شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (172)

المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام علي عبده محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أيها الإخوة والأخوات، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أهلًا بكم إلى حلقة جديدة ضمن "برنامجكم شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح".

مع بداية هذه الحلقة يسرنا أن نرحب بصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور: عبد الكريم بن عبد الله الخضير، ونشكر له تفضله بشرح أحاديث هذا الكتاب، فأهلًا ومرحبًا بكم فضيلة الدكتور.

حياكم الله، وبارك فيكم وفي الإخوة المستمعين.

المقدم: لا زلنا في حديث أبي موسى -رضي الله عنه- في "باب تعليم الرجل أمته وأهله" كنا عرضنا لموضوع أن أجر المماليك على الضعف من أجر أسيادهم، هذه الإشكالية أجبتم على شيء منها فيما مضى، ولها تعلق بما تبقى من ألفاظ هذا الحديث نبدأ بها -أحسن الله إليكم- لنستكمل الموضوع عنها.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى أهله وصحبه أجمعين.

هذا السؤال الذي أورده الكرماني في الحلقة السابقة يقول: فإن قلت: "فأجر المماليك ضعف أجر السادات" مسألة مفترضة في سيد له مملوك.

المقدم: نعم.

السيد أدَّى حق الله -جل وعلا-، والمملوك أدى حق الله -جل وعلا-، وحق سيده، فهل معنى هذا أن المملوك له ضعف أجر سيده، بناءً على هذا الوعد المذكور في حديث الباب له أجران؟ يقول: قلت: لا محظور في التزام ذلك؛ يعني ما المانع؟ لا محظور في التزام ذلك، أو يكون أجره ضعفه من هذه الجهة، وقد يكون للسيد جهات أُخر يستحق فيها أضعاف أجر العبد، أو المراد ترجيح العبد المؤدي للحقين على العبد المؤدي لأحدهما، يعني عبد في مقابل عبد، هل هذا أجره من أدى حق الله -جلا وعلا-، ولم يؤدِ حق الموالي، له نصف ما للعبد الذي أدى..

المقدم: حقه.

الحقين نعم.

يقول: أو المراد ترجيح العبد المؤدي للحقين على العبد المؤدي لأحدهما، فإن قلت: فعلى هذا يلزم أن يكون الصحابي الذي كان مملوكًا كتابيًّا.

المقدم: ثم آمن.

فهل هذا يلزم أن يكون الصحابي الذي كان مملوكًا كتابيًّا أجره زائد على أجر أكابر الصحابة؛ لأنه له من حقوق كم؟

المقدم: أربعة.

أربعة نعم، أربعة حقوق، وذلك باطل بالإجماع، يعني من باب التقريب بلال له، كم له؟

المقدم: حقان.

أجران، نعم أجران له وسيده أبو بكر أجر واحد.

المقدم: نعم، أبو بكر أجر.

الضيف: ..........

باطل بالإجماع، هذا اللازم باطل بالإجماع، وإن كان الحديث يدل على شيء من هذا، لكن يبقى أن جهات التفضيل متعددة؛ فهذا فاضلٌ من جهة، وذاك فاضلٌ من جهات، يقول: قلت: الإجماع خصصهم، خصص أكابر الصحابة، الإجماع خصصهم، وأخرجهم من ذلك الحكم ويُلتزم ذلك في كل صحابي لا يدل دليلٌ على زيادة أجره على من كان كتابيًّا.

افترض مثلًا "عبد الله بن سلام" كان كتابيًّا فأسلم، له أجران، لكن عموم الصحابة الذين ليس لهم هذا الوصف، يعني إذا قارنا عبد الله بن سلام مثلًا بآحاد الصحابة الذي كانوا على الشرك ثم أسلموا، أو ولدوا في الإسلام يقول: يُلتزم هذا ما المانع؟ ما فيه ما يمنع، وأيضًا بلال له أجران، يفضل آحاد الصحابة الذين ليس لهم من الخصوصيات ما جاءت النصوص به، ويلتزم ذلك في كل صحابيٍ لا يدل دليلٌ على زيادة أجره على من كان كتابيًّا.

أقول أنا: "التفضيل من جهة لا يقتضي التفضيل المطلق"، "التفضيل من جهة لا يقتضي..

المقدم: التفضيل المطلق.

التفضيل المطلق"، مثال ذلك: إبراهيم -عليه الصلاة والسلام وعلى نبينا- أول من يكسى يوم القيامة.

