التعليق على تفسير القرطبي - سورة الإسراء (06)

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،

قال الإمام القرطبي -رحمه الله-: "قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُورًا} [الإسراء : 41]

قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَقَدْ صَرَّفْنا) أي بينا. وقيل: كررنا".

يعني فصّلنا ووضَّحنا في هذا القرآن بحيث لا يبقى فيه شيء فيه خفاء ولا غموض.

"(فِي هذَا الْقُرْآنِ) قِيلَ:" فِي" زَائِدَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَلَقَدْ صَرَّفْنا هذَا الْقُرْآن، مِثْلَ:" وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي أي أصلح ذريتي. وَالتَّصْرِيفُ: صَرْفُ الشَّيْءِ مِنْ جِهَةٍ إِلَى جِهَةٍ. وَالْمُرَادُ بِهَذَا التَّصْرِيفِ الْبَيَانُ وَالتَّكْرِيرُ. وَقِيلَ: الْمُغَايَرَةُ، أَيْ غَايَرْنَا بَيْنَ الْمَوَاعِظِ؛ لِيَذَّكَّرُوا وَيَعْتَبِرُوا وَيَتَّعِظُوا. وقراءة العامة: "صَرَّفْنا" بِالتَّشْدِيدِ عَلَى التَّكْثِيرِ حَيْثُ وَقَعَ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ بالتخفيف. وَقَوْلُهُ: " فِي هذَا الْقُرْآنِ" يَعْنِي الْأَمْثَالَ وَالْعِبَرَ والحكم والمواعظ والأحكام والإعلام".

قوله: إن "في" زائدة لا تظهر زيادتها؛ لأن التصريف إنما وقع في القرآن، التصريف والتوضيح والتبيين والتفصيل إنما هو واقع في القرآن.

"قَالَ الثَّعْلَبِيُّ: سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ الْحُسَيْنَ يَقُولُ بِحَضْرَةِ الْإِمَامِ الشَّيْخِ أَبِي الطَّيِّبِ: لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {صَرَّفْنا} مَعْنَيَانِ: أَحَدُهُمَا لَمْ يَجْعَلْهُ نَوْعًا وَاحِدًا، بَلْ وَعْدًا وَوَعِيدًا وَمُحْكَمًا وَمُتَشَابِهًا وَنَهْيًا وَأَمْرًا وَنَاسِخًا وَمَنْسُوخًا وَأَخْبَارًا وَأَمْثَالًا".

مثل ما قال الله -جل وعلا- عن القرآن مثاني.

"مِثْلَ تَصْرِيفِ الرِّيَاحِ من صبا ودبور وجنوب وشمال، وتصريف الْأَفْعَالِ مِنَ الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْي وَالْفِعْلِ وَالْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ وَنَحْوِهَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ مَرَّةً وَاحِدَةً بَلْ نُجُومًا، نَحْوَ قَوْلِهِ: {وَقُرْآنًا فَرَقْناهُ} [الإسراء : 106]  وَمَعْنَاهُ: أَكْثَرْنَا صَرْفَ جِبْرِيلَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- إليك.

(لِيَذَّكَّرُوا) قِرَاءَةُ يَحْيَى وَالْأَعْمَشِ وَحَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ: " لِيَذْكُرُوا" مُخَفَّفًا، وَكَذَلِكَ فِي الْفُرْقَانِ: {وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا}، وقرأ الْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ. وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدٍ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ لِيَتَذَكَّرُوا وَلِيَتَّعِظُوا. قَالَ الْمَهْدَوِيُّ: مَنْ شَدَّدَ" لِيَذَّكَّرُوا" أَرَادَ التَّدَبُّرَ. وَكَذَلِكَ مَنْ قَرَأَ: " لِيَذكرُوا". وَنَظِيرُ الْأَوَّلِ: {وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}، وَالثَّانِي: {وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ}".

ليذكّروا بالتشديد أي ليتذكروا، ويتعظوا، ويتدبروا، ويتأملوا... ليذكُروا لا شك أن القرآن ذكر، وتلاوته من باب الذكر، وهو من ضمن ما يذكر به الله – جل وعلا-، ليذكروا يعني ليكون القرآن على ألسنتهم، كالذكر والتسبيح والتهليل والتحميد وغيره.

" (وَما يَزِيدُهُمْ) أَيِ التَّصْرِيفُ وَالتَّذْكِيرُ. (إِلَّا نُفُورًا) أَيْ تَبَاعُدًا عَنِ الْحَقِّ وَغَفْلَةً عَنِ النَّظَرِ وَالِاعْتِبَارِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمُ اعْتَقَدُوا فِي الْقُرْآنِ أَنَّهُ حِيلَةٌ وَسِحْرٌ وكهانة وشعر".

نعم؛ لوجود المانع من القبول؛ لأنه ما ثبت في أذهانهم أنه كهانة، وأنه سحر، وأنه شعر، منعهم من قبول الحق، ومنعهم من استعمال العقول، ومنعهم من النظر الصحيح في كتاب الله -جل وعلا-، والمانع من قبول الحجة ليس بعذر يعذر به الإنسان، إنما التكليف ببلوغ الحجة {لأنذركم به ومن بلغ} [الأنعام : 19]، كونه يوجد مانع من التقليد مثلًا من قبول الحق لا يعفي من المؤاخذة، ولذا في كثير من أقطار المسلمين من يشبه حالهم حال هؤلاء، القرآن لا يزيدهم إلا نفورًا، إذا قرئت عليهم آيات الشرك نفروا منها، لماذا؟ لأنهم توارثوا هذا العمل كابرًا عن كابر، ووجد ما يمنعهم من قبول الحجة من تقليد وتعصُّب للشيوخ، مع الأسف الشديد قد يوجد هذا في بعض أتباع الأئمة من الفقهاء، يمنعهم التعصب لإمامهم من قبول الحق بدليله، وهذا لا يعفيه، ولذا لما منعهم ما مضوا عليه ودرجوا عليه من القبول، بل زادهم ذلك نفورًا ما عُذروا.

"قوله تعالى: {قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذًا لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا * سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا} [الإسراء : 42-43].

قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ} هَذَا مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ} وَهُوَ رَدٌّ عَلَى عُبَّادِ الْأَصْنَامِ. (كَما يَقُولُونَ) قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحَفْصٌ: " يَقُولُونَ" بِالْيَاءِ. وقرأ الْبَاقُونَ: "تَقُولُونَ" بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ".

نعم، عباد الأصنام بلسان حالهم أو مقالهم يقولون: ما المانع أن يتعدد الألهة، ما المانع أن يكون لكل قبيلة إله، فجاء الرد عليهم من الله تعالى: {قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذًا لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} يتطاولون عليه، إذا وجد له نظير تطاولوا عليه -جل وعلا-، إذا زعموا أن هذه آلهة مع اعترافهم بأن الله -جل وعلا- إله، وتطاولوا على آلهتم إذًا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا، تطاولوا على الله -جل وعلا-؛ ظنًّا منهم أنه مثل آلهتم.

"{إِذًا لَابْتَغَوْا) يَعْنِي الْآلِهَةَ. {إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا}".

 إما الآلهة أو عباد هذه الآلهة.

"قَالَ ابْنُ عَبَّاسِ- رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا-: لَطَلَبُوا مَعَ اللَّهِ مُنَازَعَةً وَقِتَالًا كَمَا تَفْعَلُ مُلُوكُ الدُّنْيَا بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ-: الْمَعْنَى إِذًا لَطَلَبُوا طريقًا للوصول إليه؛ ليزيلوا ملكه؛ لأنهم شركاؤه. وقال قتادة: المعنى إذًا لابتغت الآلهة القربى إلى ذي العرش سبيلًا، والتمست الزلفى عنده؛ لأنهم دونه، والقوم اعتقدوا أن الأصنام تقربهم إلى الله، فإذا اعتقدوا في الأصنام أنها محتاجة إلى الله تعالى فقد بطل أنها آلهة.

{سبحانه وتعالى عما يقولون علوًّا كبيرًا} نزَّه سبحانه نفسه وقدّسه عما لا يليق به، والتسبيح التنزيه كما تقدم".

وهكذا ينبغي أن يقال عندما يسمع كلام لا يليق بالله -جل وعلا- أن يقال مثل هذا الكلام، سبحانه وتعالى عما يقولون الظالمون علوًّا كبيرًا.  

"قوله تعالى: {تسبح له السموات السبع والأرض وَمَنْ فِيهِنَّ} أعاد على السماوات والأرض ضمير من يعقل لما أسند إليها فعل العاقل وهو التسبيح".

طالب: ..........

من؟ أين فعل العاقل؟

طالب: ..........

تسبِّح له، التسبيح، أضاف التسبيح إلى السماوات والأرض، أعاد على السماوات والأرض ضمير من يعقل، فيهن ضمير المؤنث العاقل، ولو عاملها معاملة غير العقلاء لقال وما فيها، لكنه عاملها معاملة من يعقل فقال: فيهن؛ لأنه أسند إليها فعل العقلاء وهو التسبيح، فعاملها معاملة العقلاء في عود الضمير إليها ضمير العاقل.

طالب: ..........

ماذا فيها؟

طالب: ..........

