شرح الموطأ - كتاب الصيام (5)

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

اللهم اغفر لشيخنا، واجزه عنا خير الجزاء، واغفر للحاضرين والسامعين، يا ذا الجلال والإكرام.

قال المؤلف -رحمه الله تعالى- باب ما جاء في حجامة الصائم:

حدثني يحي عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه كان يحتجم وهو صائم، قال: ثم ترك ذلك بعد، فكان إذا صام لم يحتجم، حتى يفطر.

وحدثني عن مالك عن ابن شهاب أن سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر -رضي الله عنهم- كانا يحتجمان وهما صائمان.

وحدثني عن مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أنه كان يحتجم وهو صائم، ثم لا يفطر، قال: وما رأيته احتجم قط إلا وهو صائم.

قال مالك -رحمه الله-: لا تكره الحجامة للصائم إلا خشية من أن يضعف، ولولا ذلك لم تكره، ولو أن رجلًا احتجم في رمضان، ثم سلم من أن يفطر لم أر عليه شيئًا، ولم آمره بالقضاء لذلك اليوم الذي احتجم فيه؛ لأن الحجامة إنما تكره للصائم لموضع التغرير بالصيام، فمن احتجم وسلم من أن يفطر حتى يمسي فلا أرى عليه شيئًا، وليس عليه قضاء ذلك اليوم".

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: باب ما جاء في حجامة الصائم:

أي ما حكمها؟ وجاء فيها حديث ابن عباس في البخاري أن النبي -عليه الصلاة والسلام- احتجم وهو محرم، واحتجم وهو صائم، والحديث في البخاري، وفيها أيضًا حديث شداد بن أوس في المسند والسنن أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: ((أفطر الحاجم والمحجوم)) احتجم النبي -عليه الصلاة والسلام- وهو صائم، وحديث شداد بن أوس: ((أفطر الحاجم والمحجوم))، وعليهما المعول عند أهل العلم فيمن قال: بأن الحجامة تفطر، ومن قال: بأن الحجامة لا تفطر.

فالجمهور على العمل بحديث ابن عباس، وأن النبي -عليه الصلاة والسلام- احتجم وهو صائم، وأما حديث شداد بن أوس: ((أفطر الحاجم والمحجوم)) فأجابوا عنه بأجوبة منها: أنه منسوخ، وذلك أن حديث شداد كان عام الفتح، وحديث ابن عباس في حجة الوداع، ولا يقول أحد: بأن حديث ابن عباس متقدم على حديث شداد، كلهم متفقون على أن حديث شداد متقدم على حديث ابن عباس؛ ولذا قال الشافعي: حديث شداد منسوخ بحديث ابن عباس؛ لأن حديث شداد كان عام الفتح، وحديث ابن عباس في حجة الوداع وهو متأخر، وإنما كانوا يعملون بالآخر من فعله -عليه الصلاة والسلام-، والجمهور على هذا، ومنهم من يقول: أن معنى ((أفطر الحاجم والمحجوم)) أن أمرهما يؤول إلى الفطر، فالحاجم لا يؤمن أن يتسرب شيء من الدم إلى جوفه، فيفطر بهذا، والمحجوم لا يؤمن أن يضعف عن الصوم، فيضطر إلى الفطر، فيكون المقصود مآل أمرهما إلى الفطر، يقول ابن خزيمة: "جاء بعضهم بأعجوبة، وهي أن المراد بقوله -عليه الصلاة والسلام-: ((أفطر الحاجم والمحجوم)) لأنهما كانا يغتابان الناس، مر النبي -عليه الصلاة والسلام- بحاجم ومحجوم كانا يغتابان الناس، فقال: ((أفطر الحاجم والمحجوم)) بالغيبة، يقول: ولو سألت هذا القائل وقلت له: هل الغيبة تفطر الصائم؟ لقال: لا، إذًا كيف يعول على أن السبب في فطرهما الغيبة والغيبة لا تفطر حتى عند هذا القائل؟ ولذا تعجب ابن خزيمة من هذا القول.

قد يقول قائل: إذا كان مآل الحاجم إلى الفطر؛ لأنه قد يتسرب إلى جوفه شيء من الدم؛ لأنه كان العمل على الآلات القديمة التي تعمل بالمص، والآن أدوات كهربائية أو آلية تشتغل تلقائيًا من غير أن يمصها الحاجم، فهل نقول: إنه يفطر أو لا يفطر؟ والصوم إنما ثبت بيقين، وكونه ينساب إلى جوفه شيء مشكوك فيه، حتى على أداء الآلات القديمة، قد يتحرز ولا ينساب إلى جوفه شيء، فكيف يفطر؟ على كل حال هذا على القول بتصحيح حديث شداد، والمعتمد تصحيحه، لكنه متقدم على حديث ابن عباس.

طالب: ألا يمكن أن يقال: الحكمة في الإفطار تعبدية؟

لا، لأصحاب القول الآخر أجوبة، يقول الإمام أحمد وإسحاق: يفطر الحاجم والمحجوم، المظنة هنا نزلت منزلة المئنة، كما أن النوم ينقض الوضوء، وهو في الأصل ليس بناقض، والوضوء ثبت بيقين، والنقض بالناقض الحقيقي مشكوك فيه؛ لأن الناقض ما يحصل أثناء النوم، لا النوم نفسه، بدليل أن النوم إذا لم يكن مستغرقًا لم ينتقض الوضوء، وجاء ما يدل على أنهم كانوا ينتظرون العشاء فتخفق رؤوسهم، والنبي -عليه الصلاة والسلام- يضطجع ويسمع له خطيط.

المقصود أن هذه مظنة بفطر، وليست بفطر، يجيبون على حديث ابن عباس بجواب جيد، يقولون: احتجم النبي -عليه الصلاة والسلام- وهو صائم، وفي حديث شداد بن أوس: "احتجم الرجل وهو صائم" لكن النتيجة؟ النتيجة: ((أفطر الحاجم والمحجوم)) لكن ليس في حديث ابن عباس أنه أفطر أو ما أفطر؛ لكن فيه أنه احتجم، لكن هل فيه أنه استمر على صيامه؟

طالب:........

