التعليق على تفسير القرطبي - سورة الأحزاب (05)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

نعم.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلّ الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

قال الإمام القرطبي -رحمه الله تعالي-: "قوله تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا}.

 قَوْلُهُ تَعَالَى: { يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ}  فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ:

الْأُولَى: قَالَ الْعُلَمَاءُ: لَمَّا اخْتَارَ نِسَاءُ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- شَكَرَهُنَّ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ، فَقَالَ تَكْرِمَةً لَهُنّ: { لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ} الْآيَةَ. وَبَيَّنَ حُكْمَهُنَّ عَنْ غَيْرِهِنَّ فَقَالَ: { وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا}، وَجَعَلَ ثَوَابَ طَاعَتِهِنَّ وَعِقَابَ مَعْصِيَتِهِنَّ أَكْثَرَ مِمَّا لِغَيْرِهِنَّ فَقَالَ: { يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْن}، فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ مَنْ جَاءَ مِنْ نِسَاءِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- بِفَاحِشَةٍ، وَاللَّهُ عَاصِمٌ رَسُولَهُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِنْ ذَلِكَ كَمَا مَرَّ فِي حَدِيثِ الْإِفْكِ {يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ}؛ لِشَرَفِ مَنْزِلَتِهِنَّ، وَفَضْلِ دَرَجَتِهِنَّ، وَتَقَدُّمِهِنَّ عَلَى سَائِرِ النِّسَاءِ أَجْمَعَ. وَكَذَلِكَ بَيَّنَتِ الشَّرِيعَةُ فِي غَيْرِ مَا مَوْضِعٍ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ غَيْرَ مَرَّةٍ أَنَّهُ كُلَّمَا تَضَاعَفَتِ الْحُرُمَاتُ فَهُتِكَتْ تَضَاعَفَتِ الْعُقُوبَاتُ، وَلِذَلِكَ ضُوعِفَ حَدُّ الْحُرِّ عَلَى الْعَبْدِ وَالثَّيِّبِ عَلَى الْبِكْرِ".

نعم، هذا أمر مضطرد في الشرع أنه كلما كثر الثواب بالنسبة لشخص كثر العقاب عند مخالفته، وكذلك إذا كثُر الثواب بالنسبة لبقعة، كثُر العقاب فيها، وإذا كثُر الثواب بالنسبة لوقت، عظم العقاب فيه، وهذا شيء مضطرد، فالحسنة في مكة والمدينة ليست كالحسنة في غيرهم، لكن السيئة كذلك، الحسنة بالنسبة للعالم الذي يؤدِّي ما افترض الله عليه على مراد الله -جل وعلا- ليست كالحسنة من غيره، وكذلك المخالفة منه ليست كالمخالفة من غيره، ولذا يردد أهل العلم: حسنات الأبرار سيئات المقربين، وفي الحديث الصحيح  أن النبي –عليه الصلاة والسلام- في مرضه في حديث ابن مسعود » أنه كان يوعَكُ كَمَا يُوعَكُ الرَّجُلانِ مِنْكُم، قال ابن مسعود: ذلك أن لك أجرين؟ قال: أجل»، وما دام له أجران، الرسول -عليه الصلاة والسلام- له أجران إذًا يوعك كما يوعك الرجلان، وهكذا.

 والغُرم  مع الغرم هذه قاعدة مضطردة، وكلما زاد الثواب زاد في مقابله العقاب، وهذا كما ذكرنا بالنسبة للأشخاص، وبالنسبة للأزمان، وبالنسبة للأماكن أيضًا المشرفة شرعًا، المعظَّمة كما تضاعف فيها الحسنات تعظم فيها السيئات، وهكذا نساء النبي -عليه الصلاة والسلام- { مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْن}، وبالمقابل ِ{من يقنط} تؤتى أجرها مرتين.

 "وَقِيلَ: لَمَّا كَانَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فِي مَهْبِطِ الْوَحْيِ وَفِي مَنْزِلِ أَوَامِرِ اللَّهِ وَنَوَاهِيهِ، قَوِيَ الْأَمْرُ عَلَيْهِنَّ وَلَزِمَهُنَّ بِسَبَبِ مَكَانَتِهِنَّ أَكْثَرَ مِمَّا يَلْزَمُ غَيْرَهُنَّ، فَضُوعِفَ لَهُنَّ الْأَجْرُ وَالْعَذَابُ. وَقِيلَ: إِنَّمَا ذَلِكَ لِعِظَمِ الضَّرَرِ فِي جَرَائِمِهِنَّ بِإِيذَاءِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَكَانَتِ الْعُقُوبَةُ عَلَى قَدْرِ عِظَمِ الْجَرِيمَةِ فِي إِيذَاءِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-".

وهذا في حالة ما إذا تحقق الشرط فإنه يتحقق الجزاء، علمًا بأن الشرط لم يتحقق {مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} ما جاء أحد منهن بفاحشة مبينة، ولله الحمد والمنة؛ صيانة لعرض النبي -عليه الصلاة والسلام-، لا الفاحشة بالمعنى الخاص ولا الفاحشة بالمعنى العام، فالجزاء منتفٍ.

"وَقَالَ تَعَالَى: { إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ}". 

إلكيا إلكيا، واختار هذا القول إلكيا.

"وَقَالَ تَعَالَى: { إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ}. وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ إِلْكِيَا الطَّبَرِيُّ" .

إِلْكِيَا الطَّبَرِيُّ الهراسي من الشافعية له كتب مما طُبع منها أحكام القرآن، مطبوع متداول، ومعروف أنه بالنسبة للإمام أحمد لا يراه فقيهًا، ليس ممن يرى الإمام أحمد فقيهًا، وبينه وبين الحنابلة شيء، وعلى كل حال المفردات إنما ألفت ردًّا عليه، نعم مفردات المذهب إنما هي رد عليه.

"الثَّانِيَةُ: قَالَ قَوْمٌ: لَوْ قُدِّرَ الزِّنَى مِنْ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ وَقَدْ أَعَاذَهُنَّ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ لَكَانَتْ تُحَدُّ حَدَّيْنِ لِعِظَمِ قَدْرِهَا، كَمَا يُزَادُ حَدُّ الْحُرَّةِ عَلَى الْأَمَةِ. وَالْعَذَابُ بِمَعْنَى الْحَدِّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}،  وَعَلَى هَذَا فَمَعْنَى الضِّعْفَيْنِ مَعْنَى الْمِثْلَيْنِ أَوِ الْمَرَّتَيْنِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: ضِعْفُ الشَّيْءِ شَيْئَانِ حَتَّى يَكُونَ ثَلَاثَةً. وَقَالَهُ أَبُو عَمْرٍو فِيمَا حَكَى الطَّبَرِيُّ عَنْهُ، فَيُضَافُ إِلَيْهِ عَذَابَانِ مِثْلُهُ فَيَكُونُ ثَلَاثَةَ أَعْذِبَةٍ. وَضَعَّفَهُ الطَّبَرِيُّ. وَكَذَلِكَ هُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ وَإِنْ كَانَ لَهُ بِاللَّفْظِ تَعَلُّقُ الِاحْتِمَالِ. وَكَوْنُ الْأَجْرِ مَرَّتَيْنِ مِمَّا يُفْسِدُ هَذَا الْقَوْلَ؛ لِأَنَّ الْعَذَابَ فِي الْفَاحِشَةِ بِإِزَاءِ الْأَجْرِ فِي الطَّاعَةِ، قَالهَ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقَالَ النَّحَّاسُ: فَرَّقَ أَبُو عَمْرٍو بَيْنَ يُضَاعَفُ وَيُضَعَّفُ، قَالَ: يُضَاعَفُ لِلْمِرَارِ الْكَثِيرَةِ. وَ(يُضَعَّفُ) مَرَّتَيْنِ. وَقَرَأَ (يُضَعَّفُ) لِهَذَا. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: { يُضَاعَفُ لَهَا الْعَذَابُ} يُجْعَلُ ثَلَاثَةَ أَعْذِبَةٍ".

المعروف في الأقيسة والموازين اللغوية أن التضعيف في تشديد العين عين الكلمة هو الذي يقتضي التكثير، أما مجيء الفعل على المفاعلة فلا يقتضي التكثير، عكس ما ذكروه.

"قَالَ النَّحَّاسُ: التَّفْرِيقُ الَّذِي جَاءَ بِهِ أَبُو عَمْرٍو وَأَبُو عُبَيْدَةَ لَا يَعْرِفُهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ عَلِمْتُهُ، وَالْمَعْنَى فِي يُضَاعَفُ وَيُضَعَّفُ وَاحِدٌ، أَيْ يُجْعَلُ ضِعْفَيْنِ، كَمَا تَقُولُ: إِنْ دَفَعْتَ إِلَيَّ دِرْهَمًا دَفَعْتُ إِلَيْكَ ضِعْفَيْهِ، أَيْ مِثْلَيْهِ، يَعْنِي دِرْهَمَيْنِ. وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا {نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ}، وَلَا يَكُونُ الْعَذَابُ أَكْثَرَ مِنَ الْأَجْرِ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ{آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ} أَيْ مِثْلَيْنِ. وَرَوَى مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ { يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} قَالَ: عَذَابُ الدُّنْيَا وَعَذَابُ الْآخِرَة.ِ قَالَ الْقُشَيْرِيُّ أَبُو نَصْر:ٍ الظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالضِّعْفَيْنِ الْمِثْلَيْنِ، لِأَنَّهُ قَالَ: {نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ}. فَأَمَّا فِي الْوَصَايَا، لَوْ أَوْصَى لِإِنْسَانٍ بِضِعْفَيْ نَصِيبِ وَلَدِهِ فَهُوَ وَصِيَّةٌ بِأَنْ يُعْطَى مِثْلَ نَصِيبِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَإِنَّ الْوَصَايَا تَجْرِي عَلَى الْعُرْفِ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ، وَكَلَامُ اللَّهِ يُرَدُّ تَفْسِيرُهُ إِلَى كَلَامِ الْعَرَبِ".

لا يُجزم بأنه يُعطى ثلاث مرات، إنما يُنظر في العرف، على أي وجه يستعمل الناس الضعفين، إن كان المراد به المثلين، أُعطي مثلين، وإن كان المراد به المثل ثلاثة أمثال مثلًا، أُعطي ثلاث أمثال، فإن الوصايا مجراها على الأعراف، ولذا ينبغي أن يُهتم بالألفاظ التي عرضة للاندراس، في أعراف الناس ألفاظ عرضة لأن تدرس؛ لأن اللغات واللهجات تتجدد، ويترك كلمات ويستحدث كلمات أخرى؛ بسبب موت الأجيال الأولى واختلاط الأجيال السابقة وقدوم ووفود بعض الناس من الجهات الأخرى، وتلاقح الأفكار.

 المقصود أن مثل هذا واضح، وكنا نسمع كلمات قبل ثلاثين سنة الآن ما نسمعها، صرنا نسمع ألفاظًا أخرى، فمعرفة مثل هذه الألفاظ لا شك أنه يفيد في هذا الباب، في باب الوصايا والأوقاف وبعض العقود، ومما أُلف في الباب وهو طريف في بابه، وإن كان بعض الناس يظنه أنه قليل الفائدة، للشيخ محمد العبودي كتاب في مجلدين اسمه "كلمات انقضت"  كلمات انقضت يعني انتهت، من الديار النجدية انتهت، هي موجودة في الوصايا وفي العقود، فكيف يصنع القاضي إذا عرضت عليه مثل هذه الألفاظ التي لم يدركها؟ يرجع إلى مثل هذا الكتاب أو إلى كبار السن ويستفسر، كما في هذه الكلمة يتضاعف، هل المراد به ثلاث مرات، أو المراد مرتين؟ كل هذا يُرد إلى العرف، وأما كلام الله- جل وعلا- فمرده إلى اللغة؛ لأن الأعراف متجددة، وإذا رددنا الحقائق الشرعية إلى الحقائق العرفية ما ثبت لنا تفسير، وكل من جاء يجدد في التفسير، وهذا لا يجوز في القرآن أن يعرض للتغيير والتبديل ومعانيه تُغير وما يفهم منه ويكون عرضة للتبديل والتغيير، هذا لا يجوز، القرآن ب{ لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ}[النحل:103] لا بد أن يرجع فيه إلى لغة العرب، مع أن لغة العرب تحتمل وجوهًا، وتحتمل معاني كثيرة، والسياق هو الذي يحدد المعنى المراد من هذه المعاني.

