التعليق على الموافقات (1432) - 14

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

طالب: أحسن الله إليك.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد،

فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: المسألة السابعة عشرة:

تقدم أن من الحقوق المطلوبة ما هو حق لله، وما هو حق للعباد، وأن ما هو حق للعباد ففيه حق لله، كما أن ما هو حق لله فهو راجع إلى العباد. وعلى ذلك يقع التفريع هنا بحول الله، فنقول: الأوامر والنواهي يمكن أخذها امتثالاً من جهة ما هي حق لله تعالى مجردًا عن النظر في غير ذلك، ويمكن أخذها من جهة ما تعلقت بها حقوق العباد. ومعنى ذلك: أن المكلف إذا سمع مثلاً قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران: 97]، فلامتثاله هذا الأمر مأخذان؛ أحدهما - وهو المشهور المتداول-: أن ينظر في نفسه بالنسبة إلى قدرته على قطع الطريق، وإلى زاد يبلغه، وإلى مركوب يستعين به، وإلى الطريق إن كان مخوفًا أو مأمونًا، وإلى استعانته بالرفقة والصحبة لمشقة الوحدة وغررها، وإلى غير ذلك من الأمور التي تعود عليه في قصده بالمصلحة الدنيوية أو بالمفسدة، فإذا حصلت له أسباب السفر وشروطه العاديات انتهض للامتثال، وإن تعذر عليه ذلك عَلم أن الخطاب لم ينحتم عليه.

والثاني: أن ينظر في نفس ورود الخطاب عليه من الله تعالى، غافلاً ومعرضًا عما سوى ذلك، فينتهض إلى الامتثال كيف أمكنه، لا يُثنه عنه إلا العجز الحالي أو الموت، آخذًا للاستطاعة أنها باقية ما بقي من رمقه بقية، وأن الطوارق العارضة، والأسباب المخوفة لا توازي عظمة أمر الله، فتسقطه، أو ليست بطوارق، ولا عوارض في محصوله العقد الإيماني، حسبما تقدم في فصل الأسباب والمسببات من كتاب الأحكام. وهكذا سائر الأوامر والنواهي".

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

المؤلف -رحمه الله تعالى- يقرر في هذه المسألة أنه في باب الأوامر والنواهي يُنظر فيها من زاويتين؛ الزاوية الأولى: بالنسبة للآمر والناهي، وهو الله تعالى، فأمره لا بد من إجابته، ولا بد أن يقول المكلف: سمعنا وأطعنا، ونهيه لا بد من الوقوف عند حده، والانتهاء عند نهيه، ولا يجوز أن يتعدى ما حده الله -جل وعلا- أمرًا ولا نهيًا.

من جهة أخرى: النظر إلى مصلحة المكلف، من حيث القدرة والاستطاعة والانتفاع من هذا العمل وعدم الانتفاع به أو التضرر به أو عدم التضرر به. فمثلاً الزنا يُنظر فيه من زاوية وأن الله -جل وعلا- حرمه، وجعله من كبائر الذنوب، وينظر إليه من زاوية أخرى وهي أن الزاني متضرر بنفسه ضار لغيره، وقل مثل هذا في المناهي كلها.

وانظر أيضًا إلى باب الأوامر: ينظر فيها المكلَّف إلى امتثال الأمر من المكلِّف -جل وعلا- وهو الله -سبحانه وتعالى-، وينظر إليها من جهته باعتباره مكلفًا من حيث القدرة والاستطاعة والمشقة وعدم المشقة. والناس يتفاوتون في هذا تفاوتًا كبيرًا، منهم من يغلب عليه المأخذ الأول، ومنهم من يغلب عليه المأخذ الثاني، وكل له طريقته ومنهجه في حياته. إذا نظرنا إلى الصحابة -رضوان الله عليهم-، وهو أنه يؤتى بأحدهم يُهادى بين الرجلين لصلاة الجماعة، نظروا عظمة الآمر وعظم الأمر، ولم ينظروا إلى المصلحة الخاصة بالنسبة للمكلف؛ لأنه لا يدرون هل يزيد المرض أو لا يزيده، هذا الإتيان إلى الصلاة قد يتضرر به الآتي في تأخر البرء مثلاً أو في زيادة المرض.

 لكن مِن المكلفين -وهو أيضًا قول معتبر عند أهل العلم- أنه يُنظر فيه أيضًا إلى مصلحة المكلف، ممكن هذا المجيء أن يؤخر برءه، أو يتسبب في زيادة مرضه، حتى إنهم توسعوا في ذلك توسعًا، وعذروا في ترك الجمع والجماعات بأمور لا يلتفت إليها السلف: إذا خشي على الخبز أن يحترق، بعضهم قال: يترك الجماعة؛ لأنه خشي على مال، ونهي عن إضاعة المال، وكذا وكذا، إلى آخره. هذا ترجيح للمأخذ الثاني، لكن ما المنظور إليه بعين الاعتبار بالنسبة لأهل العلم الحقيقي والمعرفة؟

طالب: السبب .......

هو المقصود الأول نجاة الإنسان، أن ينجو من عذاب الله -جل وعلا-، وينال ما عنده من ثواب؟ ما هو بالمرجو بالدرجة الأولى أن يحقق الهدف الذي من أجله خُلق، وهذا البدن إنما هو مطية لتحقيق الهدف؟

طالب: بلى.