المقدم: وليس معنى ذلك أنه أفضل من محمد.

ومع ذلك لا يقتضي تفضيله على محمد -صلى الله عليه وسلم-، ومن ذلك حديث أبي سعيد عند البخاري، وحديث أبي هريرة أيضًا عند البخاري، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «الناسُ يصعقون يومَ القيامةِ، فأكونُ أولَ من يُفيقُ، فإذا أنا بموسى آخذٌ بقائمةٍ من قوائمِ العرشِ، فلا أدري أفاق قبلي، أم جوزي بصعقةِ الطورِ»، هل هذا يقتضي أن موسى أفضل من محمد -عليه الصلاة والسلام-؟ أبدًا؛ أي التفضيل من وجه لا يقتضي التفضيل..

المقدم: من كل وجه.

المطلق.

ومن ذلك حديث أبي أمية الشعباني، قال: سألت أبا ثعلبة الخشني، فقلت: يا أبا ثعلبة، كيف تقول في هذه الآية: {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ} [المائدة: 105]، قال: أما والله لقد سألت عنها خبيرًا، سألت عنها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: «بل ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحًّا مطاعًا وهوىً متبعًا، ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأيٍ برأيه، فعليك بنفسك ودع عنك العوام، فإن من ورائكم أيام الصبر فيه مثل القبض على الجمر»، يعني الصبر على الدين، القبض على الدين، والصبر عليه مثل القبض على الجمر «للعامل فيهم مثل أجر خمسين رجلًا يعملون مثل عمله»، وزاد غيري: قال: "يا رسول الله: أجر خمسين منهم؟ قال: «أجر خمسين منكم».

المقدم: منكم.

يعني من الصحابة، هل يعني هذا أن هذا المتأخر الذي صبر وقبض على دينه أفضل من الصحابة؟!

لا.

المقدم: لا ما يتصور.

وإسناده لا بأس به.

في هذا يقول العلامة ابن القيم في نونيته، يقول:

هذا وللمتمسكين بسنة الـ

 

 

مختار عند فساد ذي الأزمانِ

 

أجـرٌ عظيمٌ ليـس يقـدر قـدره

 

 

 إلا الــذي أعطـاه للإنسـانِ

 

فـروى أبـو داود في سنـن لـه

 

 

ورواه أيضـًا أحمد الشيبـانـي

 

أثـرًا تضمن أجـر خمسين امرئٍ

 

 

من صحب أحمد خيرة الرحمـن

 

إسنـاده حسـنٌ ومصـداقٌ لـه

 

 

في مسلـم فافهمـه فهـم بيـانِ

 

إن العبادة وقـت هـرج هجـرة

 

 

حقـَّا إليّ وذاك ذو بـرهــانِ

 

يعني كون الإنسان يستمسك بدينه في الظروف التي تكثر فيها الفتن، ويقل فيها الموافق والمعين له أجر خمسين، وخمسون من الصحابة، لكن هل معنى هذا أنه يفضل أحدًا من الصحابة من كل وجه؟

المقدم: لا.

أبدًا، شرف الصحبة والثواب المرتب عليها لا يدركه أحدٌ ممن جاء بعد الصحابة؛ يعني شرف الصحبة بمفرده لا يدركه أحد، كما جاء في الحديث الصحيح من حديث أبي سعيد -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده، لو أنفق أحدكم مثل أُحدٍ ذهبًا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه» متفق عليه، فهذا الظاهر، أن التفضيل من وجه لا يقتضي التفضيل المطلق، يعني كون العبد من الصحابة أفضل ممن لم يتصف بهذا الوصف من هذه الحيثية بأن له أجرين، أو الصحابي الذي كان كتابيًّا له أجران أيضًا كما في هذا الحديث، لا يعني أنه أفضل من كل وجه من بعض الصحابة.

المقدم: أسلفنا في الحلقة الماضية -أحسن الله إليكم- ما ذكرتم من النصوص التي تدل على أن هناك عملًا له أجران، وعملًا أفضل منه ولم ينص على الأجر، الماهر في القرآن، والذي يقرأه ويتعتع فيه.

نعم. "الذي يقرأه ويتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران".

المقدم: وذلك مع السفرة؟

نعم، ومثله الذي تيمم، ثم لما جاء أعاد الصلاة، والذي لم يعد الصلاة، هناك له أجران، وهذا..

المقدم: أصاب السنَّة.

