شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (064)

 

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

أيها الإخوة والأخوات السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحبًا بكم إلى حلقة جديدة ضمن برنامجكم: شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح.

في بداية حلقتنا نرحب بصاحب الفضيلة الشيخ: عبد الكريم بن عبد الله الخضير، عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، فأهلاً ومرحبًا بكم شيخ عبد الكريم.

حياكم الله وبارك فيكم.

المقدم: نعود إلى باب الجهاد من الإيمان كما عنون له الإمام البخاري -رحمه الله-، وقد أسلفنا في حلقة ماضية الحديث عن بعض ألفاظ حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، لعلنا نستكمل الحديث حول بقية ألفاظ هذا الحديث.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

سبق الكلام عن قوله في الحديث: «انتدب الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا إيمان بي، وتصديق برسلي أن أرجعه بما نال من أجر أو غنيمة» و(أو) في قوله «أو غنيمة»، قيل إنها بمعنى الواو كما جاء في سنن أبي داود من حديث أبي أمامة الباهلي، قال الكرماني: فإن قلت (أو) في قوله «أو غنيمة» يدل على أن للسالم، يعني من القتل والشهادة، إما الأجر وإما الغنيمة، لا كليهما. قلت: اللفظ لا ينفي اجتماعهما، بل يثبت أحدهما مع جواز ثبوت الآخر، فقد يجتمعان. ثم قال: فإن قلت هاهنا حالة ثالثة للسالم وهي الأجر بدون الغنيمة، قلت: هذه الحالة داخلة تحت الثانية، إذ هي أعم من الأجر فقط، أو منه مع الغنيمة، الآن في الحديث التردد بين السالم، بين أمرين، أجر أو غنيمة، فقال الكرماني: فإن قلت: هاهنا حالة ثالثة للسالم وهي الأجر بدون الغنيمة، وهي في حالة ما إذا لم يغنموا، لا سيما إذا قلنا: إن (أو) بمعنى الواو، قلت: هذه الحالة داخلة تحت الثانية، إذ هي أعم من الأجر فقط أو منه مع الغنيمة، فالغازي إما أن يقتل فتحصل له الشهادة أو يَسْلَم، فإما أن يغنم، أو يؤجر أو هما معًا، فالاحتمالات ثلاثة.

ثم قال: فإن قلت: الأجر ثابت للشهيد الداخل في الجنة فكيف السالم؟ والشهيد مفترقان في أن لأحدهما الأجر وللآخر الجنة، أن الجنة أيضًا أجر، هنا يقول: من أجر أو غنيمة أو أدخله الجنة، جعل دخول الجنة قسيم للأجر، فهمنا وجه الإشكال؟ «أن أرجعه بما نال من أجر أو غنيمة أو أدخله الجنة» ولذا قال: فإن قلت: الأجر ثابت للشهيد الداخل في الجنة، فكيف السالم والشهيد مفترقان في أن لأحدهما الأجر وللآخر الجنة، أن الجنة أجر. قلت: هذا أجر خاص، والجنة أجر أعلى منه، فهما متغايران، أو أن القسمين هما الرَّجْع والإدخال، لا الأجر والجنة، فيكون قوله: أو أدخله الجنة قسيم لأن أرجعه، ليست بقسيم للأجر أو الغنيمة، هناك أحد يرجع وهو السالم، وهناك أحد يدخل الجنة وهو المقتول في سبيل الله، فالذي يرجع قِسْم، والذي يدخل الجنة لأنه قتل في سبيل الله قِسْم، فقوله: أو أدخله الجنة قسيم لأرجعه، أدخله قسيم لأرجعه، وليس بقسيم لأجر أو غنيمة أو أدخله. أو أن أدخله الجنة عند دخول المقربين بلا حساب ولا مؤاخذة بذنوب تكفرها الشهادة أو عند موته بقوله: {أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [سورة آل عمران 169] كذا في إرشاد الساري.

«ولولا أن أشق على أمتي» أي لولا المشقة على أمته -عليه الصلاة والسلام-، وهذا من تمام شفقته على أمته حيث ترك كثيرًا من الأعمال الصالحة كي لا يشق على أمَّته، والأمثلة على ذلك كثيرة جدًّا، قد يقول قائل: لماذا أخبر النبي -عليه الصلاة والسلام- عن عمرة في رمضان، وأنها تعدل حجة، ولم يعتمر في رمضان؟ ترك ذلك لئلا يشق على أمته؛ لأنه لو تضافر القول مع الفعل، لحصل من الحرج على الأمة شيء كثير، لكن للذي يتأوَّل لنفسه ولا يتيسر له أن يعتمر في رمضان يقول: النبي -عليه الصلاة والسلام- ما اعتمر في رمضان، وإن جاء الحث عليه، والذي يتسنى له أن يعتمر في رمضان يقول: ثبت عن النبي -عليه الصلاة والسلام- أن العمرة في رمضان تعدل حجة.

