التعليق على تفسير القرطبي - سورة المؤمنون (02)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلي الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه. قال الإمام القرطبي -رحمه الله تعالى-:   

"قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ. وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِمَا فِي" النَّحْلِ، وَالْحَمْدُ لِلَّه، وَفِي هُودٍ قِصَّةُ السَّفِينَةِ وَنُوحٍ، وَرُكُوبُ الْبَحْرِ في غير موضع.

 قوله تعالى: َ{عَلَيْها} أي وعلى الأنعام في البر. َو{عَلَى الْفُلْكِ} في البحر. يحْمَلُونَ وَإِنَّمَا يُحْمَلُ فِي الْبَرِّ عَلَى الْإِبِلِ، فَيَجُوزُ أن ترجع الكناية إلى بعض النعام. وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا رَكِبَ بَقَرَةً فِي الزَّمَانِ الْأَوَّلِ، فَأَنْطَقَهَا اللَّهُ تَعَالَى مَعَهُ فَقَالَتْ: إِنَّا لَمْ نُخْلَقْ لِهَذَا! وَإِنَّمَا خُلِقْتُ لِلْحَرْثِ."

الخبر في صحيح البخاري وغيره أن رجلًا من بني إسرائيل ركب البقرة، فالتفتت إليه وقالت: إنا لم نخلق لهذا، وإنما خلقنا للحرث، وأنطقها الله -عز وجل- الذي أنطق كل شيء، والقدرة الإلهية صالحة لهذا وما هو أعظم من هذا، ولما جاء النقاش والحديث في الصحيحين خشية من أن يتردد متردد قال النبي –صلي الله عليه وسلم- الحديث: «آمنت بهذا أنا وأبو بكر وعمر»، والإنسان تسول له نفسه أن يقول هذا الكلام من أخبار بني إسرائيل التي لا يصدقها العقل إذا جاء الخبر الصحيح عن المعصوم بشيء لا مجال ولا مدخل للعقل فيه.

" قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ}" قرئ بالخفض ردًّا على اللفظ".

غيرِه، ما لكم من إله غيره ردًّا على إله الذي هو مجرور لفظًا كما أنه قرئ بالرفع ردًّا على محله، على محل إله، محله الرفع، ومن شغلة اللفظ لأنها حرف جر، فإن كان بالأصل مرفوعًا؛ لأن حرف الجر هذا من حيث المعنى يكون زائدًا، صلة زائد؛ لتأكيد النفي من حيث معناه، فائدته تأكيد النفي. ما لكم إذا قلت: ما جاء أحد نفيت مجيء أي أحد، لكن إذا قلت: ما جاء من أحد، أكدت هذا النفي، ومعني قولهم: إنها زائدة لا يعني أن القرآن مشتمل على زيادة شيء ليس منه أبدًا، القرآن مصون من الزيادة والنقصان ومحفوظ، تكفل الله تعالى بحفظه، لكنهم مُرادهم بذلك أنها لو حُذفت لاستقام المعنى، استقام المعنى، والنفي حاصل، لكن تأكيد النفي إنما يتم بوجودها.

" قُرِئَ بِالْخَفْضِ رَدًّا عَلَى اللَّفْظِ، وَبِالرَّفْعِ رَدًّا عَلَى الْمَعْنَى. وَقَدْ مَضَى فِي" الْأَعْرَافِ.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ} أَيْ يَسُودَكُمْ وَيُشَرَّفَ عَلَيْكُمْ بِأَنْ يَكُونَ مَتْبُوعًا وَنَحْنُ لَهُ تَبَعٌ."

يريد أن يسودكم، يتفضل عليكم، ويستعلي عليكم ويترأسكم وهو بشر مثلكم، فلو كان ملكًا لكان له وجه، يعني دعوة لها وجه، هذا على حد قول المشركين، ولذا قال الله –جل وعلا-: {ولو شاء الله لأنزل ملائكة}.

" قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ} أَيْ يَسُودَكُمْ وَيُشَرَّفَ عَلَيْكُمْ بِأَنْ يَكُونَ مَتْبُوعًا وَنَحْنُ لَهُ تَبَعٌ. {وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً} أَيْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ ألا يعبد شيء سِوَاهُ لَجَعَلَ رَسُولَهُ مَلَكًا."

ولكن الإرادة الإلهية جعلت الخلق فريقين فريقًا في الجنة وفريقًا في السعير، ولو شاء الله –جل وعلا- لآمن في الأرض كلهم جميعًا، لكن مشيئته النافذة وقدره الذي لا مرد له قسم الخلق إلى فريقين -نسأل الله السلامة والعافية-.

"{مَا سَمِعْنا بِهذا} أَيْ بِمِثْلِ دَعْوَتِهِ. وَقِيلَ: مَا سَمِعْنَا بِمِثْلِهِ بشرًا، أتى بِرِسَالَةِ رَبِّهِ. (فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ} أَيْ فِي الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَالْبَاءُ فِي" بِهذا" زَائِدَةٌ، أَيْ مَا سَمِعْنَا هَذَا كَائِنًا في ءابآئنا الْأَوَّلِينَ، ثُمَّ عَطَفَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فَقَالُوا: {إِنْ هُوَ} يَعْنُونَ نُوحًا {إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ} أَيْ جُنُونٌ لَا يَدْرِي مَا يَقُولُ."

لأن عقولهم بمجردها لا تتخيل ما دعاهم إليه بمجردها قبل أن يُكلف نوح من قِبل ربه لدعوتهم وإخبارهم بما لله –جل وعلا- لا تتخيل ما قالوا هو رجل مجنون لا يتكلم بكلام العقلاء كما رمي تارة بيد هذا وعلى رأسهم نبينا –عليه أفضل الصلاة والسلام-.

" {فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ} أَيِ انْتَظِرُوا مَوْتَهُ. وَقِيلَ: حَتَّى يَسْتَبِينَ جُنُونُهُ."

يقولون انتظروا حتى يتبين أمره أو يموت أو يُطبق جنونه بحيث لا يكون هناك رجال لتصديقه واتباعه.

" وَقَالَ الْفَرَّاءُ:  لَيْسَ يُرَادُ بِالْحِينِ ها هنا وَقْتٌ بِعَيْنِهِ، إِنَّمَا هُوَ كَقَوْلِهِ: دَعْهُ إِلَى يَوْمٍ مَا. فَقَالَ حِينَ تَمَادَوْا عَلَى كُفْرِهِمْ: {رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ} أَيِ انْتَقِمْ مِمَّنْ لَمْ يُطِعْنِي وَلَمْ يَسْمَعْ رِسَالَتِي."

{فَأَوْحَيْنا إليه} أَيْ أَرْسَلْنَا إليه رُسُلًا مِنَ السَّمَاءِ {أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ} عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاسْلُكْ فِيها} أَيْ أَدْخِلْ فِيهَا وَاجْعَلْ فِيهَا، يُقَالُ: سَلَكْتُهُ فِي كَذَا وَأَسْلَكْتُهُ فِيهِ إِذَا أَدْخَلْتُهُ. قَالَ عَبْدُ مَنَافِ بْنُ رَبْعٍ الْهُذَلِيُّ:

حَتَّى إِذَا أَسَلَكُوهُمْ فِي قُتَائِدَةٍ...  شَلًّا كَمَا تَطْرُدُ الْجَمَّالَةُ الشُّرُدَا "

الجمالة من يسوس الجمال، والشرد جمع شرود، الإبل ذات النفرة التي تشرد من ألبابها جمالاتها يطردونها ويلمون بعضها إلى بعض.

"{مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} قَرَأَ حَفْصٌ:" مِنْ كُلٍّ" بِالتَّنْوِينِ، والْبَاقُونَ بِالْإِضَافَةِ، وَقَدْ ذُكِرَ.

ذكر هذا في سورة هود.

وَقَالَ الْحَسَنُ: لَمْ يَحْمِلْ نُوحٌ فِي السَّفِينَةِ إِلَّا مَا يَلِدُ وَيَبِيضُ، فَأَمَّا الْبَقُّ وَالذُّبَابُ وَالدُّودُ فَلَمْ يَحْمِلْ شَيْئًا مِنْهَا، وَإِنَّمَا خَرَجَ مِنَ الطِّينِ. وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِي السَّفِينَةِ وَالْكَلَامُ فِيهَا مُسْتَوْفًى، وَالْحَمْدُ لله.

قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ} أَيْ عَلَوْتَ. {أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} رَاكِبِينَ.

 {فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} أَيِ احْمَدُوا اللَّهَ عَلَى تَخْلِيصِهِ إياكم".