أصاب السنَّة، يعني هل هذا مثل هذا؟ أبدًا، ورجلٌ كانت عنده أمة -هذا هو الثالث-، وزاد في رواية أبي ذر "يطأها" بالهمز، وزاد في رواية أبي ذر "يطأها" بالهمز، قال العيني: القياس "يوطؤها" مثل يوجل؛ لأن الواو إنما تحذف إذا وقعت بين الياء والكسرة، وهنا وقعت بين الياء والفتحة، مثل "يسمع"، قال الجوهري وغيره: إنما سقطت الواو منها؛ لأن فعل يفعل مما اعتل فاؤه، لا يكون إلا لازمًا، فلما جاء بين أخواتهما متعديين خولف بهما نظائرهما، يعني فحذفت الواو، وقال الكرماني: فإن قلت: فلو لم يطأها، لكن أدبها؛ يعني هل قوله في الحديث في هذه الرواية لأبي ذر "يطؤها" وصف مؤثر لحصول الأجرين، أو أنه غير مؤثر؟ له جارية لا يطؤها مستغنيًا عنها.

المقدم: لكنه أدبها.

أو ليست لديه القدرة على ذلك، وأدبها وعلمها.

المقدم: ثم أعتقها فتزوجها.

نعم.

المقدم: يمكن الوطء على أساس في آخر الحديث أنه تزوجها.

لا، "له جارية يطؤها قبل العتق"، إذا تصورنا هذا عنده جارية ليس بحاجة إلى وطئها، هو مستغن عنها، ثم بعد ذلك سمع بهذا الخبر فنفذ ما فيه، يقول: فإن قلت: فلو لم يطأها لكن أدبها إلى آخره، هل له أجران؟ قلت: نعم، يقول الكرماني: قلت: نعم؛ إذ المراد "بيطؤها" يحل له وطئها، سواء صارت موطوءة أم لا.

"فأدبها" الأدبُ، يقول صاحب المصباح المنير: أدّبته أدبًا، أدَبته أدَبًا، أو أدْبًا؛ لأنه يقول: من باب ضرب. ضربًا.

المقدم: يصير ضربًا.

ضربًا يعني أدْبًا، أدَبته أدْبًا، من باب ضرب، علمته رياضة النفس ومحاسن الأخلاق، علمته رياضة النفس ومحاسن الأخلاق، قال أبو زيد الأنصاري: الأدب يقع على كل رياضة محمودة يتخرج بها الإنسان في فضيلة من الفضائل، وقال الأزهري نحوه، فالأدب اسمٌ لذلك، والجمع آداب، مثل سبب وأسباب، "وأدّبته تأديبًا" مبالغة وتكثير، ومنه قيل: أدبته تأديبًا إذا عاقبته على إساءته؛ لأنه سببٌ يدعو إلى حقيقة الأدب، هذه المعاقبة تدعو، سببٌ يدعو إلى حقيقة الأدب، وأدَب أدبًا من باب ضرب أيضًا، صنع صنيعًا، ودعا الناس إليه، فهو آدِب على فاعل فهو آدِب على فاعل، قال الشاعر أبو طرفة:

نحـن في المشتات ندعو الجفـلا

 

لا ترى الآدب فينا ينتقر

 

لا ترى الأدب فينا ينتقر، يدعو جفلاً، دعوة الجفلا دعوة العامة.

المقدم: نعم.

أما الجفلا فهي دعوة خاصة.. النقاء، هذه دعوة الخاصة، نحن في المشتات ندعو الجفلا: لا ترى الأدب فينا ينتقر، أي لا ترى الداعي يدعو بعضًا دون بعض.

المقدم: ذكره.

بل يعمم بدعواه في زمان القلة، وذلك غاية الكرم، واسم الصنيع المأدُبة، بضم الدال وفتحها، بضم الدال وفتحها، دعوة الجفلا دعوة العامة، يقول الحافظ العراقي في وصف المسانيد وفي رتبتها: ودونها، يعني دون السنن

ودونها في رتبة ما جعـلا

 

على المسانيد فيدعى الجفلا

 

المقدم: يدعو الجفلا.