أيضًا أسف وندم على دخوله الكعبة؛ لئلا يشق على أمته، فالأمة لا شك أنه يوجد فيها المتساهل والمفرِّط، لكن يوجد فيها الحريص على اقتفاء آثار النبي -عليه الصلاة والسلام-، فمثل هذا يجد من الحرج والمشقة في فعل يفعله النبي -عليه الصلاة والسلام- وهو لا يستطيعه أو...، ولذا الصحابة -رضوان الله عليهم- تولوا وأعينهم تفيض من الدمع، وهم معذورون، والأمثلة على ذلك كثيرة جدًّا.

يقول: «ما قعدت خلفَ» بالنصب على الظرفية أي ما قعدت بعد «سرية» بل كنت أخرج معها بنفسي لِعَظم أجرها، ولولا حرف امتناع لوجود، و(أن) مصدرية في موضع رفع بالابتداء، وما قعدت جواب لولا، وأصله لَمَا، فحذفت اللام، والمعنى امتنع عدم القعود لوجود المشقة، امتنع، امتنع ماذا؟

المقدم: امتنع خروجه خلف أي سرية، كل سرية.

نعم، امتنع عدم القعود، عدم قعوده يقتضي خروجه -عليه الصلاة والسلام-، امتنع عدم القعود لوجود المشقة، وسبب المشقة صعوبة تخلفهم بعده -عليه الصلاة والسلام-، ولا قدرة لهم على المسير على المسير معه لضيق حالهم، قال ذلك -عليه الصلاة والسلام- شفقة على أمته فجزاه الله عنا أفضل الجزاء وأكمله.

والسرية بتخفيف الراء وتشديد الياء القطعة من الجيش، «ولوددت» الواو عاطفة على ما قعدت، واللام للتأكيد، أو جواب قسم محذوف، أي والله لوددت أي أحببت «أني أُقتَل في سبيل الله ثم أُحيا، ثم أُقتَل ثم أُحيا» بضم الهمز في كل من أُحيا وأُقتَل، وهي خمسة ألفاظ، وفي رواية الأصيلي: «أن أقتل» بدل (أني) ولأبي ذر: «فأُقتَل ثم أُحيا فأُقتل» كذا في اليونينية، وختم بقوله: «ثم أُقتَل» مع أن القرار إنما هو على حالة الحياة؛ لأن الذي وَدَّه هو الشهادة -عليه الصلاة والسلام- فخَتْم الحال عليها، خَتَم بقوله: «ثم أُقتَل» مع أن القرار إنما هو على حالة الحياة لأن الذي وَدَّه هو الشهادة، فختم الحال عليها، المآل هو الحياة في الدار الآخرة، ما قال: ثم أُحيا لأن هذا حاصل، ثم أُحيا يعني أُبعَث هذا حاصل، فهو وَدَّ -عليه الصلاة والسلام- الشهادة، فخَتَم الحال عليها، ولذلك قال: «ولوددت أني أُقتَل في سبيل الله، ثم أُحيا، ثم أُقتَل ثم أُحيا ثم أُقتَل» ما قال: ثم أُحيا؛ لأن الإحياء والبعث أمر حاصل لا بد منه، ظاهر أو ليس بظاهر؟ لأن الإحياء للجزاء من المعلوم فلا حاجة إلى ودادته؛ لأنه ضروري الوقوع.

و(ثُمَّ) للتراخي في الرتبة، قد يقول قائل: لماذا قال: «أقتل في سبيل الله، ثم أحيا، ثم أقتل» يعني أمكث مدة في هذه الحياة الدنيا ثم أقتل، وهو يتمنى الشهادة، ويحرص عليها، لماذا لم يعطف بالفاء فأقتل مباشرة بعد الحياة لحرصه على الشهادة؟ و(ثُمَّ) للتراخي في الرتبة، قال القسطلاني: وهو أحسن من حملها على تراخي الزمان؛ لأن المتمنَّى حصوله مرتبة بعد مرتبة إلى الانتهاء إلى الفردوس الأعلى.

