شرح نخبة الفكر (01)

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً وعملاً خالصاً لوجهك، صواباً على سنة نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم-.

أما بعد:

مقدمة عن كتب علم مصطلح الحديث:

فقد طلب مني أن أشرح مختصراً وجيزاً، ومتناً متيناً، وأصلاً أصيلاً من المتون العلمية التي هي كالقواعد والأسس الثابتة التي يبنى عليها غيرها، وهذا المختصر هو (نخبة الفكر) للإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني -رحمه الله-.

وهذا الكتاب على وجازته إذ لا يزيد على ثلاث أو أربع أو خمس ورقات حسب اختلاف الطبعات إلا أنه حوى علماً عظيماً مباركاً من أهم العلوم وأشرفها يتعلق بالمصدر الثاني من مصادر التشريع، وهو سنة المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، والسنة جاء في أول الأمر النهي عن كتابتها وتدوينها، فقد ثبت في صحيح مسلم وغيره من حديث أبي سعيد أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: ((لا تكتبوا عني شيئاً غير القرآن، ومن كتب عني شيئاً غير القرآن فليمحه)) وهذا قاله النبي -عليه الصلاة والسلام-، خشية منه على اختلاط كلامه بكلام الله -عز وجل-؛ لأن القرآن لم يكن مجموعاً في مصحف معزولاً عن غيره، فإذا سمع الصحابي الكلام من النبي -عليه الصلاة والسلام- فيما ينقله عن ربه -عز وجل- من وحي نوعان:

منه ما هو متعبد بلفظه وهو القرآن، ومنه ما هو متعبد بمعناه دون لفظه وهو السنة.

وكلاهما من عند الله -عز وجل- {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [(3 - 4) سورة النجم] فخشية منه -عليه الصلاة والسلام- أن يختلط كلامه بكلام الله نهى عن كتابة غير القرآن، فحمل أهل العلم هذا النهي على هذه الصورة، أو خشية منه -عليه الصلاة والسلام- أن يعتمد الناس على الكتابة ويهملوا الحفظ، ثم بعد ذلكم احتيج إلى الكتابة فأذن بها ((اكتبوا لأبي شاه)) يقول أبو هريرة: "ما كان من أحد من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أكثر مني رواية، وأكثر مني حديثاً إلا ما كان من عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب ولا أكتب"، وبعد ذلك المنع حصل الإجماع على جواز الكتابة، بل على استحباب تدوين العلم.

ومن أهم ما يدون ما يعتمد عليه في إثبات تصرفات المسلم على مراد الله، وعلى مراد رسوله -عليه الصلاة والسلام-.

كتب الصحابة، كتبوا السنن من عهده -عليه الصلاة والسلام-، واستمرت الكتابة كتابة فردية، ثم لما تولى عمر بن عبد العزيز الخلافة -رحمة الله عليه- أمر الإمام محمد بن شهاب الزهري بالتدوين الرسمي، فعمر بن عبد العزيز خشي من ضياع السنة لضعف الحافظة لدى الناس، ومعلوم أن العرب كانوا يتميزون بالحفظ ثم لما اختلطوا بغيرهم أخذت هذه الملكة والغريزة تضعف شيئاً فشيئاً، في العادة أن من يعتمد على شيء يعتني به، لما كان عمدتهم الحفظ كانوا يعتنون به، ثم لما توسعوا في أمر الكتابة، ضعفت الحوافظ لدى الناس، وهذا شيء مشاهد، الشيء الذي تعتني به وتودعه حفظك في الغالب أنك تحفظه، أما إن كنت بمجرد سماعه تخرج القلم وتكتب فإن هذا لا يثبت في الحفظ، وإن ثبت في الورق.

ثم تتابع الناس بعد ذلك على الاعتماد على المكتوب، اعتمدوا عليه اعتماداً كلياً، فدونت الأحاديث، ودونت العلوم كلها، بداية من منتصف القرن الثاني يعني بعد أمر عمر بن عبد العزيز لابن شهاب الزهري تتابع الناس في الكتابة حتى وجدت المصنفات من الموطئات والمسانيد والمصنفات، المصنفات نوع من أنواع التأليف في السنة، ثم بعد ذلكم دونت الجوامع من الصحاح والسنن والمعاجم وغيرها، بهذه الطريقة وجدت كتب السنة، لكن ماذا عن كتب علوم الحديث؟

علوم الحديث كغيره من علوم الآلة التي هي وسائل إلى علوم أخرى، علوم الحديث وسيلة يتوصل به إلى تمييز الصحيح من الضعيف من كلام النبي -عليه الصلاة والسلام-، فهو وسيلة وليس بغاية.