فبضعهم يبالغ في هذا، وينسى الثاني، وبعضهم يبالغ في الثاني بحيث ينسى الأول أو يتناساه، ويدار مسائل كثيرة عند الفقهاء تجد مدارها المأخذ الثاني أكثر من المأخذ الأول، بينما أهل العلم الحقيقي وأهل العناية بالنصوص ونصوص الكتاب والسنة وأهل فهم النصوص والعمل بها واستحضار ما خُلقوا من أجله أرباب القلوب؛ تجد مدارهم على المأخذ الأول أكثر. والمطلوب التوازن، الإنسان يسعى لتحقيق الهدف ويسعى أيضًا ما يستعين به على تحقيق الهدف، سواء كان مما يتعلق بماله بولده ببدنه بصحته بمرضه، ينتبه لهذا.

ومن هذا قول شيخ الإسلام -رحمه الله- بالنسبة للعلاج الذي بعد وقوع المرض، الآن يدرءون وقوع المرض ويتخففون من الواجبات خشية أن يقع المرض، لكن إذا وقع المرض هل يجب العلاج أو لا يجب؟ شيخ الإسلام يقول: لا أعلم سالفًا أوجب العلاج. والآن لو يصيبك أدنى شيء ولما تروح المستشفى قالوا: مسكين هذا، مفرط، ألقى بيده إلى التهلكة. كله نظر إلى المأخذ الثاني، لكن على المسلم أن يتوازن: لا تضيع العبادات في خضم النظر العميق في المأخذ الثاني، وأيضًا لا تنس نصيبك من الدنيا، وأيضًا لاحظ جسدك بحيث تستعين به على طاعة الله، وتتمتع به أكبر قدر ممكن؛ من أجل أن تستفيد منه بطاعة الله.

المشكلة أن كثيرًا من الترجيحات في كلام من يفتي الآن، وكثيرًا من الرخص التي يتبعونها مبنية على المأخذ الثاني من غير نظر إلى المأخذ الأول.

طالب: .......

نعم؟

طالب: مبنية على المأخذ الأول.

مبنية على المأخذ الثاني، الترخص.

طالب: المقصد ترتيب المؤلف.

مصلحة المكلف؟

طالب: نعم.

نعم، نفسه، لكنه في الحقيقة هو الثاني، المفترض أن يكون الثاني.

طالب: .......

نعم.

طالب: "فأما المأخذ الأول: فجار على اعتبار حقوق العباد؛ لأن ما يذكره الفقهاء في الاستطاعة المشروطة راجع إليها. وأما الثاني: فجار على إسقاط اعتبارها، وقد تقدم ما يدل على صحة ذلك الإسقاط".

يعني "الاستطاعة" قدر زائد على نفقته ونفقة ولده لمدة سنة ودابته وكذا، يُترك ركن الحج من أجل هذا كله؟ سنة ما يضر إلى مثل هذا، تستطيع اليوم حج وتوكل على الله ويعينك الله، الآن مجرد ما تخرج نتيجة التحليل تُمنع من الحج؛ لأنها حامل يمكن أن يسقط، أسماء بنت عميس طلعت من المدينة في الطلق تطلق وولدت بعد عشرة كيلو مترات في المحرم وكانت في المدينة عندهم، وحجت وأعانها الله، ولذلك الناس لما زاد ترفهم وُكلوا إلى أنفسهم، أدنى حركة يسقط الجنين، وفي السابق كانت المرأة تجذ العيادين، يعني النخل السواحق الطوال، وهي في التاسع من الحمل، يعني ما هو قبل ألف سنة أو مئات السنين، لا، إلى عهد قريب، لكن قبل أن تُفتح الدنيا على الناس.

والآن، لا تتحرك،  وتنام على ظهرها، وما أدري أيش، وأيش الكلام الفاضي؟ ولا تركب سيارة، وهذه كانت تركب بعيرًا وتركب خيلًا، وحج، وزحام مع الناس تحج وهي تطلق! سبحان الله.

بعض الناس يذوب حقه في حق الله -جل وعلا-، لا يلتفت إلى نفسه ولا إلى حقوقه، ومع ذلك مُتِّع بقوة وصحة ونشاط وإقبال على العبادة بانشراح وسعة صدر، وبعض الناس يأتيها وهو متماوت؛ خشية أن يتعب، تجد من أول ما يصوم يرتاح خشية أن يمسه الجوع أو العطش في آخر النهار، وكان الناس يعملون في الشمس، الآن العمال يشتغلون الظهر، وهم صائمون برمضان ويعينهم الله. فضلاً عمن أراد أن يستغل هذا البدن ويتعبه في طاعة الله -جل وعلا- النبي -عليه الصلاة والسلام- قام من الليل حتى تفطرت قدماه، وفي النهاية يقول: «أفلا أكون عبدًا شكورًا؟!».

 إذا قيل للإنسان: ما تقوم الليل وهؤلاء؟ قال: أين؟ الدوام عندنا، هما عندهم دوام؟ الله المستعان. نعم. عندهم عمل جاد ليل نهار.

طالب: "وأما الثاني: فجار على إسقاط اعتبارها، وقد تقدم ما يدل على صحة ذلك الإسقاط. ومن الدليل أيضًا على صحة هذا المأخذ أشياء؛ أحدها: ما جاء في القرآن من الآيات الدالة على أن المطلوب من العبد التعبد بإطلاق، وأن على الله ضمان الرزق، كان ذلك مع تعاطي الأسباب أو لا، كقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [الذاريات: 56، 57].