من هؤلاء الظلمة، وخلصهم من الغرق ومن كل ما يخافون.

 "{مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} وَمِنَ الْغَرَقِ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، كَلِمَةُ كُلِّ شَاكِرٍ لِلَّهِ. وَقَدْ مَضَى فِي الفاتحة بيانه.

قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكًا} قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ:" مُنْزَلًا" بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الزَّايِ، عَلَى الْمَصْدَرِ الَّذِي هُوَ الْإِنْزَالُ، أَيْ أَنْزِلْنِي إِنْزَالًا مُبَارَكًا. وَقَرَأَ زِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ وأبو بكر عَنْ عَاصِمٍ وَالْمُفَضَّلِ:" مَنْزِلًا" بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الزَّايِ عَلَى الْمَوْضِعِ، أَيْ أَنْزِلْنِي مَوْضِعًا مُبَارَكًا. قال الْجَوْهَرِيُّ: الْمَنْزَلُ {بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالزَّايِ} النُّزُولُ وَهُوَ الْحُلُولُ، تَقُولُ: نَزَلْتُ نُزُولًا وَمَنْزَلًا.

وَقَالَ:

 أأَنْ ذكرتك الدار منزلها جمل...  بكيت فدم الْعَيْنِ مُنْحَدِرٌ سَجْلُ
نُصِبَ" الْمَنْزَل" لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ. وَأَنْزَلَهُ غَيْرُهُ وَاسْتَنْزَلَهُ بِمَعْنًى."

صار مفعولًا ثانيًا للفعل ذكر، المفعول الأول الكاف والثاني مُنزلاً.

" وَنَزَّلَهُ تَنْزِيلًا، وَالتَّنْزِيلُ أَيْضًا التَّرْتِيبُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: هَذَا حِينَ خَرَجَ مِنَ السَّفِينَةِ، مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى:" {اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ} [هود: 4]، وَقِيلَ: حِينَ دَخَلَهَا، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ:" مُبارَكًا" يَعْنِي بِالسَّلَامَةِ وَالنَّجَاةِ.

قُلْتُ: وَبِالْجُمْلَةِ فَالْآيَةُ تَعْلِيمٌ مِنَ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- لِعِبَادِهِ إِذَا رَكِبُوا وَإِذَا نَزَلُوا أَنْ يَقُولُوا هَذَا، بَلْ وَإِذَا دَخَلُوا بُيُوتَهُمْ وَسَلَّمُوا قَالُوا. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّهُ كَانَ إِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ قَالَ: اللَّهُمَّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وأنت خير المنزلين.

قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ} [هود: 30] أَيْ فِي أَمْرِ نُوحٍ وَالسَّفِينَةِ وَإِهْلَاكِ الْكَافِرِينَ." لَآياتٍ" أَيْ دَلَالَاتٍ عَلَى كَمَالِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّهُ يَنْصُرُ أَنْبِيَاءَهُ وَيُهْلِكُ أَعْدَاءَهُمْ. {وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ} أَيْ مَا كُنَّا إِلَّا مُبْتَلِينَ الْأُمَمَ قَبْلَكُمْ، أَيْ مُخْتَبِرِينَ لَهُمْ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ إليهمْ لِيَظْهَرَ الْمُطِيعُ وَالْعَاصِي، فَيَتَبَيَّنَ لِلْمَلَائِكَةِ حَالُهُمْ، لَا أَنْ يَسْتَجِدَّ الرَّبُّ عِلْمًا. وَقِيلَ: أَيْ نُعَامِلُهُمْ مُعَامَلَةَ الْمُخْتَبِرِينَ.

لأن الله تعالى يعلم ما كان وما يكون، يعلم ما كان الماضي، ويعلم ما يكون في المستقبل، فلا يُستجد له علم وما يُذكر من مثل هذا إنما هو لإخراج الأمر من حال الغيب إلى حال الشهادة، يعلم ما كان وما يكون ولم يكن لو كان كيف يكون، الأمر الذي قُدِر لا يكون يعلمه لو كان، ولو رُدوا لعادوا، هم لا يردون، لكن لو رُدوا يعلم الله –جل وعلا- أنهم يردون فيعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون.

" وَقِيلَ: أَيْ نُعَامِلُهُمْ مُعَامَلَةَ الْمُخْتَبِرِينَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى في" البقرة وغيرها. وقيل:" إِنْ كُنَّا" أي وقد كنا.

قَوْلُهُ تَعَالَى: {ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ} أَيْ مِنْ بَعْدِ هَلَاكِ قَوْمِ نُوحٍ. {قَرْنًا آخَرِينَ} قِيلَ: هُمْ قَوْمُ عَادٍ {فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ} يَعْنِي هُودًا؛ لِأَنَّهُ مَا كَانَتْ أُمَّةٌ أُنْشئتْ فِي إِثْرِ قَوْمِ نُوحٍ إِلَّا عَادٌ. وَقِيلَ: هُمْ قَوْمُ ثَمُودَ" فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولًا" يَعْنِي صَالِحًا. قَالُوا: وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى آخِرَ الآية: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ} [المؤمنون: 41]، نظيرها: {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} [هود: 67]. قُلْتُ: وَمِمَّنْ أُخِذَ بِالصَّيْحَةِ أَيْضًا أَصْحَابُ مَدْيَنَ قَوْمُ شُعَيْبٍ، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونُوا هُمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ."

فأرسلنا ثم أنشأنا من بعدهم قرنًا أخرين هؤلاء لقوم اختلف فيهم، لكن قوله –جل وعلا-: {فأخذتهم الصيحة } يدل على أنهم قوم صالح أو قوم شعيب؛ لأنهم هم الذين أخذتهم الصيحة، وأما قوم عاد فإنما أخذوا بالريح، والآية تدل على أنه إما أنهم قوم صالح أو قوم شعيب، ويكون حينئذ الترتيب ليس مباشرًا؛ لأن يكون هؤلاء القوم هما الذين جاءوا بعد قوم نوح مباشرة، وإنما جاءوا بعدهم بالفعل، لكن بينهم فاصل بقوم هود، عاد قوم هود، بينهم عاد.

طالب:.... الجيل جيل كامل جيل من الناس.

نعم.

طالب:...........

هم جيل من الناس، والمقصود بالقرن اختلف فيه العلماء، وإن كان الاستقرار على أنه مائة سنة، وحقيقة القرن الجيل المتقاربون والمتشابهون في السن والوصف، وعلى هذا في حديث التشديد «يبعث على رأس كل مائة سنة» أي هذا قرن في القران الأول عُمر بن عبد العزيز والثاني والثالث إلى  آخره، وخيركم قرني «خير الناس قرني ثم الذين يلونه ثم الذين يلونهم» ثلاثة قرون تنتهي على ما قال أهل العلم سنة مائتين وعشرين لم يتغير الحال بعد سنة مائتين وعشرين بعد المحنة والفتنة على يد المأمون، تغير الناس وما قبلها كانوا على سواء، وإن كان دخلهم بعض البدع وما البدع! لكنها ليست عامة وليست ملزمة، ما أُلزم الناس بها إلا في عهد المأمون في حدود مائتين وعشرين على ما قرر أهل العلم، فعلى هذا يكون القرن سبعين سنة، ومنهم من قال: إن القرن أربعين سنة؛ لأنه ما بين طرفي الأربعين يمكن أن يكون هناك أنس سواء متفاهمون، لكن ما بين مائة لم يمكن أن يكون على رأس المائة يتوافق مع من هم على رأسها الثاني، وإن كان مائة سنة حتى ولا سبعين سنة.

 نعم الذي عمره مثلاً ثمانون أو تسعون ما ضُمن عمره عشرون أو بينهم سبعون هذا إما يتوافقون هذا مع هذا، لكن إذا قلنا: أربعون يمكن أن يتوافق، يعني ستين مع عشرين يتوافقون. وعلى كل هذه المسألة خلافية بين أهل العلم.

" مِنْهُمْ" أَيْ مِنْ عَشِيرَتِهِمْ، يَعْرِفُونَ مولده ومنشأه؛ ليكون سكونهم إلى قوله أكثر."
إلا أن ارتفاع وصف الجهالة يولد القرب من الشخص، فكونه مجهولاً عندهم ينفرون منه، ولا يقبلون كلامه حتى يُتحقق من حاله، فالنبي –عليه الصلاة والسلام- لما بُعِث في قريش وهو منهم يعرفون سيرته، وأنه الصادق الأمين عندهم، فقبول قوله أدعى، أما لو بعث في غيرهم يُتصور النبي لو بُعث في مصر أو في فارس والحجاز كان القبول أقل؛ لأنهم يجهلون حاله؛ لأنهم ليس عندهم ما يدفعه إلى قبول قوله.

" قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقالَ الْمَلَأُ} أَيِ الْأَشْرَافُ وَالْقَادَةُ وَالرُّؤَسَاءُ."

لكن الجهالة أفضل مما عرف بضد ذلك، يأتي رجل مجهول يُقبل كلامه أكثر مما عرف بضد الصدق والأمانة، والجهل مرتبة متوسطة بين الصدق والكذب، من عُرف بالصدق يقبل قوله، ومن عُرف بالكذب يُرد قوله، ومن جُهلَ يتردد فيه ويتوقف فيه.

 " قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقالَ الْمَلَأُ} أَيِ الْأَشْرَافُ وَالْقَادَةُ وَالرُّؤَسَاءُ.

{مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ} يُرِيدُ بِالْبَعْثِ وَالْحِسَابِ. {وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا} أَيْ وَسَّعْنَا عَلَيْهِمْ نِعَمَ الدُّنْيَا حَتَّى بَطِرُوا وَصَارُوا يُؤْتَوْنَ بِالتُّرْفَةِ، وَهِيَ مِثْلُ التُّحْفَةِ."

وهذا نتيجة التوسعة التي عليها غالب الناس في الدنيا، يأخذون منها أكثر مما يحتاجون، ويصابون بالترفه والتخمة، فيستنكفون ويستنكرون.

" {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ} فَلَا فَضْلَ لَهُ عَلَيْكُمْ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إِلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ كَأَنْتُمْ. وَزَعَمَ الْفَرَّاءُ أَنَّ مَعْنَى:" وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ" عَلَى حَذْفِ مِنْ، أَيْ مِمَّا تَشْرَبُونَ مِنْهُ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ وَلَا يُحْتَاجُ إِلَى حَذْفٍ الْبَتَّةَ، لِأَنَّ" مَا" إِذَا كَانَ مَصْدَرًا لَمْ يَحْتَجْ إِلَى عَائِدٍ، "

ويشرب من شربكم إذا كانت ما مصدرية فلا تحتاج إلى عائد، وإن كانت موصولة تحتاج إلى عائد، والشرب شربت الماء وشربت منه يتعدى بنفسه ويتعدى بالحرف، ويكون عندئذ التقدير العائد ويشرب من الماء الذي تشربونه أو يشرب من الماء الذي تشربون منه.

"فَإِنْ جَعَلْتَهَا بِمَعْنَى الَّذِي حَذَفْتَ الْمَفْعُولَ وَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى إِضْمَارِ مِنْ."

لأن الفعل شرب يتعدى بنفسه كما أنه يتعدى بمن التبعيضية؛ لأن الماء لا يمكن أن يُشرب كله؛ وإنما يُشرب منه يعني بعضه.

{وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخاسِرُونَ} يُرِيدُ لَمَغْبُونُونَ بِتَرْكِكُمْ آلِهَتَكُمْ وَاتِّبَاعِكُمْ إياه مِنْ غَيْرِ فَضِيلَةٍ لَهُ عَلَيْكُمْ. {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرابًا وَعِظامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ} أَيْ مَبْعُوثُونَ مِنْ قُبُورِكُمْ. وَ" إِنَّ" الْأُولَى فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِوُقُوعِ" يَعِدُكُمْ" عَلَيْهَا، وَالثَّانِيَةُ بَدَلٌ مِنْهَا، هَذَا مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ. وَالْمَعْنَى: أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ إِذَا مِتُّمْ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ" أَيَعِدُكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ"، وَهُوَ كَقَوْلِكَ: أَظُنُّ إِنْ خَرَجْتَ أَنَّكَ نَادِمٌ. وَذَهَبَ الْفَرَّاءُ وَالْجَرْمِيُّ وَأَبُو الْعَبَّاسِ الْمُبَرِّدُ إِلَى إِنَّ الثَّانِيَةُ مُكَرَّرَةٌ لِلتَّوْكِيدِ، لَمَّا طَالَ الْكَلَامُ كَانَ تَكْرِيرُهَا حَسَنًا. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: الْمَعْنَى أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا يَحْدُثُ إِخْرَاجُكُمْ، فَ" أنَّ" الثَّانِيَةَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ، كَمَا تَقُولُ: اليوْمَ الْقِتَالُ، فَالْمَعْنَى اليوْمَ يَحْدُثُ الْقِتَالُ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: وَيَجُوزُ" أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرابًا وَعِظامًا إنَّكُمْ مُخْرَجُونَ"، لِأَنَّ معنى" أَيَعِدُكُمْ" أيقول إنكم."

فإذا قدرت القول كسرت الهمزة كما القاعدة هي المضطردة في إن بعد القول.

"قوله تعالى: {هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ كَلِمَةٌ لِلْبُعْدِ، كَأَنَّهُمْ قَالُوا بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ، أَيْ أَنَّ هَذَا لَا يَكُونُ مَا يُذْكَرُ مِنَ الْبَعْثِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: هِيَ بِمَنْزِلَةِ الْفِعْلِ، أَيْ بَعُدَ مَا تُوعَدُونَ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَفِي" هَيْهَاتَ" عَشْرُ لُغَاتٍ: هَيْهَاتَ لَكَ (بِفَتْحِ التَّاءِ) وَهِيَ قِرَاءَةُ الْجَمَاعَةِ. وَهَيْهَاتِ لَكَ (بِخَفْضِ التَّاءِ)، وَيُرْوَى عَنْ أَبِي جَعْفَرِ بْنِ الْقَعْقَاعِ: "وَهَيْهَاتٍ لَكَ (بِالْخَفْضِ وَالتَّنْوِينِ) يُرْوَى عَنْ عِيسَى بْنِ عُمَرَ. {وَهَيْهَاتُ لَكَ} بِرَفْعِ التَّاءِ)، الثَّعْلَبِيُّ: وَبِهَا قَرَأَ نَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ وَأَبُو العالية. وَهَيْهَاتٌ لَكَ (بِالرَّفْعِ وَالتَّنْوِينِ)، وَبِهَا قَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ الشَّامِيُّ، ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيُّ أَيْضًا. وَهَيْهَاتًا لَكَ (بِالنَّصْبِ وَالتَّنْوِينِ) قَالَ الْأَحْوَصُ:

تَذَكَّرْتُ أَيَّامًا مَضَيْنَ مِنَ الصِّبَا... وَهَيْهَاتَ هَيْهَاتًا إليكَ رُجُوعُهَا

وَاللُّغَةُ السَّابِعَةُ: أَيْهَاتَ أَيْهَاتَ،"

بإبدال الهمزة من الهاء، وهذا مضطرد، أُريق عليها الماء وأُهريق وهريق مثل هيهات وأيهات.

 "وَأَنْشَدَ الْفَرَّاءُ:

فَأَيْهَاتَ أَيْهَاتَ الْعَقِيقُ وَمَنْ بِهِ  ...  وَأَيْهَاتَ خِلٌّ بِالْعَقِيقِ نُوَاصِلُهُ

قَالَ الْمَهْدَوِيُّ: وَقَرَأَ عِيسَى الْهَمْدَانِيُّ" هَيْهاتَ هَيْهاتَ" بإسكان. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَقُولُ:  "أَيْهَانَ" بِالنُّونِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: " أَيْهَا" بِلَا نُونٍ . وَأَنْشَدَ الْفَرَّاءُ:

وَمِنْ دُونِيَ الْأَعْيَانُ وَالْقِنْعُ كُلُّهُ . .. وَكِتْمَانُ أَيْهَا مَا أَشَتَّ وَأَبْعَدَا

فَهَذِهِ عَشْرُ لُغَاتٍ. فَمَنْ قَالَ:" هَيْهاتَ" بِفَتْحِ التَّاءِ جَعَلَهُ مِثْلَ أَيْنَ وَكَيْفَ. وَقِيلَ: لِأَنَّهُمَا أَدَاتَانِ مُرَكَّبَتَانِ مِثْلُ خَمْسَةَ عَشَرَ وَبَعْلَبَكَّ وَرَامَ هُرْمُزَ".

فيبنى على فتح الجزأين.