طالب:...........................

المقصود الكلام المدون، الكلام المدون في المعاجم وفي غيرها، كلام العرب المدون وإلا معروف أن الاحتجاج بالأشعار، أشعار العرب، يقولون إلى بشار بن برد؛ من بعده ما يحتج به. من بعده لا يُحتج به.

"وَكَلَامُ اللَّهِ يُرَدُّ تَفْسِيرُهُ إِلَى كَلَامِ الْعَرَبِ، وَالضِّعْفُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْمِثْلُ إِلَى مَا زَادَ، وَلَيْسَ بِمَقْصُورٍ عَلَى مِثْلَيْنِ. يُقَالُ: هَذَا ضِعْفُ هَذَا، أَيْ مِثْلُهُ. وَهَذَا ضِعْفَاهُ، أَيْ مِثْلَاهُ، فَالضِّعْفُ فِي الْأَصْلِ زِيَادَةٌ غَيْرُ مَحْصُورَةٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: { فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ}، وَلَمْ يُرِدْ مِثْلًا وَلَا مِثْلَيْنِ. كُلُّ هَذَا قَوْلُ الْأَزْهَرِيِّ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي (النُّورِ) الِاخْتِلَافُ فِي حَدِّ مَنْ قَذَفَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ."

والنبي -عليه الصلاة والسلام- لما نزلت براءة عائشة من السماء وتلا الآيات على المنبر، نزل فحد مَن تورَّط في هذه الجريمة، نسأل الله السلامة والعافية.

"الثَّالِثَةُ: قَالَ أَبُو رَافِعٍ: كَانَ عُمَرُ -رضي الله عنه-كَثِيرًا مَا يَقْرَأُ سُورَةَ يُوسُفَ وَسُورَةَ الْأَحْزَابِ فِي الصُّبْحِ، وَكَانَ إِذَا بَلَغَ { يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ}  رَفَعَ بِهَا صَوْتَهُ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: (أُذَكِّرهُنَّ الْعَهْد) ،قَرَأَ الْجُمْهُورُ: مَنْ يَأْتِ بِالْيَاءِ. وَكَذَلِكَ مَنْ يَقْنُتْ حَمْلًا عَلَى لَفْظِ مَنْ. وَالْقُنُوتُ الطَّاعَةُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَقَرَأَ يَعْقُوبُ: (مَنْ تَأْتِ) وَ(تَقْنُتُ) بِالتَّاءِ مِنْ فَوْقِ، حَمْلًا عَلَى الْمَعْنَى. وَقَالَ قَوْمٌ: الْفَاحِشَةُ إِذَا وَرَدَتْ مُعَرَّفَةً فَهِيَ الزِّنَى وَاللُّوَاطُ. وَإِذَا وَرَدَتْ مُنَكَّرَةً ".

هي معرفة ومنكرة.

"وَإِذَا وَرَدَتْ مُنَكَّرَةً فَهِيَ سَائِرُ الْمَعَاصِي. وَإِذَا وَرَدَتْ مَنْعُوتَةً فَهِيَ عُقُوقُ الزَّوْجِ وَفَسَادُ عِشْرَتِهِ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: بَلْ قَوْلُهُ: {فَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} تَعُمُّ جَمِيعَ الْمَعَاصِي. وَكَذَلِكَ الْفَاحِشَةُ كَيْفَ وَرَدَتْ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: (مُبَيَّنَةٍ) بِفَتْحِ الْيَاءِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو بِكَسْرِهَا. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ: يُضَاعِفْ بِكَسْرِ الْعَيْنِ عَلَى إِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو فِيمَا رَوَى خَارِجَةُ: (نُضَاعِفْ) بِالنُّونِ الْمَضْمُومَةِ وَنَصْبِ (الْعَذَابَ)، وَهَذِهِ قِرَاءَةُ ابْنُ مُحَيْصِنٍ. وَهَذِهِ مُفَاعَلَةٌ مِنْ وَاحِدٍ، كَطَارَقْتُ النَّعْلَ وَعَاقَبْتُ اللِّصَّ".

الأصل في المفاعلة أنها تكون بين طرفين كالمضاربة والمكاتبة، بين طرفين، وقد تأتي من طرف واحد كما هنا، المضاعفة من طرف واحد، الذي يضاعف هو الله -جل وعلا-، وكذلك قولهم: سافر وطارق وعاقب، فالمسافرة من طرف واحد، والمطارقة مطارقة النعل من طرف واحد، وكذلك معاقبة اللص.

 "وَقَرَأَ نَافِعٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: (يُضَاعَفْ) بِالْيَاءِ وَفَتْحِ الْعَيْنِ، (الْعَذَابُ) رَفْعًا. وَهِيَ قِرَاءَةُ الْحَسَنِ وَابْنِ كَثِيرٍ وَعِيسَى .وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ: (نُضَعِّفْ) بِالنُّونِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ الْمُشَدَّدَةِ، (الْعَذَابَ) نَصْبًا. قَالَ مُقَاتِلٌ: هَذَا التَّضْعِيفُ فِي الْعَذَابِ إِنَّمَا هُوَ فِي الْآخِرَةِ؛ لِأَنَّ إِيتَاءَ الْأَجْرِ مَرَّتَيْنِ أَيْضًا فِي الْآخِرَةِ. وَهَذَا حَسَنٌ؛ لِأَنَّ نِسَاءَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- لَا يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ تُوجِبُ حَدًّا. وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا بَغَتِ امْرَأَةُ نَبِيٍّ قَطُّ، وَإِنَّمَا خَانَتْ فِي الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ.

 وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: الْعَذَابُ الَّذِي تُوُعِّدْنَ بِهِ ضِعْفَيْنِ هُوَ عَذَابُ الدُّنْيَا وَعَذَابُ الْآخِرَةِ، فَكَذَلِكَ الْأَجْرُ. قَال ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا ضَعِيفٌ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- لَا تَرْفَعُ عَنْهُنَّ حُدُودُ الدُّنْيَا عَذَابَ الْآخِرَةِ، عَلَى مَا هِيَ حَالُ النَّاسِ عَلَيْهِ، بِحُكْمِ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ".

الحدود كفارات، الحدود كفارات، من عوقب على ذنبه في الدنيا فإنه يُكفَّر عنه هذا الذنب ولا يعاقب عليه في الآخرة؛ لأن الحدود كفارات، فإذا حُمل هذا، يعني ما جاء في حق أمهات المؤمنين أزواج النبي -عليه الصلاة والسلام- أن الضعفين ضعف في الدنيا كسائر الناس وضعف في الآخرة قلنا: إن الحد لم يكفر هذه المعصية، وكل هذا على سبيل التنزل، إنه لو حصل شيء من ذلك، وإلا فالأمر واضح، وأن المسألة مقطوعٌ بها أنه لم يحصل شيء من ذلك.

 "وَهَذَا أَمْرٌ لَمْ يُرْوَ فِي أَزْوَاجِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَلَا حُفِظَ تَقَرُّرُهُ. وَأَهْلُ التَّفْسِيرِ عَلَى أَنَّ الرِّزْقَ الْكَرِيمَ الْجَنَّةُ، ذَكَرَهُ النَّحَّاسُ.

 قَوْلُهُ تَعَالَى: { يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ}  يَعْنِي فِي الْفَضْلِ وَالشَّرَفِ. وَقَالَ: كَأَحَدٍ، وَلَمْ يَقُلْ: كَوَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّ أَحَدًا نَفْيٌ مِنَ الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ وَالْوَاحِدِ وَالْجَمَاعَةِ. وَقَدْ يُقَالُ عَلَى مَا لَيْسَ بِآدَمِيٍّ، يُقَالُ: لَيْسَ فِيهَا أَحَدٌ، لَا شَاةَ وَلَا بَعِيرَ. وَإِنَّمَا خُصِّصَ النِّسَاءُ بِالذِّكْرِ؛ لِأَنَّ فِيمَنْ تَقَدَّمَ آسِيَة َوَمَرْيَمَ. وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا قَتَادَةُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي (آلِ عِمْرَانَ) الِاخْتِلَافُ فِي التَّفْضِيلِ بَيْنَهُنَّ، فَتَأَمَّلْهُ هُنَاكَ. ثم قال: {إِنِ اتَّقَيْتُنَّ}  أَيْ خِفْتُنَّ اللَّهَ. فَبَيَّنَ أَنَّ الْفَضِيلَةَ إِنَّمَا تَتِمُّ لَهُنَّ بِشَرْطِ التَّقْوَى، لِمَا مَنَحَهُنَّ اللَّهُ مِنْ صُحْبَةِ الرَّسُولِ وَعَظِيمِ الْمَحَلِّ مِنْهُ، وَنُزُولِ الْقُرْآنِ فِي حَقِّهِنَّ.

 قَوْلُهُ تَعَالَى: { فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ}  فِي مَوْضِعِ جَزْمٍ بِالنَّهْيِ، إِلَّا أَنَّهُ مَبْنِيٌّ كَمَا بُنِيَ الْمَاضِي، هَذَا مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ، أَيْ لَا تُلِنَّ الْقَوْلَ".

كيف بُني { فَلَا تَخْضَعْنَ}، لا ناهية، وتخضعن فعل مضارع فيه نون النسوة، المضارع إذا اقترنت به نون الإناث، نون النسوة، أو نون التوكيد فإنه يبنى.

وَأَعْرَبُوا مُضَارِعاً إِنْ عَرِيَا  عِنْ نُونِ تَوْكِيدٍ مُبَاشِرٍ وَعِنْ
  

نُونِ إِنَاثٍ كَيَرُعْنَ مَنْ  فُتِنْ

هو مبني، مبني على ماذا؟ السكون، وهنا محله الجزم، فهل نقول: إنه مجزوم بلا الناهية أو نقول مبني على السكون في محل جزم؟ لو قلنا: النسوة يخضعن بدون لا الناهية فهذا مبني على السكون؛ لاتصاله بنون الإناث { فَلَا تَخْضَعْنَ} هو محله الجزم، والجزم ظاهر هنا، لا ناهية، وتخضعن فعل مضارع مجزوم بلا الناهية، وهو في حقيقة أمره مبني على السكون، هل يُطرد القول بالجزم أو ينفك البناء لإمكان الموافقة مع الحرف الداخل؟ ظاهر أم ليس بظاهر؟

هو مبني إذا اتصل بنون الإناث مبني على السكون، وهو هنا مجزوم بلا الناهية، فهل سكونه هذا سكون بناء أو سكون إعراب؟

طالب: ..........................

نعم.

طالب: ..........................

لا، ما يمكن، هو مبني باستمرار، لو قلنا: النساء يخضعن بالقول، مبني على السكون.

طالب:..........................

لا، ما يجتمع بناء وإعراب، فهل نقول: إنه مبني أم معرب؟

طالب:......................

يعني مبني على السكون في محل جزم، يعني هل لمثل هذا الكلام من أثر، أو من أجل طرد القواعد؟ هو من أجل طرد القواعد؛ لئلا تختل القاعدة يقول: مبني في محل جزم وإلا فالأمر لا يختلف.