فإن قلت: تمنيه -عليه الصلاة والسلام- أن يُقتَل يقتضي تمني وقوع زيادة الكفر لغيره، وهو ممنوع للقواعد، ما مقتضى كون النبي -عليه الصلاة والسلام- يُقتَل؟ مقتضى كون المسلم يتمنَّى الشهادة، ويسألها الله -عز وجل- بصدق وإخلاص؟ أن الذي يقتله، إن كان كافرًا فهذا دعاء ببقاء الكفار إلى أن يُقتَل، أو إن كان باغيًا مثلاً ببقاء البغاة، فإن قلت: تمنيه -عليه الصلاة والسلام- أن يقتل يقتضي تمني وقوع الزيادة في الكفر لغيره وهو ممنوع للقواعد، أجيب بأن مراده -عليه الصلاة والسلام- حصول ثواب الشهادة لا تمني المعصية للقاتل، بغض النظر يعني الكفر هل يُتصوَّر أن يرتفع؟

المقدم: لا.

إذًا على الإنسان أن يتمنَّى الشهادة، وأن يكون قتله بمن كتب الله له الشقاء إلى وفاته، ولذا ينبغي للمسلم أن يتمنَّى الشهادة، ولذا جاء في الحديث حديث أنس بن مالك قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من طلب الشهادة صادقًا أعطيَها ولو لم تصبه» ومن حديث سهل بن حنيف أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: «من سأل الله الشهادة بصدق بلَّغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه» لكن القيد بصدق، الكلام على الصدق، التمني بصدق، ما هو يتمنى وإذا سمع أدنى وجفة سارع إلى الاختفاء، وأصابته الرُّحَضاء وغيرها من الخوف.

قال النووي: وفي الحديث فضل الجهاد، وفضل القتل في سبيل الله، والحث على حسن النية، لا يخرجه إلا إيمان بي، وتصديق برسلي، كما جاء في ثواب من لا ينهزه إلا الصلاة، خروجه للصلاة لا لغيرها، ثوابه حينئذٍ أكمل، والحث على حسن النية، وبيان شدة شفقته -صلى الله عليه وسلم- على أمته، ورأفته -صلى الله عليه وسلم- بهم، واستحباب طلب القتل في سبيل الله -سبحانه وتعالى-، وجواز قول الإنسان وددت حصول كذا من الخير الذي يعلم أنه لا يحصل، يتمنى وإن كان يعرف أنه لا يحصل، يعني تمني الإنسان وهو في القرن الخامس عشر يتمنى أن لو كان وجوده في عهد النبي -عليه الصلاة والسلام-، هل هذا من التمني المنهي عنه في قوله -جل وعلا-: {وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [سورة النساء 32] أو نقول: هو تمني خير؟ هل هذا من مثل ما معنا؟ هل ما معنا يدخل في قوله: {وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ} [سورة النساء 32] ما معنا ثابت عن المشرِّع عنه -عليه الصلاة والسلام-، لكن لو قال واحد مِنَّا: وددت أني كنت في عصر النبي -عليه الصلاة والسلام-، يلام على ذلك؟

سائل: قد يقال -أحسن الله إليكم- أن تمني وجود الشخص في عصر النبي -عليه الصلاة والسلام- يعرِّضه للفتنة، كما ذُكر أن بعض السلف سئل أن رجلاً تمنى أن يكون في عصر النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: وما يدريك لعلك إن وجدت في ذلك الزمن فتنت؟ فالشخص لا يتمنى، لكن قد يقال من وجه آخر: إن الشخص يؤجر على تمنيه الخير من جهة، ولا يستحب له أن يتمنى الأمور التي قد يكون فيها فتنة له من جهة أخرى، ومن وجه آخر أيضًا يقال: إن الشخص لا يتمنى أمورًا بعد فعل الأسباب لها تكون معارضة لقضاء الله وقدره، فإن الله -عز وجل- قد اختار هذا القضاء والقدر لهذا الشخص في هذا الزمن، فكون الشخص يرضى بقضاء الله وقدره خير له من أن يتمنى أمرًا قد يكون فيه الفتنة له.