من فيهن وما فيهن، من لمن؟

للعاقل، وما لغير العاقل، والأصل أن الذي يسبح العاقل وغير العاقل؛ {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ} هذا الأصل، لكن هنا غلِّب جانب العقلاءـ

"وقوله: (ومن فيهن) يُرِيدُ الْمَلَائِكَةَ وَالْإِنْسَ وَالْجِنَّ، ثُمَّ عَمَّ بَعْدَ ذَلِكَ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا فِي قَوْلِهِ: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ}. وَاخْتُلِفَ فِي هَذَا الْعُمُومِ، هَلْ هُوَ مُخَصَّصٌ أَمْ لَا، فَقَالَتْ فِرْقَةٌ: لَيْسَ مَخْصُوصًا، وَالْمُرَادُ بِهِ تَسْبِيحُ الدَّلَالَةِ، وَكُلُّ مُحْدَثٍ يَشْهَدُ عَلَى نَفْسِهِ بِأَنَّ اللَّهَ- عَزَّ وَجَلَّ- خَالِقٌ قَادِرٌ. وَقَالَتْ طائفة: هذا التسبيح حقيقة، وكل شيء عَلَى الْعُمُومِ يُسَبِّحُ تَسْبِيحًا لَا يَسْمَعُهُ الْبَشَرُ، وَلَا يَفْقَهُهُ، وَلَوْ كَانَ مَا قَالَهُ الْأَوَّلُونَ مِنْ أَنَّهُ أَثَرُ الصَّنْعَةِ وَالدَّلَالَةِ لَكَانَ أَمْرًا مَفْهُومًا، وَالْآيَةُ تَنْطِقُ بِأَنَّ هَذَا التَّسْبِيحَ لَا يُفْقَهُ. وَأُجِيبُوا بِأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: " لَا تَفْقَهُونَ" الْكُفَّارُ الَّذِينَ يُعْرِضُونَ عَنْ الِاعْتِبَارِ، فَلَا يَفْقَهُونَ حِكْمَةَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي الْأَشْيَاءِ".

نعم، التسبيح المنسوب لغير العقلاء الاحتمال بأنه تسبيح بلسان المقال وهو الأصل، والله سبحانه وتعالى قادر على أن يلهمها التسبيح فتسبح بالكلام، والاحتمال الثاني أنها بلسان الحال أنها تشهد لله -جل وعلا- بالوحدانية والتنزيه، وأنه هو الخالق المتصرف، هذا من جهة، وجاء في حديث الجريدة التي شقها النبي -صلى الله عليه وسلم- نصفين وقال: إنهما يسبحان ما لم ييبسا، يمكن إخراج اليابس من قوله تعالى: {وإن من شيء إلا يسبح بحمده}، ولعل التسبيح في الأخضر حقيقي، والتسبيح في اليابس بلسان الحال، وحينئذ تكون الغاية إلى اليبس في التسبيح الحقيقي الذي هو كلام، وما بعد ذلك يكون بلسان الحال، ويدخل في قوله: {وإن من شيء إلا يسبح بحمده}، وبهذا تجتمع النصوص كلها.

طالب:.............

نعم.

طالب: ..........

سمعه النبي -عليه الصلاة والسلام- وهذه من معجزاته.

"وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: قَوْلُهُ: " مِنْ شَيْءٍ" عُمُومٌ، وَمَعْنَاهُ الْخُصُوصُ فِي كُلِّ حَيٍّ وَنَامٍ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي الْجَمَادَاتِ. وَمِنْ هَذَا قَوْلُ عِكْرِمَةَ: الشَّجَرَةُ تُسَبِّحُ، وَالْأُسْطُوانُ لَا يُسَبِّحُ. وَقَالَ يَزِيدُ الرَّقَاشِيُّ لِلْحَسَنِ وَهُمَا فِي طَعَامٍ وَقَدْ قُدِّمَ الْخِوَانُ: أَيُسَبِّحُ هَذَا الْخِوَانُ يَا أَبَا سَعِيدٍ؟ فَقَالَ: قَدْ كَانَ يُسَبِّحُ مَرَّةً، يُرِيدُ أَنَّ الشَّجَرَةَ فِي زَمَنِ ثَمَرِهَا وَاعْتِدَالِهَا كَانَتْ تُسَبِّحُ، وَأَمَّا الْآنَ فقد صار خوانًا مدهونًا. قُلْتُ: وَيُسْتَدَلُّ لِهَذَا الْقَوْلِ مِنَ السُّنَّةِ بِمَا ثَبَتَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا- أَنَّ النَّبِيَّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَرَّ عَلَى قَبْرَيْنِ فَقَالَ: «إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَكَانَ لَا يَسْتَبْرِئُ مِنَ الْبَوْلِ»، قَالَ: فَدَعَا بِعَسِيبٍ رَطْبٍ فَشَقَّهُ اثْنَيْنِ، ثُمَّ غَرَسَ عَلَى هَذَا وَاحِدًا وَعَلَى هَذَا وَاحِدًا، ثُمَّ قَالَ: «لَعَلَّهُ يُخَفِّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا». فَقَوْلُهُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-. "مَا لَمْ يَيْبَسَا" إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمَا مَا دَامَا رَطْبَيْنِ يُسَبِّحَانِ، فَإِذَا يَبَسَا صَارَا جَمَادًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي مُسْنَدِ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ: فَوضَعَ عَلَى أَحَدِهِمَا نِصْفًا، وَعَلَى الْآخَرِ نِصْفًا وَقَالَ: «لَعَلَّهُ أَنْ يُهَوِّنَ عَلَيْهِمَا الْعَذَابَ مَا دَامَ فيهما من بلولتهما شيء».

قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَيُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا غَرْسُ الْأَشْجَارِ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ عَلَى الْقُبُورِ، وَإِذَا خُفِّفَ عَنْهُمْ بِالْأَشْجَارِ، فَكَيْفَ بِقِرَاءَةِ الرَّجُلِ الْمُؤْمِنِ الْقُرْآنَ؟".

كل هذا من البدع، ما أشار إليه المؤلف -رحمه الله- من البدع، لا غرس الأشجار عند القبور، ولا قراءة القرآن عند القبور؛ لأنه لم يثبت عن أحد من كبار الصحابة، نعم ثبت عن النبي أنه وضع الجريد، لكن بقية الصحابة وكبار الصحابة وأئمة المسلمين سلفًا وخلفًا لم يفعلوا هذا، فهذا خاص به- عليه الصلاة والسلام-؛ إذ لا يعلم ما في داخل القبر من نعيم وعذاب أحد إلا الله -جل وعلا- ومن أطلعه الله -جل وعلا- وهو نبيه -عليه الصلاة والسلام-، فلا يصنع مثل ما صنع. أهل العلم قالوا: إنه بدعة، فكيف بغرس الأشجار وقراءة القرآن، والقرآن عبادة، وقد نهينا عن تشبيه القبور بالمساجد، والمساجد إنما بُنيت للذكر وتلاوة القرآن؟

طالب:........

جاء في بعض الروايات أنهم يسبحون، نعم.

"وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الْمَعْنَى فِي (كِتَابِ التَّذْكِرَةِ) بَيَانًا شَافِيًا، وَأَنَّهُ يَصِلُ إِلَى الْمَيِّتِ ثَوَابُ مَا يُهْدَى إِلَيْهِ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى ذَلِكَ".

أما وصول ثواب القرب، وإهداء الثواب إلى الأموات فمسألة مختلف فيها بين أهل العلم، فالمعروف عند جمع من أهل العلم أن أي قربى فعلها الحي ثم أهدى الثواب إلى حي أو ميت تصل، وهذا معروف عند الحنابلة والشافعية وجمع من أهل العلم، ويقول بعضهم: إنه يقتصر على الوارد، فالميت يُدعى له، يُتصدق عنه، يُحج عنه، يُعتمر عنه، وما عدا ذلك يبقى على المنصوص عليه.

"وَعَلَى التَّأْوِيلِ الثَّانِي لَا يُحْتَاجُ إِلَى ذَلِكَ، فَإِنَّ كل شيء مِنَ الْجَمَادِ وَغَيْرِهِ يُسَبِّحُ.

قُلْتُ: وَيُسْتَدَلُّ لِهَذَا التَّأْوِيلِ وَهَذَا الْقَوْلِ مِنَ الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ}، [ص : 17-18]، وَقَوْلُهُ: {وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة : 74]- عَلَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ-، وَقَوْلِهِ: {وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَدًا"}. [مريم : 90-91]، وَذَكَرَ ابْنُ الْمُبَارَكِ فِي (دَقَائِقِهِ) أَخْبَرَنَا مِسْعَرٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَاصِلٍ".

رقائقه، خطأ في الكتاب، ابن المبارك له كتاب في الزهد والرقائق معروف.

"وَذَكَرَ ابْنُ الْمُبَارَكِ فِي (رقَائِقِهِ): أَخْبَرَنَا مِسْعَرٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَاصِلٍ عَنْ عَوْفِ".

عوف أم عون؟

طالب: ..........

ماذا عندكم؟

طالب: ..........

عون بالنون نعم.