أَمَرَهُنَّ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُنَّ جَزْلًا وَكَلَامُهُنَّ فَصْلًا، وَلَا يَكُونُ عَلَى وَجْهٍ يُظْهِرُ فِي الْقَلْبِ عَلَاقَةً بِمَا يَظْهَرُ عَلَيْهِ مِنَ اللِّينِ، كَمَا كَانَتِ الْحَالُ عَلَيْهِ فِي نِسَاءِ الْعَرَبِ مِنْ مُكَالَمَةِ الرِّجَالِ بِتَرْخِيمِ الصَّوْتِ وَلِينِه، مِثْلِ كَلَامِ الْمُرِيبَاتِ وَالْمُومِسَاتِ. فَنَهَاهُنَّ عَنْ مِثْلِ هَذَا.

 قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَيَطْمَعَ} بِالنَّصْبِ عَلَى جَوَابِ النَّهْيِ".

يطمع فعل مضارع منصوب بأن المضمرة وجوبًا بعد لا الناهية والفاء؟ والفاء هذه سببية، كما أنه يُنصب بأن المضمرة بعد واو المعية إذا وقع في جواب النفي أو النهي أو الاستفهام أو العرض أو التحضيض، تسعة أشياء.

"{الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} أَيْ شَكٌّ وَنِفَاقٌ، عَنْ قَتَادَةَ وَالسُّدِّيّ.ِ وَقِيلَ: تَشَوُّفُ الْفُجُورِ، وَهُوَ الْفِسْقُ وَالْغَزَلُ، قَالَهُ عِكْرِمَةُ. وَهَذَا أَصْوَبُ، وَلَيْسَ لِلنِّفَاقِ مَدْخَلٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ".

لأن المرض ناتج عن شهوة، ناتج عن شهوة لا عن شبهة، فهو مرض فسق.

" وَحَكَى أَبُو حَاتِمٍ أَنَّ الْأَعْرَجَ قَرَأَ: (فَيَطْمِعَ) بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْمِيم.ِ قال النَّحَّاسُ :أَحْسَبُ هَذَا غَلَطًا، وَأَنْ يَكُونَ قَرَأَ: (فَيَطْمَعِ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ بِعَطْفِهِ عَلَى تَخْضَعْنَ، فَهَذَا وَجْهٌ جَيِّدٌ حَسَنٌ. وَيَجُوزُ (فَيُطْمِعَ) بِمَعْنَى فَيُطْمِعَ الْخُضُوعُ أَوِ الْقَوْلُ".

طالب: ..........................

نعم.

طالب:....................

الخلل كبير، يعني وجود معاشرة النساء وعملهن مع الرجال خفَّف كل هذه الأمور، ورفع الحجب، وسهل الاحتياطات الشرعية الشديدة، سهَّل أمرها، وهوَّن من شأنها حتى وقعت الكوارث، والله المستعان، ولذلك تجد في مثل ما ذكرت عن الاستقبال وغيره والردود على الزبائن يُنتقى له أجمل النساء وأرقهن صوتًا، كل هذا محادة ومخالفة لأمر الله -جل وعلا- وأمر الرسول -عليه الصلاة والسلام-.

قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَمَرَهُنَّ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ. وَالْمَرْأَةُ تُنْدَبُ إِذَا خَاطَبَتِ الْأَجَانِبَ وَكَذَا الْمُحَرَّمَاتُ عَلَيْهَا بِالْمُصَاهَرَةِ إِلَى الْغِلْظَةِ فِي الْقَوْلِ، مِنْ غَيْرِ رَفْعِ صَوْتٍ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ مَأْمُورَةٌ بِخَفْضِ الْكَلَامِ. وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَالْقَوْلُ الْمَعْرُوفُ: هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي لَا تُنْكِرُهُ الشَّرِيعَةُ وَلَا النُّفُوسُ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ".

طالب:.................................

ماعدا الأجر مرتين والضعفين، فالعلل الموجودة في أمهات المؤمنين موجودة في نساء المسلمين، فالتطهير المطلوب من أمهات المؤمنين مطلوب لجميع  نساء المؤمنين. ولو قيل: إن أمهات أو نساء المسلمين من باب أولى في هذه الاحتياطات؛ لأن احترام المسلمين لأمهات المؤمنين من الحواجز التي تمنع من الوقوع في المحظور، بخلاف غيرهن من النساء، فالاحتياط لهن أكثر، وإن كان من جهة أخرى أن الاحتياط لما يخدش شرف النبي -عليه الصلاة والسلام- يجب أن يكون أعظم وأكثر، لكن كل هذا لا يعني أن غيرهن يتساهلن في هذه الوسائل وهذه الاحتياطات؛ لأن الغاية واحدة، خشية وقوع المحرم، والمحرم محرم على أمهات المؤمنين، ومحرم على جميع نساء المسلمين.

 الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَقَرْنَ}، قَرَأَ الْجُمْهُورُ {وَقِرْنَ} بِكَسْرِ الْقَافِ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَنَافِعٌ بِفَتْحِهَا. فَأَمَّا الْقِرَاءَةُ الْأُولَى فَتَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا".

أَحَدُهُمَا أفصح، أَحَدُهُمَا، {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا} [النحل:76].

"أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِنَ الْوَقَارِ، تَقُولُ: وَقَرَ يَقِرُّ وَقَارًا أَيْ سَكَنَ، وَالْأَمْرُ قِرْ، وَلِلنِّسَاءِ قِرْنَ، مِثْلُ عِدْنَ وَزِنَّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْمُبَرِّدِ، أَنْ يَكُونَ مِنَ الْقَرَارِ، تَقُولُ: قَرَرْتُ بِالْمَكَانِ (بِفَتْحِ الرَّاءِ) أَقِرُّ، وَالْأَصْلِ أَقْرِرْنَ، بِكَسْرِ الرَّاءِ، فَحُذِفَتِ الرَّاءُ الْأُولَى تَخْفِيفًا، كَمَا قَالُوا فِي ظَلَلْتُ: ظِلْتُ، وَمَسَسْتُ: مِسْتُ، وَنَقَلُوا حَرَكَتَهَا إِلَى الْقَافِ، وَاسْتُغْنِيَ عَنْ أَلِفِ الْوَصْلِ لِتَحَرُّكِ الْقَافِ. قَالَ أَبُو عَلِيّ:ٍ بَلْ عَلَى أَنْ أُبْدِلَتِ الرَّاءُ يَاءً كَرَاهَةَ التَّضْعِيفِ، كَمَا أُبْدِلَتْ فِي قِيرَاطٍ وَدِينَارٍ، وَيَصِيرُ لِلْيَاءِ حَرَكَةُ الْحَرْفِ الْمُبْدَلِ مِنْهُ، فَالتَّقْدِيرُ: إِقْيِرْنَ، ثُمَّ تُلْقَى حَرَكَةُ الْيَاءِ عَلَى الْقَافِ؛ كَرَاهَةَ تَحَرُّكِ الْيَاءِ بِالْكَسْرِ، فَتَسْقُطُ الْيَاءُ؛ لِاجْتِمَاعِ السَّاكِنَيْنِ، وَتَسْقُطُ هَمْزَةُ الْوَصْلِ؛ لِتَحَرُّكِ مَا بَعْدَهَا، فَيَصِيرُ (قِرْنَ). وَأَمَّا قِرَاءَةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَعَاصِمٍ، فَعَلَى لُغَةِ الْعَرَبِ: قَرِرْتُ فِي الْمَكَانِ إِذَا أَقَمْتُ فِيهِ".

 أقمتَ.

"إذا أقمتَ فيه، (بِكَسْرِ الرَّاءِ) أَقَرُّ".

أقَرُ أقرُ، قررت أقرُ.

"أَقَرُّ(بِفَتْحِ الْقَافِ)، مِنْ بَابِ حَمِدَ يَحْمَدُ، وَهِيَ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ ذَكَرَهَا أَبُو عُبَيْدٍ فِي (الْغَرِيبِ الْمُصَنَّفِ) عَنِ الْكِسَائِيِّ، وَهُوَ مِنْ أَجَلِّ مَشَايِخِهِ، وَذَكَرَهَا الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ، وَالْأَصْلُ (إِقْرَرْنَ) حُذِفَتِ الرَّاءُ الْأُولَى؛ لِثِقَلِ التَّضْعِيفِ، وَأُلْقِيَتْ حَرَكَتُهَا عَلَى الْقَافِ فَتَقُولُ: قَرْنَ. قَال الْفَرَّاءُ: هُوَ كَمَا تَقُولُ: أَحَسْتَ صَاحِبكَ؟ أَيْ هَلْ أَحْسَسْتَ؟ وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ الْمَازِنِيُّ: قَرِرْتُ بِهِ عَيْنًا (بِالْكَسْرِ لَا غَيْرَ)، مِنْ قُرَّةِ الْعَيْنِ. وَلَا يَجُوزُ قَرِرْتُ فِي الْمَكَانِ (بِالْكَسْرِ)، وَإِنَّمَا هُوَ قَرَرْتُ (بِفَتْحِ الرَّاءِ)، وَمَا أَنْكَرَهُ مِنْ هَذَا لَا يَقْدَحُ فِي الْقِرَاءَةِ إِذَا ثَبَتَتْ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فَيُسْتَدَلُّ بِمَا ثَبَتَ عَنْهُ مِنَ الْقِرَاءَةِ عَلَى صِحَّةِ اللُّغَةِ".

نعم، يعني النصوص الشرعية من نصوص الكتاب والسنة يُستدل بها ولا يستدل لها، ُستدل بها ولا يستدل لها فمثلًا نصوص القرآن هذا محل إجماع؛ لأنها حجة في اللغة، ويجب أن تصحح عليها القواعد، وأما بالنسبة للأحاديث وما ثبت عن النبي -عليه الصلاة والسلام- فالاحتجاج بها على إثبات القواعد القواعد العربية محل خلاف بين أهل العلم، والسبب في ذلك تجويز جمهور أهل العلم الرواية بالمعنى، أهل العلم يجيزون الرواية بالمعنى، فلا نضمن أن هذا كلام النبي -عليه الصلاة والسلام- وحروفه لنحتج به، قد يكون الراوي المتأخر روى الخبر بالمعنى، وإذا كان من أهل ذلك بشرطهم المعروف عند أهل العلم يجوز أن يورد المعنى، ولا يلتزم باللفظ، فلا حجة به، وهذه المسألة طويلة الذيول، ومسألة كبيرة عند أهل العربية، وممن بحثها صاحب الخزانة، خزانة الأدب في مقدمته بحث هذه المسألة بحثًا وافيًا، وفيها رسالة الاحتجاج بالحديث في القواعد العربية فيه رسالة لامرأة عراقية، رسالة دكتوراه في مجلد مطبوع ومتداول.

"وَذَهَبَ أَبُو حَاتِمٍ أَيْضًا أَنَّ قَرْنَ لَا مَذْهَبَ لَهُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي حَاتِمٍ: لَا مَذْهَبَ لَهُ فَقَدْ خُولِفَ فِيهِ، وَفِيهِ مَذْهَبَانِ: أَحَدُهُمَا مَا حَكَاهُ الْكِسَائِيُّ، وَالْآخَرُ مَا سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ سُلَيْمَانَ يَقُولُ، قَالَ: وَهُوَ مِنْ قَرِرْتُ بِهِ عَيْنًا أَقَرُّ، وَالْمَعْنَى: وَاقْرَرْنَ بِهِ عَيْنًا فِي بُيُوتِكُنَّ. وَهُوَ وَجْهٌ حَسَنٌ، إِلَّا أَنَّ الْحَدِيثَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْأَوَّلِ. كَمَا رُوِيَ أَنَّ عَمَّارًا قَالَ لِعَائِشَةَ -رضي الله عنها-: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَمَرَكِ أَنْ تَقَرِّي فِي مَنْزِلِكِ، فَقَالَتْ: يَا أَبَا الْيَقْظَان، مَا زِلْتَ قَوَّالًا بِالْحَقِّ! فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَنِي كَذَلِكَ عَلَى لِسَانِكِ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: (وَاقْرِرْنَ) بِأَلِفِ وَصْلٍ وَرَاءَيْنِ، الْأُولَى مَكْسُورَةٌ. الثَّانِيَةُ: مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ". 