أقول: المسألة مفترضة في شخص يتمنى أن لو عاصر النبي -عليه الصلاة والسلام-، وصحب النبي -عليه الصلاة والسلام-، وخدم النبي -عليه الصلاة والسلام-، ومات على خير، لا يتمنى أن يوجد في العصر ثم يعرَّض للفتن أو غيرها، لا، وقد ذكر بعض الشراح في شرح حديث النصيحة أن مما ذكروه في النصيحة للنبي -صلى الله عليه وسلم- تمني صحبته، والوجود في عصره، لكن على ما تفضل الأخ على الإنسان أن يرضى بما قدَّر الله وقضاه له، وأن يعمل بما أمر به، ويجتنب ما نهي عنه، ويبشر بالخير بعد ذلك -إن شاء الله تعالى-.

في الحديث: إذا تعارض مصلحتان بُدئ بأهمهما؛ وأنه يَترك بعض المصالح من مصلحة أرجح منها، أو لخوف مفسدة تزيد عليها، تعارض مصلحتان، الشفقة على الأمة، والسير وراء كل سرية، فقدَّم مصلحة عدم الذهاب مع كل سرية خشية أن يشق على أمته -عليه الصلاة والسلام-.

قال الكرماني: هذا الفصل وإن كان ظاهره أنه في قتال الكفار يدخل فيه من خرج في سبيل الله في قتال البغاة، وفي إقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحوه. وفيه أن الجهاد فرض كفاية لا فرض عين؛ بدليل أن النبي -عليه الصلاة والسلام- تخلَّف عن بعض السرايا لِمَا أبداه من السبب، وإن كان يتعيَّن الجهاد في بعض الصور على ما قرره أهل العلم. وفيه تمني الشهادة، وتمني ما لا يمكن في العادة من الخيرات.

قال ابن بطال: هذا الباب حجة في أن الأعمال إيمان؛ لأنه لما كان الإيمان بالله هو المخرج له في سبيله كان الخروج إيمانًا بالله لا محالة كما تُسمِّي العرب الشيء باسم ما يكون من سببه، تقول للمطر: سماء؛ لأنه من السماء ينزل إذا نزل السماء بأرض قومٍ.

قال العيني في الأسئلة التي يذكرها في نهاية شرح كل حديث: ومنها ما قيل: إن قوله -صلى الله عليه وسلم- «بما نال من أجر أو غنيمة» العيني رتَّب الشرح ترتيبًا بديعًا في ربع الكتاب الأول، وإن كان في النهاية أو في ثلاثة أرباعه أخذ يختصر ويوجز وأخلَّ بالترتيب السابق، لكن في بدايته ترتيب بديع، في شرح الكتاب، وفي نهاية شرح كل حديث يذكر أسئلة وأجوبة، إشكالات يوردها ثم يجيب عنها.

من هذه الإشكالات يقول: منها ما قيل: إن قوله -صلى الله عليه وسلم- «بما نال من أجر أو غنيمة» يعارضه قوله -عليه السلام- في الصحيح: «ما من غازية تغزو في سبيل الله، فيصيبون الغنيمة إلا تعجلوا ثلثي أجرهم من الآخرة، ويبقى لهم الثلث، وإن لم يصيبوا غنيمة تم لهم أجرهم» وهو مخرَّج في صحيح مسلم.

ولا يصح أن تُنقص الغنيمة من أجرهم كما لم تُنقص أهل بدر، وكانوا أفضل المجاهدين، يعني أهل بدر هل يتصور أنهم تعجلوا ثلثي أجرهم؟ فهم أفضل المجاهدين؟ أجيب بأجوبة من أوضحها: أن حديث الباب يحمل على من أخلص في نيته؛ لقوله: «إلا جهاد في سبيلي» ويحمل الحديث الثاني على من خرج بنية الجهاد والمغنم، هذاك لا يخرجه إلا الجهاد، وهذا يخرجه الجهاد والمغنم، فهذا شرك بما يجوز فيه التشريك، يعني كمن حج، لا يريد إلا الحج، يتقرب إلى الله -عز وجل- بهذه الفريضة، بهذه الشريعة، ومن حج يريد الحج ويبتغي من فضل الله أجرهما واحد؟ لا، يقول: فهذا شرك بما يجوز فيه التشريك، وانقسمت نيته بين الموجِّهَين فنقص أجره، والأول أخلص فكمل أجره، ونفى النووي التعارض؛ لأن الغزاة إذا سلموا وغنموا تكون أجورهم أقل من أجر من لم يسلم أو سلم ولم يغنم، وأن الغنيمة في مقابل جزء من أجر غزوهم، فإذا حصلت فقد تعجلوا ثلثي أجرهم، قال القاضي: الحديث الذي فيه: «بما نال من أجر وغنيمة» مطلق؛ لأنه لم يقل فيه أن الغنيمة تنقص الأجر، والحديث الثاني مقيد، فعلى هذا الغنيمة تنقص الأجر؛ لأن الحديث الثاني مقيد.