 وقوله: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: 132]. فهذا واضح في أنه إذا تعارض حق الله وحق العباد، فالمقدم حق الله، فإن حقوق العباد مضمونة على الله تعالى، والرزق من أعظم حقوق العباد، فاقتضى الكلام أن من اشتغل بعبادة الله كفاه الله مئونة الرزق، وإذا ثبت هذا في الرزق ثبت في غيره من سائر المصالح المجتلبة والمفاسد المتوقاة؛ وذلك لأن الله قادر على الجميع".

{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2، 3]، لو تحقق هذا الشرط يتسنى لك الجواب والجزاء بإذن الله، «من ترك شيئًا لله» لو تقول لواحد عنده دخل فيه شبهة أو شيء: تورع واتركه وابحث عن غيره؟ يقول: أموت جوعًا أنا وعيالي؟ «من ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه».

طالب: .......

لا بد من الأخذ بالأسباب، ما فيه رزق إلا بسبب، لكن لا تعتمد على أسباب.

طالب: نعم.

 نعم، فقط.

طالب: "وقال تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ} [يونس: 107]، وفي الآية الأخرى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنعام: 17]، وقال: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3] بعد قوله: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2، 3]. فمن اشتغل بتقوى الله تعالى فالله كافيه، والآيات في هذا المعنى كثيرة".

واللهِ إني أعرف من طلاب العلم ومن المشايخ من يلازمون المساجد لا يُرى لهم أي عمل، ويجلس يُقرئ الناس العلم خمسة الأوقات إلى ما بعد العشاء بساعة يقوم لصلاة الفجر، ونصف الليل الثاني معروف أنه قيام وتهجد، ثم نُفاجئ بعد كل وقت أنه سُرق من بيته خمسون ألفًا وستون ألفًا، والناس يتعجبون: كيف يُسرق منه؟

 أنا أقول: كيف تجتمع الأموال عنده ما هو كيف يُسرق منه وهو ما يتسبب؟ {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2، 3]، ولا عُرف بسؤال، ولا تكفف الناس ولا شيء.

طالب: "والثاني: ما جاء في السنة من ذلك، كقوله : «احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، تعرَّف إليه في الرخاء يعرفك في الشدة، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، جف القلم بما هو كائن، فلو اجتمع الخلق على أن يعطوك شيئًا لم يكتبه الله لك، لم يقدروا عليه، وعلى أن يمنعوك شيئًا كتبه الله لك، لم يقدروا عليه» الحديث".

هذه وصية النبي -عليه الصلاة والسلام- لابن عباس، وقد شرحها الحافظ ابن رجب -رحمه الله- بشرح نفيس في جزء صغير، لكنه نافع جدًّا، وجميع شروح الأحاديث المفردة قد لا يوجد لها نظير عند غيره.

طالب: "فهو كله نص في ترك الاعتماد على الأسباب".

اسمه النور والاقتباس، مطبوعة: النور والاقتباس من مشكاة وصية النبي لابن عباس. نعم.

طالب: "فهو كله نص في ترك الاعتماد على الأسباب، وفي الاعتماد على الله والأمر بطاعة الله".

الاعتماد على الأسباب غير مزاولة الأسباب، يعني الإنسان يباشر الأسباب ويزاولها، ويسعى، ويطرق الأبواب المشروعة، لكنه مع ذلك لا يعتمد عليها، إنما معوله وعمدته على الله -جل وعلا-.

طالب: "وأحاديث الرزق والأجل، كقوله: «اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد»، وقال لعمر بن الخطاب في ابن صياد: «إن يكنه، فلا تطيقه»، وقال: «جف القلم بما أنت لاقٍ»".

يعني في خبر ابن صيام المخرج في الصحيح الذي جزم كثير من الصحابة وهو حلف على أنه هو الدجال، لكن النبي -عليه الصلاة والسلام- لما استأذن عمرُ في قتله، قال: «إن يكنه فلن تسلط عليه، وإن لا يكنه فلا خير لك في قتله»، وعلى كل حال ابن صياد عاش بعد ذلك ووُلد له، والدجال لا يولد له، ومن الروايات ما يدل على أنه أسلم بعد ذلك.

طالب: دخل المدينة.

ماذا؟

طالب: ودخل المدينة.

في المدينة، موجود في المدينة، والدجال لا يدخل المدينة. نعم.

طالب: "وقال: «جف القلم بما أنت لاق»، وقال: «لا تسأل المرأة طلاق أختها لتستفرغ صحفتها، ولتنكح فإن لها ما قدر لها»، وقال في العزل: «ولا عليكم أن لا تفعلوا، فإنه ليست نسمة كتب الله أن تخرج إلا هي كائنة»، وفي الحديث: «المعصوم من عصم الله»، وقال: «إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة»... إلى سائر ما في هذا المعنى مما هو".

ما في شك أن القدر جارٍ على كل أحد قبل أن يُخلق، وابن آدم هو المكلف عمومًا له حرية واختيار يختار بها في حدود ما يختاره الله -جل وعلا- ويشاؤه له، فله اختيار، لكنه لا يستقل بهذا الاختيار، مشيئته وإرادته محققة مقررة، لكنها تابعة لمشيئة الله وإرادته.