في أول الأمر لم تكن الحاجة داعية إلى التأليف المستقل في هذا العلم، ومثله علوم الآلة كلها، التي هي الوسائل أصول الفقه، علوم القرآن وقواعد التفسير، وعلوم العربية بفروعها العشرة المعروفة.

لما كثر اختلاط العرب بغيرهم، وبعدوا عن عصر الرسالة احتاجوا إلى قواعد وضوابط تعينهم على فهم الكتاب والسنة، ووجد هذا العلم مبثوثاً ومنثوراً في كتب الأئمة، في كتب الإمام الشافعي كالرسالة والأم، وكتب تلميذه الإمام أحمد بن حنبل، وعلي بن المديني ويحيى بن معين والبخاري والترمذي والنسائي وغيرهم، فوجدت هذه القواعد وهذه الضوابط التي يحتاجها طالب العلم لفهم السنن في الكتب المبثوثة.

واختلف أهل العلم في أول ما صنف في هذا العلم على سبيل الاستقلال، فمنهم من يقول: الإمام الشافعي في الرسالة، والرسالة وإن قال أهل العلم: إنها أول ما صنف في أصول الفقه، فهي أول ما دون في علوم الحديث، الرسالة يوجد فيها هذا وهذا، ولا انفكاك لعلوم الحديث من أصول الفقه، كما أنه لا انفكاك لأصول الفقه عن علوم الحديث.

وجد أيضاً في سؤالات الإمام أحمد فيما يسأله عنه تلاميذه كثير من قواعد هذا العلم، وما يتعلق بعلله ورجاله ثم في سؤالات يحيى بن معين، وعلل ابن المديني، وتواريخ الإمام البخاري -رحمة الله عليه-، وجامع أبي عيسى الترمذي فيه كثير مما يحتاجه طالب العلم, ولو قيل: إن أولى ما يتمرن عليه طالب العلم في معرفة المتون والأسانيد ونقد الرجال وتعليل الأحاديث جامع الترمذي لما كان بعيداً، فيه الأنواع كلها، ووجد في سنن النسائي التراجم التي ترجم بها على الأحاديث كثير من ضروب العلل وأصنافها.

نظراً لعدم وجود بداية محددة للتأليف في هذا الفن خرج الحافظ ابن حجر من هذا كله بقوله: "فمن أول من صنف فيه القاضي الحسن بن محمد بن خلاد الرامهرمزي في كتابه (المحدث الفاصل)"، ويعتبره بعضهم هو أول المصنفات في هذا الفن، لكنه لم يستوعب، وهذا أمر طبيعي وعادي أن يكون أول من يؤلف لا يستوعب، ثم يأتي من بعده أهل العلم فيكملون ما بدأه من مشروع، ثم جاء بعده الحاكم أبو عبد الله فصنف المعرفة (معرفة علوم الحديث).

الأول قال عنه الحافظ: لم يستوعب، والثاني قال عنه: لم يهذب ولم يرتب، يعني الحاكم أبا عبد الله في (معرفة علوم الحديث)، وابن خلدون في مقدمته الشهيرة قال عن الحاكم: "إنه أول من هذب هذا العلم ورتبه"، أول من هذب هذا العلم ورتبه الحاكم فهل من اختلاف بين قول الحافظ وقول ابن خلدون؟ في اختلاف واضطراب وإلا ما في؟ نعم، هذاك قال: لم يهذب ولم يرتب، وقال هذا: أول من هذب هذا العلم ورتبه؟

أقول: لعل الحافظ -رحمه الله- نظر إلى من جاء بعد الحاكم فمن قارن كتاب الحاكم بما ألف بعده من كتب في علوم الحديث حكم على معرفة علوم الحديث أنه لم يهذب ولم يرتب، وابن خلدون نظر إلى ما كتب قبل الحاكم، ولا شك أن الحاكم أبدع في كتابه إذا نظرنا إلى ما ألف في الفن قبله، ترتيب وتهذيب وجمع لا نظير له إذا قسناه بما قبله.

ثم جاء الحافظ أبو نعيم الأصفهاني فعمل على كتاب الحاكم مستخرجاً..... المستخرج على علوم الحديث، إيش معنى المستخرج؟ يعمد عالم من علماء الحديث إلى كتاب معتبر عند أهل العلم ويخرج أحاديث الكتاب بأسانيده هو من غير طريق صاحب الكتاب، وقد يستغلق عليه الأمر ويضيق عليه فلا يجد الحديث إلا من طريق مؤلف الكتاب وحينئذ هو بين خيارات ثلاثة -كما فعله أصحاب المستخرجات-: إما أن يعلق الحديث ويحذف الإسناد، أو يرويه من طريق صاحب الكتاب، أو يحذف الحديث.

