شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (125)

المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أيها الإخوة والأخوات، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً بكم إلى حلقة جديدة في برنامجكم" شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح"، مع مطلع حلقتنا يسرنا أن نرحب بفضيلة الدكتور عبد الكريم بن عبد الله الخضير، فأهلاً ومرحبًا بكم شيخ عبد الكريم.

حياكم الله، وبارك فيكم وفي الإخوة المستمعين.

المقدم: قال المصنف -رحمه الله- عن معاوية -رضي الله عنه- قال: «سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم، والله -عزَّ وجلَّ- يعطي، ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله، لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله».

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، راوي الحديث الصحابي الجليل معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي، هو وأبوه من مسلمة الفتح، روي له عن النبي- صلى الله عليه وسلم- ثلاثة وستون حديثًا ومائة حديث، ذكر البخاري منها ثمانية، ومات بدمشق سنة ستين.

 وهذا الحديث -حديث معاوية- ترجم عليه الإمام البخاري بقوله: باب من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين، بلفظ الحديث.

 قال العيني: وجه المناسبة بين البابين يعنى هذا الباب والذي قبله، باب ما كان النبي- صلى الله عليه وسلم- يتخولهم بالموعظة والعلم لكي لا ينفروا من حيث إن المذكور في الباب الأول التخول، من حيث إن المذكور في الباب الأول شأن من يذكر الناس في أمور دينهم ببيان ما ينفعهم وما يضرهم، وليس هذا إلا شأن الفقيه في الدين، هو الذي يتخول الناس، أما الذي ليس بفقيه، والمراد بالفقه: الفهم، الذي لا يفهم أو فهمه أقل لا شك أنه لن يتخول الناس، كما هو واقع بعض الناس.

المقدم: نعم.

فقد يتكلم الشخص لقلة فقهه في أمور غير مناسبة، أو في أوقات غير مناسبة، أو في ظروف وأحوال غير مناسبة، فهو لا يتخول. أما الفقيه، والمراد بالفقيه الفاهم في أمور الدين فهو الذي يتخول الناس في الموعظة، والمذكور في هذا الباب هو مدح هذا الفقيه، وكيف لا يكون ممدوحًا وقد أراد الله به خيرًا، حيث جعله فقيهًا في دينه، عالمًا بأحكام شرعه، يكفيه أن يكون مرجعًا للناس ينير الطريق للناس، يبصر الناس في دينهم، يحل إشكالاتهم على ضوء  ما جاء عن الله وعن رسوله- عليه الصلاة والسلام-، كيف لا يكون ممدوحًا وقد أراد الله به خيرًا، حيث جعله فقيهًا في دينه عالمًا بأحكام شرعه.

ومطابقة الحديث للترجمة ظاهرة لحديث «من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين»، والترجمة باب من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين، فإنها كلها من عين الحديث، يعنى مأخوذة من لفظ الحديث.

مناسبة الترجمة لكتاب العلم أيضًا ظاهرة، فالفقه في الدين أي في جميع أبوابه كما سيأتي هو العلم الشرعي الذي جاء مدحه في النصوص. مناسبة الترجمة باب من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين لكتاب العلم، يعني أليس هناك ارتباط بين الفقه في الدين والعلم؟ نعم، العلم الممدوح في النصوص هو العلم الشرعي، والعلم الشرعي يساوي الفقه في الدين في جميع أبواب الدين، إذًا هو العلم الشرعي.

«من» شرطية، «يرد» بضم الياء فعل الشرط مشتق من الإرادة. يقول الكرماني: وهي عند الجمهور صفة مخصصة لأحد طرفي المقدور بالوقوع، الإرادة صفة مخصصة لأحد طرفي المقدور بالوقوع يعنى مرجحة للمراد.

الإرادة مرجحة للطرف الذي يراد فعله، يقول: وقيل: إنها اعتقاد النفع أو الضرر، وقيل: بل ميل يتبعه الاعتقاد، يقول: وهذا لا يصح في الإرادة القديمة. المراد بالإرادة القديمة، إرادة الله -جلَّ وعلا-، هذا تعبيرهم في صفات الله- جلَّ وعلا- الأشعرية كذا يقولون.