احتجم وهو صائم؛ لكن يمكن على احتمال أن يكون سياق مثل هذا الحديث للاستدلال به على أن الحجامة لا تفطر، هذا احتمال، الاحتمال الثاني يساق على جواز الحجامة لمن احتاج إليها وإن كان صائمًا ولو اضطره الأمر إلى الفطر، يعني ما هي مسألة ناسخ ومنسوخ وانتهى الإشكال، لا شك أن حديث ابن عباس أقوى من حديث شداد؛ لأنه في البخاري؛ لكن ما موقف الأئمة من هذه الأحاديث؟

الجمهور يقولون: حديث شداد منسوخ؛ لأنه متقدم، وهذا لا شك أنه مخرج، عند ضيق المخارج، وآخر شيء القول بالنسخ، آخر ما يلجأ إليه، إذا لم يمكن الجمع بين النصوص، ولا الترجيح يلجأ إلى النسخ، فإن قلنا: بالترجيح فحديث ابن عباس أرجح، وإن قلنا: بالتقدم والتأخر فحديث شداد متقدم، وهذا مما يؤيد قول الجمهور وإن قلنا: بجواب الحنابلة ومن يقول: بفطر الحاجم والمحجوم، قلنا: أن ليس فيه أكثر مما ذكر ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- احتجم وهو صائم؛ ولكن ماذا عن النتيجة؟ ما ذكرت في حديث ابن عباس؛ لكن ظاهر اللفظ، ليس بنص في المسألة، ظاهر النص؛ لأن عندنا نص وظاهر، والاحتمال الأرجح والأظهر في الدلالة من النص، واحتمال مرجوح يسمونه المؤول، الذي يقابل الظاهر، فالنص الذي لا يحتمل غير الدلالة التي هي منطوق الخبر، والظاهر هو الاحتمال الراجح، والاحتمال الراجح من حديث ابن عباس أنه سيق لبيان أن الحجامة لا تفطر الصائم، هذا الذي يظهر من النص، يعني إذا قيل: زيد أسد

النص في هذا أنه حيوان مفترس، والظاهر أن زيد شجاع كالأسد، والاحتمال الأضعف أن زيد فيه وصف من أوصاف الأسد غير ظاهر؛ لكنه يحتاج إليه أحيانًا، لو قلت: زيد أسد –مثلًا- وهو معروف ومشاع بين الناس أن زيد جبان تبحث عن وصف آخر يتفق فيه مع الأسد، وهو -مثلًا- البخر، إذا كان زيد أبخر قيل: زيد أسد؛ لأنه يشارك الأسد في صفة غير ظاهرة، فالنص في هذا أن زيدًا حيوان مفترس؛ لكن ما هو مراد قطعًا، الظاهر منه أن زيدًا رجل شجاع كالأسد، المؤول وهو الاحتمال المرجوح أن زيدًا أبخر، تنبعث منه روائح كريهة من فمه كالأسد، وهذا يحتاج إليه إذا لم نجزم بالاحتمال الأظهر.

وهنا الاحتمال الظاهر أن ابن عباس ساق الخبر لبيان أن الحجامة لا تفطر الصائم، والاحتمال الثاني أنه ساق الخبر لبيان أن الحجامة تجوز للصائم إذا احتاج إليها كغيرها من المفطرات؛ لكنه لا يظهر، ليس بنص، ولا ظاهر، إنما هو احتمال مرجوح.

طالب:........

نعم، هو لوجود بعض الروايات التي تشير إلى أنه يحتج به على الفطر قلنا: إنه ظاهر، والاحتمال الثاني قائم.

يقول: حدثني يحيى عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه كان يحتجم وهو صائم، قال: ثم ترك ذلك بعد لما بلغه فيها ما بلغه من حديث شداد، فكان إذا صام لم يحتجم حتى يفطر؛ لأنه -رضي الله تعالى عنه وأرضاه- من الورع بمكان، كما قال ابن عبد البر، وقال الباجي: "لما كبر وضعف صار لا يحتجم وهو صائم" لما كان في وقت الشباب والنشاط والقوة يحتجم وهو صائم لماذا؟ لأنه يحتمل الحجامة مع الصيام يحتمل الحجامة، ويستطيع أن يحتجم ويواصل الصيام، لكن لما ضعف وكبر صار ما يتحمل، فإذا احتجم اضطر إلى الفطر، فصار لا يحتجم وهو صائم، هذا ما قاله الباجي.

وحدثني عن مالك عن ابن شهاب أن سعد بن أبي وقاص -هذا منقطع لكن ثبت من رواية عامر بن سعد عن أبيه وبهذا يكون متصلًا- أن سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر كانا يحتجمان وهما صائمان، فدل على أن بعض الصحابة يرون أن الحجامة لا تفطر.

وحدثني عن مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أنه كان يحتجم وهو صائم، ثم لا يفطر، فالمؤلف -رحمه الله تعالى- يريد أن يقرر أن الحجامة لا تفطر، وأن ذلك معروف عند الصحابة والتابعين أيضًا، قال: "وما رأيته احتجم قط إلا وهو صائم" لأنه كان يواصل الصوم، قاله ابن عبد البر، وهو محمول على غالب الأحوال، محمول على الغالب من أحواله أنه كان لا يحتجم إلا وهو صائم؛ لكن إن احتاج إلى الحجامة وهو مفطر لا يحتجم ينتظر حتى يصوم؟! لا يظن به هذا.

قال مالك: "لا تكره الحجامة للصائم إلا خشية من أن يضعف" كما قال أنس بن مالك عند البخاري، ولولا ذلك لم تكره؛ لأن الضعف يلجئه إلى الفطر، "ولو أن رجلًا احتجم في رمضان ثم سلم من أن يفطر -يعني واصل الصيام ما احتاج إلى أن يفطر لضعفه- لم أر عليه شيئًا" لأنه فعل هذا الفعل الذي لا يفطر، "ولم آمره بالقضاء لذلك اليوم الذي احتجم فيه؛ لأن الحجامة إنما تكره للصائم لموضع التغرير بالصيام" يعني من أجل تعريض الصيام للإفطار، من أجل تعريض الصيام للإفساد والإبطال، "فمن احتجم وسلم من أن يفطر حتى يمسي فلا أرى عليه شيئًا، وليس عليه قضاء ذلك اليوم" وهذا هو قول الجمهور، ويرى الإمام أحمد وإسحاق أن الحجامة تفطر الصائم لحديث شداد.

استدل الجمهور بقول ابن عباس وغيره، كما في البخاري "الفطر مما دخل لا مما خرج، ونقض الوضوء مما خرج لا مما دخل" يعني الفطر بسبب ما يدخل في البدن، ونقض الوضوء بسبب ما يخرج منه؛ لكن مثل هذا الكلام وهو غير مرفوع إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- لا يسلم طردًا ولا عكسًا، الآن الفطر بالإجماع بالنسبة لمن جامع زوجته بسبب ما دخل من بدنه أو مما خرج منه؟ خرج، وليكن مثل ذلك: القيء والحجامة فلا يسلم طردًا كما أنه لا يسلم عكسًا، فنقض الوضوء من أكل لحم الجزور مما دخل لا مما خرج، نعم قد ينازعون -من يقول مثل هذا- نوزع فيه؛ لكن القاعدة ليست مطردة.

