمة الحديث السابق في قصة هرقل، "ثم دعا" هرقل "بكتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي بَعَث به دِحْيَة"، بكسر الدال وهو فاعل، بَعَث به دِحْيَةُ، وهو ابن خليفة الكَلْبي، صحابي جليل كان من أحسن الناس وجهًا، أسلم قديمًا، ذُكر في الشروح أنه كان يمشي متلثِّمًا لئلا يُفْتَتَن به من جماله، ولذا جاء جبريل -عليه السلام- في صورته.

وفي رواية: "بُعِثَ به مع دِحَيَةَ" أي بعثه -عليه الصلاة والسلام- معه، وكان في آخر سنة ست، بعد أن رجع من الحديبية "إلى عظيم أهل بُصْرَى"، بضم الباء الموحدة مقصورًا مدينة في الشام من أعمال حُوْرَان، أي أميرها الحارث بن أبي شِمْر الغَسَّاني، "فدفعه إلى هرقل فقرأه" هرقلُ بنفسه أو الترجمان بأمره، وفي مرسل محمد بن كعب القرظي عند الواقدي، فدعا الترجمان الذي يقرأ بالعربية "فقرأه فإذا فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم»"، وفي ذلك استحباب تصدير الكُتُب بالبسملة، وإن كان المبعوث إليه كافرًا في جميع مكاتباته -عليه الصلاة والسلام- يَفتتح الكتاب بالبسملة دون الحمدلة، وهذا يدل على أن الرسائل تختلف عن الخطب، وافتتح سليمان -عليه السلام- كتابه إلى بلقيس ببسم الله الرحمن الرحيم كما جاء النص عليه في القرآن الكريم.

"«من محمد عبد الله ورسوله»" وصَف نفسه الشريفة بالعبودية تعريضًا لبطلان قول النصارى في المسيح أنه ابن الله، لأن الرسل مستوون في أنهم عباد الله، وفيه أيضًا الرد على الغلاة الذين غلوا فيه -عليه الصلاة والسلام- ممن ينتسب إلى الإسلام كمن يقول:

يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به

 

سواك عند حلول الحادث العممِ

 

(يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به) أين الله -سبحانه وتعالى-؟! إلى أن قال:

فإن من جودك الدنيا وضرتها

 

ومن علومك علم اللوح والقلمِ

 

ماذا أبقى لله مثل هذا؟! نسأل الله العافية! فالنبي -عليه الصلاة والسلام- أشرف مقاماته العبودية {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ} [سورة الجن 19] {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [سورة الإسراء 14] وهنا قال: "«من محمد عبد الله ورسوله»"، فالوصف بالعبودية رد على الغلاة، والوصف بالرسالة رد على من ينتقصه -عليه الصلاة والسلام-، وفيه استحباب ابتداء الكاتب بنفسه قبل المكتوب إليه، السنة في المكاتبات أن يقال: من فلان إلى فلان، هذه الطريقة المتَّبعة عنده -عليه الصلاة والسلام-، من فلان إلى فلان، فيستحب للكاتب أن يبدأ بنفسه قبل المكتوب إليه، ونص على هذا أهل العلم استنباطًا من مثل هذا الحديث، وإن كان بعضهم يختار البداءة بالأكبر، فإن كان الكاتب أكبر قدَّم اسمه، وإن كان المكتوب إليه أكبر قُدِّم، إلى فلان بن فلان من فلان، عملاً بقوله -عليه الصلاة والسلام-: «كبِّر كبِّر» وأما الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- فكان يبدأ في مكاتباته باسم المكتوب إليه دائمًا، سواء كان صغيرًا أو كبيرًا تواضعًا منه -رحمه الله-، ولا شك أن هذا ثابت عنه -عليه الصلاة والسلام- فالأَولى الاقتداء به مع استصحاب التواضع وهضم النفس، يعني يستحضر الإنسان الاقتداء بالنبي -عليه الصلاة والسلام- ويستحضر أيضًا التواضع وهضم النفس، وأنه ما قدَّم اسمه إلا من أجل الائتساء والاقتداء بالنبي -عليه الصلاة والسلام-، ولو قرن اسمه بوصفٍ يدل على التواضع، وقرن اسم المكتوب إليه الذي أُخِّر اسمه وإن كان كبيرًا بما يدل على رفعة شأنه كما قال النبي -عليه الصلاة والسلام- إلى هرقل عظيم الروم، فقال في الخطاب: "«إلى هرقل عظيم الروم»" أي المعظَّم عندهم، ووصفه بذلك لمصلحة التأليف، ولم يصفه بالإمرة ولا المُلْك، لكونه معزولاً بحكم الإسلام، حكْمًا ليس بمَلِك، وإنما هو عظيم قومه، وذكر المدائني أن القارئ لما قرأ: «من محمد» يعني قدَّم اسمه -عليه الصلاة والسلام- غضب أخو هرقل، واجتذب الكتاب فقال له هرقل: ما لك؟! فقال: لأنه بدأ بنفسه وسمَّاك صاحب الروم، فقال هرقل: إنك لضعيف الرأي، أتريد أن أرمي بكتابٍ قبل أن أعلم ما فيه؟! لئن كان رسول الله إنه لأحق أن يبدأ بنفسه، ولقد صَدَق أنا صاحب الروم، والله مالكي ومالكه. "«سلام»" بالتنكير، وفي رواية: (السلام) وجوَّز أهل العلم على حدٍ سواء، خيَّروا بين التعريف والتنكير في السلام على الحي، ولذا قالوا: ويخير بين تعريفه وتنكيره في سلام على الحي، أما بالنسبة للميت فيُكتفى اللفظ النبوي الوارد: «السلام عليكم دار قومٍ مؤمنين...» إلى آخره، "«على من اتَّبع الهدى»" أي الرشاد على حد قول موسى وهارون لفرعون: {وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} [سورة طـه 47] والمعنى: سَلِم من عذاب الله من أسْلَم، فليس المراد به التحية، وإن كان اللفظ يُشعِر به؛ لأنه لم يُسْلِم، فليس هو ممن اتَّبع الهدى.