"عن عون بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: إِنَّ الْجَبَلَ يَقُولُ لِلْجَبَلِ: يَا فُلَانُ، هَلْ مَرَّ بِكَ الْيَوْمَ ذَاكِرٌ لِلَّهِ- عَزَّ وَجَلَّ-؟ فَإِنْ قَالَ نَعَمْ سر به. ثُمَّ قَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: {وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَدًا} الْآيَةَ. قَالَ: أَفَتَرَاهُنَّ يَسْمَعْنَ الزُّورَ وَلَا يَسْمَعْنَ الْخَيْرَ. وَفِيهِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: مَا مِنْ صَبَاحٍ وَلَا رَوَاحَ إِلَّا تُنَادِي بِقَاعُ الْأَرْضِ بَعْضُهَا بَعْضًا. يَا جَارَاهُ، هَلْ مَرَّ بِكِ الْيَوْمَ عَبْدٌ فَصَلَّى لِلَّهِ أَوْ ذَكَرَ اللَّهَ عَلَيْكِ؟ فَمِنْ قَائِلَةٍ: لَا، وَمِنْ قَائِلَةٍ: نَعَمْ، فَإِذَا قَالَتْ: نَعَمْ رَأَتْ لَهَا بِذَلِكَ فَضْلًا عَلَيْهَا. وقال رسول الله -صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لَا يَسْمَعُ صَوْتَ الْمُؤَذِّنِ جن ولا إنس ولا شجر ولا حجر ولا مدر ولا شيء إِلَّا شَهِدَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ، وَمَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-. وَخَرَّجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: لَقَدْ كُنَّا نَسْمَعُ تَسْبِيحَ الطَّعَامِ وَهُوَ يُؤْكَلُ. فِي غَيْرِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ-: كُنَّا نأكل مع وسول اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الطَّعَامَ وَنَحْنُ نَسْمَعُ تَسْبِيحَهُ.

وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِنِّي لَأَعْرِفُ حَجَرًا بِمَكَّةَ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُبْعَثَ إِنِّي لَأَعْرِفُهُ الْآنَ». قِيلَ: إِنَّهُ الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَالْأَخْبَارُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ، وَقَدْ أَتَيْنَا عَلَى جُمْلَةٍ مِنْهَا في اللمع اللؤلؤية فِي شَرْحِ الْعِشْرِينِيَّاتِ النَّبَوِيَّةِ لِلْفَادَارِيِّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-، وَخَبَرُ الْجِذْعِ أَيْضًا مَشْهُورٌ فِي هَذَا الْبَابِ خرجه البخاري في مواضع مِنْ كِتَابِهِ. وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي جَمَادٍ وَاحِدٍ جَازَ فِي جَمِيعِ الْجَمَادَاتِ، وَلَا اسْتِحَالَةَ في شيء من ذلك، فكل شيء يُسَبِّحُ لِلْعُمُومِ. وَكَذَا قَالَ النَّخَعِيُّ وَغَيْرُهُ: هُوَ عَامٌّ فِيمَا فِيهِ رُوحٌ وَفِيمَا لَا رُوحَ فه حَتَّى صَرِيرَ الْبَابِ. وَاحْتَجُّوا بِالْأَخْبَارِ الَّتِي ذَكَرْنَا. وَقِيلَ: تَسْبِيحُ الْجَمَادَاتِ أَنَّهَا تَدْعُو النَّاظِرَ إِلَيْهَا إِلَى أَنْ يَقُولَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! لِعَدَمِ الْإِدْرَاكِ مِنْهَا".

وهذا هو التسبيح بلسان الحال.

"وَقَالَ الشَّاعِرُ:

تُلْقَى بِتَسْبِيحَةٍ مِنْ حَيْثُ مَا انْصَرَفَتْ ... وَتَسْتَقِرُّ حَشَا الرَّائِي بِتَرْعَادِ

أَيْ يَقُولُ مَنْ رَآهَا: سُبْحَانَ خَالِقِهَا. فَالصَّحِيحُ أَنَّ الْكُلَّ يُسَبِّحُ؛ لِلْأَخْبَارِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ ولَوْ كَانَ ذَلِكَ التَّسْبِيحُ تَسْبِيحَ دَلَالَةٍ فَأَيُّ تَخْصِيصٍ لِدَاوُدَ؟ وَإِنَّمَا ذَلِكَ تَسْبِيحُ الْمَقَالِ بِخَلْقِ الْحَيَاةِ وَالْإِنْطَاقِ بِالتَّسْبِيحِ كَمَا ذَكَرْنَا. وَقَدْ نَصَّتِ السُّنَّةُ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ مِنْ تسبيح كل شيء، فَالْقَوْلُ بِهِ أَوْلَى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ وَحَفْصٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ: " تَفْقَهُونَ" بِالتَّاءِ لِتَأْنِيثِ الْفَاعِلِ. وقرأ الْبَاقُونَ بِالْيَاءِ، وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدٍ، قَالَ: لِلْحَائِلِ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالتَّأْنِيثِ. {إِنَّهُ كانَ حَلِيمًا} عَنْ ذُنُوبِ عِبَادِهِ فِي الدنيا. {غَفُورًا} للمؤمنين في الآخرة".

مما تقدم أنه إذا وجد الفاصل بين الفعل وفاعله جاز التذكير والتأنيث.

"قوله تعالى: {وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجابًا مَسْتُورًا } [الإسراء : 45].

عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا- قَالَتْ: لَمَّا نَزَلَتْ سُورَةُ " تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ" أَقْبَلَتِ الْعَوْرَاءُ أُمُّ جَمِيلِ بِنْتُ حَرْبٍ وَلَهَا وَلْوَلَةٌ وَفِي يَدِهَا فِهْرٌ وَهِيَ تَقُولُ:

مُذَمَّمًا عَصَيْنَا ... وَأَمْرَهُ أَبَيْنَا

وَدِينَـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــهُ قَلَيْنَا"

 

مذمم تعني النبي -صلى الله عليه وسلم-، بدلًا من محمد، تقول: مذمم، من باب القلب، وهذا أسلوب مستعمل عند العرب، ومستمر أيضًا في استعماله كل من عادى شخصًا إن كان اسمه حميدًا، قلبه إلى اسم ذميم.

"وَالنَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَاعِدٌ فِي الْمَسْجِدِ وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، فَلَمَّا رَآهَا أَبُو بَكْرٍ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَقَدْ أَقْبَلَتْ وَأَنَا أَخَافُ أَنْ تَرَاكَ! قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِنَّهَا لَنْ تَرَانِي»، وَقَرَأَ قُرْآنًا فَاعْتَصَمَ بِهِ كَمَا قَالَ. وَقَرَأَ: {وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجابًا مَسْتُورًا}». فَوَقَفَتْ عَلَى أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، وَلَمْ تَرَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَتْ: يَا أَبَا بَكْرٍ، أُخْبِرْتُ أَنَّ صَاحِبَكَ هَجَانِي! فَقَالَ: لَا وَرَبِّ هَذَا الْبَيْتِ مَا هَجَاكِ. قَالَ: فَوَلَّتْ وَهِيَ تَقُولُ: قَدْ عَلِمَتْ قُرَيْشُ أَنِّي ابْنَةُ سَيِّدِهَا.

وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: لَمَّا نَزَلَتْ {تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} جَاءَتِ امْرَأَةُ أَبِي لَهَبٍ إِلَى النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَوْ تَنَحَّيْتَ عَنْهَا: لِئَلَّا تُسْمِعَكَ مَا يُؤْذِيكَ، فَإِنَّهَا امْرَأَةٌ بَذِيَّةٌ. فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِنَّهُ سَيُحَالُ بَيْنِي وَبَيْنَهَا» فَلَمْ تَرَهُ. فَقَالَتْ لِأَبِي بَكْرٍ: يَا أَبَا بَكْرٍ، هَجَانَا صَاحِبُكَ! فَقَالَ: وَاللَّهِ ما ينطق بالشعر ولا يقوله. فقالت: وإنكِ لَمُصَدِّقَةٌ".

لا، إنكَ.

" فقالت: وإنكَ لَمُصَدِّقَه، فَانْدَفَعَتْ رَاجِعَةً. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَمَا رَأَتْكَ؟ قَالَ:" لَا. مَا زَالَ مَلَكٌ بَيْنِي وَبَيْنَهَا يَسْتُرُنِي حَتَّى ذَهَبَتْ". وَقَالَ كَعْبٌ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فِي هَذِهِ الْآيَةِ: كَانَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَسْتَتِرُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِثَلَاثِ آيَاتٍ: الْآيَةِ الَّتِي فِي الْكَهْفِ: {إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْرًا}، والآية التي في النحل: {أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ}، وَالْآيَةِ الَّتِي فِي الْجَاثِيَةِ: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً}، الْآيَةَ".

أيضًا آية يس {وجعلنا من بين أيديهم سدًّا ومن خلفهم سدًّا}.

"فَكَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا قَرَّأَهُنَّ يَسْتَتِرُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. قَالَ كَعْبٌ- رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ-: فَحَدَّثْتُ بِهِنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، فَأَتَى أَرْضَ الرُّومِ فَأَقَامَ بِهَا زَمَانًا، ثُمَّ خَرَجَ هَارِبًا فَخَرَجُوا فِي طَلَبِهِ، فَقَرَأَ بِهِنَّ فَصَارُوا يَكُونُونَ مَعَهُ عَلَى طَرِيقِهِ وَلَا يُبْصِرُونَهُ. قَالَ الثَّعْلَبِيُّ: وَهَذَا الَّذِي يَرْوُونَهُ عَنْ كَعْبٍ حَدَّثْتُ بِهِ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الرِّيِّ فَأُسِرَ بِالدَّيْلَمِ، فَمَكَثَ زَمَانًا ثُمَّ خَرَجَ هَارِبًا فَخَرَجُوا فِي طَلَبِهِ، فَقَرَأَ بِهِنَّ حَتَّى جَعَلَتْ ثِيَابُهُم لَتَلْمِسُ ثِيَابَهُ فَمَا يبصرونه.