يعني الأحاديث تدعى الجفلا العامة؛ يعني فيها الصحيح وفيها الضعيف وفيها غير هذه الأنواع، لا ينتقي، لا يكون ينتقر بمعنى أنه ينتقي، فيذكر بعضهم دون بعض كالصحاح مثلًا، فالتأديب: الحمل على محاسن الأخلاق ومكارمها، وهذا ما يُعرف عند بعضهم بأدب النفس، مقابلةً له بأدب الدرس، بأدب الدرس، الذي اشتهرت كتبه في أوساط المتعلمين مما يشتمل في كثيرٍ من أحيانه على ما يخالف الأدب المحمود، يعني تسمى كتب أدب، يعني لو سألتك كتاب الأغاني أيش، كتاب أيش؟

المقدم: أدب.

أدب، وكتاب مثلًا، الكتب الأخرى التي لا نطيل بذكرها، هذه يسمونها كتب أدب، هذه يسمى أيضًا أدب الدرس في مقابلة أدب النفس، والمطلوب أدب النفس.

كتب أدب الدرس اشتهرت في أوساط المتعلمين، وما يشتمل كثيرٌ منها في بعض الأحيان على ما يخالف الأدب المحمود في مصنفات ملأت دور الكتب مما يشتمل على الهزل، والقصص، والأخبار الماجنة، كالأغاني ونحوه يسمى أهله بالأدباء.

المقدم: أدب الدرس.

هذا أدب الدرس، روى السمعاني في أول أدب الإملاء والاستملاء عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن الله أدبني وأحسن تأديبي -أو أحسن أدبي- ثم أمرني بمكارم الأخلاق» فقال: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} [الأعراف: 199]، الآية.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى: "معناه صحيح، ولكن لا يُعرف له إسنادٌ يثبُت" وضعفه أيضًا السخاوي في المقاصد، والألباني في الضعيفة، وقال الزركشي: معناه صحيح، لكنه لم يأتِ من طريقٍ صحيح، وذكره ابن الجوزي في الواهيات، ورمز له السيوطي في الجامع الصغير برمز الصحة.

المقدم: تمام:

لكن كما قال أهل العلم: ليس له إسناد يثبت به، وإن كان معناه صحيحًا.

هناك الكتب التي يستفاد منها في هذا الباب، ككتب الأدب من كتب السَّنة، كتاب الأدب من صحيح البخاري مثلًا ، أو كتاب الأدب من صحيح أبي داوود، أو غيرهما من كتب السنَّة، هذه يستفاد منها وكتب الأدب المفردة مثل: الأدب المفرد.

المقدم: البخاري

للبخاري والبيهقي وغيرهما، وهناك أيضًا..

المقدم: سميت مفردة لإفرادها يا شيخ؟

نعم نعم نعم، ليست بابًا من أبواب، كتب، وأخلاق العلماء للآجري أيضًا يستفاد منه، وهناك أيضًا جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر، والجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب، وتذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم لبدر الدين بن جماعة، وهناك أيضًا مؤلفات خاصة مثل الآداب الشرعية لابن مفلح، وغذاء الألباب للسفاريني، وهو شرح لمنظومة الآداب لابن عبد القوي، وفي كتب ابن القيم من ذلك شيءٌ كثير، يمكن أن يستخلص منه مجلدٌ كبير في هذا الباب.

المقدم: صحيح.

وهناك نظمٌ أيضًا يفاد منه، يُفيد منه طالب العلم كمنظومة ابن عبد القوي في منظومة الآداب لابن عبد القوي، وشرحها المذكور آنفًا، والقصيدة الميمية في الوصايا والآداب العلمية للشيخ حافظ الحكمي، وغيرها كثير، هذه يستفيد منها طالب العلم.

المقدم: جيد.

بالفعل تهذب النفوس، وأيضًا الحافظ ابن رجب له كتابات يعض عليها بالنواجذ في هذا الباب.
المقدم: متفرقة.

متفرقة نعم. ولا مانع من الاطلاع على الكتب كتب الأدب من النوع الثاني، مع الحذر مما فيها من المخالفات، ويحرص طالب العلم على العفيف منها، يحرص طالب العلم على العفيف منها، مثل زهر الآداب للحصري، وأيضًا مهذب الأغاني للخضري، مع أن الخضري لما هذب الأغاني، وُوجه بالنقد الشديد من قبل الأدباء؛ لأنه من وجهة نظرهم أهمل جانبًا حيويًّا من جوانب الآداب، وهو المجون.