وأما استدلالهم بغزوة بدر فليس فيه أنهم لو لم يغنموا لكان أجرهم على قدر أجرهم مع الغنيمة، يعني هذا الفضل العظيم الذي حصل لهم مع أنهم غنموا، وليس فيه تعرض أنهم لو لم يغنموا لكان أجرهم أعظم من ذلك، وكونهم مغفورًا مرضيًّا عنهم لا يلزم منهم ألا يكون فوقهم مرتبة أخرى هي أفضل.

الحديث خرَّجه الإمام -رحمه الله تعالى- في تسعة مواضع:

الموضع الأول: هنا في كتاب الإيمان، باب الجهاد من الإيمان: قال: حدثنا حَرَمِي بن حفص، قال: حدثنا عبد الواحد، قال: حدثنا عمارة قال: حدثنا أبو زرعة بن عمرو بن جرير قال: سمعت أبا هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «انتدب الله لمن خرج في سبيله...» فذكره، وتقدم ذكر المناسبة.

الموضع الثاني: في كتاب الجهاد، بابٌ أفضل الناس مؤمن مجاهد بنفسه وماله في سبيل الله.

قال: حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري قال: أخبرني سعيد بن المسيب أن أبا هريرة قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «مثل المجاهد في سبيل الله والله أعلم بمن يجاهد في سبيله كمثل الصائم القائم، وتوكل الله للمجاهد في سبيله بأن يتوفاه أن يدخله الجنة، أو يرجعه سالمًا مع أجر أو غنيمة».

ومناسبة الباب للكتاب ظاهرة، كتاب الجهاد، باب: أفضل الناس مؤمن مجاهد، لكن مناسبة الحديث للباب: أفضل الناس مؤمن مجاهد، ما وجه المناسبة؟

يقول العيني: مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة، ما وجه ظهورها؟ كيف ظاهرة؟ الباب بابٌ أفضل الناس مؤمن مجاهد بنفسه وماله في سبيل الله؟

 المقدم: لأنه قال: خرج في سبيله، لا يخرجه إلا إيمان بي.

لكن هذا فيه ما يدل على أنه أفضل الناس؟ الوعد موجود «أن أرجعه بما نال من أجر أو غنيمة» لفظ الحديث المخرَّج في ذلك الباب: «مثل المجاهد في سبيل الله والله أعلم بمن يجاهد في سبيله كمثل الصائم القائم» أفضل الناس مؤمن مجاهد بنفسه وماله، يعني الصائم القائم، مشبَّه أو مشبَّه به؟ «كمثل الصائم القائم» مشبَّه به.

الأخ الحاضر: نعم مشبَّه به.

مشبَّه به، والعادة أيهما أبلغ المشبَّه أو المشبَّه به؟

الأخ الحاضر: المشبَّه به.

المشبَّه به، إذًا الصائم القائم، أفضل من المجاهد أو المجاهد أفضل؟ «مثل المجاهد في سبيل الله والله أعلم بمن يجاهد في سبيله كمثل الصائم القائم».

الأخ الحاضر: مقتضى أن الصائم...

أفضل، لكن متى ينطبق على الشخص الصائم القائم؟ بأن يصوم النهار كله طول عمره، وأن يقوم الليل كله، وهل هذا متصوَّر في عمره كله؟ إذًا بقي المشبَّه أفضل منه من هذه الحيثية.

فيها بُعْد الحقيقة، والشراح أحيانًا -وأنا أقول: لَعَلِّيْ...- يظهر لهم من الأمور ما لا يظهر لنا، لكن أحيانًا تكون المناسبة في غاية الخفاء والغموض ومع ذلك يقولون: ظاهرة، قد يتساوَر للنفس أو يتساوَر إلى النفس أن المناسبة ليست ظاهرة، لأنه لا بد من بيانها، إذا لم تكن ظاهرة، وإذا قال: ظاهرة لا يطالَب بالبيان.

على كل حال المناسبة لا تسلم من غموض، وإن قال العيني: إنها ظاهرة.

الموضع الثالث: في كتاب الجهاد أيضًا: باب تمني الشهادة.