يعني هذا الأصل بالنسبة للمرأة المسلمة أن تقر في بيتها، ولا تخرج إلا لحاجة لا يمكن أن يقوم بها غيرها، الأصل القرار، { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ}، هذا الأصل بالنسبة للمرأة، وعملها بين أسوار دارها، المرأة العاملة هي التي تربي أولادها، وتنشئهم نشأة صالحة، بعكس ما يُعلن على ألسنة مريدي الفتنة بالمسلمين، نسأل الله السلامة والعافية، التي تربِّي أولادها عاطلة يسمونها، بخلاف التي تربِّي أولاد غيرها هذه هي العاملة، تربِّي أولادها تُسمَّى عاطلة، تربي أولاد الناس هذه عاملة، فهم يريدون إخراجها من بيتها؛ لتأتي بمن يربِّي أولادها، وتذهب لتربي أولاد الناس، وهكذا، ووالله ما أريدَ بهذا وجه الله، ولا إصلاح الناس، ولا إصلاح المجتمعات، ولا القضاء على بطالة، ولا رفع اقتصاد، وإنما أريدَ بذلك إفساد المجتمع.

 والأمم والشعوب المتقدمة في هذا الباب كلهم الآن يعضون أصابع الندم، وبدأ الرجوع في أسوأ بلاد الكفر، في روسيا بدأ الرجوع عن هذه الأنظمة، وصاروا يجعلون خدمة المرأة في بيتها وراتبها مبنيٌ على تربية أولادها، وإلا فما الفرق أن تُخرج المرأة من بيتها وتوظّف في حضانة تربِّي أولاد الناس وتترك أولادها لمربية أخرى، كل هذا لا يُراد به وجه الله، وهذا أمر لا يحتاج إلى نوايا ولا غير نوايا، هذا أمر مكشوف وواضح، هذا أمر مكشوف وواضح ما يحتاج إلى أن يقال: إن هذا دخول في نوايا الناس، هذا كلام ليس بصحيح. هناك أمور وضوحها مثل الشمس لا تحتاج إلى دلائل، والله المستعان.

طالب:.................

نعم، ماذا؟

طالب:....................

سيأتي الإشارة إليها. نعم.

"الثَّانِيَةُ: مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ الْأَمْرُ بِلُزُومِ الْبَيْتِ، وَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ لِنِسَاءِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَدْ دَخَلَ غَيْرُهُنَّ فِيهِ بِالْمَعْنَى. هَذَا لَوْ لَمْ يَرِدْ دَلِيلٌ يَخُصُّ جَمِيعَ النِّسَاءِ، كَيْفَ وَالشَّرِيعَةُ طَافِحَةٌ بِلُزُومِ النِّسَاءِ بُيُوتَهَنَّ، وَالِانْكِفَافِ عَنِ الْخُرُوجِ مِنْهَا إِلَّا لِضَرُورَةٍ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى نِسَاءَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- بِمُلَازَمَةِ بُيُوتِهِنَّ، وَخَاطَبَهُنَّ بِذَلِكَ تَشْرِيفًا لَهُنَّ، وَنَهَاهُنَّ عَنِ التَّبَرُّجِ، وَأَعْلَمَ أَنَّهُ فِعْلُ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى فَقَال: {وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى}".

يعني يوجد الآن طرفان، طرف يريد أن يُخرج المرأة لا لشيء، طرف يريد أن يُخرج المرأة لا لغاية ولا لهدف إلا الإفساد والفساد، وطرف يريد أن يمنع المرأة من تعلَّم الخير، ويرى أن خروجها لدور التحفيظ ومدارس التحفيظ ومدارس العلم الشرعي هذا بدعة؛ لأن الأصل القرار في البيوت، نقول: كلام وجيه، لكن يبقى أنها هل تقر في بيتها إذا مُنعت من دار التحفيظ فهل تقر في بيتها؟ أو تخرج مرتين ثلاثًا إلى الأسواق، وإلى الزيارات التي ليست شرعية، ولا مأمور بها شرعًا، وإلى الفُرج وترويح النفس، وإذا جاءت دور التحفيظ قال: { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} أو حضور الدروس العلمية والمحاضرات النافعة، لا شك أن المصلحة راجحة في مثل هذا المصلحة راجحة بالشرط الشرعي {وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى}، وجاء النهي عن منع النساء بيوت الله -جل وعلا- »لا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ»، النهي عن منعهن من الخروج إلى المساجد »ليخرجن وهن تفلات»، » متلفعات بمروطهن»، بهذا تتحقق المصالح وتُدرأ المفاسد، لكن إخراجها في غاية زينتها وجمالها وأطيابها إلى عمل لا يُطلب منها شرعًا، هذا يحقق المفسدة، ولا يترتب عليه المصلحة عكس الصورة الأولى.

 ويبقى أن هناك خروجًا يعني هو في أصله لا لمصلحة راجحة ولا لمفسدة ظاهرة، هناك كثير من النساء اُبتلين بحب الخروج، والأزواج طوعهن حتى إنه يستغرب أن يوجد امرأة في ليلة الخميس في بيتها محبوسة، هذا كلام يُسمع باستمرار، أو ليلة جمعة وفي البيت محبوسات! هذا يوجد على ألسنة الناس بكثرة، والناس يستغربون كيف ليلة خميس ونجلس بالبيت؟ هذا شيء معروف مع الأسف ورُبِّي الناس عليه، والأصل { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} إلا لمصلحة راجحة مع درأ المفسدة، لو وجد مصلحة ومفسدة، لقلنا: درأ المفاسد مُقدَّم على جلب المصالح، امرأة لا تتعلم إلا أن تتعرض لمفاسد، نقول لها: لا تتعلم، كونها تعيش أمية أفضل من كونها تتعلم مع غيرها، يُسأل في بلاد المسلمين مع الأسف وفي بلاد الكفر يسألون يقولون: تعلم العلم، ولكن لا يمكن أن نتعلم إلا باختلاط، نقول: لا تتعلم، العيش وراء أذناب البقر أفضل من هذا العلم الذي يُجنى بما لا يرضي الله -جل وعلا-، ما عند الله لا يُنال بسخطه، العلم بما يُطلب من الله -جل وعلا- ثوابه فما عند الله لا يُنال بسخطه، لا بد أن تُدرَس الأمور بعناية.

 الأمر الثاني كون النساء تدرس ما لا حاجة لهن فيه، يعني ملايين النساء تدرس أمورًا لا تحتاج إليها لا في دينها ولا في دنياها، هذا لا شك أنه ضياع وتضييع وتفريط في الأمانة، اللهم إلا إذا كان التخطيط لأمر لا ندركه، فنسأل الله العافية.

 " وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى التَّبَرُّجِ فِي (النُّور). وَحَقِيقَتُهُ إِظْهَارُ مَا سَتْرُهُ أَحْسَنُ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ السَّعَةِ، يُقَالُ: فِي أَسْنَانِهِ بَرَجٌ إِذَا كَانَتْ مُتَفَرِّقَةً، قَالَهُ الْمُبَرِّدُ. وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى فَقِيلَ: هِيَ الزَّمَنُ الَّذِي وُلِدَ فِيهِ إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، كَانَتِ الْمَرْأَةُ تَلْبَسُ الدِّرْعَ مِنَ اللُّؤْلُؤِ، فَتَمْشِي وَسَطَ الطَّرِيقِ تَعْرِضُ نَفْسَهَا عَلَى الرِّجَالِ. وَقَالَ الْحَكَمُ بْنُ عُيينةَ".

عُتيبة عُتيبة.

عُتيبة؟

عُتيبة نعم الحكم بن عتيبة.

"وَقَالَ الْحَكَمُ بْنُ عُتيبةَ: مَا بَيْنَ آدَمَ وَنُوح، وَهِيَ ثَمَانمِائَةِ سَنَةٍ، وَحُكِيَتْ لَهُمْ سِيَرٌ ذَمِيمَةٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا بَيْنَ نُوحٍ وَإِدْرِيسَ، قال الْكَلْبِيُّ: مَا بَيْنَ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيم.َ قِيلَ: إِنَّ الْمَرْأَةَ كَانَتْ تَلْبَسُ الدِّرْعَ مِنَ اللُّؤْلُؤِ غَيْرَ مَخِيطِ الْجَانِبَيْنِ، وَتَلْبَسُ الثِّيَابَ الرِّقَاقَ، وَلَا تُوَارِي بَدَنَهَا".

مع الأسف أن بعض نساء المؤمنين تصنع شيئًا من هذا، تلبس القميص ويُفتح من الجانبين، ويتفاوت الناس في هذا، منهم من يجعل الفتحة إلى نصف الساق، ومنهم من يجعلها إلى الركبة، فيتفاوتون في مثل هذا، وهي موجودة مع الأسف تُباع في أسواق المسلمين وتُخاط في مشاغل المسلمين، وكل هذا من تطبيق قول الرسول -عليه الصلاة والسلام-: »لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كان قَبْلَكُمْ حذو القذة بالقذة» غير مخيط الجانبين، الكلام هذا القرطبي يقول هذا الكلام من ثمانمائة سنة أو سبعمائة سنة، سبعمائة وخمسين سنة، وهو من فعل الجاهلية الأولى، هذا تبرج الجاهلية الأولى، ونساء المسلمين يفعلنه الآن من غير نكير، وتجد بعض نساء طلاب العلم وغيرهم يخرجن إلى الأسواق، وإذا رفعت رجلها لتركب إلى السيارة رُئي ما تحت الثياب، نسأل الله العافية، والله المستعان.

 "وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: مَا بَيْنَ مُوسَى وَعِيسَى. الشَّعْبِيُّ: مَا بَيْنَ عِيسَى وَمُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم-وقال  أَبُو الْعَالِيَةِ".

على كل حال الجاهلية هي التي يكثر فيها الجهل، وينطمس  فيها معالم العلم والدين والنور الإلهي، هذه هي الجاهلية سواء كانت ما بين آدم ونوح أو بين نوح ومن بعده في عصر إبراهيم، في أي عصر وجدت وما أعظم الجاهلية التي يعيشها الناس في هذه القرون، وإن ادّعوا الحضارة، وإن ادّعوا العلم وزعموا وادّعوا، وكلّ هذا لا يغنيهم شيئًا؛ لأن هذا في حقيقته ليس بعلم، وقد نفاه الله -جل وعلا- في سورة الروم {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:6] لا يعلمون ثم أثبت لهم العلم الدنيوي {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الروم:7]، لكنه ليس بعلم أنه نُفي عنهم العلم، ثم أُثبت ما يعرفونه من أمور الدنيا، هذا جهل والعلم الذي لا يوصل إلى الله وإلى مرضاته وإلى جناته هذا ليس بعلم ولو حملهم من حملهم ممن ينتسب إلى العلم. والله المستعان، فالجاهلية نسبة إلى الجهل، ووصفها بالأولى يعني لتقدمها على هذا الدين.

"وقال أَبُو الْعَالِيَةِ: هِيَ زَمَانُ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ، كَانَ فِيهِ لِلْمَرْأَةِ قَمِيصٌ مِنَ الدُّرِّ غَيْرُ مَخِيطِ الْجَانِبَيْن. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْمُبَرِّدُ: وَالْجَاهِلِيَّةُ الْأُولَى كَمَا تَقُولُ: الْجَاهِلِيَّةُ الْجَهْلَاءُ".

يعني الأعظم في الجهالة، يعني إذا قلنا: الجاهلية ترتيبها، الجاهلية ترتيبها الأول بين الجاهليات فهي أعظم الجاهليات. نسأل الله العافية.