"وَتَقِفُ عَلَى الثَّانِي بِالْهَاءِ، كَمَا تَقُولُ: خَمْسَ عَشْرَةَ وَسَبْعَ عَشْرَةَ . وَقَالَ الْفَرَّاءُ: نَصْبُهَا كَنَصْبِ ثَمَّتْ وَرُبَّتْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْفَتْحُ إِتْبَاعًا لِلْأَلِفِ وَالْفَتْحَةِ الَّتِي قَبْلَهَا."

لكن إتباعًا للألف أي ألف كان يقصد الهمزات أيهات وإلا فالألف التي قبل التاء ساكنة فلا إتباع.

 "وَمَنْ كَسَرَهُ جَعَلَهُ مِثْلَ أَمْسِ وَهَؤُلَاءِ. قَالَ:

وَهَيْهَاتَ هَيْهَاتَ إليكَ رُجُوعُهَا قَالَ الْكِسَائِيُّ: وَمَنْ كَسَرَ التَّاءَ وَقَفَ عَلَيْهَا بِالْهَاءِ، فَيَقُولُ هَيْهَاهْ. وَمَنْ نَصَبَهَا وَقَفَ بِالتَّاءِ وَإِنْ شَاءَ بِالْهَاءِ".

تقدم شطر البيت على غير هذه الصورة هيهات هيهاتًا.

 "وَإِنْ شَاءَ بِالْهَاءِ، وَمَنْ ضَمَّهَا فَعَلَى مِثْلِ مُنْذُ وَقَطُّ وَحَيْثُ.  وَمَنْ قَرَأَ:" هَيْهَاتَ" بِالتَّنْوِينِ فَهُوَ جَمْعٌ ذَهَبَ بِهِ إِلَى التَّنْكِيرِ، كَأَنَّهُ قَالَ بُعْدًا بُعْدًا. وَقِيلَ: خُفِضَ وَنُوِّنَ تَشْبِيهًا بِالْأَصْوَاتِ بِقَوْلِهِمْ: غَاقَ وَطَاقَ . وَقَالَ الْأَخْفَشُ: يَجُوزُ فِي" هَيْهاتَ" أَنْ تَكُونَ جَمَاعَةً فَتَكُونَ التَّاءُ الَّتِي فِيهَا تَاءَ الْجَمِيعِ الَّتِي لِلتَّأْنِيثِ. وَمَنْ قَرَأَ:" هَيْهاتَ" جَازَ أَنْ يَكُونَ أَخْلَصَهَا اسْمًا مُعْرَبًا فِيهِ مَعْنَى الْبُعْدِ، وَلَمْ يَجْعَلْهُ اسْمًا لِلْفِعْلِ فَيَبْنِيهِ. وَقِيلَ: شَبَّهَ التَّاءَ بِتَاءِ الْجَمْعِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ} [البقرة 198 ] قَالَ الْفَرَّاءُ: وَكَأَنِّي أَسْتَحِبُّ الْوَقْفَ عَلَى التَّاءِ، لِأَنَّ مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَخْفِضُ التَّاءَ عَلَى كُلِّ حَالٍ، فَكَأَنَّهَا مِثْلُ عَرَفَاتٍ وَمَلَكُوتٍ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ . وَكَانَ مُجَاهِدٌ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ وَأَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ وَالْكِسَائِيُّ وَابْنُ كَثِيرٍ يَقِفُونَ عَلَيْهَا" هَيْهَاهْ" بِالْهَاءِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو أَيْضًا أَنَّهُ كَانَ يَقِفُ عَلَى" هَيْهَاتَ" بِالتَّاءِ، وَعَلَيْهِ بَقِيَّةُ الْقُرَّاءِ؛ لِأَنَّهَا حَرْفٌ.

قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: مَنْ جَعَلَهُمَا حَرْفًا وَاحِدًا لَا يُفْرَدُ أَحَدُهُمَا مِنَ الْآخَرِ، وَقَفَ عَلَى الثَّانِي بِالْهَاءِ وَلَمْ يَقِفْ عَلَى الْأَوَّلِ، فَيَقُولُ: هَيْهَاتَ هيهات، كَمَا يَقُولُ خَمْسَ عَشْرَةَ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ. وَمَنْ نَوَى إِفْرَادَ أَحَدِهِمَا مِنَ الْآخَرِ وَقَفَ فِيهِمَا جَمِيعًا بِالْهَاءِ وَالتَّاءِ، لِأَنَّ أصل الهاء تاء.
نعم التاء يوقف عليها بالهاء هذا إن قلنا إن كل لفظ منهما على حِدة، وأما إن قلنا إنه مركب تركيبًا مزجيًّا لم نقف إلا على الثاني.

طالب:......

في الموضع الأول والثاني.

طالب:....

هي اسم فعل بمعنى بُعدَ.

طالب:.....

هم ينونون بعضها للتنكير، يعني هيهات لبُعد شيء معين وهيهاتًا لبُعد شيء غير معين كما يقولون: إهيٍ للاستزادة من حديث معين، وإهي للاستزادة من أي حديث كان إن تكلم بأي موضوع، إهيِ، وصهِ بالتنوين اسكت عن كل كلام، وصه هذه اسكت عن حديثك الذي تتحدث فيه و لو تكلمت بغيره.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا} " هِيَ" كِنَايَةٌ عَنِ الدُّنْيَا، أَيْ مَا الْحَيَاةُ إِلَّا مَا نَحْنُ فِيهِ لَا الْحَيَاةُ الْآخِرَةُ الَّتِي تَعِدُنَا بَعْدَ الْبَعْثِ."

لأن هذه محسوسة لهم، ونفعها ملموس باليد، وأما ما يُوعدون به في الأخرة فهو غيب وهو لم يؤمنوا به وقال قائلهم: إنه لو كان حقيقيًّا أيضًا كيف يُباع الحاضر بالنسيئة؟ اللذة العاجلة حاضرة، وما يُوعدون به في الآخرة نسيئة قال به بعضهم، النسبة بين الحاضر والنسيئة هذا يُقدم عليها في أمور الدنيا فلا على أمور الآخرة، يعني الناس يتداينون بربح عشرة بالمائة لمدة سنة، لكن عشرة أضعاف على أقل تقدير بعض الناس يدفع هذا المال ولو غلب على ظنه أنه لا يرجع.

 لو معك كتاب قيمته عشرة ريالات قال أعطنيه دينًا بمائة ريال، قال خذه. ولا يكتب، فهذا جُنَّ أم بكيفه؟ هذا إن كان عشرة أضعاف، فكيف إذا كان إلى سبعمائة ضعف، إلى  أضعاف كثيرة إلى ألفي ضعف؟ الحسنة تضاعف إلى ألفي ضعف، إلى ألفي ألفي ضعف، إلى مليوني حسنة، كما جاء في المسند وفيه كلام، لكن مثل هذا يعطي ولا يتأخر، يعني أي عاقل يتأخر في أمور الدنيا وهو يلاحظ تجارته؟ ما يلاحظ مصلحة تجارته.

 فكيف إذا كانت هذه أضعاف مضاعفة والذي وعد ما يُخلف الميعاد، وفي نعيم أبدي سرمدي لا تعتدي عليه العوادي كما في أمور الدنيا؟

"{نَمُوتُ وَنَحْيا} يُقَالُ: كَيْفَ قَالُوا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَهُمْ لَا يُقِرُّونَ بِالْبَعْثِ؟ فَفِي هَذَا أَجْوِبَةٌ، مِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: نَكُونُ مَوَاتًا، أَيْ نُطَفًا ثُمَّ نَحْيَا فِي الدُّنْيَا. وَقِيلَ: فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، أَيْ إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَحْيَا فِيهَا ونموت، كما قال: {وَاسْجُدِي وَارْكَعِي}.  وَقِيلَ:" نَمُوتُ" يَعْنِي الْآبَاءَ،" وَنَحْيا" يَعْنِي الْأَوْلَادَ."

والواو لا تدل على الترتيب، الواو لا تدل على الترتيب، إنما يحصل لهم هذا وهذا، يحصل لهم حياة وموت.