ثم بعد أبي نعيم تتابع أهل العلم في الكتابة في هذا العلم فألف الخطيب البغدادي الذي صنف في علوم الحديث وفي قوانين الرواية كتاباً جامعاً ماتعاً نافعاً أسماه: (الكفاية في قوانين الرواية) وفي آداب الراوية والراوي كتاباً آخر أسماه: (الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع)، وهذا كتاب نفيس لا يستغني عنه طالب علم، ونحن اليوم بأمس الحاجة إلى مثل هذا الكتاب إذا أضيف إليه (جامع بيان العلم وفضله) لابن عبد البر، و(فضل علم السلف على الخلف) لابن رجب، و(مقدمة الموضح في أوهام الجمع والتفريق) للخطيب أيضاً، طالب العلم بحاجة ماسة إلى أن ينظر في مثل هذه الكتب؛ لأننا نلاحظ على كثير من طلاب العلم لا سيما من يتصدى لهذا الفن العظيم -أعني الحديث وعلومه- نلاحظ عليهم بعض الشدة والقسوة وشيء من غمط الآخرين، ولا أقول: إن هذا موجود بكثرة لكنه موجود.

ثم ألف القاضي عياض كتاباً لطيفاً أسماه: (الإلماع إلى أصول الرواية وتقييد السماع) لكنه خاص بطرق التحمل والأداء.

ثم بعد ذلكم جاء الإمام أبو عمرو بن الصلاح فألف مقدمته الشهيرة التي جمع فيها ما تفرق مما كتب قبله في كتب الخطيب وغيرها؛ لأن الخطيب ما من نوع من أنواع علوم الحديث إلا وكتب فيه كتاباً مستقلاً، حتى قال الحافظ أبو بكر بن نقطة: "كل من أنصف علم أن كل من جاء بعد الخطيب عيال على كتبه" عالة على كتب الخطيب، ثم بعد ذلكم يقال: الخطيب أساء إلى علوم الحديث، وأدخل فيه من أصول الفقه وعلم الكلام، لا شك أن الناس في القرن الخامس وما بعده تأثروا بعلم الكلام، ويأتي مزيد بسط لهذا الكلام -إن شاء الله تعالى-.

علوم الحديث لابن الصلاح جمعه من كتب الخطيب وغيرها ورتبه لما ولي تدريس الحديث بالمدرسة الأشرفية فصار يجمع النوع ويحرره وينقحه ثم يمليه على طلابه، ولذا نلاحظ عليه بعض التقديم والتأخير، تقديم ما حقه التأخير والعكس، لكنه كتاب جامع كتاب نافع ماتع، اشتغل الناس به عن غيره، فكان كما قال الحافظ: "لا يحصى كم ناظم له ومختصر، ومستدرك عليه ومقتصر، ومعارض له ومنتصر" وهو أهل لأن يولى هذه العناية، اختصره النووي في كتابيه: (الإرشاد والتقريب)، اختصره الحافظ ابن كثير، اختصره العز بن جماعة، اختصره جمع من أهل العلم، نظمه الحافظ العراقي في ألفيته، ونظمه أيضاً غيره من أهل العلم، ونكت عليه الحافظ العراقي وابن حجر وبرهان الدين الأبناسي وجمع من أهل العلم.

كتاب نخبة الفكر وشروحها:

ثم بعد هذا جاء الحافظ ابن حجر فألف نخبته الشهيرة التي اشتغل الناس بها عن غيرها، ولا شك أنها أساس متين بالنسبة لمن يريد الدخول في هذا الفن، لمن يريد الدخول في هذا الفن أعني علوم الحديث.

اشتغل الناس بها، وعنوا بها، فشرحت شروحاً كثيرة، فشروحها بالعشرات لا بالآحاد، ورغم اختصارها اختصرت ونظمت لكونها منثورة، ولا مانع أن نطلع على شيء من عناية أهل العلم بها.

فممن شرحها مؤلفها الحافظ ابن حجر في كتابه: (نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر)، شرحها أيضاً الشيخ: كمال الدين الشمني في كتاب أسماه: (نتيجة النظر)، شرحها أبو الفضل أحمد بن صدقة، المعروف بابن الصيرفي، وابن موسى المراكشي، ومحمد عبد الرؤوف المناوي، وعبد العزيز بن عبد السلام العثماني، وابن همات الدمشقي، و إسماعيل حقي البروسوي، ومحمد بن عبد الله الخرشي المالكي.