يقول: الحج حق لله، فهل يجب على الشخص بيع بيته للحج؟ وهل موعظة الناس بأن بعض الفقهاء أوجب بيع البيت لأجل الحج جائز؟ وهل نغتفر بالمواعظ ما لا نغتفر بالفتوى؟

أقول: المطلوب التوازن، لا يُنظر إلى المأخذ الأول ويهمل الثاني، ولا يُنظر إلى المأخذ الثاني ويهمل الأول، لكن الهدف الأول هو تحقيق العبودية، والأخذ من الدنيا بنصيب كافٍ، ومن البدن أيضًا من ملاحظته ومراعاة صحته أيضًا من أجل تحقيق الهدف لا أكثر ولا أقل، ليس معنى هذا أنه يترك أولاده جوعى يتكففون الناس ويتضاغون جوعًا وهو ينفق الأموال، الكلام له تفصيل كثير بين أهل العلم، لكنه في المقابل من يبخل بما أوجب الله عليه شحًّا بالدنيا وحرصًا عليها. فمثل هذا يعالج بهذا وذاك يعالج بنقيضه.

طالب: "إلى سائر ما في هذا المعنى مما هو صريح في أن أصل الأسباب التسبب، وأنها لا تملك شيئًا، ولا ترد شيئًا، وأن الله هو المعطي والمانع، وأن طاعة الله هي العزيمة الأولى".

إذا كان الرسول -عليه الصلاة والسلام- يقول: «إنما أنا قاسم والله المعطي»، فكيف بغيره ممن بيده شيء من مال الله الذي آتاه؟ تأتي إلى التهجير يعطيك، وقد يمنعك، وقد يعطيك في وقت، ويمنعك في وقت، وقد يعطيك ويمنع من هو أحق منك، وقد يعطي من هو دونك ويمنعك، فالمانع والمعطي هو الله -جل وعلا- وإنما هم آلات، الله -جل وعلا- هو الذي يأمرهم وينهاهم، والمال مال الله.

طالب: "والثالث: ما ثبت من هذا العمل عن الأنبياء -صلوات الله عليهم وسلامه-، فقدموا طاعة الله على حقوق أنفسهم، فقد قام -عليه الصلاة والسلام- حتى تفطرت قدماه، وقال: «أفلا أكون عبدًا شكورًا؟!»، وبلغ رسالة ربه على ما كان عليه من الخوف من قومه حين تمالئوا على إهلاكه، ولكن الله عصمه وقال الله له: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة: 51] الآية، وقال له: {وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [الأحزاب: 48]، فأمره باطراح ما يتوقاه، فإن الله حسبه، وقال: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ} [الأحزاب: 39]، وقال قبل ذلك: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الأحزاب: 38]، وقال هود -عليه السلام- لقومه وهو يبلغهم الرسالة: {فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ} [هود: 55، 56]".

يعني شخص واحد يتحدى أُمة: {فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ}، والسبب في ذلك اعتماده وصدقه في هذا الاعتماد على الله -جل وعلا-.

طالب: "وقال موسى وهارون -عليهما السلام-: {رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى} [طه: 45]، فقال الله لهما: {لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46]، وكان عبد الله بن أم مكتوم قد نزل عذره في قوله تعالى: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء: 95] ولكنه كان بعد ذلك يقول: إني أعمى لا أستطيع أن أفر، فادفعوا إليَّ اللواء، وأقعدوني بين الصفين، فيترك ما مُنح من الرخصة، ويقدم حق الله على حق نفسه. ورُوي عن جندع بن ضمرة أنه كان شيخًا"، "كبيرًا" يا شيخ؟

"شيخًا كبيرًا".

طالب: نعم، كثيرًا مكتوبة.

لا "كبيرًا".

طالب: "كان شيخًا كبيرًا، فلما أُمروا بالهجرة وشُدد عليهم فيها مع علمهم بأن الدين لا حرج فيه، ولا تكليف بما لا يطاق، قال لبنيه: إني أجد حيلةً فلا أُعذر، احملوني على سرير. فحملوه، فمات بالتنعيم وهو يصفق يمينه على شماله ويقول: هذا لك، وهذا لرسولك، الحديث.

وعن بعض الصحابة أنه قال: شهدت مع رسول الله أنا وأخ لي أُحدًا، فرجعنا جريحين، فلما أذَّن مؤذن رسول الله بالخروج في طلب العدو، قلت لأخي أو قال لي: أتفوتنا غزوة مع رسول الله ؟ واللهِ ما لنا من دابة نركبها، وما منا إلا جريح ثقيل، فخرجنا مع رسول الله وكنت أيسر جرحًا منه، فكان إذا غُلب حملته عقبة ومشى عقبة، حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون. وفي النقل من هذا النحو كثير، وقد مر منه في فصل الرخص والعزائم من كتاب الأحكام ما فيه كفاية. فإن قيل: إن هذه الأدلة إذا وُقف معها حسبما تقرر اقتضت اطراح الأسباب جملة، أعني ما كان منها عائدًا إلى مصالح العباد؟ وهذا غير صحيح؛ لأن الشارع وضعها وأمر بها، واستعملها رسول الله وأصحابه والتابعون بعده وهي عمدة ما حافظت عليه الشريعة. وأيضًا، فإن حقوق الله تعالى ليست على وزان واحد".