قلت: ويزاد إلى هذه الآية أَوَّلُ سُورَةِ يس إِلَى قَوْلِهِ: {فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ}. فَإِنَّ فِي السِّيرَةِ فِي هِجْرَةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَمُقَامِ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فِي فِرَاشِهِ قَالَ: وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَخَذَ حَفْنَةً مِنْ تُرَابٍ فِي يَدِهِ، وَأَخَذَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- عَلَى أَبْصَارِهِمْ عَنْهُ فَلَا يَرَوْنَهُ، فَجَعَلَ ينثر ذلك التراب على رؤوسهم وَهُوَ يَتْلُو هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ يس: {يس. وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ. إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ}- إِلَى قَوْلِهِ-: {وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ}، حَتَّى فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلَّا وَقَدْ وَضَعَ عَلَى رَأْسِهِ تُرَابًا، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى حَيْثُ أَرَادَ أَنْ يَذْهَبَ.

قُلْتُ: وَلَقَدِ اتَّفَقَ لِي بِبِلَادِنَا الْأَنْدَلُسِ بِحِصْنِ مَنْثُورٍ مِنْ أَعْمَالِ قُرْطُبَةَ مِثْلُ هَذَا. وَذَلِكَ أَنِّي هَرَبْتُ أَمَامَ الْعَدُوِّ، وَانْحَزْتُ إِلَى نَاحِيَةٍ عَنْهُ، فَلَمْ أَلْبَثْ أَنْ خَرَجَ فِي طَلَبِي فَارِسَانِ وَأَنَا فِي فَضَاءٍ مِنَ الْأَرْضِ قَاعِدٌ لَيْسَ يَسْتُرُنِي عَنْهُمَا شيء، وَأَنَا أَقْرَأُ أَوَّلَ سُورَةِ يس وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْقُرْآنِ، فَعَبَرَا عَلَيَّ ثُمَّ رَجَعَا مِنْ حَيْثُ جَاءَا، وَأَحَدُهُمَا يَقُولُ لِلْآخَرِ: هَذَا دَيْبَلَه، يَعْنُونَ شَيْطَانًا. وَأَعْمَى اللَّهُ- عَزَّ وَجَلَّ- أَبْصَارَهُمْ فَلَمْ يَرَوْنِي، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا عَلَى ذلك".

هذه الآيات تنفع فيمن طُلب بغير حق، أما من طُلب بحق فاختباؤه عن طالبه ظلم له، من يطلبه بحق قد لا تنفعه مثل هذه؛ لأنها بمنزلة الأدعية ومنزلة الرقية إن لم يكن فيها اعتداء نفعت، وإلا فلا. شخص يؤذي الناس ويهرب منهم ثم يقرأ هذه الآيات ويستفيد؟ لا يستفيد.

طالب: ..............

نعم.

طالب:..........

يعني فيما يظن الظان أنها ليست مناسبة كأمر بجهاد أو أمر بزكاة أو أمر بصلاة، أو ما أشبه ذلك.

على كل حال القرآن شفاء، وبالتجربة ثبت أن بعض الآيات تنفع لبعض الأمراض، وبعضها ينفع لأمراض أخرى، وهكذا.

طالب:...........

شيخ الإسلام وابن القيم كأنهم يميلون إلى أن ما ثبت بالتجربة لا بأس بترديده في مثل هذا المرض.

طالب: ..............

ماذا؟

طالب: ..............

تجربة عندهم.

طالب: ..............

هو يحتاج إلى دليل، وهم جربوا، شيخ الإسلام جرَّب الأذكار لا سيما الاستغفار، جرَّبه في كثير من الأمور والمشكلات العلمية والعملية فانحلت عنده -رحمه الله-.

 على كل حال الأصل الاكتفاء والاقتداء، لكن مثل هؤلاء جرَّبوا ونفع عندهم، ولا يلزم أن ينفع عند غيرهم؛ لأن هذه تنفع ضاربها كالسلاح.

"وقيل: الحجاب الْمَسْتُورُ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ حَتَّى لَا يَفْقَهُوهُ وَلَا يُدْرِكُوا مَا فِيهِ مِنَ الْحِكْمَةِ، قَالَهُ قَتَادَةُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: أَيْ أَنَّهُمْ لِإِعْرَاضِهِمْ عَنْ قِرَاءَتِكَ وَتَغَافُلِهِمْ عَنْكَ كَمَنْ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ حِجَابٌ فِي عَدَمِ رُؤْيَتِهِ لَكَ حَتَّى كَأَنَّ عَلَى قُلُوبِهِمْ أَغْطِيَةٌ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ كَانُوا يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ، وَهُمْ أَبُو جَهْلٍ وَأَبُو سُفْيَانَ وَالنَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ وَأُمُّ جَمِيلٍ امْرَأَةُ أَبِي لَهَبٍ وَحُوَيْطِبٌ، فَحَجَبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى رَسُولَهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ أَبْصَارِهِمْ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَكَانُوا يَمُرُّونَ بِهِ وَلَا يَرَوْنَهُ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ. وَهُوَ مَعْنَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ بِعَيْنِهِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ فِي الْآيَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَوْلُهُ: (مَسْتُورًا) فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْحِجَابَ مَسْتُورٌ عَنْكُمْ لَا تَرَوْنَهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْحِجَابَ سَاتِرٌ عَنْكُمْ مَا وَرَاءَهُ، وَيَكُونُ مستورا به بمعنى ساتر".

نعم، يأتي مفعول بمعنى فاعل والعكس، يأتي مفعول بمعنى فاعل كما هنا، ويأتي فاعل ويراد به اسم المفعول، {عيشة راضية} أي مرضية، وهنا مستور يعني ساتر، فيأتي اسم الفاعل ويراد به اسم المفعول والعكس.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً) " أَكِنَّةً" جمع كنان، وهي ما يستر الشَّيْءَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي" الْأَنْعَامِ  (أَنْ يَفْقَهُوهُ) أَيْ لِئَلَّا يَفْقَهُوهُ، أَوْ كَرَاهِيَةَ أَنْ يَفْقَهُوهُ، أَيْ أَنْ يَفْهَمُوا مَا فِيهِ مِنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي وَالْحِكَمِ وَالْمَعَانِي. وَهَذَا رَدٌّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ".

هذا رد على القدرية من أي وجه؟ القدرية المراد نفاة القدر.

طالب: ..............

 نعم فيه رد عليهم.

طالب:..............

نعم، وأن الأمر أنف، نفاتهم.

طالب: ..............

 نعم. الذين يقولون إن الله ما قدر شيئًا على عباده.

طالب: ..............

لا، هو قد يستدل به الجبرية، فيه رد على القدرية النفاة، يقولون: ما قُدِّر عليه، لو قدّر عليه ظلمه، وهنا ما قُدِّر. والله -عز وجل- يقول هنا: {وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه}، فهذا رد عليهم، الجبرية يقولون: هو مجبور حركته كحركة الأشجار، ومذهب أهل السنة والجماعة وسط بين المذهبين، {وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى}، أثبت له الرمي ونفاه عنه، أثبت عنه الحذف؛ لأنه من فعله، ونفى عنه الإصابة لأنه من فعل الله وتوفيقه. فالمقصود أن العبد له إرادة، وله حرية، وله اختيار، لكنها تابعة لإرادة الله -جل وعلا- ليست مستقلة كما يقول القدرية، وليس مسلوب الإرادة والحرية والاختيار كما يقول الجبرية.

"{وَفِي آذانِهِمْ وَقْرًا} أَيْ صَمَمًا وَثِقَلًا. وَفِي الْكَلَامِ إِضْمَارٌ، أَيْ أَنْ يَسْمَعُوهُ. {وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ} أَيْ قُلْتَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنْتَ تَتْلُو الْقُرْآنَ. وَقَالَ أَبُو الْجَوْزَاءِ أَوْسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: لَيْسَ شي أَطْرَدُ لِلشَّيَاطِينِ مِنَ الْقَلْبِ مِنْ قَوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، ثُمَّ تَلَا {وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُورًا"}. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ: هُوَ قَوْلُهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا في البسملة. (وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُورًا) قيل: يعنى بذلك المشركين. وقيل: الشياطين. "نُفُورًا" جَمْعُ نَافِرٍ، مِثْلُ شُهُودٍ جَمْعِ شَاهِدٍ، وَقُعُودٍ جَمْعِ قَاعِدٍ، فَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ. ويجوز أن يكون مصدرًا عَلَى غَيْرِ الصَّدْرِ، إِذْ كَانَ قَوْلُهُ" وَلَّوْا" بمعنى نقروا.

مصدر من غير فعله، مصدر من الفعل المرادف، كما تقول: جلست قعودًا.

طالب:..........

ماذا؟

طالب: ..............

يعني في القراءة، المقصود أنك تذكر ربك سواء كان من القرآن أو من الذكر المطلق، كما في حديث الأذان: «إذا أذن للصلاة أدبر وله ضراط» الشيطان ينفر من ذلك، فإذا قضي الأذان أقبل، وإذا ثوِّب للصلاة أدبر، وهكذا ينفر من الذكر كله، وأعظم ذكر القرآن.