"«أما بعد»" بالبناء على الضم، لقطعه عن الإضافة المنْوية لفظًا، وسبق الحديث عنها باختصار في شرح المقدِّمة، وذكر الخلاف في أول من قالها من بين ثمانية أقوال، يجمعها قول الشاعر:

جرى الخلف أما بعد من كان بادئًا
ويعقوب أيوب الصبور وآدم

 

 

بها عدّ أقوال وداود أقربُ
وقس وسحبان وكعب ويعربُ

 

الأقرب أنه داود -عليه السلام-، وأنها فصل الخطاب الذي أوتيه، ويؤتى بها للفصل بين الكلامين، وللانتقال من أسلوبٍ إلى آخر، وتقدم الكلام عليها في شرح المقدمة، والإتيان بها سنة كما تقدم ذكره؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- لزمها في مكاتباته وفي خطبه -عليه الصلاة والسلام-، وينبغي أن يؤتى بها بلفظها "«أما بعد»" ولا تغني الواو عن "«أما»" وبعد، وإن كانت دارجة على ألسنة الناس، الناس يقولون: وبعد، لكن الأصل "«أما بعد»".

المقدم: بعضهم يقول: ثم أما بعد؟

هذه لا داعي لها، (ثم) لا داعي لها إلا إذا أتي بها للانتقال مرةً ثانية إلى أسلوبٍ ثالث، تقول: ثم أما بعد عطفًا على أما بعد الأولى، نعم جاء في بعض نسخ تفسير الطبري العطف بـ(ثم) في الموضع الأول، لكن العبرة بما ثبت عنه -عليه الصلاة والسلام-، ما أُثر عنه ولا نص واحد فيه (ثم أما بعد).

المقدم: في قوله: «الهدى» -عليه الصلاة والسلام- المراد: الإسلام «سلام على من اتبع الهدى»؟

الرشاد، الذي هو الإسلام، نعم، الدين الحق.