والشرح -أعني نزهة النظر- شرح أيضاً من قبل جمع من أهل العلم منهم: ملا علي سلطان القاري، شرحه معروف ومتداول، ومنهم محمد عبد الرؤوف المناوي في كتاب أسماه: (اليواقيت والدرر) وهو مطبوع أيضاً،

منها: (قضاء الوطر) لبرهان الدين اللقاني، و(إمعان النظر) لمحمد أكرم السندي، و(بهجة النظر) لأبي الحسن السندي أيضاً.

حواشي النخبة:

وعليها حواشي كثيرة منها: حاشية تلميذ المصنف قاسم بن قطلوبغا الحنفي، وهذه الحاشية نفيسة استدرك فيها على الحافظ الشيء الكثير، وحاشية لمحمد بن أبي شريف، وحاشية لرضي الدين الحنبلي، وأبي الحسن الأجهوري، وإبراهيم الشهرزوري، وإبراهيم الكردي، ومن الحواشي المطبوعة: (لقط الدرر) للشيخ عبد الله بن حسين العدوي المالكي.

مختصرات النخبة:

والنخبة على اختصارها لها مختصرات من أشهرها: (بغلة الأريب) للمرتضى الحسيني الزبيدي شارح القاموس، ومنها: (المختصر من نخبة الفكر) لعبد الوهاب بن أحمد بن بركات الأحمدي، وهذا المختصر جيد، شرحه محمود شكري الألوسي في كتاب أسماه: (عقد الدرر)، وهناك مختصر للنخبة لمحمد بن مصطفى الخرماني.

نظم النخبة:

ممن نظم النخبة كمال الدين الشمني الذي سبق ذكره في الشراح، في نظم أسماه: (الرتبة في نظم النخبة) وهو نظم جيد، أوله:

وبعد فاعلم أن نخبة الفكر
قد جمعت أنواع هذا العلم
فالله يجزي من لها قد صنفا

 

أجل ما صنف في علم الأثر
وقربت قصيه للفهم
أعظم ما جازى به مصنفا

ولابنه تقي الدين أحمد بن محمد الشمني شرح على نظم والده سماه: (العالي الرتبة شرح نظم النخبة).

ممن نظمها أحمد بن إبراهيم بن نصر الله العسقلاني، وبرهان الدين محمد بن إبراهيم المقدشي، وشهاب الدين أحمد الطوفي، وشهاب الدين أحمد بن صدقة الصيرفي، ورضي الدين الغزي، وشرح الغزي هذا موجود ولحفيده شهاب الدين شرح على نظم جده.

وممن نظمها الشيخ: منصور الطبلاوي، ومن أهم منظومات النخبة نظم الأمير الصنعاني -رحمه الله- اسمه: (قصب السكر في نظم نخبة الفكر) وهو كتاب جميل فيه أكثر من مائتي بيت.

يقول الصنعاني -رحمه الله- لما تكلم عن النخبة:

ألفها الحافظ في حال السفر

 

وهو الشهاب بن علي بن حجر

ونسخ النظم تختلف من نسخة إلى أخرى، فهذا البيت –أظن- مروي على وجه آخر:

ألفها الحافظ ثاقب النظر
طالعتها يوماً من الأيامِ
فتم من بكرة ذاك اليومِ

 

وهو الشهاب بن علي بن حجر
فاشتقت أن أودعها نظامِ
إلى المساء عند قدوم النومِ

نظم النخبة في كم بيت؟ مائتين وزيادة، كم أخذت عليه؟ يوم واحد.

طالعتها يوماً من الأيامِ
فتم من بكرة ذاك اليومِ

 

فاشتقت أن أودعها نظامِ
إلى المساء عند قدوم النومِ

يوماً معمور بالعلم كعادتهم -رحمة الله عليهم-، بخلاف ما نشاهد ونلاحظه على طلاب العلم في هذه الأزمان، الشخص إذا قرأ ساعة أو أقرأ ساعة ظن أنه جاء بما لم تأتِ به الأوائل، وأن الأمة بكاملها لولا هذه الخدمة ما تيسر لها هذا النصر وهذا التمكين، الله المستعان.

ثم بعد هذه الساعة وقبل هذه الساعة يقضي وقته في القيل والقال، لكن على طالب العلم الحريص المتحري المشفق على نفسه أن يعمر وقته بطاعة الله، وتأصيل نفسه بالعلم الشرعي المتلقى من الكتاب والسنة، والله المستعان.