"قَالَ: وَكَانَ النِّسَاءُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ الْجَهْلَاءِ يُظْهِرْنَ مَا يَقْبُحُ إِظْهَارُهُ، حَتَّى كَانَتِ الْمَرْأَةُ تَجْلِسُ مَعَ زَوْجِهَا وَخِلِّهَا، فَيَنْفَرِدُ خِلُّهَا بِمَا فَوْقَ الْإِزَارِ إِلَى الْأَعْلَى، وَيَنْفَرِدُ زَوْجُهَا بِمَا دُونَ الْإِزَارِ إِلَى الْأَسْفَلِ، وَرُبَّمَا سَأَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ الْبَدَلَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَ النِّسَاءُ يَتَمَشَّيْنَ بَيْنَ الرِّجَالِ، فَذَلِكَ التَّبَرُّجُ".

يعني مجرد المشي بين الرجال هذا تبرج، هذا تبرج، معلوم أن الأصل أن المرأة تبقى في بيتها، وخير للمرأة ألا ترى الرجال ولا يرونها، لكن إذا وُجِدت الحاجة التي لا يكون بقضائها جاز لها الخروج بشرطه، بشرطه الشرعي المعتبر، وجاء الأمر بلعن النساء المتبرجات »إذا رأيتموهن فالعنوهن، فإنهن ملعوناتْ»، هذا على سبيل العموم لا على سبيل التخصيص، يعني ما يقال لامرأة متبرجة: لعنك الله، وإنما يقال للعموم؛ لأن اللعن المعين مسألة خلافية بين أهل العلم، فلعن العموم سائغ، بل مأمورٌ به، ولو جاء هذا العموم محصورًا  وقد حصل، ذُكر في بلد من البلدان قد حصل اجتماع كله تبرج، نسأل الله العافية، فلعنهن من لعنهن وقالوا: عليهن لعنة الله، فباعتبار العموم أنه لا يقصد امرأة بعينها من هؤلاء النسوة هذا ينطبق عليه الحديث، وباعتبار الحصر في أن العدد محصور، عدد قليل يعني عشرة أو عشرون امرأة يقرب من التعيين، لكن مع ذلك لا تثريب على من لعن، لا تثريب على من لعن؛ لأنه لا يريد امرأة بعينها من هؤلاء النسوة، وقد جاء الأمر بلعنهن.

" قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالَّذِي يَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّهُ أَشَارَ لِلْجَاهِلِيَّةِ الَّتِي لَحِقْنَهَا، فَأُمِرْنَ بِالنُّقْلَةِ عَنْ سِيرَتِهِنَّ فِيهَا، وَهِيَ مَا كَانَ قَبْلَ الشَّرْعِ مِنْ سِيرَةِ الْكَفَرَةِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا لَا غَيْرَةَ عِنْدَهُمْ، وَكَانَ أَمْرُ النِّسَاءِ دُونَ حِجَابٍ، وَجَعْلُهَا أُولَى بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا كُنَّ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّ ثَمَّ جَاهِلِيَّةٌ أُخْرَى وَقَدْ أُوقِعَ اسْمُ الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى تِلْكَ الْمُدَّةِ الَّتِي قَبْلَ الْإِسْلَامِ، فَقَالُوا: جَاهِلِيٌّ فِي الشُّعَرَاءِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي الْبُخَارِيّ:  سَمِعْتُ أَبِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَقُول، إِلَى غَيْرِ هَذَا.

قُلْتُ: وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ. وَيُعْتَرَضُ بِأَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ أَهْلُ قَشَفٍ وَضَنْكٍ فِي الْغَالِبِ، وَأَنَّ التَّنَعُّمَ وَإِظْهَارَ الزِّينَةِ إِنَّمَا جَرَى فِي الْأَزْمَانِ السَّابِقَةِ، وَهِيَ الْمُرَادُ بِالْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى، وَأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْآيَةِ مُخَالَفَةُ مَنْ قَبْلَهُنَّ مِنَ الْمِشْيَةِ عَلَى تَغْنِيجٍ وَتَكْسِيرٍ وَإِظْهَارِ الْمَحَاسِنِ لِلرِّجَالِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَجُوزُ شَرْعًا. وَذَلِكَ يَشْمَلُ الْأَقْوَالُ كُلَّهَا، وَيَعُمُّهَا فَيَلْزَمْنَ الْبُيُوتَ، فَإِنْ مَسَّتِ الْحَاجَةُ إِلَى الْخُرُوجِ فَلْيَكُنَّ عَلَى تَبَذُّلٍ وَتَسَتُّرٍ تَامٍّ. وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ.

 الثَّالِثَةُ: ذَكَرَ الثَّعْلَبِيُّ وَغَيْرُهُ: أَنَّ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- كَانَتْ إِذَا قَرَأَتْ هَذِهِ الْآيَةَ تَبْكِي حَتَّى تَبُلَّ خِمَارَهَا. وَذَكَرَ أَنَّ سَوْدَةَ قِيلَ لَهَا: لِمَ لَا تَحُجِّينَ وَلَا تَعْتَمِرِينَ كَمَا يَفْعَلُ أَخَوَاتُكِ؟ فَقَالَتْ: قَدْ حَجَجْتُ وَاعْتَمَرْتُ، وَأَمَرَنِي اللَّهُ أَنْ أَقِرَّ فِي بَيْتِي".

لأنها عجوز كبيرة طاعنة، ومع ذلك مأمورة بالقرار، فلم تحج ولم تعتمر بعد النبي -عليه الصلاة والسلام- كما حج غيرها من أمهات المؤمنين؛ احتجاجًا بالآية، واستدلالًا بها.

"قَالَ الرَّاوِي: فَوَاللَّهِ مَا خَرَجَتْ مِنْ بَابِ حُجْرَتِهَا حَتَّى أُخْرِجَتْ جِنَازَتُهَا.- رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهَا-، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: لَقَدْ دَخَلْتُ نَيِّفًا عَلَى أَلْفِ قَرْيَةٍ، فَمَا رَأَيْتُ نِسَاءً أَصْوَنَ عِيَالًا وَلَا أَعَفَّ نِسَاءً مِنْ نِسَاءِ نَابُلُس، الَّتِي رُمِيَ بِهَا الْخَلِيلُ -صلى الله عليه وسلم- بِالنَّارِ، فَإِنِّي أَقَمْتُ فِيهَا فَمَا رَأَيْتُ امْرَأَةً فِي طَرِيقٍ نَهَارًا إِلَّا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَإِنَّهُنَّ يَخْرُجْنَ إِلَيْهَا حَتَّى يَمْتَلِئَ الْمَسْجِدُ مِنْهُنَّ، فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ وَانْقَلَبْنَ إِلَى مَنَازِلِهِنَّ لَمْ تَقَعْ عَيْنَيَّ عَلَى وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ إِلَى الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى. وَقَدْ رَأَيْتُ بِالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى عَفَائِفَ مَا خَرَجْنَ مِنْ مُعْتَكَفِهِنَّ حَتَّى اسْتُشْهِدْنَ فِيهِ".

نعم يعني على يد النصارى، لما دخلوا بيت المقدس، واستولوا عليه، وقتلوا من قتلوا من المسلمين. نعم.

"الرَّابِعَةُ :قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: بُكَاءُ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- إِنَّمَا كَانَ بِسَبَبِ سَفَرِهَا أَيَّامَ الْجَمَلِ، وَحِينَئِذٍ قَالَ لَهَا عَمَّارٌ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَمَرَكِ أَنْ تَقِرِّي فِي بَيْتِكِ .

قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: تَعَلَّقَ الرَّافِضَةُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ -رضي الله عنها-، إِذْ قَالُوا: إِنَّهَا خَالَفَتْ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حِينَ خَرَجَتْ تَقُودُ الْجُيُوشَ، وَتُبَاشِرُ الْحُرُوبَ، وَتَقْتَحِمُ مَأْزِقَ الطَّعْنِ وَالضَّرْبِ فِيمَا لَمْ يُفْرَضْ عَلَيْهَا وَلَا يَجُوزُ لَهَا. قَالُوا: وَلَقَدْ حُصِرَ عُثْمَانُ، فَلَمَّا رَأَتْ ذَلِكَ أَمَرَتْ بِرَوَاحِلِهَا فَقُرِّبَتْ لِتَخْرُجَ إِلَى مَكَّةَ، فَقَالَ لَهَا مَرْوَانُ: أَقِيمِي هُنَا يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، وَرُدِّي هَؤُلَاءِ الرَّعَاعَ، فَإِنَّ الْإِصْلَاحَ بَيْنَ النَّاسِ خَيْرٌ مِنْ حَجِّكِ.

 قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيّ:ِ قَالَ عُلَمَاؤُنَا -رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ-: إِنَّ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- ، نَذَرَتِ الْحَجَّ قَبْلَ الْفِتْنَةِ، فَلَمْ تَرَ التَّخَلُّفَ عَنْ نَذْرِهَا، وَلَوْ خَرَجَتْ فِي تِلْكَ الثَّائِرَةِ لَكَانَ ذَلِكَ صَوَابًا لَهَا. وَأَمَّا خُرُوجُهَا إِلَى حَرْبِ الْجَمَلِ فَمَا خَرَجَتْ لِحَرْبٍ، وَلَكِنْ تَعَلَّقَ النَّاسُ بِهَا، وَشَكَوْا إِلَيْهَا مَا صَارُوا إِلَيْهِ مِنْ عَظِيمِ الْفِتْنَةِ وَتَهَارُجِ النَّاسِ، وَرَجَوْا بَرَكَتَهَا، وَطَمِعُوا فِي الِاسْتِحْيَاءِ مِنْهَا إِذَا وَقَفَتْ".

وقفت وقفت.

طالب: إذا.

إذا وقفت.

"وَطَمِعُوا فِي الِاسْتِحْيَاءِ مِنْهَا إِذَا وَقَفَتْ إِلَى الْخَلْقِ، وَظَنَّتْ هِيَ ذَلِكَ، فَخَرَجَتْ مُقْتَدِيَةً بِاللَّهِ فِي قَوْلِهِ: { لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ}".

على كل حال هي مجتهدة في المسألتين فيما يتعلق بعثمان رأت أن العزلة خيرٌ لها من المشاركة، وفي وقعة الجمل رأت أن المشاركة والخروج مع الناس؛ من أجل أن تصلح بينهم، وأن يرتدعوا إذا رأوها، وهي مُثابة على كل حال إن شاء الله تعالى، وليس بينها وبين علي شيء ألبتة، اللهم إلا أنها لا تنطق باسمه؛ بسبب ما حصل منه حينما استشاره النبي -عليه الصلاة والسلام- في قصة الإفك فقال: النساء غيرها كثير، النساء غيرها كثير، فكانت تقول: خرج النبي -عليه الصلاة والسلام- بين العباس وآخر، ما تقول علي، ومع ذلك لما قتل عثمان جاء الناس يستشيرونها فتشير بعلي، كل من جاء يستشير من نبايع؟ قالت: علي، ما فيه غيره، هو الرابع؛ لأنها تحفظ من النصوص ما تحفظ، والله المستعان.

طالب:...........................

هي خرجت إلى الجمل، على جمل يُقاد بها لا تقوده هي، إنما يقاد بها، وهي في هودج لا تُرى، ويقاد بها لا تقود، هي لا تقود الجمل، إنما يُقاد بها، وهذا شأن النساء من أول الأمر إلى آخره، يُقاد بهن الجمال، وتركب في هودج يسترها عن رؤية الرجال، هذا الأصل.

"وَقَوْلِهِ: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} ".