 "وَقِيلَ:" نَمُوتُ" يَعْنِي الْآبَاءَ،" وَنَحْيا" يَعْنِي الْأَوْلَادَ {وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} أي بعد الموت قَوْلُهُ تَعَالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ} يعنون الرسول. إلا رجل {افْتَرى} أَيِ اخْتَلَقَ. {عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ.  قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ} تَقَدَّمَ. {قالَ عَمَّا قَلِيلٍ} أَيْ عَنْ قليلا، وَ" مَا" زَائِدَةٌ مُؤَكَّدَةٌ. {لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ} عَلَى كُفْرِهِمْ، وَاللَّامُ لَامُ الْقَسَمِ، أَيْ وَاللَّهِ لَيُصْبِحُنَّ. {َأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ} فِي التَّفَاسِيرِ:  صَاحَ بِهِمْ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- صَيْحَةً وَاحِدَةً مَعَ الرِّيحِ الَّتِي أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا فَمَاتُوا عَنْ آخِرِهِمْ. {فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً} أَيْ هَلْكَى هَامِدِينَ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَهُوَ مَا يَحْمِلُهُ مِنْ بَالى الشَّجَرِ مِنَ الْحَشِيشِ وَالْقَصَبِ مِمَّا يَبِسَ وَتَفَتَّتَ. {فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} أَيْ هَلَاكًا لَهُمْ. وَقِيلَ: بُعْدًا لَهُمْ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ. وَمِثْلُهُ سَقْيًا له ورعيًا."

ومثله سُحقًا سحقا.

"قَوْلُهُ تَعَالى: {ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ} أَيْ مِنْ بَعْدِ هَلَاكِ هَؤُلَاءِ. {قُرُونًا} أَيْ أُمَمًا. {آخَرِينَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ:  فَكَذَّبُوا أَنْبِيَاءَهُمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ. " {مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها} " مِنْ" صِلَةٌ، أَيْ مَا تَسْبِقُ أُمَّةٌ الْوَقْتَ الْمُؤَقَّتَ لَهَا وَلَا تَتَأَخَّرُهُ، مِثْلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُون}".

يعني هذا الأصل أنه إذا جاء الأجل لا يستقدمون ولا يستأخرون، لا يتقدم الأجل ولا يتأخر، لكن إذ لم يحضر والإنسان قدم السبب لتأجيله كالصلة مثلاً فإنه حينئذ يتأخر، ولا تعارض بين هذه الآية وما جاء قبله من قوله –عليه الصلاة والسلام-: «من سره أن يُبسط له في رزقه ويُنٍسأ له في أجله فليصل رحمه»؛ لأن هذا الأجل ما جاء بعد، فيُنسأ له قبل مجيئه، وأما إذا جاء فلا يستأخر ولا يستقدم، ومنهم من يقول: إن النسأ والتأخير في الأجل ليس من العمر وطوله، وإنما هو معنوي وليس بحقيقي، يعني الأيام والسنوات لا تزيد، لكن هذه السنوات وإن كانت قليلة فهي بمنزلة السنوات الطويلة الكثيرة، وكم من شخص عاش خمسين منه وأنتج فيه ما لم ينتجه غيره في مائة سنة؛ بسبب البر.

"ومعنى {تَتْرا} تَتَوَاتَرُ، وَيَتَّبِعُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا تَرْغِيبًا وَتَرْهِيبًا. قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: وَاتَرْتُ كُتُبِي عَلَيْهِ أَتْبَعْتُ بَعْضَهَا بَعْضًا، إلا أن بين كُلِّ وَاحِدٍ وَبَيْنَ الْآخَرِ مُهْلَةٌ. وَقَالَ غَيْرُهُ: الْمُوَاتَرَةُ التَّتَابُعُ بِغَيْرِ مُهْلَةٍ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو :" تَتْرًى" بِالتَّنْوِينِ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ أُدْخِلَ فِيهِ التَّنْوِينُ عَلَى فَتْحِ الرَّاءِ، كَقَوْلِكَ: حَمْدًا وَشُكْرًا، فَالْوَقْفُ عَلَى هَذَا عَلَى الْأَلِفِ الْمُعَوَّضَةِ مِنَ التَّنْوِينِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُلْحَقًا بِجَعْفَرٍ، فَيَكُونُ مِثْلَ أَرْطَى وَعَلْقَى، كَمَا قَالَ:

يَسْتَنُّ فِي عَلْقًى وَفِي مُكُورِ

فَإِذَا وَقَفَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ جَازَتِ الْإِمَالَةُ، عَلَى أَنْ يَنْوِيَ الْوَقْفَ عَلَى الْأَلِفِ الْمُلْحَقَةِ. وَقَرَأَ وَرْشٌ بَيْنَ اللَّفْظَتَيْنِ، مِثْلُ سَكْرَى وَغَضْبَى، وَهُوَ اسْمُ جَمْعٍ، مِثْلُ شَتَّى وَأَسْرَى. وَأَصْلُهُ وَتْرَى مِنَ الْمُوَاتَرَةِ وَالتَّوَاتُرِ، فَقُلِبَتِ الْوَاوُ تَاءً،"

والتقوى أصلها من الفعل وقي يقي، فقلبت الواو تاءً، والتكلان من وكَل أو توكلَ، والمادة أصلها بدون تاء، ثم قلبت الواو تاءً، وتجاه أصلها وجاه، قامت طائفة تجاه العدو أي وجاهه في مواجهته ومقابلته.

"مِثْلُ التَّقْوَى والتكلان وتجاه ونحوها . وقيل: هو من الْوَتْرُ وَهُوَ الْفَرْدُ، فَالْمَعْنَى أَرْسَلْنَاهُمْ فَرْدًا فَرْدًا. قال النَّحَّاسُ: وَعَلَى هَذَا يَجُوزُ" تِتْرَا" بِكَسْرِ التَّاءِ الْأُولَى، وَمَوْضِعُهَا نَصْبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى" ثُمَّ أَرْسَلْنا" واترنا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَيْ مُتَوَاتِرِينَ. {فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضًا} أَيْ بِالْهَلَاكِ. {وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ} جَمْعُ أُحْدُوثَةٍ وَهِيَ مَا يُتَحَدَّثُ بِهِ، كَأَعَاجِيبَ جَمْعُ أُعْجُوبَةٍ، وَهِيَ مَا يُتَعَجَّبُ مِنْهُ.

يعني صاروا مادة للمجالس يتحدث الناس فيهم، يعني مثلما يقع أي حدث من الأحداث يصير مادة للمجالس ووكالات الأنباء والقنوات والصحف، صار مادة دسمة يتحدثون فيها، ولذلك بعض أرباب هذه الوسائل يتمنون بعض الأخبار ولو كان فيه مضرة لبعض الناس؛ لأنها مادة تمشي سلعته، وهؤلاء صاروا خبرًا بعد عين وصاروا بعد أن كانوا يأمرون وينهون صاروا حديثًا للناس يتحدثون به.

"قَالَ الْأَخْفَشُ: إِنَّمَا يُقَالُ هَذَا فِي الشَّرِّ" جَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ" وَلَا يُقَالُ فِي الْخَيْرِ، كَمَا يُقَالُ: صَارَ فُلَانٌ حَدِيثًا أَيْ عِبْرَةً وَمَثَلًا، كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أخرى: {فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} [سبأ: 19]. قُلْتُ: وَقَدْ يُقَالُ فُلَانٌ حَدِيثٌ حَسَنٌ، إِذَا كَانَ مُقَيَّدًا بِذِكْرِ ذَلِكَ، وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ دُرَيْدٍ: وَإِنَّمَا الْمَرْءُ حَدِيثٌ بَعْدَهُ...  فَكُنْ حَدِيثًا حسنا لمن وعى

يعني لا تفعل إلا الأفعال الحسنة ليُتحدث عنك بحديث حسن فتكون أنت مادة حسنة يُتحدث فيها وليس مادة سيئة.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: {ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ} تَقَدَّمَ. وَمَعْنَى {عالينَ} مُتَكَبِّرِينَ قَاهِرِينَ لِغَيْرِهِمْ بِالظُّلْمِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ} [القصص: 4] {فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا} الْآيَةَ، تَقَدَّمَ أَيْضًا. وَمَعْنَى {مِنَ الْمُهْلَكِينَ} أَيْ بِالْغَرَقِ فِي الْبَحْرِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ} يَعْنِي التَّوْرَاةَ، وَخُصَّ مُوسَى بِالذِّكْرِ؛ لِأَنَّ التَّوْرَاةَ أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ فِي الطُّورِ، وَهَارُونُ خَلِيفَةٌ فِي قَوْمِهِ. وَلَوْ قَالَ: "وَلَقَدْ آتَيْنَاهُمَا" جَازَ كَمَا قَالَ: "وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ".