نعم.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} قِيلَ: الْبَاءُ زَائِدَةٌ فِي قَوْلِهِ: " بِهِ" أَيْ يَسْتَمِعُونَهُ. وَكَانُوا يَسْتَمِعُونَ مِنَ النَّبِيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْقُرْآنَ ثُمَّ يَنْفِرُونَ فَيَقُولُونَ: هُوَ سَاحِرٌ وَمَسْحُورٌ، كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ عَنْهُمْ، قَالَهُ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ. (وَإِذْ هُمْ نَجْوى) أَيْ مُتَنَاجُونَ فِي أَمْرِكَ. قَالَ قَتَادَةُ: وَكَانَتْ نَجْوَاهُمْ قَوْلُهُمْ إِنَّهُ مَجْنُونٌ، وَإِنَّهُ سَاحِرٌ، وَإِنَّهُ يَأْتِي بِأَسَاطِيرِ الْأَوَّلِينَ، وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ حِينَ دَعَا عُتْبَةُ أَشْرَافَ قُرَيْشٍ إِلَى طَعَامٍ صَنَعَهُ لَهُمْ، فَدَخَلَ عَلَيْهِمُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَرَأَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ وَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ، فَتَنَاجَوْا، يَقُولُونَ: سَاحِرٌ وَمَجْنُونٌ. وَقِيلَ: أَمَرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلِيًّا أَنْ يَتَّخِذَ طَعَامًا وَيَدْعُوَ إِلَيْهِ أَشْرَافَ قُرَيْشٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَفَعَلَ ذَلِكَ عَلِيٌّ وَدَخَلَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَقَرَأَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ، وَدَعَاهُمْ إِلَى التَّوْحِيدِ، وَقَالَ:" قُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ لِتُطِيعَكُمُ الْعَرَبُ وَتَدِينَ لَكُمُ الْعَجَمُ" فَأَبَوْا، وَكَانُوا يَسْتَمِعُونَ مِنَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَيَقُولُونَ بَيْنَهُمْ مُتَنَاجِينَ: هُوَ سَاحِرٌ وَهُوَ مَسْحُورٌ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: النَّجْوَى اسْمٌ لِلْمَصْدَرِ، أَيْ وَإِذْ هُمْ ذُو نَجْوَى، أَيْ سِرَارٍ.

 {إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ} أَبُو جَهْلٍ وَالْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ وَأَمْثَالُهُمَا. {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا} أَيْ مَطْبُوبًا قَدْ خَبَلَهُ السِّحْرُ فَاخْتَلَطَ عَلَيْهِ أَمْرُهُ، يَقُولُونَ ذَلِكَ لِيُنَفِّرُوا عَنْهُ النَّاسَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ:" مَسْحُورًا" أَيْ مَخْدُوعًا".

الطب، رجل به طب أي به سحر، هذا من باب التفاؤول، كما يقال للديغ سليم، يقال للمسحور: به طب.

"مِثْلُ قَوْلِهِ: {فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} أَيْ مِنْ أَيْنَ تُخْدَعُونَ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ:" مَسْحُورًا" مَعْنَاهُ أَنَّ لَهُ سَحْرًا، أَيْ رِئَةً، فَهُوَ لَا يَسْتَغْنِي عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، فَهُوَ مِثْلُكُمْ وَلَيْسَ بِمَلَكٍ. وَتَقُولُ الْعَرَبُ لِلْجَبَانِ: قَدِ انْتَفَخَ سَحْرُهُ. وَلِكُلِّ مَنْ أَكَلَ مِنْ آدَمِيٍّ وَغَيْرِهِ أَوْ شَرِبَ مَسْحُورٌ وَمُسَحَّرٌ. قَالَ لَبِيَدٌ:

فَإِنْ تَسْأَلِينَا فِيمَ نَحْنُ فَإِنَّنَا ... عَصَافِيرُ مِنْ هَذَا الْأَنَامِ الْمُسَحَّرِ

وقال امْرُؤُ الْقَيْسِ:

أَرَانَا مُوضِعِينَ لِأَمْرِ غَيْبٍ  ... وَنُسْحَرُ بِالطَّعَامِ وَبِالشَّرَابِ

أَيْ نُغَذَّى وَنُعَلَّلُ. وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- أَنَّهَا قَالَتْ: مَنْ هَذِهِ الَّتِي تُسَامِينِي مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَقَدْ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَيْنَ سحري ونحرى".

وكانت زينب بنت جحش تساميها، هي التي تسامي عائشة -رضي الله عنها- تقاربها في الجمال.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ} عَجَّبَهُ مِنْ صُنْعِهِمْ كَيْفَ يَقُولُونَ تَارَةً سَاحِرٌ وَتَارَةً مَجْنُونٌ وَتَارَةً شَاعِرٌ. {فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} أَيْ حِيلَةً فِي صَدِّ النَّاسِ عَنْكَ. وَقِيلَ: ضَلُّوا عَنِ الْحَقِّ فَلَا يَجِدُونَ سَبِيلًا، أَيْ إِلَى الْهُدَى. وَقِيلَ: مَخْرَجًا، لِتَنَاقُضِ كَلَامِهِمْ فِي قَوْلِهِمْ: مَجْنُونٌ، سَاحِرٌ، شَاعِرٌ.

 

قوله تعالى: {وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظامًا وَرُفاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا} [الإسراء : 49]

قوله تعالى: (أَإِذا كُنَّا عِظامًا وَرُفاتًا) أَيْ قَالُوا وَهُمْ يَتَنَاجَوْنَ لَمَّا سَمِعُوا الْقُرْآنَ وَسَمِعُوا أَمْرَ الْبَعْثِ: لَوْ لم يكن مسحورا لَمَا قَالَ هَذَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الرُّفَاتُ الْغُبَارُ. مُجَاهِدٌ: التُّرَابُ. وَالرُّفَاتُ مَا تَكَسَّرَ وَبَلِيَ من كل شي، كَالْفُتَاتِ وَالْحُطَامِ وَالرُّضَاضِ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ وَالْكِسَائِيِّ وَالْفَرَّاءِ وَالْأَخْفَشِ. تَقُولُ مِنْهُ: رُفِتَ الشَّيْءُ رَفْتًا، أي حطم، فهو مرفوت. {أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا} " أَإِنَّا" استفهام".

للاستبعاد، أئذا متنا، أئذا كنا عظامًا ورفاتًا، أئنا لمبعوثون، هذا تكرر، تكرر استبعادهم أنهم بعد الموت وخروج الروح أن يبعثوا، ينكرون البعث ويستبعدونه، بعدما تبلى العظام، ويكون الإنسان ترابًا، يستبعد أن يبعث، لو كانت المسألة مردها إلى العقل، لكن المسألة شرعية، ولو حُكِّن العقل السليم الباقي على فطرته الذي لم تجتاله الشياطين، فالبعث ليس بأشد من بدء الخلق. الذي بدأ الخلق قادر على أن يعيده.

" والمراد به الجحد والإنكار. و" خَلْقًا" نُصِبَ؛ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ، أَيْ بَعْثًا جَدِيدًا. وَكَانَ هذا غاية الإنكار منهم.

قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيدًا) أَيْ قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ كُونُوا عَلَى جِهَةِ التَّعْجِيزِ حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا فِي الشِّدَّةِ وَالْقُوَّةِ".

لأن الأمر قد يكون للتعجيز كما هنا،(قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيدًا)، كونوا ما شئتم كما تريدون، للتعجيز، وقد يكون الأمر أمر تكوين (كونوا قردة)، للتصيير، فالأمر له معانٍ منها التعجيز. نعم.

طالب: ..............

نعم؟

طالب: قد يكون الإعادة أصعب من البدء.

غير صحيح، الذي يوجد الشئ من العدم يعني من مادة غير مادته، ألا يستطيع أن يعيدها من المادة نفسها؟!

من المادة أسهل بكثير.

"قَالَ الطَّبَرِيُّ: أَيْ إِنْ عَجِبْتُمْ مِنْ إِنْشَاءِ اللَّهِ لَكُمْ عِظَامًا وَلَحْمًا فَكُونُوا أَنْتُمْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا إِنْ قَدَرْتُمْ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى: مَعْنَاهُ أَنَّكُمْ لَوْ كُنْتُمْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا لَمْ تَفُوتُوا اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- إِذَا أَرَادَكُمْ، إِلَّا أَنَّهُ خَرَجَ مَخْرَجَ الْأَمْرِ؛ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي الْإِلْزَامِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَوْ كُنْتُمْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا لَأَعَادَكُمْ كَمَا بَدَأَكُمْ، وَلَأَمَاتَكُمْ ثُمَّ أَحْيَاكُمْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْمَعْنَى كُونُوا مَا شِئْتُمْ فَسَتُعَادُونَ. النَّحَّاسُ: وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَكُونُوا حِجَارَةً، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى أَنَّهُمْ قَدْ أَقَرُّوا بِخَالِقِهِمْ، وَأَنْكَرُوا الْبَعْثَ فَقِيلَ لَهُمُ: اسْتَشْعِرُوا أَنْ تَكُونُوا مَا شِئْتُمْ، فَلَوْ كُنْتُمْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا لَبُعِثْتُمْ كَمَا خُلِقْتُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ.

 (أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ) قال مجاهد: يعنى السموات وَالْأَرْضَ وَالْجِبَالَ لِعِظَمِهَا فِي النُّفُوسِ. وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ قَتَادَةَ. يَقُولُ: كُونُوا مَا شِئْتُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ أَيْضًا وَعِكْرِمَةُ وَأَبُو صالح والضحاك: يعنى الموت؛ لأنه ليس شي أَكْبَرُ فِي نَفْسِ ابْنِ آدَمَ مِنْهُ، قَالَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ:

وَلَلْمَوْتُ خَلْقٌ فِـــــــــــــــــــــــي النُّفُوسِ فَظِيعُ

 

يَقُولُ: إِنَّكُمْ لَوْ خُلِقْتُمْ مِنْ حِجَارَةٍ أَوْ حَدِيدٍ أَوْ كُنْتُمُ الْمَوْتَ لَأُمِيتَنَّكُمْ وَلَأَبْعَثَنَّكُمْ".