هذا النظم للأمير الصنعاني مشروح من قبل مؤلفه الصنعاني نفسه وشرحه مطبوع، شرحه أيضاً الشيخ: عبد الكريم بن مراد الأثري، ولي عليه شرح مبسوط.

ممن نظمها أيضاً الشيخ: عبد الله بن عمر اليماني، والشيخ عثمان بن سند البصري، وله شرح على نظمه أسماه: (الغرر شرح بهجة البصر).

طبعات النخبة:

النخبة وشرحها للحافظ ابن حجر طبعت مراراً وعليها تعليقات منها -بل من أقدمها غير الحواشي التي ذكرت سابقاً عند من تقدم- من أول من علق على النزهة شخص يقال له: أبو عبد الرحيم محمد كمال الدين الأدهمي، له تعليقات وله تنبيهات لطيفة ومفيدة، لكن في بعضها تحامل ظاهر على ابن حجر، هناك أيضاً حاشية وتعليق للدكتور نور الدين عتر، ولعلي بن حسن بن عبد الحميد الحلبي له أيضاً حواشي ونكت على النخبة وشرحها.

في مقدمة فتح الباري طبعة بولاق سنة (1301هـ) طبع على صفحة العنوان من هدي الساري طبع عليها ما نصه: "قال في الضوء اللامع في ترجمة الحافظ ابن حجر ما لفظه: "وسمعته يقول –يعني السخاوي يقول: "سمعت ابن حجر يقول: "لست راضياً عن شيء من تصانيفي لأني عملتها في ابتداء الأمر، ثم لم يتهيأ لي من تحريرها سوى شرح البخاري ومقدمته والمشتبه والتهذيب ولسان الميزان، بل كان يقول فيها: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أتقيد بالذهبي ولجعلته كتاباً مبتكراً"، يقول: "بل رأيته في مواضع أثنى على شرح البخاري -يعني وحق له ذلك- والتغليق والنخبة"، ثم قال: "وأما سائر المجموعات فهي كثيرة العدد، واهية العُدَد، ضعيفة القوى، ضامية الروى، ولكنها كما قال بعض الحفاظ من أهل المائة الخامسة:

ومالي فيه سوى أنني
وأرجو الثواب بكتب الصلاة

 

أراه هوىً وافق المقصدا
على السيد المصطفى أحمدا

وهذا الحافظ هو أبو بكر البرقاني، وقبل البيتين قوله:

أعلل نفسي بكتب الحديث
وأشغل نفسي بتصنيفه

 

وأحمد فيه لها الموعدا
وتخريجه دائماً سرمدا

وهذا الكلام المنسوب إلى الضوء اللامع لم أجده فيه، لم أجده في الضوء اللامع، بل هو موجود أو قريب منه في الجواهر و الدرر في ترجمة الحافظ ابن حجر للسخاوي، ويهمنا من ذلك أنه راضي عن النخبة.

طالب:.......

وفي لسان الميزان، اختصر كلام الحافظ الذهبي في ميزان الاعتدال، ثم زاد عليه، بدأ بتجريد كتاب الذهبي وذكر الزوائد ثم اضطرب في الترتيب؛ لأنه تبع كتاب آخر تقيد بكتاب آخر، لكن لو ألفه ابتداءً كان أجود؛ لأن الإنسان وهو يؤلف ابتداءً حر يرتب كيفما شاء، لكن إذا تقيد بالكتاب مشكلة لا بد أن يتبع ذلك الكتاب.

الدعوة إلى نبذ قواعد المتأخرين في مصطلح الحديث:

هناك دعوة تردد على ألسنة بعض طلبة العلم ممن يعتني بالحديث وعلومه ممن هم فيما نحسبهم -والله حسيبهم- من خيار طلاب العلم ولا يساء بهم الظن، هناك هذه الدعوة التي أثيرت قبل سنوات تدعو إلى نبذ قواعد المتأخرين في مصطلح الحديث، والأخذ مباشرة من كتب المتقدمين، لماذا؟ لأن قواعد المتأخرين قد تختلف أحياناً عن مناهج المتقدمين.

فلو أخذنا على سبيل المثال زيادة الثقة، تعارض الوصل والإرسال، تعارض الوقف مع الرفع، لوجدنا أن المتأخرين في كتبهم يحكمون بأحكام مطردة ثابتة، فيقبلون زيادة الثقة مطلقاً، وإن جنح بعضهم إلى ردها مطلقاً.