وتبقى الرخص وتبقى العزائم، والعزائم عند أهل العلم لمن يطيقها ويتحمل ما ينتج عنها، لا شك أنها أفضل من الرخص، والله -جل وعلا-: «يحب أن تؤتى رخصه»، لكن مع ذلك من ارتكب العزيمة وحمل نفسه على ما يستطيع، على ما يطيقه، وإن كانت الرخصة دون ذلك؛ فالمقرر عند أهل العلم أنه أفضل، والنماذج والأمثلة في هذه الأمة وفيمن قبلها من الأمم كثيرة جدًّا: إنسان معذور في فعله هذا لكنه لا يكتفي به، يرتكب العزيمة، والله المستعان.

طالب: "وأيضًا فإن حقوق الله تعالى ليست على وزان واحد في الطلب، فمنها: ما هو مطلوب حتمًا كالقواعد الخمس، وسائر الضروريات المراعاة في كل ملة، ومنها: ما ليس بحتم كالمندوبات، فكيف يقال: إن المندوبات مقدمة على غيرها من حقوق العباد، وإن كانت واجبة؟ هذا مما لا يستقيم في النظر.

وأيضًا، فالأدلة المعارضة لما تقدم أكثر، كقوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195]، وقوله: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197]، {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60] الآية".

لكن فرق بين أن يعمل الإنسان لنفسه، يحمل نفسه على العزيمة، وبين أن يحمل الناس على الرخص والتيسير في إطار ما شرع الله -جل وعلا-، لا التنصل عن الواجبات أو ارتكاب المحرمات باسم التيسير، لا مانع أن يسهل على الناس، ولا يحملهم على ما يحمل عليه نفسه. كاتقاء الشبهات، لا يحرم على الناس إلا بدليل، لكن لا يرتكب ويستفيد من كل ما يقع بيده حتى يجزم بأنه مباح من كل وجه، وقد يتورع عن بعض المباحات، لكن لا يمنع منه غيره. فكونه يمنع الناس من شيء هذا لا بد فيه من دليل تبرأ به الذمة، وكونه يحمل نفسه على عزيمة فهذا الأمر إليه.

طالب: "وقد كان -عليه الصلاة والسلام- يستعد الأسباب لمعاشه وسائر أعماله من جهاد وغيره، ويعمل بمثل ذلك أصحابُه، والسنة الجارية في الخلق الجريان على العادات، وما تقدم لا يقتضيه، فلا بد من صحة أحدهما، وإن صح بطل الآخر، وليس ما دللتم عليه بأولى مما دللنا عليه، والترجيح من غير دليل تحكُّم.

فالجواب: إن ما نقدم لا يدل على اطراح الأسباب، بل يدل على تقديم بعض الأسباب خاصةً- وهي الأسباب التي يقتضيها حق الله تعالى- على الأسباب التي تقتضيها حقوق العباد، على وجه اجتهادي شرعي قامت الأدلة عليه، فليس بين ذلك وبين أمره -عليه الصلاة والسلام- بالأسباب واستعماله لها تعارض، ودليل ذلك: إقراره -عليه الصلاة والسلام- فِعل من اطرحها عند التعارض، وعمله -عليه الصلاة والسلام- على اطراحها كذلك في مواطن كثيرة، وندبه إلى ذلك كما تبين في الأحاديث المتقدمة. وقد مر في فصل الأسباب من كتاب الأحكام وجه الفقه في هذا المكان، عند ذكر كيفية الدخول في الأسباب؛ هذا جواب الأول".

لا شك أن الأسباب معتبرة، وأنها مؤثرة، وليس وجودها مثل عدمها، كما تقول الأشاعرة، ولا أنها مؤثرة استقلالاً كما تقول المعتزلة. هي مؤثرة، لكن التأثير الله -جل وعلا- هو المسبب، وهو الذي جعل لها هذا الأثر، فالاعتماد أولاً وآخرًا على الله -جل وعلا- الذي أوجد هذه الأسباب، وهو قادر على إبطال تأثيرها، لكنه جعل فيها التأثير، فالنار محرقة عند جميع العقلاء لا يماري في ذلك أحد، لكنها كانت على إبراهيم -عليه السلام- بردًا وسلامًا، فسُلبت هذا الأثر، والقدرة الإلهية تجعل غيرها من الأسباب مسلوب الأثر، لكن الأصل أن الأسباب لها تأثير، والله -جل وعلا- هو الذي جعل فيها هذا الأثر. فلا بد من مزاولة الأسباب لتحقيق ما طلب من الإنسان، فالواجب يبذل الأسباب للوصول إليه، والمحرم يبذل الأسباب للتخلص منه، ومن عكس ذلك، من بذل الأسباب للتخلص من الواجبات أو بذل الأسباب للوصول إلى المحرمات، فهذه حيل اليهود التي ذُموا من أجلها.

طالب: "وأما الثاني: فإن حقوق الله تعالى على أي وجه فُرضت أعظم من حقوق العباد كيف كانت، وإنما فُسح للمكلف في أخذ حقه وطلبه من باب الرخصة والتوسعة، لا من باب عزائم المطالب، وبيان ذلك في فصل الرخص والعزائم، وإن كان كذلك فالعزائم أولى بالتقديم ما لم يعارض معارض.

وأيضًا فإن حقوق الله وإن كانت ندبًا، إنما هي من باب التحسينيات، وقد مر أن أصل التحسينيات خادم للضروريات، وأنها ربما أدى الإخلال بها إلى الإخلال بالضروريات، وإن المندوبات بالجزء واجبات بالكل، فلأجل هذا كله قد يسبق إلى النظر تقديمها على واجبات حقوق العباد، وهو نظر فقهي صحيح مستقيم في النظر".