المقدم: القديم يسمونه القديم.

نعم، يسمونه القديم، وكل صفاته قديمة، يقول: وقيل هي ميل يتبعه الاعتقاد، وهذا لا يصح في الإرادة القديمة؛ لأنهم نظروا إلى إرادة المخلوق، ونظروا إلى إرادة الخالق، فتصوروا وتوهموا..

المقدم: أنَّهما..

الاشتباه والتقارب بينهما، فترتب على هذا مثل هذا الكلام، كذا قال الكرماني، ومثله عند العيني بحروفه، والعيني كثيرًا ما ينقل كلام الكرماني بحروفه، أحياًنا يعزو، وأحيانًا لا يعزو. وفي الحديث على كل حال إثبات صفة الإرادة لله -عزَّ وجلَّ- على ما يليق بجلاله وعظمته؛ لأنه أثبتها سلف هذه الأُمَّة من غير تعرض لكيفيتها، فكل خير في اتباع من سلف، وجاءت بها النصوص القطعية، نصوص الكتاب والسنة. «خيرًا» نكرة في سياق الشرط، فتعم جميع أنواع الخيرات أو للتعظيم، «يرد الله به خيرًا» يعنى عظيمًا، والخير ضد الشر. قال الكرماني: الخير المنفعة، وهي اللذة أو ما يكون وسيلة إلى اللذة، يعنى الخير هو اللذة أو الخير هو المنفعة، إذا أردنا المنفعة التي هي بالفعل هي منفعة؛ لأنه قد يتصور بعض الناس أن هذا ينفع، نعم من أمور الدنيا وهو في الحقيقة يترتب عليه أضرار. لكن إذا قلنا: إن الخير هو المنفعة، يعنى ما ينفع في الدين والدنيا وهي اللذة، المنفعة هي اللذة، أو ما يكون وسيلة إلى اللذة، التفقه في الدين بالنسبة لمن يعانيه هل هو لذة أو ليس بلذة؟

الأخ الحاضر: لذة.

لذة متى؟ لا شك أنه يحتاج إلى معاناة في البداية.

المقدم: صحيح.

يحتاج إلى كلفة ممن يريده ويعانيه، يحتاج إلى معاناة ومشقة، لكن إذا تجاوز هذه المرحلة تلذذ، وكل ما بان له معنى أو لاح له رجحان قول بدليله تلذذ بذلك، وهذا شيء مجرب ومشاهد؛ ولذا ينفق أهل العلم الأوقات الطويلة جدًّا في سبيل تحصيل العلم الشرعي، وهم أسعد الناس، بينما الناس في غفلتهم، ولهوهم وما يزعمون أنه لذة، لكنه في الحقيقة حسرة، لكن هذه هي اللذة الحقيقية في العلم الباعث على الخشية والعمل الذي يصدق هذه الدعوة من العلم، هذه هي اللذة الحقيقية، يقول: فإن قلت هل في تنكيره فائدة؟ يعني «خيرًا»، يقول: قلت: فائدته التعميم؛ لأن النكرة في سياق الشرط كالنكرة في سياق النفي، فالمعنى فمن يرد الله به جميع الخيرات أو التعظيم يعني الخير العظيم، إذ المقام يقتضي ذلك نحو له حاجب عن كل أمر يشينه، له حاجب عن كل أمر يشينه.

«يفقهه» مجزوم جواب شرط أي يجعله فقيهًا، والفقه في اللغة الفهم، {يفقهوا قولي} يعنى يفهموه. وعرفًا العلم بالأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية بالاستدلال، هذا الفقه العرفي عند أهل العلم، يعنى الذي يقابل العلوم الأخرى من الحديث والتفسير والعقائد وغيرها. إذا قسمت العلوم إلى تفسير وحديث وفقه وعقائد، فالمراد بالفقه، المراد به العلم بالأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية في الاستدلال، هذا هو الفقه، يعنى الفقه بالعرف الخاص عند أهل العلم، لكن إذا أطلق كما في الحديث فالمراد به الفهم عن الله وعن رسوله، يعنى عما جاء عن الله ورسوله، فيشمل جميع أبواب الدين، قال العيني وقبله الكرماني: ولا يناسب هنا إلا المعنى اللغوي الذي هو الفهم، يعنى تعريف الفقه بالمعني العرفي لا يناسب الحديث، «من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين».