لا سيما عند غير المسلم، الموت هو فقد كل شيء، يعني المرض فقد الصحة، الفقر فقد المال، العمى فقد البصر، الصمم والبكم فقد السمع، فقد جزئي، لكن الموت فقدٌ كلي لا شيء أشد منه، هذا عند غير المسلم، لكن أعظم منه عند المسلمين فقد الدين، عند المسلم فقد الدين أعظم من فقد الحياة، الحياة إذا فقدت فلا شيء بالنسبة للحياة الأخرى، تعوض في الحياة الأخرى، لكن الدين إذا فقد،

كل كسر فإن الدين جابره.......... وما لكسر قناة الدين جبـــــــــــــــــران

فالدين هو رأس مال المسلمإذا فقده فقد كل شيء، لكن أمور الدنيا كلها مكاسب يفقدها ويعوض عنها خيرًا منها.

"يَقُولُ: إِنَّكُمْ لَوْ خُلِقْتُمْ مِنْ حِجَارَةٍ أَوْ حَدِيدٍ أَوْ كُنْتُمُ الْمَوْتَ لَأُمِيتَنَّكُمْ وَلَأَبْعَثَنَّكُمْ؛ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ الَّتِي بِهَا أَنْشَأْتُكُمْ بِهَا نُعِيدُكُمْ. وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: {فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ}. وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ" يُؤْتَى بِالْمَوْتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي صُورَةِ كَبْشٍ أَمْلَحٍ فَيُذْبَحُ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ". وَقِيلَ: أَرَادَ بِهِ الْبَعْثَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ أكبر في صدورهم، قاله الكلبي." فَطَرَكُمْ" خلقكم وأنشأكم. {فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ} أي يحركون رؤوسهم استهزاء، يقال: نَغَضَ رَأْسَهُ يَنْغُضُ وَيَنْغِضُ نَغْضًا وَنُغُوضًا، أَيْ تَحَرَّكَ. وَأَنْغَضَ رَأْسَهُ أَيْ حَرَّكَهُ، كَالْمُتَعَجِّبِ مِنَ الشيء، ومنه قوله تعالى: {فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ}. قَالَ الرَّاجِزُ:

أَنْغَضَ نَحْــــــــــــــــــوِي رَأْسَهُ وَأَقْنَعَا

 

وَيُقَالُ أَيْضًا: نَغَضَ فُلَانٌ رَأْسَهُ أَيْ حَرَّكَهُ، يَتَعَدَّى وَلَا يَتَعَدَّى، حَكَاهُ الْأَخْفَشُ. وَيُقَالُ: نَغَضَتْ سِنُّهُ، أي تحركت وَانْقَلَعَتْ. قَالَ الرَّاجِزُ:

وَنَغَضَتْ مـــــــــــــــِنْ هَرَمٍ أَسْنَانُهَا

 

وَقَالَ آخَرُ:

لَمَّا رَأَتْنِي أَنْغَضَتْ لِيَ الرَّأْسَا"

طالب: ..............

نعم، صحيح.

"وَقَالَ آخَرُ:

لَا مَاءَ فِي الْمَقْرَاةِ إِنْ لَمْ تَنْهَضِ ... بِمَسَدٍ فَوْقَ الْمِحَالِ النُّغَّضِ

الْمِحَالُ وَالْمِحَالَةُ: الْبَكَرَةُ الْعَظِيمَةُ الَّتِي يُسْتَقَى بِهَا الْإِبِلُ".

المحالة مستعملة وهي البكرة التي يسقى بها الإبل، ويستقى بها من البئر، هي البكرة، يستقى بها من البئر للإبل وغيرها وللناس أيضًا.

لا ماء في المقراة، المقراة ويُسمى القرو أيضًا، والمعنى واحد، وهو الحوض من حجارة يجمع فيه الماء إن لم تنهض تشتغل وتعمل وتتسبب بمسد حبل، بمسد فوق المحال، لابد من التسبب وإلا فلا ماء، يعني البئر بجوارك، وليس عندك دلو ولا حبل رشاء تموت من العطش، عندك السبب ولكن لم تتسبب تموت عطشًا، لكن إذا تسببت، والسبب موجود، حصل الأثر بإذن الله- عز وجل-.

طالب:.............

نعم.

طالب: ..............

قالتا أتينا طائعين، ماذا يقول؟ ضرس الكافر وناب الكافر ماذا يقول بعد؟ ووزن الأعمال وهي معنوية ماذا يفعل؟ لا ينكر هذا إلا ضال مضل، التواتر المعنوي يشهد بهذا.

طالب:..........

إن تأوَّل كالمعتزلة وغيرهم حُكم عليه بأنه ضال.

طالب: ..............

 لا لا، وما العقول بالنسبة لما بعد الموت، هل تدرك شيئًا؟ ما تدرك شيئًا، ما تدرك هذه العقول إلا أمورًا إجمالية، الأمور التفصيلية لا تدركها إلا بما جاء في النص.

طالب:..........

طبيعة البكرة متحركة نعم.

"(وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ) أَيِ الْبَعْثُ وَالْإِعَادَةُ وَهَذَا الْوَقْتُ".

استبعاد، نعم.

" {قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا} أَيْ هو قريب؛ لأن عسى واجب، نَظِيرُهُ" {وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا} وَ" لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ. وَكُلُّ مَا هُوَ آت فهو قريب.

قوله تعالى: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ} الدُّعَاءَ: النِّدَاءُ إِلَى الْمَحْشَرِ بِكَلَامٍ تَسْمَعُهُ الْخَلَائِقُ، يَدْعُوهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فيه بالخروج. وَقِيلَ: بِالصَّيْحَةِ الَّتِي يَسْمَعُونَهَا، فَتَكُونُ دَاعِيَةً لَهُمْ إِلَى الِاجْتِمَاعِ فِي أَرْضِ الْقِيَامَةِ. قَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: " إِنَّكُمْ تُدْعَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَسْمَائِكُمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِكُمْ فَأَحْسِنُوا أَسْمَاءَكُمْ". (فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ) أي باستحقاقه الحمد على الأحياء. وَقَالَ أَبُو سَهْلٍ: أَيْ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، كَمَا قَالَ:

فَإِنِّي بِحَمْدِ اللَّهِ لَا ثَوْبَ فَاجِرٍ ... لَبِسْتُ، ولا من غدرة أتقنع

وقيل: حامدين لله تَعَالَى بِأَلْسِنَتِكُمْ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: تَخْرُجُ الْكُفَّارُ مِنْ قُبُورِهِمْ وَهُمْ يَقُولُونَ: سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ".

لكن بعد المعاينة ما ينفع العتراف والإقرار، إذا فاضت الروح ما نفع شيء، بل إذا وصل الإنسان إلى حد الغرغرة فخلاص، وعاين ما كان يسمع لا ينفع نفسًا إيمانها.

طالب: ..............

نعم.

طالب: ..............

كيف؟

طالب: ..............

إذا بدأت الغرغرة خلاص انتهت. والتوبة تُقبل ما لم يغرغر.

طالب: ..............

ماذا؟

طالب: ..............

ما المانع؟ يخاطب الأب.

طالب: ..............

الابن؟

طالب: ..............

ما المانع؟ هو الأصل أن الاسم من حق الأب، لكن إذا فرَّط الأب في حقه وسمى اسمًا لا ينبغي، صار الابن متضررًا بهذا الاسم يغيره.

طالب: ..............

لكن لا داعي لتغييره، لا محظور شرعي، ولا يتضرر به، ولا ينبز به فما المانع؟ يصبر عليه.

طالب: ..............

نعم، يصبر عليه إذا لم يكن هناك ضرر عليه يصبر.  

" وَلَكِنْ لَا يَنْفَعُهُمُ اعْتِرَافُ ذَلِكَ الْيَوْمِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِحَمْدِهِ" بِأَمْرِهِ، أَيْ تُقِرُّونَ بِأَنَّهُ خَالِقُكُمْ. وَقَالَ قَتَادَةُ: بِمَعْرِفَتِهِ وَطَاعَتِهِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى بِقُدْرَتِهِ. وَقِيلَ: بِدُعَائِهِ إِيَّاكُمْ. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَهُوَ الصَّحِيحُ، فَإِنَّ النَّفْخَ فِي الصُّوَرِ إِنَّمَا هُوَ سَبَبٌ لِخُرُوجِ أَهْلِ الْقُبُورِ، وبِالْحَقِيقَةِ إِنَّمَا هُوَ خُرُوجُ الْخَلْقِ بِدَعْوَةِ الْحَقِّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ} فَيَقُومُونَ يَقُولُونَ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ.

الآن النفخ في الصور مرتان أم ثلاثة؟

طالب: ..............

طيب. نفخة الفزع ونفخة الصعق ونفخة البعث.

طالب: ..............

على الخلاف المعروف بين أهل العلم، منهم من يقول: ثلاث، ومنهم من يقول: مرتان. لكن من حيث المعنى الفزع غير الصعق، الصعق الموت، والفزع الذعر غير الموت.

طالب: ..............

لكن فزعهم نتيجة نفخ.

"قَالَ: فَيَوْمُ الْقِيَامَةِ يَوْمٌ يُبْدَأُ بِالْحَمْدِ وَيُخْتَمُ بِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ" وَقَالَ فِي آخَرَه: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ}.

{وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا} يَعْنِي بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَذَابَ يُكَفُّ عَنِ الْمُعَذَّبِينَ بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ، وَذَلِكَ أَرْبَعُونَ عَامًا فَيَنَامُونَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا} فَيَكُونُ خَاصًّا لِلْكُفَّارِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لِلْكَافِرِينَ هَجْعَةٌ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ يَجِدُونَ فِيهَا طَعْمَ النَّوْمِ، فَإِذَا صِيحَ بِأَهْلِ الْقُبُورِ قَامُوا مَذْعُورِينَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْمَعْنَى أَنَّ الدُّنْيَا تَحَاقَرَتْ فِي أَعْيُنِهِمْ وَقَلَّتْ حِينَ رَأَوْا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وقال الْحَسَنُ:" وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا" فِي الدُّنْيَا؛ لِطُولِ لُبْثكُمْ في الآخرة".

لأن الدنيا لا شيء بالنسبة للآخرة، يعني مهما طال عمر الإنسان، ووصل إلى المائة أو جاوز ذلك، فهذا الطول كلا شيء بالنسبة لخلوده في الآخرة إما في الجنة وإما في النار، نسأل الله السلامة. إلى أبد الآباد، فالدنيا كلها كلا شيء بالنسبة للآخرة، كما أن نعيمها لا شيء بالنسبة لنعيم الآخرة. وعذابها لا شيء بالنسبة لعذاب الآخرة، وكرب الدنيا كلها لو اجتمعت على شخص لا شيء بالنسبة لكربة واحدة من كرب الآخرة، ولذا جاء في الحديث: «من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة»، ما قال: من كرب الدنيا والآخرة، كما قال: ستره الله في الدنيا والآخرة. فالدنيا لا شيء.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) تَقَدَّمَ إِعْرَابُهُ.

وَالْآيَةُ نَزَلَتْ فِي عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. وَذَلِكَ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْعَرَبِ شَتَمَهُ، وَسَبَّهُ عُمَرُ وَهَمَّ بِقَتْلِهِ، فَكَادَتْ تُثِيرُ فِتْنَةً فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ:" وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ"، ذَكَرَهُ الثعلبي والماوردي وَابْنُ عَطِيَّةَ وَالْوَاحِدِيُّ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ لَمَّا قَالَ المسلمون: ائذن لَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فِي قِتَالِهِمْ فَقَدْ طَالَ إِيذَاؤُهُمْ إِيَّانَا، فَقَالَ:" لَمْ أُومَرْ بَعْدُ بِالْقِتَالِ"، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ"، قَالَهُ الْكَلْبِيُّ.

وَقِيلَ: الْمَعْنَى قُلْ لِعِبَادِي الَّذِينَ اعْتَرَفُوا بِأَنِّي خَالِقُهُمْ وَهُمْ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ، يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ مِنْ كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ وَالْإِقْرَارِ بِالنُّبُوَّةِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى وَقُلْ لِعِبَادِي الْمُؤْمِنِينَ إِذَا جَادَلُوا الْكُفَّارَ فِي التَّوْحِيدِ، أَنْ يَقُولُوا الْكَلِمَةَ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ. كَمَا قَالَ:" {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ}".

هذا معروف الحكمة في الدعوة واللين والرفق يحقق الهدف، ولا يترتب عليه مفسدة، لكن الشدة والغلظة لا تحقق الهدف المرجو من استجابة المدعو، مثل ما يحققه اللين إلا الذين ظلموا فلهم أيضًا موقف آخر، ولهم أسلوب ثانٍ، {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم} [العنكبوت : 46]، فالذين ظلموا يُشدّ عليهم في مقابل ظلمهم، {جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم} فالغلظة لها وقت، واللين والرفق والحكمة له وقت، والأصل الرفق واللين، إذا لم يجدِ هذا الأسلوب لجئ إلى أسلوب آخر.

طالب:...........

إذا لم يجدِ فيه اللين والرفق يغلظ عليه، نعم.

طالب: ..............

نعم. وإلا فالأصل اللين.

طالب: ..............

نعم، بلا شك. نفعه أجدى في الدعوة، في الإنكار، في الأمر، في التعليم، وإذا لم يجدِ ذلك انتقل إلى الأسلوب الآخر.

"وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ أَنْ يَقُولَ لِلْكَافِرِ إِذَا تَشَطَّطَ: هَدَاكَ اللَّهُ! يَرْحَمُكَ اللَّهُ! وَهَذَا قَبْلَ أَنْ أُمِرُوا بِالْجِهَادِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى قُلْ لَهُمْ يَأْمُرُوا بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، وَيَنْهَوْا عَمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ، وَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْآيَةُ عَامَّةً فِي الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، أَيْ قُلْ لِلْجَمِيعِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْمُؤْمِنِينَ فِيمَا بَيْنَهُمْ خَاصَّةً، بِحُسْنِ الْأَدَبِ وَإِلَانَةِ الْقَوْلِ، وَخَفْضِ الْجَنَاحِ وَإِطْرَاحِ نَزَغَاتِ الشَّيْطَانِ، وَقَدْ قَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا». وَهَذَا أَحْسَنُ، وَتَكُونُ الآية محكمة".

نعم، لا شك أن المدارة واللين والحكمة من مصلحة الدعوة ومن مصلحة تغيير المنكرات هذا أمر مطلوب، لكن هناك حد لا ينبغي ألا يتجاوزه المسلم، المداهنة لا تجوز بحال؛ لأن بعض الناس يتنازل عن أمور هي من مطالب الشرع يقول: مصلحة الدعوة تقتضيها، نقول: لا، هناك حد لا يجوز تجاوزه، نعم المدارة تداري، أما المداهنة فلا، مهما قدَّرت عظم المصلحة فأنت مأمور بأن تحقق مصلحة، لكن لا على أن ترتكب مفاسد، والمداهنة معصية، والمعصية من سخط الله، وما عند الله لا يُنال بسخطه كما هو معروف.

بعض من يزاول الدعوة مع بعض المبتدعة ممن بدعه مكفرة يتنازل معهم إلى حد غير مقبول، يقول: مصلحة الدعوة تقتضيها، كيف أدعو شخصًا وأنا بيني وبينه كذا؟ لا يمكن أن يستجيب، نقول: نعم أنت مأمور بأمر تأتمر، ومنهي عن شيء عليك أن تنتهي، وأن تدور مع الشرع أمرًا ونهيًا، تحقق ما أُمرت به، وتكف عما نُهيت عنه.

طالب:..............

نعم.

طالب: ..............

أما بالنسبة للضعف الظاهر في الأمة فلا شك أن المكي أشبه، يعني لو قلنا: إن المسألة مسألة تنزيل على أوقات، والمسألة مسألة ظروف، إذا قوي المسلمون نفذوا ما كان في العهد المدني، وإذا ضعفوا رجعوا، وإليه ميل جمع من أهل العلم، فظرفنا أضعف من العهد المكي الذي نعيشه، وإذا قلنا: إن آية السيف نسخت كل ما كان فيه إلانة للكفار ونزول ومهادنة ومواضعة، كما يقول جماهير أهل العلم، قلنا: نحن مطالبون بآخر الأمرين من أمره -عليه الصلاة والسلام-.

طالب: ..............

كل يقول بقوله، وهذا يقوله عامة أهل العلم.

ويبقى أن التكليف مع العجز لم تأتِ به الشريعة، فيبقى الحكم حكمًا، والواجب واجبًا، ومع ذلك مع العجز يوقف تنفيذه لا يقال: إنه مباح للعجز، لا.

طالب:.............

لا، أنت تفهم المقصود، ما أقصد الصلاة، ولا العبادات الخاصة، يقصدون ما يتعلق بأمر العامة، وعلى كل حال إن عامة أهل العلم أن العهد المكي منسوخ، وأن الأمة مطالبة بما كان عليه آخر الأمرين منه -عليه السلام-، ويبقى أن الأمة مطالبة بالأمر والنهي، مطالبة بالجهاد، مطالبة بما يرفع شأنها، لكن العجز له أحكامه، وله ظروفه، والقوة لها أحكامها، ولها ظروفها، ويبقى أن الواجب واجب، والحرام حرام، وإن أكره الإنسان على الحرام يبقى حرامًا، وإن منع من الواجب يبقى واجبًا، لا يتحول إلى غير واجب.

"قوله تعالى:" (إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ) أَيْ بِالْفَسَادِ وَإِلْقَاءِ الْعَدَاوَةِ وَالْإِغْوَاءِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي آخِرِ الْأَعْرَافِ وَيُوسُفَ. يُقَالُ: نَزَغَ بَيْنَنَا أَيْ أَفْسَدَ، قَالَهُ الْيَزِيدِيُّ. وَقَالَ غَيْرُهُ: النَّزْغُ الْإِغْرَاءُ. (إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِينًا) أَيْ شَدِيدَ الْعَدَاوَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَةِ. وَفِي الْخَبَرِ:" أَنَّ قَوْمًا جَلَسُوا يَذْكُرُونَ اللَّهَ- عَزَّ وَجَلَّ- فَجَاءَ الشَّيْطَانُ لِيَقْطَعَ مَجْلِسَهُمْ فَمَنَعَتْهُ الْمَلَائِكَةُ فَجَاءَ إِلَى قَوْمٍ جَلَسُوا قَرِيبًا مِنْهُمْ لَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ، فَحَرَّشَ بَيْنَهُمْ فَتَخَاصَمُوا وَتَوَاثَبُوا، فَقَالَ هَؤُلَاءِ الذَّاكِرُونَ: قُومُوا بِنَا نُصْلِحُ بَيْنَ إِخْوَانِنَا فَقَامُوا وَقَطَعُوا مَجْلِسَهُمْ وَفَرِحَ بِذَلِكَ الشَّيْطَانُ". فَهَذَا مِنْ بَعْضِ عداوته".