"ربما أدى الإخلال بها" يعني في المندوبات "إلى الإخلال"، الإخلال بالتحسينات قد يؤدي إلى الإخلال بالضروريات، بالحاجيات ثم بالضروريات، والإخلال بالمباحات والتوسع فيها قد يدعو إلى ارتكاب المكروهات والشبهات، ثم بعد ذلك يُستدرج الإنسان إلى ارتكاب المحرمات. وطريقة السلف في هذا ترك أكثر المباحات؛ من أجل الحفاظ على ما حرم الله -جل وعلا- وألا يقربه الإنسان، هذا منهج مقرر ومطرد عندهم.

طالب: التحسينات .......

نعم.

طالب: المقصود .......

التحسينات، الكماليات، أنت تستعمل في حياتك ضروريات وحاجيات وكماليات، فالضروريات لا تستطيع أن تعيش بدونها، ولا تحيا بدونها، الحاجيات تستطيع أن تعيش لكن مع مشقة شديدة، التكميليات والتحسينات هذه ممكن أن تعيش، وعاش بدونها كثير من الناس في كثير من الأزمان، وفي كثير من الأوطان. لكن من أوغل في التحسينات والكماليات قد يطلبها فلا يجدها إلا بشيء أو بطريقة فيها شبهة، فيرتكب هذه الشبهة؛ تحصيلاً لهذه التكميلات. قد يطلبها في يوم من الأيام ولا يجدها إلا في أسلوب فيه خديعة، وفيه غش، فيرتكب هذا فيدخل في المحرم، ثم بعد ذلك لا يجدها إلا بأسلوب فيه محرم صريح التحريم.

فالإنسان يُستدرج شيئًا فشيئًا، يستعمل المباحات، ويسترسل فيها، فإذا ذرى جسمه عليها وألفها بحيث لا يستطيع الانفكاك عنها اعترضه ما اعترضه في طريقه مما لا يمكن الوصول إليها إلا بشيء من الممنوع؛ إما المكروه أولاً، ثم الشبهة، ثم المحرم، وهكذا، وهذا شيء مشاهد. نعم.

طالب: أحسن الله إليك يا شيخ، الآن كأنه هل يقرر هذا على الإطلاق أن المندوبات ما كان من المندوبات من حق الله تعالى تُقدم على الواجبات من حقوق العباد؟

لا، ما يلزم، لا، المندوب أصله: ما لا يعاقب عليه، لكن الإشكال في أن ترك هذا المندوب إذا استمر عليه الإنسان يجره إلى ترك الواجب، هذا أمر مقرر ومعروف، وكل إنسان يجده من نفسه، إذا فرطت في الرواتب، في اليوم الثاني يفوتك شيء من الفريضة، هذا معروف؛ لأن هذه النوافل القبلية والبعدية كلها سياج واحتياطات لهذه الفرائض ومكملات لها، فإذا انتهت المكملات فماذا يبقى إذا حصل نقص وخلل؟ ما يبقى إلا من الأصل، من الفريضة، فإذا حصل نقص في الواجبات: «انظروا هل لعبدي من تطوع»، النفس لا تنتهي عند حد سواء كانت في باب المأمورات أو في باب المنهيات.

طالب: .......

نعم، هذا مثل ما قرره سابقًا، أنت تنظر إلى أن الوتر أفراده مندوبات، لكن رجل يصر على ترك الوتر، يصر على ترك الوتر، يقول الإمام أحمد: هذا رجل سوء ينبغي ألا ُتقبل شهادته، وتارك المندوب هذا حكمه؟ لا، هذه دلالة وأمارة على أن عنده شيئًا من الخلل في الواجب أو في ارتكاب المحظور، يستدل بها أهل العلم على هذا. أيضًا بالنسبة للعكس: أنت إذا نظرت إلى، لا إله إلا الله.

يقول: المندوب بالجزء واجب بالكل، إذا نظرت إلى قول أهل العلم: الجهر في السرية أو الإسرار في الجهرية، إن أسر بجهرية أو عكسه كُره، صح أم لا؟

طالب: صحيح.

لكن شخص كلما صلى الفجر صلاه سرًّا ندرأها بالكل لا تدرأ بالجزء، أو صلى الظهر كل ظهر يصليها جهرًا، فهل يكفي أن تقول: كُره، أو تقول: هذا مبتدع يجب عزله؟ فالنظر إلى الكل يختلف عن النظر إلى الجزء والأفراد. هذا ما يريد تقريره المؤلف.

طالب: .......

للمخالفة بمجموعها، أنت الآن هذا صار مبتدعًا، الذي ما يصلي الظهر إلا جهرًا مبتدع، لكن لو جهر في يوم من الأيام أو في آية من الآيات ما يقال: إنه مبتدع.

طالب: "وأما الثالث: فلا معارضة فيه، فإن أدلته لا تدل على تقديم حقوق العباد على حقوق الله أصلاً، وإذا لم تدل عليها لم يكن فيها معارضة أصلاً، وإلى هذا كله فإن تقديم حقوق العباد إنما يكون حيث يعارض في تقديم حق الله معارض يلزم منه تضييع حق الله تعالى، فإنه إذا شق عليه الصوم مثلاً؛ لمرضه، ولكنه صام، فشغله ألم المشقة بالصوم عن استيفاء الصلاة على كمالها وإدامة الحضور فيها أو ما أشبه ذلك؛ عادت عليه المحافظة على تقديم حق الله إلى الإخلال بحقه، فلم يكن له ذلك، فأما إن لم يكن كذلك، فليس تقديم حق الله على حق العبد بنكير ألبتة، بل هو الأحق على الإطلاق، وهذا فقه في المسألة حسن جدًّا، وبالله التوفيق.