المقدم: لأنه ذكر قوله في الدين مثلاً؟

لا، إرادة الخير هل هي بالفقيه فقط؟ أو بالمحدث فقط؟ أو بالمفسر فقط؟ يعنى هل يقال: من يرد الله به خيرًا يوجهه إلى طلب الفقه بمعناه العرفي، العلم بالأحكام العملية الفرعية من أدلتها التفصيلية؟

المقدم: لا.

ونقول: التفسير الذي يعني فهم كلام الله- جلَّ وعلا- وقراءته وإقراءه وكلام الرسول- عليه الصلاة والسلام-، والعقائد وما يجب لله -عزَّ وجلَّ- هذا لا يرد الله به خيرًا؟ من يعاني هذه الأمور إذا حصرناه في الأحكام العملية قلنا هذا، لكن كما يقول العيني وقبله الكرماني: ولا يناسب هنا إلا المعنى اللغوي؛ ليتناول فهم كل علم من علوم الدين. وقال الحسن البصري- وهو من الفقهاء العباد الزهاد له رأي- يقول: الفقيه هو الزاهد في الدنيا، الراغب في الآخرة، البصير بأمور دينه، المداوم على عبادة ربه. هل قصده بهذا يزهد في الدنيا مع جهل؟ هل هذا فقيه؟ الذي يزهد في الدنيا مع الجهل؟ أو يشمر في أمور الآخرة ويعرض عن الدنيا مع الجهل، هل هذا هو مراد الحسن البصري؟ يقول: هو الزاهد في الدنيا، الراغب في الآخرة، البصير بأمور دينه، يعنى العالم، زهد ورغبة في الآخرة، زهد في الدنيا ورغبة في الآخرة مع العلم بأمور الدين، المداوم على عبادة ربه يعنى الذي يستعمل ثمرة هذا العلم، أما مجرد العلم الذي هو حشو المعلومات في الذهن من غير عمل، هل هذا فقه ذا؟

المقدم: أبدًا.

ليس بفقه، وهو في الحقيقة ليس بعلم، ليس بعلم هذا؛ لقول الله- جلَّ وعلا- وستأتي الإشارة إليه: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [سورة فاطر:28]، وهذا حصر على ما سيأتي، إذًا في الحديث وهو مختلف في صحته «يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله» هذا فيه إشادة بأهل العلم.

المقدم: مختلف في صحته؟

مختلف في صحته يثبته الإمام أحمد- رحمه الله-، وهذا فيه إشادة بأهل العلم، وإثبات لعدالتهم، «يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله»، فهل معنى هذا أنه عالم يساوي العدل؟ أو أنه لا بد أن يكون عاملاً بعلمه ليساوي العدل؟ يعنى ما يحمله الفساق، ما هو موجود في هذا الزمان وقبل هذا الزمان بأزمان وقرون من بعض الفساق يحمل شيئًا من العلم، هل يسمى علمًا في الحقيقة؟ إنما العلم ما نفع، فيكون هذا الحديث وإن كان لفظه لفظ الخبر إلا أن المراد به الأمر بدليل ما جاء في بعض رواياته «ليحمل هذا العلم من كل خلف عدوله»، ابن عبد البر- رحمه الله- له رأي في هذه المسألة: أنه كل من عُرف بحمل العلم فهو عدل، كل من عُرف بحمل العلم فهو عدل لهذا الحديث، يقول الحافظ العراقي- رحمه الله تعالى-:

قلت: ولابن عبد البر كل من عني ... بحمله العلم ولم يوهن

فإنه عدل بقول المصطفى ... يحمل هذا العلم لكن خولف

خولف ابن عبد البر. لا يعنى أن كل من يحمل شيئًا من العلم أنه عدل، لا، قد يحمل بعض الفساق شيئًا من العلم، لكنه في الحقيقة وفي العرف الشرعي لا يسمى علمًا؛ لأن العلم إنما هو ما نفع وأفاد.