واقبل زيادات الثقات منهمُ

 

ومن سواهم فعليه المعظمُ

 "وقيل: لا"، ويحتج من قبل زيادة الثقة مطلقاً بأن معه زيادة علم خفيت على من نقص، كما أن من حكم للوصل مطلقاً يقول: معه زيادة خفيت على من أرسل، وهكذا الشأن فيمن حكم للرفع دون الوقف والعكس، يقول: ترد زيادة الثقة لأنها مشكوك فيها، القول الثاني: يحكم بالإرسال لأنه متيقن، والوصل مشكوك فيه، يحكم للوقف لأنه متيقن والرفع مشكوك فيه، وعلى هذا يطردون الأحكام على الأحاديث، بينما نجد الأئمة الكبار كأحمد والبخاري وأبي حاتم والدارقطني لا يحكمون بأحكام عامة مطردة، فتجدهم أحياناً يقبلون الزيادة وأحياناً يردونها، أحياناً يحكمون بالوصل وأحياناً يحكمون بالإرسال، أحياناً يحكمون بالوقف وأحياناً يحكمون بالرفع، فليس هناك لديهم قواعد مطردة، بل يحكمون على كل حديث بما ترجحه القرائن بالنسبة لهذا الحديث على وجه الخصوص، وهذه الدعوة إلى نبذ قواعد المتأخرين وتقليد المتقدمين أقول: في ظاهرها جيدة، لكن مخاطبة الطالب المبتدئ بها تضييع له، حينما يقال للطالب المبتدئ: انبذ قواعد المتأخرين، اترك النخبة، اترك ابن كثير والباعث، اترك ابن الصلاح وألفية العراقي، كيف يتعلم ويتمرن على علم المتقدمين؟ كيف يخاطب الطالب المبتدئ ويقال له: تبدأ بشرح علل الترمذي لابن رجب، أو تبدأ بالإلزامات والتتبع للدارقطني؟ هو ما يعرف الصحيح من الضعيف حتى يبدأ بمثل هذه الكتب.

وإذا قيل له: قلد المتقدمين، لا شك أن المتأخرين عالة على المتقدمين، والأصل في هذا الباب هم المتقدمون، لكن كيف نتعلم على كتب المتقدمين وعلى أحكام المتقدمين؟

طالب مبتدئ في حكم العامي كيف يتمرن على قواعد المتقدمين؟ لا بد من أن يتمرن على قواعد المتأخرين، ويضبط هذه القواعد ويتقنها، ثم يبدأ بنفسه يخرج وينظر في الأسانيد، وإذا أكثر من ذلك وتأهل وصارت لديه أهلية النظر، وتأهل لمحاكاة المتقدمين في أحكامهم على الحديث بالقرائن، لا بأس هذا فرضه؛ لأن المتأخرين عالة على المتقدمين.

فإذا أراد أن يحكم على حديث: ((لا نكاح إلا بولي)) كيف يحكم عليه؟ وقد حكم البخاري بوصله وأبو حاتم بإرساله؟ كيف يحكم على هذا الحديث؟ هل لديه أهلية لينظر بين أقوال أهل العلم بالقرائن فيرجح ما ترجحه القرائن، ماذا عنده من القرائن؟ أئمة كبار يحفظون مئات الألوف من الأحاديث، يكفيهم من الحديث شمه من أجل أن يحكموا عليه، أحكام المتقدمين فرع عن علم المتقدمين، علم المتقدمين قليل جداً، إيش معنى قليل؟ قليل الكلام وهو علم مبارك، يعني ما تركوا شيء ما حكموا عليه لكنه مبارك، من يطالع في: (فضل علم السلف على الخلف) للحافظ ابن رجب -رحمه الله- عرف كيف يحكم المتقدمون؟ وكيف يفتي المتقدمون؟ بينما علم المتأخرين كثير، كثير جداً، تجده إذا أراد أن يشرح مسألة يأخذ عليها ساعة، ويكتفي المتقدم بكلمة.

يقول ابن رجب -رحمه الله تعالى-: "من فضل عالماً على آخر بكثرة الكلام فقد فضل الخلف على السلف" ونحن نبهر إذا وجدنا الشخص واضح العبارة بين الأسلوب، وماذا وراء ذلك من العلم والعمل؟! والله المستعان.