المقدم: وبالتالي يُفهم من هذا أنه لا يجوز أن يُسلَّم على غير المسلم؟

نعم ابتداء الكافر بالسلام لا يجوز، السلام المطلق لا يجوز، يقول بعد هذا: «فإني أدعوك بدِعاية الإسلام» بكسر الدال المهملة، وفي رواية: "بداعية الإسلام" أي بالكلمة الداعية إلى الإسلام، وهي شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمد رسول الله، والباء بمعنى (إلى) أي أدعوك إلى الإسلام، «أسلِم» بكسر اللام، «تسلَم» بفتحها، «يؤتك الله أجرك مرتين» بالجزم في الأول على الأمر، وفي الثاني جواب له، والثالث بحذف حرف العلة لالتقاء الساكنين -كما هو معروف-، جواب ثانٍ له أيضًا أو بدل منه، «أسلِم تسلَم» أسلِم فعل أمر مبني على السكون، تسلَم جواب الطلب أو جواب شرط مقدَّر، إن تسلِم تسلَم -كما يقوله بعضهم-، «يؤتك» جواب ثاني أيضًا أو بدل منه، وجاء في كتاب الجهاد على ما سيأتي تكرار أسلِم، أسلِم تسلَم، وأسلِم يؤتك، على ما ستأتي الإشارة إليه قريبًا -إن شاء الله تعالى-.

وإعطاء الأجر مرتين لكونه مؤمنًا بنبيه ثم آمن بمحمدٍ -عليه الصلاة والسلام-، وقد جاء في هذا الحديث الصحيح: «ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين» وذكر منهم: «رجل آمن بنبيه ثم آمن بالنبي -عليه الصلاة والسلام-»، وهذا منهم، أو من جهة أن إسلامه يكون سببًا لإسلام أتباعه، لكن الأول أقرب. وقوله: "«أسلِم تسلَم»" فيه غاية الاختصار، ونهاية الإيجاز والبلاغة، وجمع المعاني مع ما فيه من الجناس الاشتقاقي، وهو أن يرجع اللفظان في الاشتقاق إلى أصلٍ واحد، وفي الجهاد عند المؤلف: «أسلِم تسلَم، وأسلِم يؤتك» بتكرار أسلِم، مع زيادة الواو في الثانية، فيكون الأمر الأول للدخول في الإسلام، والثاني للدوام عليه على حد قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ} [سورة النساء 136] قاله الحافظ ابن حجر: وعورض بأن الآية في حق المنافقين، أي يا أيها الذين آمَنوا نفاقًا آمِنوا إخلاصًا، قاله مجاهد، ومنزلة مجاهد في التفسير معروفة، إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به، عرض التفسير ثلاث مرات على ابن عباس من أوله إلى آخره، وابن عباس -رضي الله عنهما- يقول: نزلت في مؤمني أهل الكتاب، يا أيها الذين آمَنوا يعني بأنبيائهم السابقين آمِنوا بمحمد -عليه الصلاة والسلام-، وهي عند جماعة من المفسرين خطاب للمؤمنين بمحمدٍ -عليه الصلاة والسلام- ويكون المراد بـ(آمِنوا) الثانية دُوْمُوا واثبتوا على إيمانكم، يا أيها الذين آمَنوا أنتم على خير على إيمان لكن اثبتوا على هذا الخير ودوموا عليه، فيكون المراد الاستمرار عليه، ومنهم من يقول: أن المراد بـ(آمِنوا) هنا: ازدادوا من الإيمان، يا أيها الذين آمنوا عندكم أصل الإيمان صحيح، لكن ازدادوا من الإيمان، فالإيمان يقبل الزيادة -كما هو معروف-.