الحجامة مثلما سمعنا من أقوال أهل العلم وحججهم، وعلى هذا يقال: الأحوط أن لا يحتجم الصائم؛ لكن إن احتاج إلى الحجامة، ورأى أنه يحتمل الحجامة من غير أن يعرض صومه للبطلان فالعمل على حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- ولا شك أن حديث شداد متقدم، والمتأخر يقضي على المتقدم.

فالمقصود أن الاحتياط أن لا يحتجم الصائم؛ لكن إن احتاج إلى الحجامة في هذا الوقت، وفي هذا الظرف، ولم يستطع تأخيرها إلى الليل اضطر إليها ومثلها الفصد، وقل مثل هذا في التبرع بالدم.

طالب:.......

التحليل قالوا: إنه شيء يسير لا يؤثر؛ لكن التبرع بالدم الذي يحتاج إلى قدر كبير أكثر من الحجامة، فمن يفطر بالحجامة يفطر بالتبرع، والذي لا يفطر بالحجامة لا يفطر بالتبرع، أما بالنسبة لما يحتاج إليه من التحليل فمثل هذا يسير، لا يؤثر عند أهل العلم.

الغسيل بالنسبة لمريض الكلى، يحتاج المريض ولا يستطيع التأخير عن الوقت المحدد إلى إخراج الدم من بدنه، ثم تنقية هذا الدم، وإضافة بعض المواد إليه، ثم إعادته إلى البدن، وهذا لا إشكال في كونه يفطر، يعني إن قلنا: أن الحجامة تفطر هذا أفطر من مجرد إخراج الدم من بدنه، وإذا قلنا: إن الحجامة لا تفطر قلنا: إنه أفطر بإدخاله في بدنه وإضافة بعض المواد إليه، فالغسيل مفطر.

طالب:.......

هذا خرج ودخل على القولين مفطر، هو مفطر على القولين.

طالب:.......

نعم كيف؟ والله هو ما حل لكن الراجح تصفيحه.

طالب:.......

ماذا؟ الحجامة حاجة من احتاج إليها لا بأس، الذي لا يحتاج إليها مثل العلاج، هي علاج إن احتيج إليها فلا بأس.

باب صيام يوم عاشوراء:

حدثني يحيى عن مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- أنها قالت: كان يوم عاشوراء يومًا تصومه قريش في الجاهلية، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصومه في الجاهلية، فلما قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة صامه، وأمر بصيامه، فلما فرض رمضان كان هو الفريضة، وترك يوم عاشوراء، فمن شاء صامه، ومن شاء تركه.

وحدثني عن مالك عن ابن شهاب عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف أنه سمع معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنهما- يوم عاشوراء، عام حج، وهو على المنبر، يقول: يا أهل المدينة أين علماؤكم؟ سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول لهذا اليوم: ((هذا يوم عاشوراء، ولم يكتب عليكم صيامه، وأنا صائم فمن شاء فليصم، ومن شاء فليفطر)).

وحدثني عن مالك أنه بلغه أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أرسل إلى الحارث بن هشام: أن غدًا يوم عاشوراء فصم، وأمر أهلك أن يصوموا.

أهل العلم يقررون أن من نوى الإفطار أفطر، لنفترض شخصًا -وهذا أيضًا يأتي في مسألة الاستقاء- من نوى الإفطار أفطر، شخص احتاج قريبه أو صديقه، أو مسلم احتاج إلى إنقاذ للتبرع بالدم، وهذا الشخص يرى أن الحجامة تبطل الصوم، والاستقاء يعني استدعاء القيء يبطل الصوم، فذهب إلى المستشفى ليتبرع لصديقه، واستلقى على السرير، ومد يده ليسحب منه الدم، ثم قالوا له: لسنا بحاجة إلى دم، الآن اكتفينا، يفطر ولا ما يفطر؟ مسألة مفترضة من شخص يرى أن الحجامة تفطر، وأهل العلم يقولون: من نوى الإفطار أفطر أو شخص استدعى القيء فلم يخرج منه شيء يفطر ولا ما يفطر؟ وإن كان مترددًا هو ذهب إلى المستشفى فقال: إن احتيج إليّ تبرعت، وإن لم يحتج إليّ لم أتبرع، يختلف الحكم ولا ما يختلف؟ يختلف، مثل هذا متردد ليس بجازم بالفطر، وأما الأول جازم بأن يفطر، يعني جائع وعزم على أن يأكل، ثم نظر في الساعة قال: ما باقي إلا ساعة واحدة أتحمل، أهل العلم يقولون: من نوى الإفطار أفطر؛ لأن المطلوب استصحاب الحكم، وهو أن لا ينوي قطع العبادة قبل تمامها، هو ما زال في أثناء العبادة، الحنابلة يقولون: أو استقاء فقاء؛ لأن الاستقاء مجرد طلب القيء واستدعائه، ولا يلزم أن يخرج منه شيء، أو لا يخرج، هو استقاء؛ لكن ما خرج شيء يفطر ولا ما يفطر؟ استمنى فأمنى، يقولون: إذا لم يمن ماذا يصير عليه؟ هو طلب ذلك، وهو بهذا الطلب -طلب الاستقاء وطلب القيء وغيره- نوى الإفطار، أو هذا الحكم يختلف ممن يعرف الحكم ومن لا يعرف؟ الذي لا يعرف أن الاستقاء يفطر مثلًا هذا لا أثر له؛ لأنه لم يحصل منه القيء ولا نوى الإفطار لكن شخص يعرف أن الاستقاء يفطر فأدخل أصابعه في أقصى الحلق يستدعي القيء فلم يخرج شيء، ونظيره الذي استلقى على السرير، ومد يده، وربطت يده بالسيور، من أجل أن يسحب منه الدم، وقالوا: لسنا بحاجة إلى دمك، يحصل ولا ما يحصل؟ يحصل، هل نقول: استمر على صيامك، ولا تقضي هذا اليوم، أو نقول: مقتضى قولهم من نوى الإفطار أفطر، وأنت نويت الإفطار، يعني عبارة الحنابلة في كتبهم يقولون: أو استقاء فقاء، يعني ما علقوه على مجرد الاستقاء، حتى يخرج منه القيء، وهم يقررون أيضًا أن من نوى الإفطار أفطر، فعلى هذا نقول: يختلف الحكم، فمن يعرف أن الاستقاء يفطر نقول: نوى الإفطار، والذي لا يعرف أن الاستقاء مفطر هذا ما نوى الإفطار؛ لكن لو خرج منه القيء بالاستدعاء أفطر، ومثله صاحب التبرع.