 يعني كونه لا يوجد هودج عند بعض الناس، يعني نظير السيارات الموجودة الآن، بعض الناس عندهم جمس مستور تركب فيه النساء، وبعضهم ما عندهم إلا ونيت، فماذا يفعل بحريمه؟ تركب النساء مع الرجال في سياراتهم، يعني مع محارمهم، فإذا لم يوجد ما يسترهن تستَّرن وركبن كما تركب المرأة بدون هودج، وإلا فالأصل أن المرأة مستورة لا تركب إلا بهودج. المرأة لا تركب إلا بالهودج، فإذا تيسر فهو الأصل، وإن لم يتيسر تستَّرت وركبت كما يركب الناس الآن في الونيتات، المسألة مسألة حاجة، والحاجة لا تكون هي الأصل، إنما الحاجة تُقدَّر بقدْرها.

"وَالْأَمْرُ بِالْإِصْلَاحِ مُخَاطَبٌ بِهِ جَمِيعُ النَّاسِ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى، حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ فَلَمْ يُرِدِ اللَّهُ تَعَالَى بِسَابِقِ قَضَائِهِ وَنَافِذِ حُكْمِهِ أَنْ يَقَعَ إِصْلَاحٌ، وَلَكِنْ جَرَتْ مُطَاعَنَاتٌ وَجِرَاحَاتٌ، حَتَّى كَادَ يَفْنَى الْفَرِيقَانِ، فَعَمَدَ بَعْضُهُمْ إِلَى الْجَمَلِ فَعَرْقَبَهُ، فَلَمَّا سَقَطَ الْجَمَلُ لِجَنْبِهِ أَدْرَكَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا-، فَاحْتَمَلَهَا إِلَى الْبَصْرَةِ، وَخَرَجَتْ فِي ثَلَاثِينَ امْرَأَةً، قَرَنَهُنَّ عَلِيٌّ بِهَا حَتَّى أَوْصَلُوهَا إِلَى الْمَدِينَةِ بَرَّةً تَقِيَّةً مُجْتَهِدَةً، مُصِيبَةً مُثَابَةً فِيمَا تَأَوَّلَتْ، مَأْجُورَةً فِيمَا فَعَلَتْ؛ إِذْ كُلُّ مُجْتَهِدٍ فِي الْأَحْكَامِ مُصِيبٌ.

وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي (النَّحْلِ) اسْمُ هَذَا الْجَمَلِ، وَبِهِ يُعْرَفُ ذَلِكَ الْيَوْم".

قوله: كل مجتهد في الأحكام مصيب، مصيبٌ نصيبه من الأجر، أما الإصابة التي تقابل الخطأ فلا شك أن المصيب واحد، والمخطئ الثاني، والحق واحد لا يتعدد، ويدل عليه حديث: »إذا إجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر»،  فأحدهما مصيب، والثاني مخطئ، وأما إصابة الثواب فالكل مصيب للثواب، فالمصيب له أجران، والمخطئ له أجر واحد.

قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} أَيْ فِيمَا أَمَرَ وَنَهَى، { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}  قَال َالزَّجَّاجُ: قِيلَ يُرَادُ بِهِ نِسَاءُ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-. وَقِيلَ: يُرَادُ بِهِ نِسَاؤُهُ وَأَهْلُهُ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ بَيْتِهِ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ بَعْدُ، وَ{أَهْلَ الْبَيْتِ} نُصِبَ عَلَى الْمَدْحِ. قَالَ: وَإِنْ شِئْتَ عَلَى الْبَدَلِ. قَالَ: وَيَجُوزُ الرَّفْعُ وَالْخَفْضُ".

أما دخول نساء النبي -عليه الصلاة والسلام- في قوله: { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} فهو قطعي، دخوله قطعي والسياق إنما سيق لأمهات المؤمنين، السياق كله لأمهات المؤمنين، فدخولهن في أهل البيت قطعي كما جاء في حديث الصلاة الإبراهيمية »اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد»،  وفي بعض الروايات: »اللهم صلِّ على محمد وأزواجه وذريته»، فدخول الأزواج قطعي في كونهن أهل البيت، وأما دخول غيرهم فبأدلة أخرى. 

"قَالَ: وَيَجُوزُ الرَّفْعُ وَالْخَفْضُ. قَالَ النَّحَّاسُ: إِنْ خُفِضَ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنَ الْكَافِ وَالْمِيمِ لَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَبِي الْعَبَّاسِ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: لَا يُبْدَلُ مِنَ الْمُخَاطَبَةِ وَلَا مِنَ الْمُخَاطَبِ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَحْتَاجَانِ إِلَى تَبْيِينٍ. {وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} مَصْدَرٌ فِيهِ مَعْنَى التَّوْكِيدِ".

لأن المخَاطب مواجه، المخَاطب مواجه، والمواجه مدرك بالبصر، مدرك بالبصر والمدرك بالبصر لا حتاج إلى وصف، الذي يحتاج إلى وصف أو إلى بيان هو الذي يمكن أن يخفى على السامع، أما المخاطب لا يمكن أن يخفى، ولذلك منع محمد بن يزيد أبو العباس المبرد من مثل هذا، لكن غيره لا يمنع منه.

"قوْلُهُ تَعَالَى: { وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا}  فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: 

الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} هَذِهِ الْأَلْفَاظُ تُعْطي أَنَّ أَهْلَ الْبَيْتِ نِسَاؤُهُ".

تُعطي، تُعطي.

"هَذِهِ الْأَلْفَاظُ تُعْطِي أَنَّ أَهْلَ الْبَيْتِ نِسَاؤُهُ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي أَهْلِ الْبَيْتِ، مَنْ هُمْ؟ فَقَالَ عَطَاءٌ وَعِكْرِمَةُ وَابْنُ عَبَّاسٍ: هُمْ زَوْجَاتُهُ خَاصَّةً، لَا رَجُلَ مَعَهُنَّ. وَذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الْبَيْتَ أُرِيدَ بِهِ مَسَاكِنُ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: { وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ}".

وهذا بالنسبة للمراد بأهل البيت في هذه الآية وفي هذا السياق النساء خاصة، النساء خاصة؛ لأنه ليس ببيوته -عليه الصلاة والسلام- من الذكور أحد، وأما بالنسبة للنصوص الأخرى: »أذكّركم الله في أهل بيتكم» {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:23]، فهذا يدخل فيه النساء وغير النساء.

  "وَقَالَتْ فِرْقَةٌ مِنْهُمُ الْكَلْبِيُّ: هُمْ عَلِيٌّ وَفَاطِمَةُ وَالْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ خَاصَّةً، وَفِي هَذَا أَحَادِيثُ عَنِ النَّبِيِّ– صلى الله عليه وسلم-".

نسله -عليه الصلاة والسلام-.

 "وَفِي هَذَا أَحَادِيثُ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى:  {لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ}".

 نعم.

"{لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ} بِالْمِيمِ وَلَوْ كَانَ لِلنِّسَاءِ خَاصَّةً لَكَانَ (عَنْكُنَّ  وَيُطَهِّرَكُنَّ)، إِلَّا أَنَّهُ يُحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ خَرَجَ عَلَى لَفْظِ الْأَهْلِ، كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ لِصَاحِبِهِ: كَيْفَ أَهْلُكَ، أَيِ امْرَأَتُكَ وَنِسَاؤُكَ، فَيَقُولُ: هُمْ بِخَيْرٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: { أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّهَا عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ أَهْلِ الْبَيْتِ مِنَ الْأَزْوَاجِ وَغَيْرِهِمْ. وَإِنَّمَا قَالَ: {وَيُطَهِّرَكُمْ} ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَعَلِيًّا وَحَسَنًا وَحُسَيْنًا كَانَ فِيهِمْ".

فغُلِّب الذكور كما هو الأصل والمرأة تدخل في خطاب الرجال، { وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التحريم:12] فتغليب الذكور معروف، لكن السياق في الآيات التي بين أيدينا لا شك أن دخول النساء فيه قطعي. نعم.

 وَإِذَا اجْتَمَعَ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ غُلِّبَ الْمُذَكَّرُ، فَاقْتَضَتِ الْآيَةُ أَنَّ الزَّوْجَاتِ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ فِيهِنَّ، وَالْمُخَاطَبَةَ لَهُنَّ يَدُلُّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْكَلَامِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. أَمَّا أَنّ َ»أُمَّ سَلَمَةَ قَالَتْ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي بَيْتِي، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلِيًّا وَفَاطِمَةَ وَحَسَنًا وَحُسَيْنًا، فَدَخَلَ مَعَهُمْ تَحْتَ كِسَاءٍ خَيْبَرِيٍّ وَقَالَ: هَؤُلَاءِ أَهْلُ بَيْتِي وَقَرَأَ الْآيَةَ وَقَالَ: اللَّهُمَّ أَذْهِبْ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَطَهِّرْهُمْ تَطْهِيرًا فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: وَأَنَا مَعَهُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: أَنْتِ عَلَى مَكَانِكِ وَأَنْتِ عَلَى خَيْرٍ» أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ".

مخرج؟

ماذا يقول؟

طالب: أخرجه الترمذي والطبري من حديث عمر بن أبي سلمة، وورد من حديث أم سلمة أخرجه الطبري والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، وفيه شُريك سيئ الحفظ.

شَريك شريك.

طالب: وفيه شريك سيئ الحفظ، والمستنكر من الحديث آخره فقط، وهو عند مسلم من حديث عائشة دون عجزه، فالآية سباقها وسياقها يتناول الأزواج، والحديث يضيف إليهن فاطمة وعليًّا وحسنًا وحسينًا -رضي الله عنهم أجمعين-، وهو الذي اختاره ابن كثير في تفسيره.

وأما ما في آخره من إخراج أم سلمة من الآل فهو منكر، تفرد به مجاهيل وضعفاء.

نعم، الدلالة على ما دلت عليه الآية صحيح، أما ما عدا ذلك من إخراج أم سلمة من أهل البيت فهذا معارض ومناقض لما جاء في القرآن.

 وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ: » وَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ أَدْخَلْتُ رَأْسِي فِي الْكِسَاءِ وَقُلْتُ: أَنَا مِنْهُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ»، وَقَالَ الثَّعْلَبِيُّ: هُمْ بَنُو هَاشِمٍ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبَيْتَ يُرَادُ بِهِ بَيْتُ النَّسَبِ، فَيَكُونُ الْعَبَّاسُ وَأَعْمَامُهُ وَبَنُو أَعْمَامِهِ مِنْهُمْ. وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ -رضي الله عنهمْ- أَجْمَعِينَ. وَعَلَى قَوْلِ الْكَلْبِيِّ يَكُونُ قَوْلُهُ: {وَاذْكُرْنَ} ابْتِدَاءَ مُخَاطَبَةِ اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ مُخَاطَبَةَ أَمْرِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- أَزْوَاجَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، عَلَى جِهَةِ الْمَوْعِظَةِ وَتَعْدِيدِ النِّعْمَةِ بِذِكْرِ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِهِنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْحِكْمَةِ، قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالتَّأْوِيلِ: (آيَاتِ اللَّهِ) الْقُرْآنُ. {وَالْحِكْمَةَ} السُّنَّةُ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ قَوْلَهُ: {وَاذْكُرْنَ} مَنْسُوقٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ".

يعني معطوف عليه، يعني معطوف على ما قبله. نعم.