"«فإن توليت»" أي أعرضت عن الإسلام فإن عليك مع إثمك «إثم اليَرِيْسِيْن» بمثنَّاتين تحتيَّتين، جمع يَرِيْس على وزن كَرِيْم، وفي رواية: "«الأريسين»" بقلب المثنَّاة الأولى همزة، وفي أخرى: "«اليريسيين»" بياءين جمع يَرِيْسِيّ، وفي رواية: "«الأريسيين»" والمعنى أنه إذا كان عليه إثم الأتباع بسبب اتباعهم له على استمرار الكفر؛ فلأن يكون عليه إثم نفسه من باب أولى، فإن قلت: هذا معارَض لقوله تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [سورة الأنعام 164] أجيب بأن وزر الإثم لا يتحمَّله غيره، ولكن الفاعل المتسبب والمتلبس بالسيئات يتحمل من جهتين، جهة فعله، وجهة تسببه، المقتدَى به في أي عمل سواء كان عمل خير أو عمل شر، «من سنّ سنةً حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سنّ سنةً سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها» عليه إثمها وإثم من عمل بها، يتحمل إثمه بفعله وإثم غيره بالاقتداء به، ولا شك أن الكبراء والعظماء يقتدَى بهم {إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا} [سورة الأحزاب 67] فلا شك أن عليهم إثم من يقتدي بهم، والأريسيون الأكارون أي الفلاحون أي عليك إثم رعاياك الذين يتبعونك وينقادون لأمرك، ونبه بهم على جميع الرعايا لأنهم الأغلب في رعاياه، والأسرع انقيادًا، فإذا أسلَم أسلَموا، وإذا امتنَع امتنَعوا. وقال أبو عبيد: المراد بالفلاحين أهل مملكته؛ لأن كل من يزرع فهو عند العرب فلاح، سواء كان يلي ذلك بنفسه أم بغيره، فأهل مملكته أهل زراعة، منهم من يتولى الزراعة بيده وبنفسه، ومنهم من يتولاها بماله، فيؤاجِر الناس عليها، وقيل: هم الأجراء، وقيل: العشَّارون، أي أهل المَكس، وقيل: الخدم والخوَل.

"و{يا أهل الكتاب}" معطوفًا على قوله: أدعوك بدعاية الإسلام، وأدعوك بقوله تعالى، أو أتلو عليك، أو أقرأ عليك: {يا أهل الكتاب}، وعلى هذا التقدير فلا تكون زائدةً في التلاوة، تكون خارجة عن التلاوة؛ لأن الواو إنما دخلت على محذوف ولا محذور فيه، وقيل أنه -عليه الصلاة والسلام- لم يرد التلاوة، بل أراد مخاطبتهم بذلك، وحينئذٍ فلا إشكال، وعورِض هذا بأن العلماء استدلوا بهذا الحديث على جواز كتابة الآية والآيتين إلى أرض العدو، ولولا أن المراد الآية لما صح الاستدلال، وهم أقوم وأعرف.

وحُذفَت الواو في بعض الروايات {يا أهل الكتاب} فيكون بيانًا لقوله: بدعاية الإسلام، وقوله: "{يا أهل الكتاب}" يعمّ أهل الكتابين، "{تعالوا إلى كلمةٍ سواء}" أي مستوية بيننا وبينكم لا يختلف فيها القرآن والتوراة والإنجيل، وتفسير الكلمة "{أن لا نعبد إلا الله}"، أي نوحده بالعبادة ونخلص له فيها، هذا القدر الذي هو التوحيد قدر مشترك بين الديانات كلها، الديانات السماوية، «نحن معاشر الأنبياء أولاد علات، ديننا واحد» الأصل واحد، والشرائع مختلفة، "{ولا نشرك به شيئاً}" ولا نجعل غيره شريكًا له في استحقاق العبادة، "{ولا يتخذ بعضنا بعضًا أربابًا من دون الله}" فلا نقول: عزير ابن الله، ولا المسيح ابن الله، ولا نطيع الأحبار فيما أحدثوه من التحريم والتحليل، لما نزل قوله تعالى: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ} [سورة التوبة 31] جاء في الحديث أن عدي بن حاتم قال للنبي -عليه الصلاة والسلام-: ما كنا نعبدهم يا رسول الله، قال: «أليس كانوا يحلون لكم ويحرمون» يحلون لكم يعني الحرام ويحرمون الحلال «فتتبعونهم». قال: نعم. قال: «تلك عبادته»، "{فإن تولوا}" عن التوحيد "{فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون}" أي لزمتكم الحجة فاعترفوا بأنا مسلمون دونكم، أو اعترفوا بأنكم كافرون بما نطقت به الكتب، وتطابقت عليه الرسل، وقد قيل: إنه -صلى الله عليه وسلم- كتب ذلك قبل نزول الآية فوافق لفظه لفظها لَمَّا نزلت؛ لأن الآية نزلت في وفد نجران سنة الوفود سنة تسع، وقصة أبي سفيان قبل ذلك سنة ست، وقيل: بل نزلت في اليهود وجوَّز بعضهم نزولها مرتين، نزلت قبل قصة أبي سفيان، وفي سنة الوفود سنة تسع.