لأن هارون نبي مثل موسى -عليه السلام-، التوراة أنزلت على موسى، وشاركه في تبليغها هارون، فهو نبي مثله بعد طلب موسى -عليه السلام-، فلو أُضيف إليها، وآتيناهما، وآويناهما وآتيناهما يعني موسي وهارون، آتيناهما التوراة، لا مانع من أن يُقال هذا؛ لأنهما نبيان، والإنزال الحقيقي إنما هو على موسى، ثم بعد ذلك طلب موسى –عليه السلام- من ربه أخاه عونًا له فأجابه إلى ذلك، ولذا يقول أهل العلم: إن أبر الناس بأخيه موسى وأعظمهم منة على أخيه، لا يوجد أخ نفع أخاه بمثلما نفع موسى أخاه، ولا يوجد أبدًا على وجه من درج على الأرض شخص نفع أخاه مثلما فعل موسى مع أخيه، طلب له النبوة فحصلت.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} تَقَدَّمَ فِي" الْأَنْبِيَاءِ " الْقَوْلُ فِيهِ.

آية علامة قوية يُستدل بها المعتبر المتعظ على قدرة الله –عز وجل-، حيث أوجد هذا الشخص الذي هو عيسى من امرة بلا أب أمر خارق؛ لأن العادة جرت أن يُولد مثله بين أبوين، وهذا ولد من أم بلا أب، فصار آية وعبرة وعظة يُستدل بها الإنسان على قدرة الله -جل وعلا- ومن قبل ذلك أبوه آدم.

" {وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ} الرَّبْوَةُ الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ مِنَ الْأَرْضِ، وَقَدْ تقدم في  البقرة". والمراد بها ها هنا فِي قَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِلَسْطِينُ. وَعَنْهُ أَيْضًا الرَّمْلَةُ، وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ الْمُسَيَّبِ وَابْنُ سَلَامٍ: دِمَشْقُ. وَقَالَ كَعْبٌ وَقَتَادَةُ: بَيْتُ الْمَقْدِسِ. قَالَ كَعْبٌ: وَهِيَ أَقْرَبُ الْأَرْضِ إِلَى السَّمَاءِ بِثَمَانِيَةِ عَشَرَ مِيلًا. قَالَ:

فَكُنْتُ هَمِيدًا تَحْتَ رمس بربوة...  تعاورني ريح جنوب وشمأل.

وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: مِصْرُ. وَرَوَى سَالِمٌ الْأَفْطَسُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: {وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ} قَالَ: النَّشَزُ مِنَ الْأَرْضِ.

أي مكان مُرتفع من الأرض يقال له: ربوة.

" {ذاتِ قَرارٍ} أَيْ مُسْتَوِيَةٍ يُسْتَقَرُّ عَلَيْهَا . وَقِيلَ: ذَاتُ ثِمَارٍ، وَلِأَجْلِ الثِّمَارِ يَسْتَقِرُّ فِيهَا السَّاكِنُونَ.

لأن الساكن لا يستقر في أرض محل ولا جدب، لا يمكن أن يعيش فيها، بينما يستقر في الأرض التي فيها ما يُقتات منها.

"{وَمَعِينٍ} مَاءٍ جَارٍ ظَاهِرٍ لِلْعُيُونِ. يُقَالُ:  مَعِينٌ وَمُعُنٌ، كَمَا يُقَالُ: رَغِيفٌ وَرُغُفٌ، قَالَهُ عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ الْمَاءُ الْجَارِي فِي الْعُيُونِ، فَالْمِيمُ عَلَى هَذَا زَائِدَةٌ كَزِيَادَتِهَا فِي مَبِيعٍ، وَكَذَلِكَ الْمِيمُ زَائِدَةٌ فِي قَوْلِ مَنْ قَالَ إِنَّهُ الْمَاءُ الَّذِي يُرَى بِالْعَيْنِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ. قَالَ عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ: يُقَالُ مَعَنَ الْمَاءُ إِذَا جَرَى فَهُوَ مَعِينٌ وَمَعْيُونٌ. قال ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: مَعَنَ الْمَاءُ يَمْعَنُ مُعُونًا إِذَا جَرَى وَسَهُلَ، وَأَمْعَنَ أَيْضًا وَأَمْعَنْتُهُ، وَمِيَاهٌ مُعْنَانٌ."

  طالب:.......

يعني جارية سهلة ما تحتاج إلى آلات ولا شيء.

طالب:....

 العين هذه ما يلزم أن تكون جارية، والمعين لا يحتاج إلى آلات.

"قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحًا إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ }
فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ:

 الْأُولَى: رَوَى الصَّحِيحُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ فَقَالَ: { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحًا إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}، وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ  }" [البقرة : [172]- ثُمَّ ذَكَرَ - الرَّجُلَ  يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَام،ٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ!»."

استبعاد أن يُستجاب لمثل هذا مما مأكله حرام، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، ويتصرف ويتقلب في الحرام، مثل هذا يُستبعد أن يُستجاب لدعوته، فليحرص الإنسان أن يكون مطعمه طيبًا؛ لأن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، «وأطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة»، يستغرب الناس أنهم يدعون ويدعون ولا يستجاب لهم، ويستسقون ثم يستسقون ولا يُرى لذلك أثر، سببه مما سمعت في الحديث.

"الثَّانِيَةُ: قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: وَالْخِطَابُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-َ، وَأَنَّهُ أَقَامَهُ مَقَامَ الرُّسُلِ، كَمَا قَالَ: {الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ} [آل عمران: 173] يعنى: نعيم بن مسعود. وقال الزَّجَّاجُ"..

من العام الذي أريد به الخصوص.

" وقال الزَّجَّاجُ: هَذِهِ مُخَاطَبَةٌ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَدَلَّ الْجَمْعُ عَلَى أَنَّ الرُّسُلَ كُلَّهُمْ كَذَا أُمِرُوا، أَيْ كُلُوا مِنَ الْحَلَالِ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: الْخِطَابُ لِعِيسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ مِنْ غَزْلِ أُمِّهِ. وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ مِنْ بَقْلِ الْبَرِّيَّةِ. وَوَجْهُ خِطَابِهِ لِعِيسَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَقْدِيرِهِ لِمُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَشْرِيفًا لَهُ.

وَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْمَقَالَةَ خُوطِبَ بِهَا كُلُّ نَبِيٍّ؛ لِأَنَّ هَذِهِ طَرِيقَتُهُمُ الَّتِي يَنْبَغِي لَهُمُ الْكَوْنُ عَلَيْهَا. فَيَكُونُ الْمَعْنَى: وَقُلْنَا يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ، كَمَا تَقُولُ لِتَاجِرٍ: يَا تجَّارُ يَنْبَغِي أَنْ تَجْتَنِبُوا الرِّبَا، فَأَنْتَ تُخَاطِبُهُ بِالْمَعْنَى. وَقَدِ اقْتَرَنَ بِذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْمَقَالَةَ تَصْلُحُ لِجَمِيعِ صِنْفِهِ، فَلَمْ يُخَاطَبُوا قَطُّ مُجْتَمِعِينَ- صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ- أَجْمَعِينَ".

لأنهم لم يجمعهم زمن واحد، لم يجمعهم زمن واحد، وإنما خُوطب كل واحد منهم على حِدة في زمنه ووقت بعثته، فصح أن يخاطبوا جميعًا وإن خُوطِبَ كل واحد على حِدة.

 "وَإِنَّمَا خُوطِبَ كُلُّ وَاحِدٍ فِي عَصْرِهِ . قَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ كَمَا تَقُولُ لِلرَّجُلِ الْوَاحِدِ: كُفُّوا عَنَّا أَذَاكُمْ. الثَّالِثَةُ: سَوَّى اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ النَّبِيِّينَ وَالْمُؤْمِنِينَ فِي الْخِطَابِ بِوُجُوبِ أَكْلِ الْحَلَالِ وَتَجَنُّبِ الْحَرَامِ، ثُمَّ شَمَلَ الْكُلَّ فِي الْوَعِيدِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} -صَلَّى اللَّهُ عَلَى رُسُلِهِ وَأَنْبِيَائِهِ-. وَإِذَا كَانَ هَذَا مَعَهُمْ، فَمَا ظَنُّ كُلُّ النَّاسِ بِأَنْفُسِهِمْ. وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِي الطَّيِّبَاتِ وَالرِّزْقِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ.

وَفِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ-: «يَمُدُّ يَدَيْهِ» دَلِيلٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ مَدِّ اليدَيْنِ عِنْدَ الدُّعَاءِ إِلَى السَّمَاءِ".

يعني رفع اليدين إلى السماء عند الدعاء، وجاء في المسألة أحاديث كثيرة جدًّا، والله –جل وعلا-يستحي من عبده إذا مد يديه أن يردهما صفرًا، فرفع اليدين في الدعاء لا شك في استحبابه.