 "وَقَالَ: {عَنْكُمْ} لِقَوْلِهِ {أَهْلَ}، فَالْأَهْلُ مُذَكَّرٌ، فَسَمَّاهُنّ وَإِنْ كُنَّ إِنَاثًا بِاسْمِ التَّذْكِيرِ، فَلِذَلِكَ صَارَ {عَنْكُمْ}. وَلَا اعْتِبَارَ بِقَوْلِ الْكَلْبِيِّ وَأَشْبَاهِهِ، فَإِنَّهُ تُوجَدُ لَهُ أَشْيَاءُ فِي هَذَا التَّفْسِيرِ مَا لَوْ كَانَ فِي زَمَنِ السَّلَفِ الصَّالِحِ لَمَنَعُوهُ مِنْ ذَلِكَ، وَحَجَرُوا عَلَيْهِ، فَالْآيَاتُ كُلُّهَا مِنْ قَوْلِهِ: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ}  إِلَى قَوْلِهِ: { إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} مَنْسُوقٌ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، فَكَيْفَ صَارَ فِي الْوَسَطِ كَلَامًا مُنْفَصِلًا لِغَيْرِهِنَّ، وَإِنَّمَا هَذَا شَيْءٌ جَرَى فِي الْأَخْبَارِ» أَنَّ النَّبِيَّ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَمَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ دَعَاعَلِيًّا وَفَاطِمَةَ وَالْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ، فَعَمَدَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى كِسَاءٍ فَلَفَّهَا عَلَيْهِمْ، ثُمَّ أَلْوَى بِيَدِهِ إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ هَؤُلَاءِ أَهْلُ بَيْتِي اللَّهُمَّ أَذْهِبْ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَطَهِّرْهُمْ تَطْهِيرًا» فَهَذِهِ دَعْوَةٌ مِنَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- لَهُمْ بَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ، أَحَبَّ أَنْ يُدْخِلَهُمْ فِي الْآيَةِ الَّتِي خُوطِبَ بِهَا الْأَزْوَاجُ، فَذَهَبَ الْكَلْبِيُّ وَمَنْ وَافَقَهُ فَصَيَّرَهَا لَهُمْ خَاصَّةً، وَهِيَ دَعْوَةٌ لَهُمْ خَارِجَةٌ مِنَ التَّنْزِيل".

نعم، فيكون دخول أزواج النبي -عليه الصلاة والسلام- في أهل البيت ثابت بالقرآن، ودخول غير الأزواج ثابت بالسنة ممن ذُكر.

طالب: زوج البنت لا يدخل في الأهل؟

زوج البنت، لا، ما يدخل، هذا الأصل، لكن باعتباره من أهله من قرابته من بني هاشم.

طالب:...........خصت عليًّا بدخوله.

الحديث، الحديث، نعم.

طالب: جميل توجيه القرطبي.

نعم، ما فيه إشكال.

طالب: ..... أحب أن يدخلهم في الآية مع الأزواج.

 دلالة القرآن على الأزواج، ودلالة السنة على غيرهم، فيه ضم هذا إلى هذا، ولا يضرب هذا بهذا، هذا الأصل أن السنة تفسِّر القرآن ولا تناقض القرآن.

"الثَّانِيَةُ: لَفْظُ الذِّكْرِ يَحْتَمِلُ ثَلَاثَةَ مَعَانٍ: أَحَدُهَا: أَيِ اذْكُرْنَ مَوْضِعَ النِّعْمَةِ؛ إِذْ صَيَّرَكُنَّ اللَّهُ فِي بُيُوتٍ تُتْلَى فِيهَا آيَاتُ اللَّهِ وَالْحِكْمَةُ.

الثَّانِي: اذْكُرْنَ آيَاتِ اللَّهِ وَاقْدُرْنَ قَدْرَهَا، وَفَكِّرْنَ فِيهَا حَتَّى تَكُونَ مِنْكُنَّ عَلَى بَالٍ لِتَتَّعِظْنَ بِمَوَاعِظَ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَنْ كَانَ هَذَا حَالَهُ يَنْبَغِي أَنْ تَحْسُنَ أَفْعَالُهُ.

الثَّالِثُ: وَاذْكُرْنَ بِمَعْنَى احْفَظْنَ وَاقْرَأْنَ وَأَلْزِمْنَهُ الْأَلْسِنَةَ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: احْفَظْنَ أَوَامِرَ اللَّهِ تَعَالَى، وَنَوَاهِيَهُ، وَذَلِكَ هُوَ الَّذِي يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ. فَأَمَرَ اللَّهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَنْ يُخْبِرْنَ بِمَا يُنَزَّلُ مِنَ الْقُرْآنِ فِي بُيُوتِهِنَّ، وَمَا يَرَيْنَ مِنْ أَفْعَالِ النَّبِيِّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-، وَيَسْمَعْنَ مِنْ أَقْوَالِهِ حَتَّى يُبَلِّغْنَ ذَلِكَ إِلَى النَّاسِ، فَيَعْمَلُوا وَيَقْتَدُوا. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي الدِّينِ.

الثَّالِثَةُ: قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيّ". 

قد يقول قائل: إن النسوة عدد وليست واحدة، والأمر للجميع، وأمر الجميع متجه إليهن مجتمعات ومنفردات، على أن خبر الواحد في الاصطلاح أعم من أن يكون راويه فردًا واحدًا، بل يُطلق على ما يرويه الواحد والاثنين والثلاثة والأربعة والأكثر من ذلك ما لم يصل إلى حد التواتر كما هو معروفٌ عند أهل العلم، ولولا أنه حجة منزلة لما أُمرن بتبليغه، ولا أُمرن بذكره للناس.

 "الثَّالِثَةُ: قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيّ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَسْأَلَةٌ بَدِيعَةٌ، وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ نَبِيَّهُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- بِتَبْلِيغِ مَا أَنْزَلَ عَلَيْهِ مِنَ الْقُرْآنِ، وَتَعْلِيمِ مَا عَلَّمَهُ مِنَ الدِّينِ، فَكَانَ إِذَا قَرَأَ عَلَى وَاحِدٍ أَوْ مَا اتَّفَقَ سَقَطَ عَنْهُ الْفَرْضُ، وَكَانَ عَلَى مَنْ سَمِعَهُ أَنْ يُبَلِّغَهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَلَا يَلْزَمَهُ أَنْ يَذْكُرَهُ لِجَمِيعِ أصحابه".

الصَّحَابَةِ.

الصَّحَابَةِ؟

لجميع الصَّحَابَةِ.

"وَلَا يَلْزَمَهُ أَنْ يَذْكُرَهُ لِجَمِيعِ أصحابه الصَّحَابَةِ".

والدليل على ذلك أن الصحابة يتفاوتون في الروايات والمرويات، منهم من يروي الحديث الواحد، ومنهم من يروي الاثنين والثلاثة إلى أن تبلغ الألوف عند بعضهم، فمنهم المستكثر، ومنهم المقل، ولو كان  مأمورا بالتبليغ للجميع لحفظوا عنه كلهم.

 "وَلَا كَانَ عَلَيْهِ إِذَا عَلَّمَ ذَلِكَ أَزْوَاجَهُ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى النَّاسِ فَيَقُولُ لَهُمْ نَزَلَ كَذَا وَلَا كَانَ كَذَا، وَلِهَذَا قُلْنَا: يَجُوزُ الْعَمَلُ بِخَبَرِ بُسْرَةَ فِي إِيجَابِ الْوُضُوءِ مِنْ مَسِّ الذَّكَر؛ لِأَنَّهَا رَوَتْ مَا سَمِعَتْ، وَبَلَّغَتْ مَا وَعَتْ. وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يُبَلَّغَ ذَلِكَ الرِّجَالُ، كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَة، عَلَى أَنَّهُ قَدْ نُقِلَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَابْنِ عُمَرَ".

نعم، إذا حمل الخبر من تقوم به الحجة لا يلزم أن يحمله غيره، إنما هذا الرجل يبلِّغه لغيره، والواجب سقط بتبليغه إلى غيره، والذي يليه يبلِّغه إلى غيره وهكذا.

طالب: شيخ الإسلام ابن تيمية .... لو كان ... لنقِل إلينا بالتواتر.

نعم، هذا ما تدعو الدواعي إلى نقله، قالوا: كقتل الخطيب على المنبر، يعني لو نقله واحد لشُك في خبره، كيف لم ينقله غيره؟! مع أن من أعظم ما يروى في هذا الباب مما يدخل في جميع العبادات بل العادات والمعاملات حديث »الأعمال بالنيات»، ما نقله إلا عمر خطب به على المنبر، وما نقله عنه إلا علقمه بن وقاص الليثي، ثم بعد ذلك ما نقله عنه إلا محمد بن إبراهيم التيمي، وبعد ذلك ما نقله إلا يحيى بن سعيد، وعنه انتشر، فلا حجة لأحد بمثل هذا.

طالب:...........................

يعني خبر الآحاد، خبر الكاف والعام يقصد به التواتر.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: { إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}. 

فِيهِ مَسْأَلَتَانِ:  

الْأُولَى: رَوَى التِّرْمِذِيُّ» عَنْ أُمِّ عُمَارَةَ الْأَنْصَارِيَّةِ أَنَّهَا".

هذه الآية يستدل بها أهل العلم على أن الضمير يختصر الكلام، {أعد لهم} يعني للعشرين الذين تقدموا، {الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} عشرين لفظًا، اكتفى بعود الضمير عليهم، فالضمير كالتصريح ما يحتاج أن يقال: (وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات)، لا، أعدّ الله لهم ويكفي. والله المستعان.

طالب: لو اقتصر على الذكور؟

لو اقتصر على الذكور لدخل النساء تبعًا، لدخل النساء تبعًا، لكن أظن في سبب النزول جاء أن النساء قالت: كثر اختصاص الذكور فلما لا يذكر النساء؟

طالب: أقصد إطلاق "لهم"؟

نعم، إذا اجتمع الذكور والإناث غُلب الذكور، معروفة.

 "الْأُولَى: رَوَى التِّرْمِذِيُّ» عَنْ أُمِّ عُمَارَةَ الْأَنْصَارِيَّةِ أَنَّهَا أَتَتِ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَتْ: مَا أَرَى كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا لِلرِّجَالِ، وَمَا أَرَى النِّسَاءَ يُذْكَرْنَ بِشَيْءٍ» فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} الْآيَةَ. هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَ{الْمُسْلِمِينَ} اسْمُ إِنَّ. {وَالْمُسْلِمَاتُ} عَطْفٌ عَلَيْهِ. وَيَجُوزُ رَفْعُهُنَّ عِنْدَ الْبَصْرِيِّين، فَأَمَّا الْفَرَّاءُ فَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُ إِلَّا فِيمَا لَا يَتَبَيَّنُ فِيهِ الْإِعْرَاب".

العطف على منصوب إن يجوز رفعه بشرط أن تستكمل الخبر، إذا وجد الخبر يجوز الرفع على منصوب إن، وإذا لم تستكمل الجملة خبرها فإنه لا يجوز، يقول ابن مالك -رحمه الله-:

وجائز رفعك معطوفًا على        منصوب إن بعد أن تستكمله

 يعني بعد أن استكمل الخبر. نعم.

"الثَّانِيَةُ: بَدَأَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِذِكْرِ الْإِسْلَامِ الَّذِي يَعُمُّ الْإِيمَانَ وَعَمَلَ الْجَوَارِحِ، ثُمَّ ذَكَرَ الْإِيمَانَ تَخْصِيصًا لَهُ وَتَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ عُظْمُ الْإِسْلَامِ وَدِعَامَتُهُ. وَالْقَانِتُ: الْعَابِدُ الْمُطِيعُ. وَالصَّادِقُ: مَعْنَاهُ فِيمَا عُوهِدَ عَلَيْهِ أَنْ يَفِيَ بِهِ".

القنوت له معانٍ في اللغة ومعانٍ شرعية، جاء بمعنى العبادة وجاء بمعنى الطاعة، وجاء بمعنى طول القيام، وجمعها الحافظ العراقي في بيتين، لا أذكرهما الآن.