باب صيام يوم عاشوراء:

يعني ما حكمه؟ وعاشوراء: بالمد على المشهور، وحكي فيه القصر، وزعم ابن دريد أنه اسم إسلامي، يعني ما يعرف في الجاهلية، اسم إسلامي، ورد عليه ابن دحية بأن ابن الأعرابي حكى أنه سمع في كلامهم خابوراء، يعني الصيغة موجودة في كلامهم، وما دامت الصيغة موجودة، والوزن موجود، ما فيه ما يمنع أن يكون من ألفاظهم عاشوراء، كما أنه رد أيضًا بقول عائشة أن يوم عاشوراء يوم تصومه قريش في الجاهلية، لكن هل يلزم من صيامهم لهذا اليوم أن يكون اللفظ معروفًا عندهم؟ نعم، لا يلزم، ما يلزم.

وعاشوراء معدول عن عاشرة، أي الليلة العاشرة، والعدل للمبالغة والتعظيم، والأكثر على أن عاشوراء هو اليوم العاشر، من شهر الله المحرم، وهو مقتضى الاشتقاق، يعني كيف تقول: عاشوراء مأخوذ من التاسع أو من العاشر أيهما أقرب؟ نعم من العاشر، تأخذ من التاسع تاسوعاء، لكن ما تأخذ عاشوراء من التاسع، هذا هو مقتضى الاشتقاق، وقيل: عاشوراء هو اليوم التاسع، فعلى هذا على القول الأول اليوم مضاف إلى الليلة الماضية السابقة على القول الأول؛ لأن عندنا ليلة العاشر قبلها التاسع، وبعدها العاشر، فإذا قلنا: عاشوراء وعاشوراء معدول عن العاشرة قلنا: إن هذا اليوم مضاف لليلة التي قبله، وإذا قلنا بالقول الثاني وأنه التاسع قلنا: إن اليوم مضاف لليلة التي بعده، روي عن ابن عباس هذا القول وأن عاشوراء هو اليوم التاسع هذا مروي عن ابن عباس له وجه ولا ما له وجه.

طالب:.......

دعنا من الليلة لكن التاسع نقول له: عاشوراء ولا ما نقول له؟ هو يستدل بحديث: «لأن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع» مع حثه على صوم يوم عاشوراء، إذًا يوم عاشوراء هو التاسع الذي أراد النبي -عليه الصلاة والسلام- أن يصومه هو ما بقي إلى قابل لينظر هل يصوم التاسع فقط ليكون هو يوم عاشوراء أو يضيف إليه العاشر ليكون عاشوراء هو العاشر، وصيام التاسع من باب المخالفة؟

وعلى كل حال الحديث الذي يقول: ((لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع)) يعني مع العاشر، فعاشوراء هو العاشر، ويصوم معه التاسع، ويدل عليه الأمر بالمخالفة، مخالفة اليهود، صوموا يومًا قبله أو يومًا بعده، فصيام التاسع لا يكفي وحده، ولا تحصل به السنة، وليس هو بعاشوراء، وإنما عاشوراء هو اليوم العاشر.

يقول: حدثني يحيى عن مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- أنها قالت: كان يوم عاشوراء يوم تصومه قريش في الجاهلية، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصومه، صامه وأمر بصيامه قبل فرض رمضان، وكان صيامه واجبًا، ثم نسخ ذلك في رمضان، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصومه في الجاهلية، فلما قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة صامه، وأمر بصيامه، أمر بصيامه على سبيل الإيجاب قبل فرض رمضان، كم سنة؟ واحدة، سنة واحدة؛ لأن قدومه في السنة الأولى كان في ربيع، ذهب عاشوراء السنة الثانية صام عاشوراء، ثم فرض رمضان في السنة الثانية فما بقي المفروض إلا سنة واحدة، وأمر بصيامه، فلما فرض رمضان كان هو الفريضة، رمضان صار هو الفريضة، وترك يوم عاشوراء، ترك فرضه، وبقي الاستحباب، فمن شاء صامه، ومن شاء تركه، ونقل ابن عبد البر الإجماع على أنه الآن ليس بفرض، وعلى أنه مستحب؛ لأن ظاهر الخبر، فمن شاء صامه، ومن شاء تركه، يدل على التخيير والإباحة، ومثل هذا لا يدل على الاستحباب؛ لكن استحباب صيامه إجماع بدليل أنه يكفر السنة الماضية.

وحدثني عن مالك عن ابن شهاب عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف أنه سمع معاوية بن أبي سفيان يوم عاشوراء، عام حج، يعني قبل حجه، أو بعد حجه، بعد أن قفل من مكة، عام حاج، أول حجة حجها بعد خلافته سنة أربع وأربعين، هي أول حجة بعد أن استخلف، وآخر حجة حج سنة سبع وخمسين، يقول ابن حجر: "والذي يظهر أن المراد بها في هذا الحديث الحجة الأخيرة، لا الأولى عام حج" وهو على المنبر، منبر المدينة، يقول: يا أهل المدينة أين علماؤكم؟ كأنه لم ير اهتمامًا بصيام هذا اليوم، كأنه لم ير اهتمام من أهل المدينة بصيام هذا اليوم، وأهل المدينة يُتعجب من بعض ما صار عندهم، كما سيأتي عند الإمام مالك -رحمه الله- بالنسبة لصيام الست من شوال، أنه ما رأى أحدًا من أهل العلم والفضل يصومه، ومعاوية -رضي الله تعالى عنه- يقول: يا أهل المدينة أين علماؤكم؟ سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول لهذا اليوم: ((هذا يوم عاشوراء، ولم يكتب عليكم صيامه)) ولم يكتب (لم) هذا حرف ماذا؟ نفي وجزم وماذا؟ وقلب ماذا؟ معنى لم يكتب، يعني قلبت الفعل المضارع من المستقبل إلى الماضي، يعني لم يكتب في الماضي عليكم صيامه، ويستدل بهذا من يقول: إنه لم يفرض أصلًا ما فرض، ولا قبل رمضان، بدليل قوله: لم يكتب عليكم صيامه؛ لأن لم قلبت الفعل، يعني ما كتب أبدًا، حتى في الماضي ما كتب، فيستدل بهذا من يقول: إنه لم يكن فرضًا قط، ولا دلالة فيه لاحتمال أن يكون المراد أنه لم يكتب يعني بعد النسخ، بعد النسخ بفرض صيام رمضان، قال: لم يكتب قلبته إلى الماضي من كلام معاوية -رضي الله تعالى عنه-، لم يكتب قبل يوم هذا، وإن كتب قبل فرض رمضان.