وقال ابن سيده: فقه الرجل فقاهة، وهو فقيه من قوم فقهاء، والأنثى فقيهة، وقال ابن حجر: يقال: فقُه الرجل بضم القاف إذا سار الفقه له سجية. مثل كرُم إذا صار الكرم له سجية، وفقَه بالفتح إذا سبق غيره إلى الفهم، وفقِه بالكسر إذا فهم، يعنى قد يفهم الكلام، لكن فهمه بطيء، هذا يقال له فقِه، فهم وإن كان متأخرًا فهمه، لكن من سبق الناس بالفهم يقال: فَقَه، من سار له الفقه والفهم سجية...

المقدم: فَقُهَ.

 فقُه، وفي المحكم: الفقه العلم بالشيء والفهم له، وغلب على علم الدين؛ لسيادته وشرفه وفضله على سائر أنواع العلوم، وهذه السيادة وهذا الشرف، إنما أخذ من منزلة هؤلاء الفقهاء، ومنزلة هؤلاء العلماء الذي نبهت عليها النصوص، نصوص الكتاب والسُنَّة، «في الدين» أي في جميع أبوابه، ولا يختص ذلك بالأحكام العملية كما خص ذلك بالعرف، أشرنا إلى هذا سابقًا، ولا تتحقق الخيرية في هذا الحديث حتى يكون العالم فاهمًا فقيهًا بالدين بجميع أبوابه، في العقائد، والعبادات، والمعاملات، والأقضية، والمناكحات، وسائر أبواب الدين وما يتعلق بكتاب الله وسنة نبيه- عليه الصلاة والسلام- وغيرها، ولذا يسمي العلماء العقائد، ماذا؟ الفقه..

المقدم: الأكبر.

الأكبر، العقائد في عرف المتقدمين من أهل العلم الفقه الأكبر؛ لأن العلم يشرف بشرف المعلوم، والمعلوم في العقائد هو ما يتعلق بالله- جلَّ وعلا-، والله- جلَّ وعلا- هو الأكبر، إذًا ما يتعلق به من أنواع الفقه والفهم في الدين هو الأكبر باعتبار شرف ما يتعلق به. قال ابن حجر: ومفهوم الحديث أن من لم يتفقه في الدين، أي يتعلم قواعد الإسلام وما يتصل بها من الفروع فقد حُرِم الخير، «من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين» مفهوم الشرط.

المقدم: أنَّ من لم يرد الله به خيرًا.

لا يفقهه في الدين، مفهوم الحديث: أن من لم يتفقه في الدين أي يتعلم قواعد الإسلام وما يتصل بها من الفروع فقد حرم الخير، طيب، يفقهه يعنى يصيره فقيهًا، هذا الشخص الذي أمضى جزءًا كبيرًا من عمره في طلب الفقه والفهم في الدين ولم يحصل له ذلك، هذا لم يرد به خيرًا؟ هذا لا يراد به خير؟ طلب العلم مخلصًا لله- جلَّ وعلا- مريدًا الفقه؛ لينفع نفسه وغيره، ليعبد الله على بصيرة لكن ما أدرك شيئًا، سبعين سنة يطلب العلم ما أدرك شيئًا؟

المقدم: أدرك خيرية طلب العلم وفضله.

دخل في حديث آخر «من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهّل الله له به طريقًا إلى الجنة» هذا سلك الطريق، والنتائج ليست مضمونة، ليس عليه أن يحصل النتائج، عليه أن يبذل السبب، هذا يسلك طريق العلم إذًا يُسهل الله له به طريق إلى الجنة، وقد أخرج أبو يعلى حديث معاوية حديث الباب من وجه آخر ضعيف، وزاد في آخره: «ومن لم يفقهه في الدين لم يبالِ الله به»، والمعنى يقول ابن حجر: صحيح، المعنى صحيح؛ لأن من لم يعرف أمور دينه لا يكون فقيهًا ولا طالب فقه، فيصح أن يوصف بأنه ما أريد به الخير، وفي ذلك بيان ظاهر لفضل العلماء على سائر الناس، ولفضل التفقه في الدين على سائر العلوم، ما أريد به الخير، لكن هل يلزم من هذا أن يراد به الشر؟

المقدم: لا يلزم.