لكن يُحرص على الأدب العفيف، ويستفاد من هذه الكتب أيضًا فوائد لو لم يكن منها إلا استجمام الذهن استجمام الذهن، وأيضًا الأخبار يُستفاد منها، أخبار الأمم الماضية كما في كتب التاريخ، وأخبار الدول يتعرضون لها، كتب الأدب يتعرضون.. مثل التواريخ، ففيها اعتبار من جهة، وفيها أيضًا استجمام للذهن، لكن لا يوغل في هذا، بل يكون معوله على الكتاب والسنَّة.

"فأحسن تأديبها" من غير عنف وضرب بل باللطف والرفق؛ لأنه أدعى القبول، وهكذا ينبغي أن يكون المربي على قدرٍ كبير من الحكمة ورعاية المصلحة، وقل مثل هذا في الداعية والمعلم والقاضي، فهم مربون في الحقيقة، لا بد أن يحسنوا التأديب، ولا ينفروا الناس، وعلمها من أحكام الشريعة ما يجب عليها، فأحسن تعليمها لتوخي الأسلوب المناسب، والتدريج في التعليم.

يقول الكرماني: فإن قلت: أليس التأديب داخلًا تحت التعليم؟ أليس التأديب داخلًا تحت التعليم؟ إذا قلنا إن الأدب فرع من فروع العلم والمعرفة، فيكون التأديب داخلًا في التعليم، فيقول الكرماني: فإن قلت: أليس التأديب داخلًا تحت التعليم؟ قلت: لا، إذ التأديب يتعلق بالمروءات، والتعليم بالشرعيات، أي الأول عرفي، والثاني شرعي، أو الأول دنيوي والثاني أخروي ديني.

 أهل العلم حينما يشترطون في العدالة ملازمة التقوى والمروءة، ملازمة التقوى بالشرعيات، بأن لا يرتكب محظورًا، أو يترك مأمورًا من الشرعيات، أما المروءة فهي مراعاة أحوال الناس، من حيث لا يخرج على عادة الناس وأعرافهم، فهي مسألة عرفية.

«ثم أعتقها فتزوجها» وفي كتاب النكاح: وقال أبو بكر عن أبي حصير عن أبي بردة عن أبيه عن النبي– صلى الله عليه وسلم-: «أعتقها ثم أصدقها»، «أعتقها ثم أصدقها»، قال الحافظ: كأنه أشار بهذه الرواية إلى أن المراد بالتزويج في الرواية الأخرى: أن يقع بمهرٍ جديد سوى العتق، يعني لا يكون العتق هو المهر، رواية الباب: «ثم أعتقها فتزوجها» ليس فيها ذكر..

المقدم: المهر.

للصداق، والرواية التي أوردها البخاري في كتاب النكاح: «أعتقها ثم أصدقها»، يقول الحافظ: كأنه أشار بهذه الرواية إلى أن المراد بالتزويج في الرواية الأخرى أن يقع بمهرٍ جديد سوى العتق، لا كما وقع في قصة صفية، كما سيأتي في الباب الذي بعده، فأفادت هذه ثبوت الصداق، فإنه لم يقع التصريح به في الطريق الأولى، بل ظاهره أن يكون العتق نفس المهر.

طيب، الظاهر من قصة صفية أن الرسول -عليه الصلاة والسلام- أعتقها وجعل عتقها..

المقدم: صداقها.

صداقها، حديث الباب: أعتقها «ثم أعتقها فتزوجها» ظاهره عدم ذكر..

المقدم: الصداق.

الصَّداق، لكن رواية البخاري لهذا الحديث: «أعتقها ثم أصدقها».

المقدم: في موضع آخر.

نعم. ويستفاد من الرواية في كتاب النكاح أن الصداق لا بد منه، فالباب الذي في كتاب النكاح أيضًا من صحيح البخاري، يقول باب -رحمه الله تعالى-: بابٌ من جعل عتق الأمة صداقها، وساق بإسناده عن أنس- رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أعتق صفية وجعل عتقها صداقها»، وجعل عتقها صداقها، قال ابن حجر: أخذ بظاهره من القدماء يعني بعدم ذكر الصداق، وأنه يصح جعل العتق هو المهر، يقول: أخذ بظاهره من القدماء سعيد بن المسيب، وإبراهيم عن النخعي، وطاوس، والزهري، ومن فقهاء الأنصار الثوري، وأبو يوسف، وأحمد بن حنبل، وإسحاق قالوا: إذا أعتق أمته على أن يجعل عتقها صداقها صح العقد، والعتق والمهر على ظاهر الحديث، يصح العقد -عقد النكاح- ويصح العتق، ويصح المهر، والمهر هو إيش؟

المقدم: الصداق.