"وَالصَّابِرُ عَنِ الشَّهَوَاتِ وَعَلَى الطَّاعَاتِ فِي الْمَكْرَهِ وَالْمَنْشَطِ. وَالْخَاشِعُ: الْخَائِفُ لِلَّهِ. وَالْمُتَصَدِّقُ بِالْفَرْضِ وَالنَّفْلِ. وَقِيلَ بِالْفَرْضِ خَاصَّةً، وَالْأَوَّلُ أَمْدَحُ. وَالصَّائِمُ كَذَلِكَ. { وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ} أَيْ عَمَّا لَا يَحِلُّ مِنَ الزِّنَى وَغَيْرِهِ.

وَفِي قَوْلِهِ: {وَالْحَافِظَاتُ} حَذْفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمُتَقَدِّمُ، تَقْدِيرُهُ: وَالْحَافِظَاتِهَا، فَاكْتُفِيَ بِمَا تَقَدَّمَ. وَفِي {الذَّاكِرَاتِ} أَيْضًا مِثْلُهُ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

وَكُمْتًا مُدَمَّاةً كَأَنَّ مُتُونَهَا جَرَى فَوْقَهَا وَاسْتَشْعَرَتْ لَوْنُ مُذْهَبِ
 

وَرَوَى سِيبَوَيْهِ: لَوْنَ مُذْهَبِ بِالنَّصْبِ. وَإِنَّمَا يَجُوزُ الرَّفْعُ عَلَى حَذْفِ الْهَاءِ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَاسْتَشْعَرَتْهُ، فِيمَنْ رَفَعَ لَوْنًا. وَالذَّاكِرُ قِيلَ فِي أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ وَغُدُوًّا وَعَشِيًّا، وَفِي الْمَضَاجِعِ وَعِنْدَ الِانْتِبَاهِ مِنَ النَّوْمِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا كُلُّهُ مُفَصَّلًا فِي مَوَاضِعِهِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْفَوَائِدِ وَالْأَحْكَامِ".

الداعي لهذا الكلام في قوله: { وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ} حفظت ماذا؟ هذا الأصل فروجهن، ومن باب الاكتفاء اكتفى به في الموضع الأول وتركه في الثاني، والاكتفاء أسلوب مطروق حتى في القرآن، حتى في القرآن اكتفى بذكر الفروج بالنسبة للرجال وبالنسبة للنساء أمر معروف، {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ} إيش؟ الله كثيرًا مثل الذكور.

"وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا كُلُّهُ مُفَصَّلًا فِي مَوَاضِعِهِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْفَوَائِدِ وَالْأَحْكَامِ، فَأَغْنَى عَنِ الْإِعَادَةِ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. قَالَ مُجَاهِدٌ: لَا يَكُونُ ذَاكِرًا لِلَّهِ تَعَالَى كَثِيرًا حَتَّى يَذْكُرَهُ قَائِمًا وَجَالِسًا وَمُضْطَجِعًا".

كما جاء في أواخر آل عمران {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران:191]، قال أبو سعيد.

"وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رضي الله عنه-: مَنْ أَيْقَظَ أَهْلَهُ بِاللَّيْلِ وَصَلَّيَا أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ كُتِبَا مِنَ الذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ .

قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا}. 

فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى: رَوَى قَتَادَةُ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- خَطَبَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ: وَكَانَتْ بِنْتَ عَمَّتِهِ، فَظَنَّتْ أَنَّ الْخِطْبَةَ لِنَفْسِهِ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ أَنَّهُ يُرِيدُهَا لِزَيْدٍ، كَرِهَتْ وَأَبَتْ وَامْتَنَعَتْ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. فَأَذْعَنَتْ زَيْنَبُ حِينَئِذٍ وَتَزَوَّجَتْهُ. فِي رِوَايَةٍ: فَامْتَنَعَتْ وَامْتَنَعَ أَخُوهَا عَبْدُ اللَّهِ لِنَسَبِهَا مِنْ قُرَيْشٍ، وَأَنَّ زَيْدًا كَانَ بِالْأَمْسِ عَبْدًا، إِلَى أَنْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، فَقَالَ لَهُ أَخُوهَا: مُرْنِي بِمَا شِئْتَ، فَزَوَّجَهَا مِنْ زَيْد.ٍ 

وَقِيلَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، وَكَانَتْ وَهَبَتْ نَفْسهَا لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فَزَوَّجَهَا مِنْ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، فَكَرِهَتْ ذَلِكَ هِيَ وَأَخُوهَا وَقَالَا: إِنَّمَا أَرَدْنَا رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَزَوَّجَنَا غَيْرَهُ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ بِسَبَبِ ذَلِكَ، فَأَجَابَا إِلَى تَزْوِيجِ زَيْدٍ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ: لَيْسَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا أَمَرَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- وَرَسُولُهُ -صلى الله عليه وسلم- بِأَمْرٍ أَنْ يَعْصِيَاهُ.

الثَّانِيَةُ: لَفْظَةُ (مَا كَانَ، وَمَا يَنْبَغِي) وَنَحْوِهِمَا، مَعْنَاهَا الْحَظْرُ وَالْمَنْعُ. فَتَجِيءُ لِحَظْرِ الشَّيْءِ وَالْحُكْمِ بِأَنَّهُ لَا يَكُونُ، كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَرُبَّمَا كَانَ امْتِنَاعُ ذَلِكَ الشَّيْءِ عَقْلًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا}  وَرُبَّمَا كَانَ الْعِلْمُ بِامْتِنَاعِهِ شَرْعًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ}، وَقَوْلِهِ تَعَالَى:  { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} . وَرُبَّمَا كَانَ فِي الْمَنْدُوبَاتِ، كَمَا تَقُولُ: مَا كَانَ لَكَ يَا فُلَانُ أَنْ تَتْرُكَ النَّوَافِلَ، وَنَحْوَ هَذَا".

نعم، لفظ ما كان، وما ينبغي، وما يصلح كلها محتملة لما يراد نفيه على سبيل الجزم أو على سبيل التخيير والتخفيف، فتطلق على المحظور الممنوع المحرم، كما تترك أيضًا على المكروه خلاف الأولى، والسياق هو الذي يحدد المراد، نعم.  وبعض من أهل العلم لاسيما المتقدمين يطلق مثل هذه الألفاظ من باب الورع، لا ينبغي، لا أحب، أكره، وهكذا كله لا يريد أن يجزم بالمنع البات يحرم ويجب وما أشبه ذلك.

 "الثَّالِثَةُ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ بَلْ نَصٌّ فِي أَنَّ الْكَفَاءَةَ لَا تُعْتَبَرُ فِي الْأَحْسَابِ، وَإِنَّمَا تُعْتَبَرُ فِي الْأَدْيَانِ، خِلَافًا لِمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَالْمُغِيرَةِ وَسَحْنُونٍ. وَذَلِكَ أَنَّ الْمَوَالِيَ تَزَوَّجَتْ فِي قُرَيْشٍ، تَزَوَّجَ زَيْدٌ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ. وَتَزَوَّجَ الْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ ضُبَاعَةَ بِنْتَ الزُّبَيْرٍ. وَزَوَّجَ أَبُو حُذَيْفَة سَالِمًا مِن ْفَاطِمَةَ بِنْتِ الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ".

يعني سالم مولاه، سالم مولى أبي حذيفة زوَّجه من فاطمة بنت الوليد بن عُتبة.

 "وَتَزَوَّجَ بِلَالٌ أُخْتَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى فِي غَيْرِ مَوْضِع".

ولا يُعرَف حقيقة ما يخالف هذه الأدلة وهذه الوقائع التي حصلت بعلمه -عليه الصلاة والسلام- وإقراره وبإشارته، وترجم الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في كتاب النكاح، باب الأكفاء في الدين، وذكر حديث ضباعة بنت الزبير في الاستثناء في الحج،  »فقالت: إني أريد الحج وأجدني شاكية، فقال: حجي واشترطي؛ فإن لك على ربك ما استثنيت» قال البخاري: وكانت تحت المقداد، وهذا هو الشاهد، فالأصل أن الكفاءة إنما هي في الدين، وبالنسبة للنسب {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] هذه نصوص قطعية لا مجال فيها للاجتهاد، لكن لعل من يمنع إنما يريد حزم مادة النزاع والشقاق والشجار الذي يحصل بين الناس بسبب هذا، نعم إذا خُشي مثل هذه الفتن فالكف لا للتحريم، إنما لهذه الأمور لا شك أن له وجهًا.

"الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ تَعَالَى: { أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}". 

الأصل أنها ليست بشرط. نعم.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: { أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} قَرَأَ الْكُوفِيُّونَ: أَنْ يَكُونَ بِالْيَاءِ. وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي عُبَيْد؛ لِأَنَّهُ قَدْ فَرَّقَ بَيْنَ الْمُؤَنَّثِ وَبَيْنَ فِعْلِهِ. والْبَاقُونَ بِالتَّاءِ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ مُؤَنَّثٌ فَتَأْنِيثُ فِعْلِهِ حَسَنٌ".

إنما يجب تأنيث الفعل للفاعل إذا كان مؤنثًا حقيقيًا لم يفصل بينه وبين فعله، أو كان الفاعل ضميرًا يعود إلى مؤنث سواء كان حقيقيًّا أو مجازيًّا، أما إذا كان التأنيث غير حقيقي فيجوز التأنيث والتذكير ولو لم يفصل، نقول: طلعت الشمس، طلع الشمس، لكن ما تقول: الشمس طلع، إنما تقول: الشمس طلعت، وإذا فُصل بين الفعل وفاعله المؤنث جاز التذكير والتأنيث سواءٌ كان المؤنث حقيقيًّا أو مجازيًّا، على أن سيبويه ذكر في كتابه أنه يجوز التذكير ولو لم يفصل ولو كان التأنيث حقيقيًّا وقال: حكى فلانة، حكى فلانة أو قال فلانة.

" وَالتَّذْكِيرُ عَلَى أَنَّ الْخِيَرَةَ بِمَعْنَى التَّخْيِيرِ، فَالْخِيَرَةُ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الِاخْتِيَارِ. وَقَرَأَ ابْنُ السَّمَيْقَع: "الْخِيرَةَ" بِإِسْكَانِ الْيَاءِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي ضِمْنِ قَوْلِهِ تَعَالَى: { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ}،  ثُمَّ تَوَعَّدَ تَعَالَى وَأَخْبَرَ أَنَّ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ. وَهَذَا أَدَلُّ دَلِيلٍ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنْ فُقَهَائِنَا، وَفُقَهَاءِ أَصْحَابِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ وَبَعْضِ الْأُصُولِيِّينَ، مِنْ أَنَّ صِيغَةَ (أفْعل) لِلْوُجُوبِ فِي أَصْلِ وَضْعِهَا".

افعل، افعل، يعني الأمر.

"مِنْ أَنَّ صِيغَةَ (افْعِلْ) لِلْوُجُوبِ فِي أَصْلِ وَضْعِهَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- نَفَى خِيَرَةَ الْمُكَلَّفِ عِنْدَ سَمَاعِ أَمْرِهِ وَأَمْرِ رَسُولِهِ -صلى الله عليه وسلم-، ثُمَّ أَطْلَقَ عَلَى مَنْ بَقِيَتْ لَهُ خِيَرَةٌ عِنْدَ صُدُورِ الْأَمْرِ اسْمَ الْمَعْصِيَةِ، ثُمَّ عَلَّقَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ بِذَلِكَ الضَّلَالِ، فَلَزِمَ حَمْلُ الْأَمْرِ عَلَى الْوُجُوبِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ".

نعم من الأدلة على  أن الأصل في الأمر الوجوب قول الله -جل وعلا-: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} النور:63]، يعني رتَّب عقوبة على ترك الأمر، فدل على أن الأمر الوجوب ومن ذلكم قوله -عليه الصلاة والسلام-: »لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي أَوْ عَلَى النَّاسِ لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ مَعَ كُلِّ وضوء» أو »عند كل وضوء»، والأمر الندب موجود، لكن المنفي لوجود المشقة هو أمر الإيجاب الذي هو الأصل.