شخص من عوام المسلمين انشغل في أمر معيشته، وأدى ما أوجب الله عليه، وترك ما نهي عنه، ولم يتعرض للتفقه ولا صار فقيهًا، هل معنى هذا أنه أُريدَ به شر؟ إنما لم يرد به الخير؛ لأنه لو أُريدَ به الخير لوُجِّه إلى التفقه في الدين، لكن لا يلزم أن يُراد به الشر، نظير هذا أن نقول: من لم- الحديث الذي ورد وصححه بعضهم- «أن من كان ذا جدة ولم يحج كل خمس سنوات فإنه محروم»، نعم محروم الذي لا يحج كل سنة محروم، والحرمان نسبي، فالذي يحج كل سنة أفضل من الذي يحج سنة بعد سنة، هو حرم أجر هذه الحجة التي تركها، والذي لا يحج إلا في كل خمس سنوات محروم، والذي لا يحج إلا مرة واحدة أيضًا محروم، لكن هل يترتب على هذا الحرمان إثم؟

إنما هو محروم من الأجر، إذًا لا يترتب عليه إثم إذا أدى ما افترض الله عليه، فهذه أمور نسبية، هذا أراد الله به خيرًا ووجهه إلى التفقه في الدين، وهذا لم يرد الله به هذا الخير، لكن لا يلزم من هذا أن يريد به الشر على ما سمعنا.

 «وإنما أنا قاسم»، قال الكرماني: أي أنا قاسم بينكم فألقي إلى كل واحد ما يليق به والله تعالى يوفق من يشاء منكم لفهمه والتفكر في معناه، «إنما أنا قاسم» هل المراد بذلك القسمة الحسية للأموال، أو القسمة المعنوية لهذه العلوم والمعارف المتلقاة عن الله وعن رسوله عليه الصلاة والسلام؟

المقدم: يعنى الذي يظهر من سياق الحديث أنَّها الثانية.

يعنى الثانية أنسب لسياق الحديث؟

المقدم: أنسب لسياق الحديث.

لكن يأتي ما فيها، وأن البخاري أدخله في كتاب فرض الخمس.

الأخ الحاضر: يشمل.

نعم، لفظه أعم. يقول: «وإنما أنا قاسم» قال الكرماني: أي أنا قاسم بينكم فألقي إلى كل واحد ما يليق به، والله تعالى يوفق من يشاء منكم لفهمه والتفكر فيه، هذا الكلام مناسب للحديث في هذا الموضع «من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين» مناسب لكتاب العلم، قال التوربشتي، التوربشتي مر بنا سابقًا أم لم يمر؟ وما كتابه؟

المقدم: والله يبدو الاسم جديدًا.

طيب، وكتابه؟

الأخ الحاضر:....

هو شرح البخاري؟ نعم، لكن له شرح مشهور طبقت شهرته الآفاق؟ له الميسر في شرح المصابيح، هذا كتاب لكنه إلى الآن ما طُبع للتداول، وحُقِّق في رسائل علمية وما طُبع للتداول.

المقدم: للتوربشتي.

نعم هو الذي ينقل عنه الحافظ، ينقل عنه الحافظ وغيره، يقول التوربشتي هذا: اعلم أنَّ النبي- صلى الله عليه وسلم- أخبر أصحابه أنه لم يفضل في قسمة ما يوحى إليه أحدًا من أُمته على الآخر، بل سوّى في البلاغ وعدل في القسمة، يعنى ما خص أحدًا لذاته بشيء من العلم، ولذا لما سئل علي- رضي الله عنه وأرضاه-: هل خصكم النبي- صلى الله عليه وسلم- بشيء؟ ذكر أن لا، إلا فهم يعطيه الله- جلَّ وعلا- من يشاء، واستثنى ما في ذات الصحيفة. المقصود أن النبي- عليه الصلاة والسلام- بلغ البلاغ المبين.