((ولم يكتب عليكم صيامه، وأنا صائم، فمن شاء فليصم، ومن شاء فليفطر)) وعرفنا أن صيام يوم عاشوراء سُنة مؤكدة، كانوا يأمرون الصبيان ممن يستطيع الصيام أن يصوم هذا اليوم، ولا يفرط في صيام مثل هذا اليوم الذي يكفر سنة إلا محروم، على أنه من أراد أن يصومه فليصم يومًا قبله، وليكن التاسع، أو يومًا بعده وليكن الحادي عشر، مخالفة لأهل الكتاب.

وحدثني عن مالك أنه بلغه أن عمر بن الخطاب أرسل إلى الحارث بن هشام بن المغيرة، وهو من مسلمة الفتح، هو الذي سأل النبي -عليه الصلاة والسلام- عن الوحي، في أوائل الصحيح، أرسل إلى الحارث بن هشام أن غدًا يوم عاشوراء، أرسل إليه في اليوم التاسع من المحرم، وقال له: غدًا يوم عاشوراء، فصم وأمر أهلك أن يصوموا، وهذا ساقه الإمام مالك -رحمه الله تعالى- لبيان أن التخيير في الحديثين السابقين ((من شاء صامه ومن شاء تركه)) ((من شاء فليصم ومن شاء فليفطر)) هذا التخيير لم يكن للإباحة، وإنما هو للاستحباب، فعمر أرسل إلى الحارث بن هشام: أن غدًا يوم عاشوراء، فصم، وأمر أهلك أن يصوموا، أن ذلك للاستحباب، لا على سبيل الوجوب، وأن ذلك مستمر بعد وفاة النبي -عليه الصلاة والسلام-، وأنه لم يطرأ عليه ما ينسخه، وإن نسخ وجوبه.

باب صيام يوم الفطر والأضحى والدهر:

حدثني يحيى عن مالك عن محمد بن يحيى بن حبان عن الأعرج عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن صيام يومين، يوم الفطر ويوم الأضحى.

وحدثني عن مالك أنه سمع أهل العلم يقولون: لا بأس بصيام الدهر إذا أفطر الأيام التي نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن صيامها، وهي أيام منى، ويوم الأضحى، ويوم الفطر، فيما بلغنا، قال: وذلك أحب ما سمعت إلي في ذلك.

يقول -رحمه الله تعالى- باب صيام يوم الفطر والأضحى والدهر:

حدثني يحيى عن مالك عن محمد بن يحيى بن حبان عن الأعرج -عبد الرحمن بن هرمز- عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى، والأصل في النهي التحريم، وقال بتحريم صيام يومي العيدين عامة أهل العلم، وأن صيامهما حرام، ولا يصح، باطل، ولا يجزئ، ولا ينعقد فيما لو نذره، لا ينعقد، ولا يصح، خلافًا للإمام أبي حنيفة أنه يحرم صومهما؛ لكن لو نذر صيامهما انعقد الصيام، ويصوم يومين مكانهما، نهى عن صيام يومين، يوم الفطر، ويوم الأضحى، والعلماء كافة على تحريم الصيام في هذين اليومين، نقل الإجماع؛ لكن يبقى أنه لو صامه فالصوم باطل؛ لأن النهي يعود إلى ذات المنهي عنه؛ فمع التحريم البطلان، فلا ينعقد لو نذره أو صامه قضاء ما أجزأ، بل يحرم صيامهما.

يقول: حدثني عن مالك أنه سمع أهل العلم يقولون: لا بأس بصيام الدهر، وهذا معروف عند أكثر العلماء أنه لا بأس به، بل يستحبونه إذا أفطر الأيام المنهي عن صيامها كالعيدين وأيام التشريق، وما عدا ذلك يجوز صيامه عند الأكثر، لا بأس بصيام الدهر إذا أفطر الأيام التي نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن صيامها، كيومي العيدين، على ما سمعنا وأيام التشريق التي جاء فيها أنها أيام أكل وشرب وذكر لله -عز وجل-، وأنه لم يرخص في صيام أيام التشريق إلا لمن لم يجد الهدي، فدل على المنع من صيامها التي نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن صيامها، وهي أيام منى، ويوم الأضحى ويوم الفطر فيما بلغنا البخاري عن عائشة وابن عمر -رضي الله عنهما- قالا: لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدي، فدل على أن صيام أيام التشريق محرم، فإذا أفطر هذه الأيام الخمسة فالباقي على خلاف بعضها كتخصيص الجمعة، وتخصيص السبت، وتقدم رمضان بيوم أو يومين، وإذا انتصف شعبان، يعني أيام جاء النهي عنها كل على مذهبه في الحكم، منهم من يرى تحريم صيام هذه الأيام، ومنهم من يرى الكراهة، ومنهم على ما سيأتي -إن شاء الله تعالى-.

"وذلك أحب ما سمعت إلي في ذلك" أحمد وإسحاق قالوا: بالكراهة، كراهة صيام الدهر، حمزة بن عمرو الأسلمي قال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: إنه يسرد الصوم، فهل عليه من جناح أن يصوم في السفر؟ وهذا تقدم، فأخبره أنه لا جناح عليه بذلك، يسرد الصوم، وكان النبي -عليه الصلاة والسلام- يصوم حتى يقال: إنه لا يفطر، ويفطر حتى يقال: إنه لا يصوم.

المقصود أن تتابع الأيام بالصيام لا شيء فيه، ما لم يكن الدهر كاملاً، في الحديث الصحيح ((لا صام من صام الأبد)) يعني صام الدهر، وهذا يحتمل أمرين: يحتمل أن يكون دعاء عليه، بمعنى أنه يدعى عليه بأن لا يدرك الصيام بعد ذلك، وقد خاب من دعا عليه النبي -عليه الصلاة والسلام-، ويحتمل أن يكون خبرًا، وهو وإن كان خبرًا إلا أنه حكم شرعي، أنه وإن صام بالامتناع من الأكل والشرب إلا أنه لم يصم صيامًا شرعيًّا، وقد خاب من أخبر عنه النبي -عليه الصلاة والسلام- أنه لم يصم، كما يقول ابن العربي، على الوجهين سواء كان دعاء أو خبرًا.

وعلى كل حال أفضل الصيام، يعني مع الحث على الصيام صيام ثلاثة أيام، كمن صام الدهر، من صام رمضان وأتبعه ستًّا من شوال كان كصيام الدهر، وأفضل الصيام الذي لا أفضل منه صيام داود؛ يصوم يومًا ويفطر يومًا.