فصل: واعلم أن ما تقدم من تأخير حقوق العباد إنما هو فيما يرجع إلى نفس المكلف لا إلى غيره، أما ما كان من حق غيره من العباد، فهو بالنسبة إليه من حقوق الله تعالى، وقد تبين هذا في موضعه.

المسألة الثامنة عشرة: الأمر والنهي يتواردان على الفعل، وأحدهما راجع إلى جهة الأصل، والآخر راجع إلى جهة التعاون، هل يعتبر الأصل أو جهة التعاون؟ أما اعتبارهما معًا من جهة واحدة فلا يصح".

لا بد من التحرير في هذا الموطن في مسألة اتحاد الجهة وانفكاك الجهة، أمر ونهي يتواردان على شيء واحد من جهة واحدة هذا مستحيل، لكن يتوارد إليه أمر ونهي باعتبار جهتين منفكتين لا مانع منه؛ ولذا يقرر أهل العلم أنه إذا عاد النهي إلى ذات المنهي عنه أو إلى شرطه أو إلى ركنه المؤثر، جزئه المؤثر فيه، فإنه يبطل؛ لأن الأمر والنهي يتواردان على شيء واحد.

أما إذا عاد النهي إلى أمر خارج، يعني غير مؤثر، ليس بذات المنهي عنه ولا بشرطه ولا بركنه وجزئه القوي، فإنه يصح باعتبار، ويأثم باعتبار؛ لأن الأمر والنهي لم يتواردا على شيء من جهة واحدة.

وذكرنا مرارًا المثال الذي يكرره أهل العلم: شخص صلى بعمامة حرير أو بسترة حرير، السترة شرط، ستر العورة شرط، الصلاة باطلة، لكن صلى بعمامة حرير، عاد النهي إلى أمر خارج، فالصلاة صحيحة؛ لأن الجهة منفكة، ويستطيع أن يصلي بغير عمامة أصلاً. أو عليه خاتم ذهب، صلاته صحيحة، هو آثم بارتكاب الخاتم الذهب. شخص صلى الفريضة في بيت وترك الجماعة، الجهة منفكة، الجماعة ليست بشرط ولا بركن، إنما هي واجب من واجبات الصلاة إذًا تصح الصلاة بدونها، لكنه أثم بترك هذا الواجب.

طالب: "أما اعتبارهما معًا من جهة واحدة فلا يصح، ولا بد من التفصيل، فالأمر إما أن يرجع إلى جهة الأصل أو التعاون. فإن كان الأول فحاصله راجع إلى قاعدة سد الذرائع، فإنه منع الجائز؛ لئلا يُتوسل به إلى الممنوع، وقد مر ما فيه، وحاصل الخلاف فيه أنه يحتمل ثلاثة أوجه:

 أحدها: اعتبار الأصل؛ إذ هو الطريق المنضبط والقانون المطرد. والثاني: اعتبار جهة التعاون؛ فإن اعتبار الأصل مُؤدٍ إلى المآل الممنوع".

إذًا قد يكون الشيء مأمورًا به باعتبار الأصل، ويعتري هذا الأصل من معارض الراجح ما يجعله منهيًّا عنه، قد يكون هو في الأصل مأمورًا به، لكن قد يعارض هذا الأمر أمر آخر أو نهي أقوى؛ لوجود هذا المعارض الراجح، أو لوجود الآثار المتسببة على امتثال الأمر، آثار شديدة قوية ومفسدة راجحة، وحينئذ ينهى عن هذا، وإن كان مأمورًا به في الأصل. إنكار المنكر مثلاً: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده»، أنت مأمور بإنكار المنكر، لكن ترتب على هذا التغيير مفسدة أعظم. أنت بحسب الأصل مأمور، لكن بحسب الجهة المعينة على تحقيق هذا الأصل أنت منهي؛ لأنه يترتب عليه منكر أعظم منه، فالمنكر لا بد من إزالته بحيث لا يترتب عليه ما هو أنكر منه، وهذا أمر متفق عليه بين أهل العلم.

طالب: .......

ما هي؟

طالب: .......

نعم، الأمر بالكي والنهي عنه. نعم ما فيه أمر بالكي، فيه مدح، وأنه شفاء، ونوع منه: شرطة محجم، أو كية نار، فما فيه أمر إنما فيه جاء مدح تركِه، ووصفه بأنه شفاء، فمن تركه لا شك أنه مرتكب للعزيمة، ولا شك أنه أفضل، وحديث السبعين ألفًا دليل على هذا، وأما كونه مرتكب فلا مانع من ارتكابه؛ لأنه مباح.

طالب: "والثاني: اعتبار جهة التعاون؛ فإن اعتبار الأصل مؤدٍّ إلى المآل الممنوع، والأشياء إنما تحل وتحرم بمآلاتها، ولأنه فتح باب الحيل.

والثالث: التفصيل، فلا يخلو أن تكون جهة التعاون غالبةً أو لا، فإن كانت غالبة فاعتبار الأصل واجب؛ إذ لو اعتُبر الغالب هنا لأدى إلى انخرام الأصل جملة، وهو باطل".