وأما مسح الوجه بهما بعد الدعاء فلم يثبت فيه خبر، جاء في حديثين ضعيفين، وما جاء في رفع اليدين فهذا ثابت، هذا خارج العبادات، أما داخل العبادات فيُقتصر فيها على النص كالاستسقاء مثلاً.

طالب: في جميع المواطن يا شيخ؟

في الاستسقاء.

طالب: رفع اليدين في جميع المواطن.

رفع اليدين في الدعاء المطلق في جميع المواطن، هذا الأصل فيه.

طالب: مسح الوجه....؟

جاء فيه حديث ضعيف، جاء فيه حديثان ضعيفان، فعلى قول جمهور العلماء الذين يعملون بالضعيف في الفضائل ما عندهم إشكال، يمسحون بعد الدعاء، والذي يري أن الضعيف لا يُحتج به مطلقًا لا في الفضائل ولا في غيرها يتجه قوله: إنه بدعة على تأصيله وتقعيده.

طالب:........

يحتاط للعبادة ما لا يُحتاط لغيرها خارج الصلاة، خارج العبادات أمره سهل، يعني ما يمكن إذا دعا الخطيب ترفع يديك؛ لأن هذه العبادة مطلوب فيها السكون، وأما ما عدا ذلك من الأمور التي لا يطلب فيها مثل هذا، الأصل رفع اليدين.

طالب:......

 لا بأس؛ لأنه خارج العبادة.

طالب:....

ما يمنع أبدًا، العموميات تشمل هذه وغيره.

طالب:...

هذا عبادة ما يرفع إلا في وقت الرفع.

طالب...... حديث مسلم ثم ذكر الرجل يطيل السفر، والله ذكر في القرآن أن المشركين دعوا فاستُجيب لهم.  

هو لا يمنع أن يستجاب دعوتهم، لكن هذا مانع، وقد يعارض هذا المانع سبب قوي، والمسألة مسألة توافر أسباب وانتفاء موانع، فإذا كان المانع أقوى من السبب غلبه فلم تُجب الدعوة، إذا كان السبب أقوى من المانع يُستجاب له، وقد لا يُستجاب له مع توافر الأسباب وانتفاء الموانع يستجاب له ظاهرًا، وإن استُجيب له باطنًا قد يدخر له في القيامة ما هو أعظم منه، قد يُدفع من الشر ما هو أكبر منه، فمثل هذه الأمور الأصل {ادعوني أستجب لكم}، والاستجابة قد تكون بما طلب، وقد تكون بغيره، وقد تكون بما هو أعظم منه، وقد تكون عاجلة، وقد تكون آجلة، قد يوجد ما يمنع من قبولها، كل هذا موجود.

طالب:....

 النبي-صلى الله عليه وسلم- دعا بدعوة استُجيب له في بعضها ولم يُستجب له في بعضها– عليه الصلاة والسلام-.

"وَفِي قَوْلِهِ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: «يَمُدُّ يَدَيْهِ» دَلِيلٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ مَدِّ اليدَيْنِ عِنْدَ الدُّعَاءِ إِلَى السَّمَاءِ، وَقَدْ مَضَى الْخِلَافُ فِي هَذَا وَالْكَلَامُ فِيهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ.

وَقَوْلُهُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- «فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ» عَلَى جِهَةِ الِاسْتِبْعَادِ".

جاء عن بعض السلف أنه رأى من يدعو رافعًا يديه قال له: ثكلتك أمك، ما تتناول بهما؟ ولعل هذا محمول على المبالغة في رفع اليدين، وإلا فقد جاء في أحاديث كثيرة جدًّا لا يمكن أن تخفى على هذا التابعي الجليل المعروف بالراوية، الذي أنكر على من رفع يديه، فلعله رفع يديه رفعًا أكثر من اللازم، أو بما يشق عليه، مثل هذا يُقال ماذا تتناول؟

طالب:....

جاء في الاستسقاء حتى يُري بياض إبطيه، لكن ما هو بدائم، ما عرف عنه بدائم.

"وَقَوْلُهُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: «فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ» عَلَى جِهَةِ الِاسْتِبْعَادِ، أَيْ أَنَّهُ لَيْسَ أَهْلًا لِإِجَابَةِ دُعَائِهِ، لَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَجِيبَ اللَّهُ لَهُ تَفَضُّلًا وَلُطْفًا وكرمًا."

قوله تعالى: {وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54)}.

فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ:

الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً} الْمَعْنَى: هَذَا الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ هُوَ دِينُكُمْ وَمِلَّتُكُمْ فَالْتَزِمُوهُ. وَالْأُمَّةُ هُنَا الدِّينُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَحَامِلُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ} [الزخرف: 22] أَيْ عَلَى دِينٍ. وَقَالَ النَّابِغَةُ:

حَلَفْتُ فَلَمْ أَتْرُكْ لِنَفْسِكَ رِيبَةً...  وَهَلْ يَأْثَمَنَ ذُو أُمَّةٍ وَهُوَ طَائِعُ

الثَّانِيَةُ: قُرِئَ "وَإِنَّ هذِهِ" بِكَسْرِ" إِنَّ" عَلَى الْقَطْعِ، وَبِفَتْحِهَا وَتَشْدِيدِ النُّونِ. قَالَ الْخَلِيلُ: هِيَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ لَمَّا زَالَ الْخَافِضُ، أَيْ أَنَا عَالِمٌ بِأَنَّ هَذَا دِينُكُمُ الَّذِي أَمَرْتُكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِهِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: " أَنَّ"  مُتَعَلِّقَةٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ تَقْدِيرُهُ: وَاعْلَمُوا أَنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ. وَهِيَ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ" فَاتَّقُونِ"، وَالتَّقْدِيرُ فَاتَّقُونِ لِأَنَّ أُمَّتَكُمْ وَاحِدَةٌ.  وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18]، أَيْ لِأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَهُ غيره. وكقوله: {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ} [قُرَيْشٍ: 1]، أَيْ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ.

العبادة تؤلف بينهم، والذين يرون الربط بين السور والمناسبات بينها يقول: المناسبة بين هذه السورة والتي قبلها أن الله –عز وجل-أهلك أصحاب الفيل {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ}؛ لكي تتفق كلمة قريش، ولو انتصر أرباب الفيل لتفرقت قريش ولانتشرت في البلدان ولم يأتلفوا.

" الثَّالِثَةُ: وَهَذِهِ الْآيَةُ تُقَوِّي أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ} إِنَّمَا هُوَ مُخَاطَبَةٌ لِجَمِيعِهِمْ، وَأَنَّهُ بِتَقْدِيرِ حُضُورِهِمْ. وَإِذَا قُدِّرَتْ " يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ" مُخَاطَبَةً لِمُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قلق اتِّصَالَ هَذِهِ الْآيَةِ وَاتِّصَالَ قَوْلِهِ:" فَتَقَطَّعُوا". أَمَّا أَنَّ قَوْلَهُ: {وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} وَإِنْ كَانَ قِيلَ لِلْأَنْبِيَاءِ فَأُمَمُهُمْ دَاخِلُونَ فِيهِ بِالْمَعْنَى، فَيَحْسُنُ بَعْدَ ذَلِكَ اتِّصَالُ {فَتَقَطَّعُوا} أَيِ افْتَرَقُوا، يَعْنِي الْأُمَمَ، أَيْ جَعَلُوا دِينَهُمْ أَدْيَانًا بَعْدَ مَا أمروا بالاجتماع."

يعني إذا كان الخطاب في قوله: {يأيها الرسل} الرسل جمع إذا كان هذا خطابًا لمحمد– عليه الصلاة والسلام-لا شك أن الفعال التي بعد هذا الخطاب وفيها ضمائر جمع لا شك أن في التركيب قلقًا، ما هو متسق الترتيب، لكن إذا كان الخطاب لجميع الرسل مع أممهم استقام الكلام.

"ثم ذكر تعالى ن كُلًّا مِنْهُمْ مُعْجَبٌ بِرَأْيِهِ وَضَلَالَتِهِ وَهَذَا غَايَةُ الضَّلَالِ.

كل حزب بما لديهم فرحون، كل طائفة فرحة بما عندها من العلم.

"الرَّابِعَة: هَذِهِ الْآيَةُ تَنْظُرُ إِلَى قَوْلِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «أَلَا إِنَّ مَنْ قَبْلَكُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ افْتَرَقُوا عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً وَإِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِين،َ ثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ وَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ وَهِيَ الْجَمَاعَةُ» الْحَدِيثُ خَرَّجَهُ أَبُو داود، ورواه التِّرْمِذِيُّ وَزَادَ: قَالُوا وَمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ «مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي» خَرَّجَهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو.

وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الِافْتِرَاقَ الْمُحَذَّرَ مِنْهُ فِي الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ إِنَّمَا هُوَ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَقَوَاعِدِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَطْلَقَ عَلَيْهَا مِلَلًا، وَأَخْبَرَ أَنَّ التَّمَسُّكَ بِشَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الْمِلَلِ مُوجِبٌ لِدُخُولِ النَّارِ. وَمِثْلُ هَذَا لَا يُقَالُ فِي الْفُرُوعِ، فَإِنَّهُ لَا يُوجِبُ تَعْدِيدَ الْمِلَلِ وَلَا عَذَابَ النَّارِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجًا} [المائدة: 48]."

فالأنبياء كما جاء في الحديث الصحيح أولاد علات دينهم واحد وشرائعهم مختلفة، وكذلك الصحابة- رضوان الله عليهم- وجد فيه الاختلاف في الشرائع والفروع ولم يوجد فيهم الاختلاف في الأصل، ما يوجد الاختلاف في المعتقدات، ولكن الخلاف في المسائل العملية والفقهية موجود، ومثل هذا الاختلاف في المسائل الفرعية التي يسع فيها الاختلاف لا يخرج عن الطائفة التي على مثل ما عليه وأصحابه، وإنما الذي يخرج عن ذلك هو الاختلاف في أصول الدين.

طالب:.......

الراجح من مجموع طرقه أنه صحيح.

" قَوْلُهُ تَعَالَى: {زُبُرًا} يَعْنِي كُتُبًا وَضَعُوهَا وَضَلَالَاتٍ أَلِفُوهَا، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ. وَقِيلَ: إِنَّهُمْ فَرَّقُوا الْكُتُبَ فَاتَّبَعَتْ فِرْقَةٌ الصُّحُفَ، وَفِرْقَةٌ التَّوْرَاةَ، وَفِرْقَةٌ الزَّبُورَ، وَفِرْقَةٌ الْإِنْجِيلَ، ثُمَّ حرّفَ الْكُلُّ وَبدّلَ، قَالَهُ قَتَادَةُ. وَقِيلَ: أَخَذَ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ كِتَابًا آمَنَ بِهِ وَكَفَرَ بِمَا سِوَاهُ.

وَ{زُبُرًا} بِضَمِّ الْبَاءِ قِرَاءَةُ نَافِعٍ، جَمْعُ زَبُورٍ . وَالْأَعْمَشُ وَأَبُو عَمْرٍو بِخِلَافٍ عَنْهُ" زُبَرًا" بِفَتْحِ الْبَاءِ، أَيْ قِطَعًا كَقِطَعِ الْحَدِيدِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ} [الكهف: 96]."

وجمع زُبرة زُبرْ، كالزُمَر جمع زمرة.

" {كُلُّ حِزْبٍ} أَيْ فَرِيقٍ وَمِلَّةٍ. {بِما لَدَيْهِمْ} أَيْ عِنْدَهُمْ مِنَ الدِّينِ. {فَرِحُونَ} أَيْ مُعْجَبُونَ بِهِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ مِثَالٌ لِقُرَيْشٍ خَاطَبَ مُحَمَّدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي شَأْنِهِمْ مُتَّصِلًا بِقَوْلِهِ:" فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ" أَيْ فَذَرْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ هُمْ بِمَنْزِلَةِ مَنْ تَقَدَّمَ، وَلَا يَضِيقُ صدرك بتأخير العذاب عنهم، فلكل شيء وَقْتٌ. وَالْغَمْرَةُ فِي اللُّغَةِ مَا يَغْمُرُكَ وَيَعْلُوكَ، وَأَصْلُهُ السّتْرُ، وَمِنْهُ الْغِمْرُ الْحِقْد؛ُ لِأَنَّهُ يُغَطِّي الْقَلْبَ.

ولذا لا تُقبل شهادة ذي الغمر على غمره أي ذو الحقد على من يحقد عليه لا تُقبل شهادته.

 "وَالْغَمْرُ الْمَاءُ الْكَثِيرُ؛ لِأَنَّهُ يُغَطِّي الْأَرْضَ. وَغَمْرُ الرِّدَاءِ الَّذِي يَشْمَلُ النَّاسَ بِالْعَطَاءِ، قَالَ:

غَمْرُ الرِّدَاءِ إِذَا تَبَسَّمَ ضَاحِكًا...  غَلِقَتْ لِضَحْكَتِهِ رِقَابُ الْمَالِ

والْمُرَادُ هُنَا الْحَيْرَةُ وَالْغَفْلَةُ وَالضَّلَالَةُ. وَدَخَلَ فُلَانٌ فِي غِمَارِ النَّاسِ، أَيْ فِي زحمتهم. وقوله تَعَالَى: {حَتَّى حِينٍ} قَالَ مُجَاهِدٌ: حَتَّى الْمَوْتِ، فَهُوَ تَهْدِيدٌ لَا تَوْقِيتٌ، كَمَا يُقَالُ: سَيَأْتِي لك يوم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِين} " مَا" بِمَعْنَى الَّذِي، أَيْ أَيَحْسَبُونَ يَا مُحَمَّدُ أَنَّ الَّذِي نُعْطِيهِمْ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْمَالِ وَالْأَوْلَادِ هُوَ ثَوَابٌ لَهُمْ، إِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ وَإِمْلَاءٌ، لَيْسَ إِسْرَاعًا فِي الْخَيْرَاتِ.

وَفِي خَبَرِ" أنَّ" ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ، مِنْهَا أَنَّهُ مَحْذُوفٌ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى نُسَارِعُ لَهُمْ بِهِ فِي الْخَيْرَاتِ، وَحُذِفَتْ بِهِ. وَقَالَ هِشَامٌ الضَّرِيرُ قَوْلًا دَقِيقًا، قَالَ:" أَنَّما" هِيَ الْخَيْرَاتُ، فَصَارَ الْمَعْنَى: نُسَارِعُ لَهُمْ فِيهِ، ثُمَّ أَظْهَرَ فَقَالَ" فِي الْخَيْراتِ"، وَلَا حَذْفَ فِيهِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ. وَمَذْهَبُ الْكِسَائِيِّ أَنَّ" إنَّما" حَرْفٌ وَاحِدٌ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرِ حَذْفٍ، وَيَجُوزُ الْوَقْفُ على قوله:" وَبَنِينَ".

وما كافة ومكفوفة لكفها عن العمل.

 وَمَنْ قَالَ:" أَنَّما" حَرْفَانِ فَلَا بُدَّ مِنْ ضَمِيرٍ يَرْجِعُ مِنَ الْخَبَرِ إِلَى اسْمِ" أَنَّ" وَلَمْ يَتِمَّ الْوَقْفُ عَلَى" وَبَنِينَ". وَقَالَ السِّخْتِيَانِيُّ: لَا يَحْسُنُ الْوَقْفُ عَلَى" وَبَنِينَ"؛ لِأَنَّ" يَحْسَبُونَ يحتاج إلى مفعولين، فتمام المفعولين" فِي الْخَيْراتِ". قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ" أنَّ" كَافِيَةٌ مِنَ اسْمِ أَنَّ وَخَبَرِهَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْتَى بَعْدَ" أنَّ" بِمَفْعُولٍ ثَانٍ. وَقَرَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ: " يُسَارِعُ " بِالياءِ، عَلَى أَنْ يَكُونَ فَاعِلُهُ إِمْدَادُنَا. وَهَذَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى غَيْرِ حَذْفٍ، أَيْ يُسَارِعُ لَهُمُ الْإِمْدَادُ.

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ حَذْفٌ، وَيَكُونُ المعنى: يسارع الله لهم.  وقرئ " يُسَارَعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ" وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا عَلَى حَذْفِ بِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ يُسَارَعُ الْإِمْدَادُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ "لَهُمْ" اسْمُ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، ذَكَرَهُ النَّحَّاسُ. قَالَ الْمَهْدَوِيُّ: وَقَرَأَ الْحُرُّ النَّحْوِيُّ: "نُسْرِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ" وَهُوَ مَعْنَى قِرَاءَةِ الْجَمَاعَةِ. قَالَ الثَّعْلَبِيُّ: وَالصَّوَابُ قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ؛ لِقَوْلِهِ:" نُمِدُّهُمْ". {بَلْ لَا يَشْعُرُونَ} أن ذلك فتنة لهم واستدراج.

يكفي.

اللهم صل على محمد.

"