قال: حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري قال: أخبرني سعيد بن المسيب أن أبا هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: «والذي نفسي بيده لولا أن رجالاً لا تطيب أنفسهم أن يتخلفوا عني ولا أجد ما أحملهم عليه ما تخلفت» الحديث، والمناسبة ظاهرة.

باب تمني الشهادة؛ لأن فيه أن النبي -عليه الصلاة والسلام- تمنى الشهادة مرارًا.

الموضع الرابع: في كتاب الجهاد: باب الجعائل والحملان في السبيل.

قال: حدثنا مسدد قال: حدثنا يحيى بن سعيد عن يحيى بن سعيد، يحيى بن سعيد عن يحيى بن سعيد مَن؟ يحيى بن سعيد عن يحيى بن سعيد؟

الأخ الحاضر: يحيى بن سعيد القطان عن الأنصاري.

القطان عن الأنصاري نعم.

قال: حدثني أبو صالح قال: سمعت أبا هريرة -رضي الله عنه- يقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لولا أن أشق على أمتي ما تخلفت عن سرية، ولكن لا أجد حمولة، ولا أجد ما أحملهم عليه» والمناسبة للحُمْلان هو لا يجد حمولة، ولا يجد ما يحملهم عليه، المناسبة للحملان ظاهرة.

الموضع الخامس: كتاب فرض الخمس: باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أحلت لكم الغنائم» وفي بعض روايات الصحيح: «أحلت لي».

قال: حدثنا إسماعيل قال: حدثني مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «تكفل الله لمن جاهد في سبيله» الحديث.

ومناسبة قوله الغنيمة للباب ظاهرة.

الموضع السادس: كتاب التمني، باب ما جاء في التمني ومن تمنى الشهادة.

قال: حدثنا سعيد بن عفير، قال: حدثنا الليث قال: حدثني عبد الرحمن بن خالد عن ابن شهاب عن أبي سلمة وسعيد بن المسيب أن أبا هريرة قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «والذي نفسي بيده» الحديث.

والشاهد من الحديث قوله: «لوددت أني أقتل في سبيل الله، ثم أحيا» ومناسبة وددت للتمني ظاهرة.

الموضع السابع: في الباب السابق من الكتاب السابق، كتاب التمني، باب ما جاء في التمني ومن تمنى الشهادة.

قال: حدثنا عبد الله بن يوسف قال: أخبرنا مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «والذي نفسي بيده...» والمناسبة ظاهرة كسابقه.

والفائدة فائدة تكرار إسنادية وليست متنية هنا.

الموضع الثامن: كتاب التوحيد: باب قوله تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ} [سورة الصافات 171].

حدثنا إسماعيل قال: حدثني مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «تكفل الله لمن جاهد في سبيله لا يخرجه إلا الجهاد في سبيله وتصديق كلماته» الحديث.

قال ابن حجر: المراد منه هنا قوله: «وتصديق كلماته» {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا} [سورة الصافات 171] يقول: المراد هنا قوله: «وتصديق كلماته» أي الواردة في القرآن بالحث على الجهاد وما وعد فيه من الثواب.

الموضع التاسع: كتاب التوحيد أيضًا، باب قول الله تعالى: {قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [سورة الكهف 109] قال:

حدثنا عبد الله بن يوسف قال: أخبرنا مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «تكفل الله لمن جاهد في سبيله لا يخرجه من بيته إلا الجهاد في سبيله وتصديق كلمته» الحديث.

قال ابن حجر: المراد منه قوله: «وتصديق كلمته» ووقع في نسخة من طريق أبي ذر: «كلمات» بصيغة الجمع، هناك يقول: {لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ} [سورة الكهف 109] الباب {قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ} [سورة الكهف 109] وفي الحديث: «تصديق كلمته» والمناسبة حينئذٍ ظاهرة.

يقول ابن التين: يحتمل أن يكون المراد بكلماته الأوامر الواردة في الجهاد، وما وعد عليه من الثواب، ويحتمل أن يراد به ألفاظ الشهادتين، وأن تصديقه بها يثبت في نفسه عداوة من كفر بهما، والحرص على قتله، وهذا هو عين الجهاد، والله أعلم.

وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

المقدم: أحسن الله إليكم ونفع بعلمكم.

مستمعيَّ الكرام، بهذا نصل وإياكم إلى ختام هذه الحلقة من برنامجكم: شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح.

نلقاكم -بإذن الله تعالى- في حلقة قادمة.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.