نعم إذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الأصل، لكن كل ما بغى واحد أن ينكر منكرًا قيل له: ترى أنه يترتب عليه مفسدة، وكل من بغى أن يتكلم في إنكار شيء قال: ترى عليه مفسدة. نعم هناك مفاسد محققة في كثير من....، لكن كل ما بغى أن يتكلم أحد قال: يترتب عليه مسألة. أنت تسعى لتحجيم الدعوة، أنت تفعل، وتترك، وتتسبب في منع الأخيار، كل ما أراد أن يتكلم، هذا إلغاء للشعيرة. وهنا يقول: "التفصيل، فلا يخلو أن تكون جهة التعاون غالبةً أو لا"، إن كانت غالبة فلا يلتفت إليها؛ لأن الالتفات إليها يؤدي إلى تعطيل الشعيرة.

طالب: .......

بالرجحان، ولا يُسترسل فيه أيضًا بقدره؛ لأنه خلاف الأصل.

طالب: "إذ لو اعتُبر الغالب هنا لأدى إلى انخرام الأصل جملة، وهو باطل، وإن لم تكن غالبة فالاجتهاد".

نعم. قد يكون للاجتهاد مسرح في بعض الصور، يجتمع بمجموعة من أهل الحسبة، وأمامهم منكر، بعضهم يقول: يقدر أن الغالب المفسدة، وبعضهم يقدر أن الغالب المصلحة، وهكذا يتداولونها، هذه مسألة اجتهادية، ويكون في نصب أعينهم أن هذه الشعيرة لا بد أن تقوم، وأنها هي خيرية هذه الأمة، وأن التسبب في إلغائها مسح لخيرية هذه الأمة، ويبقى أن النظر في المصالح والمفاسد ينبغي أن يُنظر فيه من جهات متعددة. نعم؛ لأنه قد يتصرف إنسان بمفرده من غير نظر ولا مشورة، فيترتب على فعله سد أبواب من أبواب الخير، سواء كان في التعليم، كان في الدعوة، أو في الأمر والنهي، وتجرَّعنا مرارة بعض التصرفات. لكن مع ذلك يبقى أن نشر العلم هو الأصل، يبقى أن الدعوة إلى الدين هو الأصل، يبقى أن الأمر والنهي هو الأصل.

طالب: "وإن كان الثاني فظاهره شنيع؛ لأنه إلغاء لجهة النهي ليُتوصل إلى المأمور به تعاونًا، وطريق التعاون متأخر في الاعتبار عن طريقة إقامة الضروري والحاجي لأنه تكميلي، وما هو إلا بمثابة الغاصب والسارق ليتصدق بذلك على المساكين أو يبني قنطرة، ولكنه صحيح إذا نُزل منزلته، وهو أن يكون من باب الحكم على الخاصة لأجل العامة، كالمنع من تلقي الركبان، فإن منعه في الأصل ممنوع؛ إذ هو من باب منع الارتفاق، وأصله ضروري أو حاجي لأجل أهل السوق، ومنع بيع الحاضر للبادي لأنه في الأصل منع من النصيحة، إلا أنه إرفاق لأهل الحضر، وتضمين الصناع قد يكون من هذا القبيل، وله نظائر كثيرة؛ فإن جهة التعاون هنا أقوى".

 

نعم جهة التعاون أقوى؛ لأن النظر فيه إلى مصلحة العامة مقدمة على النظر فيه للمصلحة الخاصة، يعني في تلقي الركبان يوجد مستفيد، فيه طرف مستفيد، وفيه طرف متضرر، أيهما أولى بالمراعاة؟ العامي متضرر أو شخص مستفيد؟ لا شك أن مصلحة الجماعة أولى بالمحافظة من مصلحة الواحد.

طالب: "وقد أشار الصحابة على الصديق، إذ قدموه خليفةً بترك التجارة والقيام بالتحرف على العيال لأجل ما هو أعم في التعاون، وهو القيام بمصالح المسلمين، وعوضه من ذلك في بيت المال، وهذا النوع صحيح كما تفسر.

 والله أعلم".

الصديق كان تاجرًا، ويبذل الأسباب، ويتكسب، لكن لما تولى الخلافة هل يستمر في التجارة؟ الولاية تحتاج إلى تفرغ، مصالح المسلمين لا بد من مراعاتها. وأيضًا إذا دخل مثله في التجارة فلا شك أن الناس يضيق عليهم، ويتضررون، ويلاحظونه، ويجاملونه، إذا دخل شخص له شأن فلا شك أن التجار يتضررون به، وهذا على مر التاريخ معروف. لكن كم فرضوا للصديق في مقابل تفرغه؟

طالب: .......

كم؟

طالب: درهم.

ماذا؟

طالب: درهم.

واحد؟

طالب: نعم.

لا، ما يكفي، أبو بكر الصديق كان من أثرياء قريش! لا، الدرهم ما هو بشيء.

طالب: .......

فرضوا له نصف شاة يوميًّا.

طالب: في اليوم؟

في اليوم نعم، كثيرة، ترى بشاة، الشاة بدرهم.

طالب: أكثر من زوجة عنده.

ما هو؟

طالب: عنده أكثر من زوجة.

بيوت، نصف شاة ....... تكفيهم.

والله أعلم.

 وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

"