طالب: صيام الدهر يا شيخ؟

صيام الدهر قلنا: إن الجمهور يقولون: لا بأس به، إذا أفطر الأيام المنهي عن صيامها، ما فيه شيء، ((لا صام من صام الأبد)).

طالب:.......

المشقة مثلما قال: ((أولئك العصاة)) الذين نشق عليهم، على كل حال هذا قولهم، هم رأوا من العمومات من الترغيب في الصيام، وأن من صام يومًا في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفًا، ورأوا أن الصيام من أفضل الأعمال، وأنه نهي عن أيام بعينها تترك هذه الأيام، لكن قول مرجوح، يعني أفضل منه صيام داود لا أفضل من صيام داود -عليه السلام-، هو أفضل الصيام كما قال النبي -عليه الصلاة والسلام- في الحديث الصحيح ((...صيام داود، يصوم يومًا ويفطر يومًا))

طالب:........

مفضول، يصير مفضولًا.

طالب: كيف مفضول وقد قال به أكثر العلماء؟

ما هو معنى أنه قال به أكثر العلماء أنه هو الراجح، ما يلزم، نحن ندور مع الدليل، نجزم بأن قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((لا صام من صام الأبد)) أن فعله مرجوح على أي احتمال، حتى ولو كان نفيًا، وليس بدعاء، هم يقولون: إنما ينهى عنه، ويمنع منه من باب الشفقة على المكلف، لا يمنع منه، لا يكون حكمه المنع؛ ولذلك ابن عمر، وابن عمرو لما منعه النبي -عليه الصلاة والسلام- من الصيام، ومنعه من كثرة تلاوة القرآن، قالوا: منعه شفقة عليه؛ ولذلك ابن عمر ما امتثل، ولكنه ندم، عبد الله بن عمرو بن العاص؛ لكنه ندم أن لم يقبل إشارة النبي -عليه الصلاة والسلام- له بالرفق على نفسه، فيكون إذا كان الداعي للأمر أو للنهي بالكف الشفقة على المكلف، يعني أمره النبي -عليه الصلاة والسلام- أن يفطر ما أفطر فهم أن النبي -عليه الصلاة والسلام-، إنما أمره شفقة عليه، ويقول: أنا أتحمل وأريد الأجر التي ثبت في النصوص الأخرى عند بعض أهل العلم أن هذا لا يؤثر؛ لأنه إنما منع من باب الشفقة عليه، يعني أمر بالفطر، أو منع من الصوم شفقة عليه، منع من قيام الليل كله شفقة عليه، منع من قراءة القرآن كل يوم شفقة عليه، وهكذا، يقولون: إذا فهم من النص هذا فإنه لا يدل على المنع؛ لكن إذا لم نلتزم بشفقة النبي -عليه الصلاة والسلام- الذي بعث رحمة للعالمين، معناه ما ائتسينا به، ولا اقتدينا به، هذا من أخص أوصافه -عليه الصلاة والسلام- .

باب النهي عن الوصال في الصيام:

حدثني يحيى عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن الوصال، فقالوا: يا رسول الله فإنك تواصل! فقال: ((إني لست كهيئتكم، إني أطعم وأسقى)).

وحدثني عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إياكم والوصال، إياكم والوصال)) قالوا: فإنك تواصل يا رسول الله، قال: ((إني لست كهيئتكم، إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني)).

يقول المؤلف -رحمه الله تعالى- باب النهي عن الوصال في الصيام:

والمراد بالوصال أن يصوم أيامًا متتابعة من غير أن يتخللها فطر في الليل، فيمسك عن الأكل والشرب والجماع في الليل والنهار أكثر من يوم، يومين أو ثلاثة أو أربعة، والوصال يعارض سنن منها: الأمر بتعجيل الفطر، والتأكيد على السحور، وأنه مندوب، وأنه فرق بيننا وبين صيام أهل الكتاب أكلة السحر، ومنها: أنه يعين على الطاعة، ويترتب عليه مخالفات كثيرة عن الوصال؛ ولذا نهى عنه النبي عليه الصلاة والسلام.

والنهي عند الجمهور للكراهة، وحمله الشافعي على التحريم، وهو الأصل، الأصل في النهي التحريم؛ لكن يستدل من حمله على الكراهة بأن النبي -عليه الصلاة والسلام- واصل بهم، لما قالوا له: إنك تواصل، واصل بهم اليوم الأول والثاني، ثم بعد ذلك رؤي الهلال، ولو لم ير الهلال لاستمر، كالمنكل بهم، ولو كان الوصال محرمًا لما نكل بهم بالمحرم، لو كان الوصال محرم ما نكل بهم بالمحرم؛ لأن الإنسان إذا فعل شيئًا يستحق عليه العقاب ما يعاقب بمحرم، هذه حجة الجمهور في صرفهم النهي من التحريم إلى الكراهة.

يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:

حدثني يحي عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن الوصال فقالوا: يا رسول الله فإنك تواصل، (فقالوا) لم ترد التسمية في شيء من طرق الحديث لهؤلاء القائلين؛ لكن هل من الأدب أن يقال: يا رسول الله إنك تواصل؟ بعد أن نهى عن الوصال؟ يعني قال: ((لا تواصلوا)) قالوا: أنت تواصل، أو أن هذا من باب الحرص على الخير، والاقتداء به -عليه الصلاة والسلام-، قالوا: يا رسول الله فإنك تواصل، قال: ((إني لست كهيئتكم)) يعني ليس حالي كحالكم، ولست مثلكم، إني أطعم وأسقى.

الحديث الذي يليه يقول: وحدثني عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إياكم والوصال، إياكم والوصال)) وعند البخاري ((إياكم والوصال)) مرتين، وعند مسلم ثلاث مرات، قالوا: فإنك تواصل يا رسول الله، قال: ((إني لست كهيئتكم، إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني)) ((أطعم وأسقى)) الطعام والشراب من خلال الحقائق الثلاث، هل ينطبق عليه الحقيقة اللغوية؟ الطعام المذكور هنا هل نقول: طعام لغوي؟ وهل تختلف الحقائق الثلاث اللغوية والعرفية والشرعية في الطعام والشراب؟ يعني مثل هذا ماذا نسميه؟ إناء، صح أو لا؟ وهو أيضًا وعاء لغة وعرفًا وشرعًا، يعني ما تختلف فيه الحقائق الثلاث، هل يقال له: غير الإناء في اللغة، نعم؛ ولذا يقولون في باب الآنية: هي الأوعية لغة وعرفًا وشرعًا، صح أم لا؟ يعني تجتمع فيها الحقائق الثلاث، الطعام والشراب تختلف فيها الحقائق الثلاث؟ ما تختلف، يعني الأكل والشرب، هذا شرب، يعني إذا شرب الإنسان شرب لغة، يعني الشرب: إدخال الماء إلى الجوف بواسطة الفم، هذه حقيقته في اللغة، وفي العرف، وفي الشرع، ومثله الطعام، إذًا هذا الطعام هل هو طعام لغوي؟ هل هو طعام عرفي؟ هل هو طعام شرعي؟ لو كان طعامًا لغويًّا قلنا: أفطر، لو قلنا: طعام عرفي، قلنا: أفطر، ما واصل، لو قلنا: طعام شرعي، قلنا: أفطر ما واصل، إذًا ما حقيقة هذا الطعام وهذا الشراب؟ الذي يقول بالمجاز ما عنده مشكلة، يقول: استعمال للفظ في غير ما وضع له، ولا عنده إشكال في مثل هذا، ما عنده مشكلة؛ لكن الذي ينفي المجاز كيف يقول عن هذا: إنه طعام؟

طالب:.......