أعود إلى المسألة فأقول: إذا كان الطالب ينصح وهو مبتدئ بمحاكاة المتقدمين في أحكامهم على الأحاديث، حديث: ((لا نكاح إلا بولي)) حكم الإمام البخاري بوصله وحكم أبو حاتم بإرساله بما تحكم أنت؟ هل أنت مطالب بتقليد الأئمة في كل حديث تبعاً لهذه الدعوى؟ الأئمة ما اتفقوا في الحكم على حديث واحد، كيف تقلدهم؟ تقلد من؟ هل لديك أهلية وأنت مبتدئ أن تقول: أنا أقلد الإمام أحمد أو أقلد البخاري بإطلاق؟ ما استفدت قد يكون الصواب مع البخاري أو مع أحمد أحياناً.

إذا حكم البخاري بأن حديث رفع اليدين بعد الركعتين مرفوع إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-، واعتمد عليه من حديث ابن عمر في صحيحه وحكم عليه الإمام أحمد بالوقف تقلد من من المتقدمين؟ إن كان المقصود تقليد المتقدمين في كل حديث حديث فلا شك أنه مستحيل؛ لأن أحكام المتقدمين متباينة في الأحكام على الحديث، بل وفي أحكامهم على الرجال، فمن نقلد من المتقدمين؟ إن كان المقصود محاكاة المتقدمين في أحكامهم على الأحاديث فنقول: كلام جميل وطيب وممكن، لكن كيف مبتدئ؟ كيف يحاكي المتقدمين فيحكم على الحديث بالقرائن وهو ما يعرف القرائن؟ قد يكون الشاهد لهذا الحديث أو المتابع لهذا الحديث بعد ورقة من الحديث الذي يدرسه، وهو لا يعرفه ولم يطلع عليه، كيف يحكم على الأحاديث بالقرائن؟ نقول: لا بد من معاناة كتب المتأخرين، وإدامة النظر فيها وفهمها وإتقانها ثم بعد ذلكم التمرين والتخرج على هذه الكتب بالإكثار من تخريج الأحاديث، ودراسة أسانيدها، وجمع طرقها وشواهدها ومتابعاتها، ثم بعد ذلكم إذا تأهل الطالب يقال له: فرضك محاكاة المتقدمين ولا تقلد المتأخرين، ونظير هذه الدعوى دعوى سبقتها بأكثر من عشرين سنة تدعو إلى نبذ كتب الفقه والتفقه مباشرة من الكتاب والسنة، لا نختلف مع أحد في أن الأصل الكتاب والسنة، وأنه لا علم إلا من الكتاب والسنة، لكن كيف يتفقه الطالب المبتدئ من الكتاب والسنة؟ هل لديه من الأهلية ما يمكنه من ذلك؟ هل حفظ من النصوص ما يدفع به التعارض ويتمكن من الجمع بينها؟ هل عرف المطلق والمقيد، والناسخ والمنسوخ، والعموم والخصوص؟ هذا الطالب الذي يخاطب بمثل هذا الكلام، اترك كتب الفقه، هذه أقوال الرجال، بل وجد من أحرق بعض الكتب كالزاد وغيره، ويتندرون بطلاب العلم ويقولون لمن حفظ الزاد: صار حكماً بين العباد، مبالغة في التنفير من هذه الكتب، نقول: لا، الطالب المبتدئ لا بد أن يتفقه على الجادة، فيفهم الزاد، أو غيره من الكتب، من غير إلزام بكتاب معين، المقصود أنه يسلك الجادة، يأتي إلى الزاد وهو على سبيل المثال من أجمع الكتب، والزاد من أجمع الكتب وأكثرها مسائل، يأتي إليه الطالب فيفهم المسائل، إن كان ممن تسعفه الحافظة فيحفظ وإلا يقتصر على الفهم، يأتي إلى الزاد مسألة مسألة فينظر في هذه المسألة في قول المؤلف كذا، يراجع الشرح، يتصور المسألة على وجهها، يستدل لهذه المسألة، يلتمس الدليل لهذه المسألة، ثم ينظر من قال بما قاله المؤلف من أهل العلم؟ وبما استدلوا؟ من خالف هذا القول؟ وبما استدل؟ ثم يوازن بين الأدلة، وهذه مرحلة لاحقة، يعني المبتدئ يكفيه أن يعرف هذه المسائل ويتصورها على الوجه الصحيح ثم مرحلة ثانية يستدل لهذه المسائل، ثم مرحلة ثالثة يقارن بين أقوال الأئمة مع أدلتها، ويرجح القول الراجح إذا تأهل، ليس معنى هذا أن الزاد دستور مثل القرآن لا يحاد عنه، لا، الزاد فيه أكثر من ثلاثين مسألة خالف فيها المذهب، فضلاً عن القول الراجح، حينما ينصح بالزاد أو بغيره من الكتب ليس معنى هذا أنها ضربة لازب، لا، لا يحاد عنها، إنما يتمرن عليه، مثل خطة البحث، تتخذ هذا الكتاب خطة ومنهج تسير عليه، تتفقه عليه، فإذا تصورت مسائله وذكرت الأدلة وعرفت من خالف بدليله واستطعت أن توازين بين الأقوال بأدلتها، ورجحت القول الراجح وما تدين الله به، وهذه –مثلما ذكرنا- مرحلة ثالثة، حينئذ تتأهل لأن تتفقه من الكتاب والسنة، أما تتفقه من الكتاب والسنة كيف تتفقه منه؟ تجد آية عامة تخصيصها في حديث مثلاً قد لا تقف عليه إلا بعد سنوات، تجد آية مطلقة حديثها مقيدها حديث لا تقف عليه إلا بعد مدة طويلة، حديث تنظر فيه في أوائل صحيح البخاري لا تقف على ناسخه إلا آخر ابن ماجه، متى تتفقه على الكتاب والسنة؟ نعم إذا تأهلت فرضك الاجتهاد، ولا يجوز لك أن تقلد الرجال، إذا تأهلت لكن قبل أن تتأهل الطالب المبتدئ في حكم العامي فرضه التقليد، اسألوا أهل الذكر، فرضه سؤال أهل العلم، في حكم العامي، لكن إذا تأهل، يعني شخص يقرأ في كتاب من كتب السنة: باب الأمر بقتل الكلاب، ويتفقه من السنة، ثم يأخذ المسدس وما شاف من كلب قتله، درسه في الكتاب نفسه من الغد: باب نسخ الأمر بقتل الكلاب، فمثل هذا يتفقه من الكتاب والسنة؟ وفي كتب الفقه مباشرة والأمر بقتل الكلاب منسوخ ينتهي الإشكال، ينظر كيف جاء الأمر بقتل الكلاب؟ من خلال هذه الجملة ينظر في أحاديث..، لأنه دُل على أن هناك أمر بقتل الكلاب، ودُل من خلال هذه الجملة أن هناك نسخ لهذا الأمر بجملة واحدة، لا يعني هذا أننا ندعو إلى التقليد، لا والله، بل فرض طالب العلم المتأهل الاجتهاد، الاجتهاد حسب القدرة والطاقة، وإلا الاجتهاد المطلق لو قيل باستحالته لما بعد، وقد أغلقه الأئمة من قديم، أغلقه العلماء، أغلقوا باب الاجتهاد، لكنه مفتوح، وشرطوا له شرائط، لكن إيش معنى الاجتهاد المطلق الذي هو مفتوح؟ هل معناه الاجتهاد في كل مسألة مسألة بجميع ما تطلبه هذه المسألة؟ يعني إذا أردنا حكم من الأحكام وبحثنا فيما جاء في هذا الحكم من نصوص جئنا إلى ما جاء في القرآن، جئنا إلى ما ذكر في السنة من أحاديث وجمعنا طرق هذه الأحاديث ونظرنا في رجال هذه الطرق واحداً بعد واحد، فبدأنا بأول إسناد وفيه خمسة ستة من الرواة، ولك راوٍ من الرواة فيه أقوال تصل أحياناً إلى العشرين عن أهل العلم، عن أهل الشأن.