العتق نعم.

أجاب الباقون عن ظاهر الحديث أي: «جعل عتقها صداقها» وحديث الباب: «ثم أعتقها فتزوجها» أجاب الباقون عن ظاهر الحديث بأجوبة أقربها إلى لفظ الحديث: أنه أعتقها بشرط أن يتزوجها، فوجبت له عليها قيمتها، وكانت معلومة فتزوجها بها، حديث «أعتق صفية، وجعل عتقها صداقها»، كأنه قال: أعتقك على أن أتزوجك، بمعنى كأنه قال: أعتقك بمبلغ كذا، ويكون هو الصداق؛ لأنهم قالوا: إنه أعتقها بشرط أن يتزوجها، فوجبت له عليها قيمتها وكانت معلومة فتزوجها بها، وقال آخرون: هذا من خصائصه -صلى الله عليه وسلم- له أن يجعل العتق صداقًا، وممن جزم بذلك الماوردي، وقيل: إن هذا ظنٌّ من أنس -رضي الله عنه-، أنس الذي قال: جعل عتقها صداقها، فهذا بناءً على فهمه هو.

المقدم: نعم.

وقيل: إن هذا ظن من أنس -رضي الله عنه-، وإلا فقد أصدقها أمة، يقال لها "رزينة" كما عند البيهقي، لكنه ضعيف لا تقوم به الحجة؛ يعني لا يقاوم: «وجعل عتقها صداقها» نعم، وقال الترمذي بعد أن خرج الحديث، وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق: وكره بعض أهل العلم أن يجعل عتقها صداقها، حتى يجعل لها مهرًا سوى العتق، والقول الأول أصح، قال ابن حجر: وكذا نقل ابن حزم عن الشافعي، والمعروف عند الشافعية أن ذلك لا يصح، أي: لا يجعل العتق صداقًا، وإنما لا بد من تسمية مهر غير العتق، وقال ابن دقيق العيد: الظاهر مع أحمد ومن وافقه، والقياس مع الآخرين، فيتردد الحال بين ظن نشأ عن قياس، وبين ظن نشأ عن..

المقدم: ظاهر.

ظاهر الخبر، مع ما تحتمله الواقعة من الخصوصية، وهي وإن كانت على خلاف الأصل، يعني خصوصية لكن يتقوى ذلك بكثرة خصائص النبي -صلى الله عليه وسلم- في النكاح، أقول: تخصيصه -صلى الله عليه وسلم- بذلك ليس ببعيد، مثل اختصاصه بالواهبة، "الواهبة" المذكورة في سورة الأحزاب {وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50]، فمن خصائصه في النكاح من وهبت نفسها له دون صداق، وهذا لا يصح لغيره؛ لأنها خالصة له -عليه الصلاة والسلام- من دون المؤمنين. فليكن مثل هذا من خصائصه.

يقول الحافظ ابن كثير: ويحل لك أيها النبي المرأة المؤمنة إن وهبت نفسها لك أن تتزوجها بغير مهرٍ إن شئت ذلك، وقصة الواهبة في البخاري وغيره، طلب النبي -صلى الله عليه وسلم- لمن طلبها من الصحابة المهر، الآية منصوص على..

المقدم: نعم.

أنها خالصة له من دون المؤمنين، وهي محمولة على أنها بدون صداق، الواهبة التي جاءت في الصحيح في البخاري وغيره.

المقدم: وهبت.

وهبت نفسها للنبي -صلى الله عليه وسلم-، يعني لو قبلها النبي -عليه الصلاة والسلام- لصح نكاحها من غير مهر، لكن لما أعرض عنها وطلبها الصحابي قال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: «التمس ولو خاتمًا من حديد».

المقدم: ولو خاتمًا.

فدل على أنه لا بد من المهر من غيره -صلى الله عليه وسلم-.

المقدم: إذًا لعلنا إن شاء الله يا شيخ نبدأ بمثل هذه القضية وإشكالياتها في حلقة قادمة؛ لانتهاء وقت هذه الحلقة، مع شكري الجزيل لكم بعد شكر الله -سبحانه وتعالى- على ما تفضلتم به.

أيها الإخوة والأخوات، بهذا نصل وإياكم إلى ختام هذه الحلقة من شرح "كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح"، نستكمل بإذن الله ما تبقى في الحلقة القادمة، وأنتم علي خير، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.