كيف؟ لا، لا بد أن نتعامل مع النصوص على ضوء الحقائق الثلاث، ما دمنا ننفي المجاز، لا بد أن نقول: هذا الكلام حقيقي، كيف حقيقي؟.

طالب:........

لا، نريد أن يكون كلامنا ما فيه مداخل لآخرين؛ لأن صاحب المجاز يريد يلزمنا بهذا، يقول: طبق عليها الحقائق الثلاث وناقشني.

طالب:.......

حقيقة شرعية غير الحقيقة الشرعية المعروفة؟

طالب:.......

يعني تستطيع تنظر لنا بحيث يكون كلامك صحيحًا.

طالب:.......

ما الحديث؟

طالب:.......

نعم، نريد نظير هذا، أن الحقيقة الشرعية تأتي لأكثر من شيء، هذا مثال رددناه مرارًا، يعني الطعام المعنوي حقيقة شرعية كما هنا، الطعام الحقيقي المأكول والمشروب حقيقة شرعية، يعني مثلما قال كلامه صحيح، هذه حقيقة شرعية، وتلك حقيقة شرعية، ومثله المفلس صحيح، النبي -عليه الصلاة والسلام- لما قال: ((أتدرون من المفلس؟)) قالوا: المفلس من لا درهم له ولا متاع، يأتي بأعمال من صلاة وصيام وغيرها من الأعمال الصالحة، وفي رواية: ((أمثال الجبال)) يأتي وشتم هذا، وضرب هذا، وسفك دم هذا، وظلم هذا، وأخذ مال هذا، إلى آخر الحديث، فهو مفلس حقيقة شرعية، كما أن له حقيقة شرعية أخرى في باب الحجر والتفليس، ((من وجد ماله عند رجل قد أفلس فهو أحق به)) هل نقول: هذا المال الذي وجدته عند رجل جاء بأعمال أمثال الجبال، وضرب هذا، وسفك هذا، هذه حقيقة هنا؟ لا، ليست هذه حقيقة، حقيقته: من لا درهم له ولا متاع، هذا المفلس، فهذه حقيقة شرعية، وتلك حقيقة شرعية، والطعام الحقيقي المأكول والمشروب حقيقة شرعية، والطعام المعنوي الذي عندنا حقيقة شرعية، فلا يشكل إن شاء الله.

طالب:.......

نعم، كيف؟ هذا من خصائص النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لكن نحتاج إلى أن نوجه هذا الكلام ((يطعمني ويسقيني)) كيف يطعمني؟

طالب:........

حقيقي يعني أكل وشرب؟ ويصير مواصلاً؟

طالب:........

يعني من غير مرور بالحلق، يعني لو فتح البطن ويدخل فيه طعام ما أثر على الصائم؟

طالب:........

لا، خليه ما هو مباشر، بالمشرط، ما يفطر؟

طالب:........

لا، نحتاج إلى كلام علمي لئلا يرد علينا أصحاب المجاز يقولون: صرفوا هذا الكلام على الحقائق الثلاث التي تدعونها، لا بد أن نقول بأنه مجاز أو نوجد له مخرج، نعم.

طالب:........

المقصود أن الذي يطلق على الطعام المعنوي طعام حقيقة شرعية، وعلى الطعام الحقيقي حقيقة شرعية، مثل ما نظرنا بالمفلس سواء.

طالب:........

هذا فلس معنوي، وهذاك فلس حقيقي، وهذا طعام معنوي حقيقة شرعية، وهذا.......

طالب:........

لا، إذا قلنا: بأنها حقيقة شرعية ما احتجنا أن نقول: مجاز أبدًا؛ لأن الحقيقة غير المجاز.

طالب:.......

هذا تكلم فيه ابن القيم، يقول: ما يلقى إليه من المعارف والأذواق وكذا، ومن غذاء الروح، وغذاء القلب، هذا معلوم، يعني الإنسان أحيانًا ... نعم

طالب:........

لا، ما نحتاج، الفلس هذا مجاز؟  لا، ليس مجازًا، أنت الآن لو بيدك كتاب وأنت طالب علم منهوم، طالب علم بالفعل، وبيدك كتاب، ويقدم لك الغداء أو العشاء، تحس أنك لست بحاجة إليه أصلًا، وأنت تستفيد من هذا الكتاب، فابن القيم يقول: من له أدنى ذوق وتجربة يعلم استغناء الجسم بذلك عن الغذاء الحسي، حتى قال الشاعر:

لها أحاديث من ذكراك تشغلها

 

عن الشراب وتلهيها عن الزادِ

 

طالب:........

نعم، بال الشيطان في أذنيه، ماذا فيه؟

طالب:........

نحن نقول: يبول الشيطان بولاً حقيقيًّا، ما المانع؟ والله أعلم بكيفيته، يعني أنت تقول: أنا ما حسيت شيئًا في أذني ولا في خيشومي، ولا شيء، ولا...

طالب:.......

لأنه لو صار حقيقيًّا ما واصل، فكيف يواصل وهو يأكل ويشرب؟ ما معنى الوصال؟ عدم الأكل وعدم الشرب، لو أكل وشرب ما صار مواصلًا.

طالب:........

لا، عندك أحاديث تدل على الأكل والشرب، حقيقته فيما يؤكل ويشرب.

طالب:.......

نعم، هو امتنع من الأكل والشرب الحقيقي الشرعي الحسي، فحصل له الأكل والشرب الحقيقي الشرعي المعنوي، ولو قلنا بالأول لقلنا: ما واصل، ومنهم من يقول: إن طعام الجنة ما يفطر، ولا يقطع الوصال، وهذا خاص، كما أن هناك أمور محرمة في الدنيا وهي مباحة في الجنة، على كل حال الكلام طويل حول هذا، لكن يكفينا من هذا ما سمعنا.