المقدم: لكن ما يخص به بعض الصحابة في مسائل خاصة مثل السر يخص به حذيفة، لا يعني أن يكون ضمن هذا؟

لا يعني هذا أبدًا؛ لأن هذه أمور يناسبها بعض الأشخاص دون بعض.

المقدم: سياسة دولة.

وهي أيضًا ليست مما يُطلب من جميع الناس، المقصود فيما يُطلب من جميع الناس مما يكلف به جميع الناس يعطى الناس على قدر، على السوية، يقول: اعلم أن النبي- صلى الله عليه وسلم- أخبر أصحابه أنه لم يفضل في قسمة ما يوحى إليه أحد من أمته على الآخر، بل سوى في البلاغ، وعدل في القسمة، وإنما التفاوت في الفهم وهو واقع بطريق العطاء يعنى من الله- جلَّ وعلا-، الفهم من الله- جلَّ وعلا-، يعنى فاوت بين الناس في فهومهم كما فاوت في أرزاقهم وآجالهم وأجسامهم وذراريهم وأخلاقهم، فاوت بينهم؛ لحكمة يعلمها -جلَّ وعلا-، وهو واقع بطريق العطاء، ولقد كان بعض الصحابة يسمع الحديث فلا يفهم منه إلا الظاهر الجلي، ويسمعه آخر منهم أو من بعدهم فيستنبط منه مسائل كثيرة، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وقد تقدم في قوله- عليه الصلاة والسلام-: «رب مبلَّغ أوعى من سامع»، نعم، قد يسمع الإنسان شيئًا لا يفهمه، لكن يكفيه أن يؤديه كما سمعه، ويبرأ من عهدته.

يقول: فإن قلت -كلام الكرماني- «إنَّما» مفيد للحصر فمعناه ما أنا إلا قاسم، وكيف يصح هذا الحصر، أليس للنبي- عليه الصلاة والسلام- صفات أخرى غير القسم؟ يقول: فإن قلت: «إنَّما» مفيد للحصر فمعناه ما أنا إلا قاسم، وكيف يصح وله صفات أخرى مثل كونه- عليه الصلاة والسلام- رسولاً ومبشرًا ونذيرًا، لكن الحصر عند أهل العلم، حصر حقيقي وحصر ماذا؟ إضافي، حصر حقيقي وحصر إضافي، وهذا من النوع الثاني.

 قلت- يقول الكرماني-، قلت: الحصر إنما هو بالنسبة إلى اعتقاد السامع، إضافة إلى اعتقاده فهو حصر إضافي وليس بحقيقي، إنما هو بالنسبة إلى اعتقاد السامع، وهذا ورد في مقام كان السامع معتقدًا كونه- صلى الله عليه وسلم- معطيًا، فأراد النبي- عليه الصلاة والسلام- أن ينفي هذا الاعتقاد، وهذا ورد في مقام كان السامع معتقدًا كونه معطيًا فلا ينفي إلا ما اعتقده السامع، يعنى هذا الاعتقاد سواء إن كان وجد حقيقة أو تقديرًا، والعلماء يسلكون مثل هذه المسالك لإيضاح جميع ما يتعلق بالخبر إلا ما اعتقده السامع إلا كل صفة من الصفات، وحينئذ إن اعتقد السامع أنه معطٍ لا قاسم، فيكون من باب قصر القلب «ما أنا إلا  قاسم» أي لا معطٍ، وإن اعتقد السامع أنه قاسم ومعطٍ أيضًا فيكون من قصر الإفراد، أي لا شركة في الوصفين، بل أنا قاسم فقط.

المقدم: أحسن الله إليكم فضيلة الدكتور، لعلنا نستكمل ما تبقي بإذن الله في حلقة قادمة لانتهاء وقت هذه الحلقة، أيها الإخوة والأخوات نصل وإياكم بهذا إلى ختام حلقتنا، نلقاكم بإذن الله تعالى في الحلقة القادمة، وأنتم على خير.

 والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.