نعم، لم يستطع أن يؤثر عليهم تأثيرًا مباشرًا، فسعى إلى التسبّب، لم يستطع أن يؤثِّر بنفسه؛ لأنهم يذكرون الله -جل وعلا-، والذكر يطرد الشيطان، فتسبَّب فيما يقطعهم عن هذا الذكر، على كل حال من رواه؟

طالب:............

ما خرج؟

طالب: ..............

ماذا يقول؟

طالب: ..............

هو من الإسرائليات ومعناه صحيح.

طالب: ..............

بلى، فالشيطان إذا لم يستطع أن يباشر صد الإنسان عن دينه تسبب بذلك، وضع في طريقه عراقيل تحول دون العبادة، نعم هو تسبَّب في قطع مجلسهم الذكري؛ لكنهم قاموا إلى ما هو أعظم من ذلك وهو الإصلاح، فيكون تسبَّب في شيء، وحصلوا على ما هو أعظم منه. 

"قَوْلُهُ تَعَالَى: (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ) هَذَا خِطَابٌ لِلْمُشْرِكِينَ، وَالْمَعْنَى: إِنْ يَشَأْ يُوَفِّقْكُمْ لِلْإِسْلَامِ فَيَرْحَمْكُمْ، أو يميتكم على الشرك فيعذبكم، قاله ابن جريج. و"أَعْلَمُ" بِمَعْنَى عَلِيمٍ، نَحْوَ قَوْلِهِمْ: اللَّهُ أَكْبَرُ، بِمَعْنَى كَبِيرٌ".

وليس معنى هذا أن أفعل التفضيل هنا على بابها، وأنه يشاركه في هذا العلم من يشاركه، وإن كان أقل منه فيه.

"وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ، أَيْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ بِأَنْ يَحْفَظَكُمْ مِنْ كُفَّارِ مَكَّةَ، أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ بِتَسْلِيطِهِمْ عَلَيْكُمْ، قَالَهُ الْكَلْبِيُّ. (وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا) أَيْ وَمَا وَكَّلْنَاكَ فِي مَنْعِهِمْ مِنَ الْكُفْرِ وَلَا جَعَلْنَا إِلَيْكَ إِيمَانَهُمْ. وَقِيلَ: مَا جَعَلْنَاكَ كَفِيلًا لَهُمْ تُؤْخَذُ بِهِمْ، قَالَهُ الْكَلْبِيُّ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:

ذَكَرْتُ أَبَا أَرْوَى فَبِتُّ كَأَنَّنِي ... بِرَدِّ الْأُمُورِ الْمَاضِيَاتِ وَكِيلُ

أي كفيل.

قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ} أَعَادَ بَعْدَ أَنْ قَالَ:" رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ"؛ لِيُبَيِّنَ أَنَّهُ خَالِقُهُمْ، وَأَنَّهُ جَعَلَهُمْ مُخْتَلِفِينَ فِي أَخْلَاقِهِمْ وَصُوَرِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ وَمَالِهِمْ، " أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ. وَكَذَا النَّبِيُّونَ فَضِّلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ عَنْ عِلْمٍ مِنْهُ بِحَالِهِمْ. وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِي هَذَا فِي" الْبَقَرَةِ".

في قوله تعالى: {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض}، وجاء في الحديث النهي عن التفضيل بين الأنبياء «لا تفاضلوا بين الأنبياء»، والله فضَّل بعض النبيين على بعض، فالحديث محمول على التنقص للمفضول، أما الاعتراف بحق الفاضل مع احترام المفضول فقد جاء به القرآن {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض}، وهنا يقول {ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض}، والنهي عن التفضيل إنما إذا تضمن تنقصًا، كما جاء في قصة اليهودي مع مسلم، وأنه فضَّل موسى على البشر، وهذا فضَّل محمدًا على الخلق، هذا تضمن التنقص، فاليهودي تنقص من النبي- عليه الصلاة والسلام-، والمسلم قد يشم من أسلوبه أنه يتنقص موسى -عليه السلام-، ولذا جاء في الحديث الصحيح: «لا تفضلوني على يونس بن متى»؛ لأن من يقرأ قصته قد يتطاول عليه- عليه السلام-، هو نبي من الأنبياء، فكون النبي -عليه الصلاة والسلام- ينهى عن تفضيله عن يونس؛ لأنه مظنة أن يتنقصه الإنسان إذا عرف شيئًا من سيرته.

"(وَآتَيْنا داوُدَ زَبُورًا) الزَّبُورُ: كِتَابٌ لَيْسَ فِيهِ حَلَالٌ وَلَا حَرَامٌ، وَلَا فَرَائِضٌ وَلَا حُدُودٌ، وَإِنَّمَا هُوَ دُعَاءٌ وَتَحْمِيدٌ وَتَمْجِيدٌ. أَيْ كَمَا آتَيْنَا دَاوُدَ الزَّبُورَ فَلَا تُنْكِرُوا أَنْ يُؤْتَى مُحَمَّدٌ الْقُرْآنَ. وهو في محاجة اليهود.

 [الإسراء : 56 ] قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ) لَمَّا ابْتُلِيَتْ قُرَيْشٌ بِالْقَحْطِ وَشَكَوْا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ، أَيِ ادْعُوا الَّذِينَ تَعْبُدُونَ من دونه وَزَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ آلِهَةً. وَقَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ وَعِيسَى وَعُزَيْرًا. ابْنُ مَسْعُودٍ: يَعْنِي الْجِنَّ، (فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ) أَيِ الْقَحْطِ سَبْعَ سِنِينَ، عَلَى قَوْلِ مُقَاتِلٍ. (وَلا تَحْوِيلًا) مِنَ الْفَقْرِ إِلَى الْغِنَى وَمِنَ السَّقَمِ إِلَى الصِّحَّةِ".

لا يملكون شيئًا، هؤلاء لا يملكون نفعًا ولا ضرًّا.

"قوله تعالى: {أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ} أُولئِكَ" مُبْتَدَأٌ" الَّذِينَ" صِفَةُ" أُولئِكَ" وَضَمِيرُ الصِّلَةِ مَحْذُوفٌ، أَيْ يَدْعُونَهُمْ. يَعْنِي أُولَئِكَ المدعوون. و" يَبْتَغُونَ" خَبَرٌ، أَوْ يَكُونُ حَالًا، وَ" الَّذِينَ يَدْعُونَ" خبر، أي يدعون إليه عبادًا إِلَى عِبَادَتِهِ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ" تَدْعُونَ" بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ. الْبَاقُونَ بِالْيَاءِ عَلَى الْخَبَرِ. وَلَا خِلَافَ فِي" يَبْتَغُونَ" أَنَّهُ بِالْيَاءِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ كِتَابِ التَّفْسِيرِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: {أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} قَالَ: نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ أَسْلَمُوا وَكَانُوا يَعْبُدُونَ، فَبَقِيَ الَّذِينَ كَانُوا يَعْبُدُونَ عَلَى عِبَادَتِهِمْ وَقَدْ أَسْلَمَ النَّفَرُ مِنَ الْجِنِّ.

 فِي رِوَايَةٍ قَالَ: نَزَلَتْ فِي نَفَرٍ مِنَ الْعَرَبِ كَانُوا يَعْبُدُونَ نَفَرًا من الجن فأسلم الجنيون والانس الَّذِينَ كَانُوا يَعْبُدُونَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ، فَنَزَلَتْ" أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ". وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُمُ الْمَلَائِكَةُ كَانَتْ تَعْبُدُهُمْ قَبَائِلُ مِنَ الْعَرَبِ، ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ.

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: عزير وعيسى. و" يَبْتَغُونَ" يَطْلُبُونَ مِنَ اللَّهِ الزُّلْفَةَ وَالْقُرْبَةَ، وَيَتَضَرَّعُونَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي طَلَبِ الْجَنَّةِ، وَهِيَ الْوَسِيلَةُ. أَعْلَمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْمَعْبُودِينَ يَبْتَغُونَ الْقُرْبَةَ إِلَى رَبِّهِمْ. وَالْهَاءُ وَالْمِيمُ فِي" رَبِّهِمُ" تَعُودُ عَلَى الْعَابِدِينَ أَوْ عَلَى الْمَعْبُودِينَ أَوْ عَلَيْهِمْ جميعًا".

عليهم جميعًا؛ لأنه رب الجميع.

" وأما" يَدْعُونَ" فعلى العابدين. و" يَبْتَغُونَ" عَلَى الْمَعْبُودِينَ. (أَيُّهُمْ أَقْرَبُ) ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ. وَيَجُوزُ أن يكون" أَيُّهُمْ أَقْرَبُ" بَدَلًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي " يَبْتَغُونَ"، وَالْمَعْنَى يَبْتَغِي أَيُّهُمْ أَقْرَبُ الْوَسِيلَةَ إِلَى اللَّهِ.

{وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُورًا} أي مخوفًا لا أما لِأَحَدٍ مِنْهُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُحْذَرُ مِنْهُ وَيُخَافُ. وَقَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: الرَّجَاءُ وَالْخَوْفُ زَمَانَانِ عَلَى الْإِنْسَانِ، فَإِذَا اسْتَوَيَا اسْتَقَامَتْ أَحْوَالُهُ، وإن رجح أحدهما بطل الآخر.

إن غلب الرجاء على الخوف أمن من عذاب الله، كما أن من غلَّب الخوف على الرجاء أيس من رحمة الله، كلاهما عظيم، فلا بد أن يكون هناك توازن بين الرجاء الذي يبعث على العمل، الخوف الذي يبعث على العمل أيضًا، وإذا تساوى الأمران استقام حال المسلمين، والله أعلم.