باب صيام الذي يقتل خطأ أو يتظاهر:

حدثني يحيى وسمعت مالكًا يقول: أحسن ما سمعت فيمن وجب عليه صيام شهرين متتابعين في قتل خطأ أو تظاهر فعرض له مرض يغلبه، ويقطع عليه صيامه، أنه إن صح من مرضه، وقوي على الصيام فليس له أن يؤخر ذلك، وهو يبني على ما قد مضى من صيامه، وكذلك المرأة التي يجب عليها الصيام في قتل النفس خطأ إذا حاضت بين ظهري صيامها أنها إذا طهرت لا تؤخر الصيام، وهي تبني على ما قد صامت، وليس لأحد وجب عليه صيام شهرين متتابعين في كتاب الله أن يفطر إلا من علة مرض، أو حيضة، وليس له أن يسافر فيفطر، قال مالك -رحمه الله-: "وهذا أحسن ما سمعت في ذلك".

يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: باب صيام الذي يقتل خطأ:

الذي يقتل مؤمنًا خطأ فعليه مع الدية الكفارة، والكفارة عتق رقبة مؤمنة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، أو يظاهر من امرأته بأن يجعلها كظهر أمه، على ما جاء في سورة المجادلة، ومثل هذا الذي يطأ امرأته في نهار رمضان على ما تقدم، فيلزم بصيام شهرين متتابعين إذا عجز عن العتق في الكفارات الثلاث، صيام شهرين متتابعين بأن لا يقطع هذا التتابع بفطر يوم أو أكثر بلا عذر.

حدثني يحيى وسمعت مالكًا يقول: "أحسن ما سمعت فيمن وجب عليه صيام شهرين متتابعين إذا لم يجد رقبة ليعتقها في قتل خطأ أو تظاهر" يعني من زوجته "فعرض له مرض يغلبه" يعني حصل له عذر شرعي يبيح له الفطر كالمرض والحيض والنفاس، "بحيث لا يستطيع معه الصيام" عيد مثلًا، وأيام تشريق، يعني عليه صيام شهرين متتابعين فبدأ بها من واحد ذي الحجة، يقول: أريد أن أصوم شهر ذي الحجة لفضل العشر وأصوم من شهر الله المحرم، أو أصوم جميع شهر الله المحرم، فيصوم من واحد ذي الحجة إلى آخر محرم، ثم يأتيه يوم العيد وأيام التشريق يجب عليه أن يفطر، هذا عذر شرعي، "بحيث لا يستطيع الصيام ويقطع عليه صيامه، بعد أن شرع فيه أنه إن صح من مرضه" اضطر إلى ما يمنعه من متابعة الصيام بسبب المرض "وقوي على الصيام بعد أن يصح مباشرة" لا يتأخر، يقول: أنا الآن مرضت، وانقطع التتابع، وأفطرت بعذر وأحتاج إلى شهر نقاهة لأستعيد صحتي، نقول له: خلاص مجرد ما تستطيع الصيام تعود إلى الصيام، يرتفع عنك الوصف المبيح، "إن صح من مرضه وقوي على الصيام فليس له أن يؤخر ذلك" عليه أن يبادر بالصيام إذا ارتفع الوصف الذي يبيح له الفطر، "وهو يبني على ما قد مضى من صيامه فإن أخر ذلك لم يبن" إن أخر ذلك بعد أن عوفي من مرضه لم يبن بل عليه أن يستأنف صيام الشهرين، وكذلك المرأة التي يجب عليها الصيام في قتل النفس خطأ، أو بالجماع في نهار رمضان؛ لكن هل المرأة تظاهر من زوجها إذا قالت: هو عليها كظهر أبيها؟ يلزمها كفارة ولا ما يلزمها؟ لا يلزمها، كفارة ظهار ما يلزمها؛ لكن هي حرمت ما أحل الله عليها يلزمها كفارة يمين.

طالب:.......

على كل حال إذا كانت مطاوعة ومختارة، قد تكون هي السبب، يقول: "وكذلك المرأة التي يجب عليها الصيام في قتل النفس خطأ إذا لم تجد رقبة تعتقها إذا حاضت بين ظهري" تثنية ظهر، وقد تضاف الألف والنون يقال: بين ظهراني، وهذا كثير "بين ظهري صيامها" يعني في أثنائه "أنها إذا طهرت لا تؤخر الصيام" تقول: ما دام أنا عذرت في الإفطار أسبوع أرتاح أسبوعًا ثانيًا، ما دام انقطع التتابع انقطع نرتاح، نقول: لا، "لا تؤخروا الصيام" لأنه ليس هناك عذر "وهي تبني على ما قد صامت فإن لم تتابع الصيام بعد ارتفاع السبب فإنها تستأنف صيام الشهرين المتتابعين" يقول: "وليس لأحد وجب عليه صيام شهرين متتابعين في كتاب الله أن يفطر إلا من علة" مرض على ما تقدم أو حيضة على ما سبق، يقول: "وليس له أن يسافر فيفطر، بل يصوم، فإن أفطر في سفره عليه أن يستأنف من جديد" لأنه يمكنه الصوم مع السفر، وإن لحقته المشقة بخلاف المرض والحيض لا يمكنه الصيام.

قال مالك: "وهذا أحسن ما سمعت في ذلك" أنه ليس له الفطر إذا سافر، من أهل العلم من يرى أن العذر الذي يبيح الفطر في رمضان، وهو آكد، يبيح له الفطر في صوم الشهرين، ولا يقطع عليه التتابع، ومنه السفر فيجوز له أن يفطر في أثناء الشهرين المتتابعين؛ لأن الأصل في صيام رمضان أنه على التتابع، هذا الأصل فيه، لكن إذا وجد عذر يبيح من مرض وحيض ومثله السفر، على أن لا يسافر من أجل الفطر؛ لأنه إذا سافر ليفطر حرم عليه ذلك، ولم يصح له الفطر، لكن وجد السفر، وهو عذر مبيح، يبيح له الفطر في رمضان، ومن باب أولى أن يفطر في الشهرين المتتابعين، وقال بهذا جمع من أهل العلم، ولا شك أن الاحتياط على ما يرى مالك، أن الإنسان ما دام نُص على التتابع في الكتاب والسنة، ينتهي من هذه الأيام، ويخرج من عهدة الواجب بيقين، ويستبريء لدينه وعرضه، وإذا انتهى من صيامه يسافر كيفما شاء؛ لكن لو سافر، وأخذ بقول من يقول: بأن السفر لا يقطع التتابع كالسفر في رمضان له وجه -إن شاء الله تعالى-، والله أعلم.

 

وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

"