فإن أردت أن تحكم على هؤلاء الخمسة والستة والسبعة من خلال هذه الأقوال العشرين، وأردت أن ترجح وتوازن بين هذه الأقوال، الراوي الواحد يحتاج إلى وقت طويل، ثم الذي يليه، ثم الذي يليه، ثم الذي يليه، إلى ستة، ثم بعد ذلكم الطريقة الثاني، إن احتجت إليه، ثم الثالث إن احتجت إليه، وهكذا، وهذا كله في مسألة واحدة تأتي إلى المسألة التي تليها فتصنع بها مثل ما صنعت بالمسألة الأولى، هذا إذا أردت أن تجتهد في الاستنباط وفي إثبات عمدة الاستنباط،.... إثبات الدليل، لا شك أن هذا يحتاج إلى وقت طويل.

وإذا عرفنا أن شيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز أو الألباني أو غيرهما -رحمة الله على الجميع- ممن يشار إليه بالتفرد في هذا العلم لم يخرجوا عن ربقة التقليد في هذا العلم، كيف ذلك؟

أنت إذا أردت أن تجمع حديث بطرقه يمكن يجتمع لك من الرجال في هذا الحديث في مجموع طرقه أكثر من مائة رجل، مائة رجل في كل راوٍ ثلاثة أقوال خمسة عشرة، وصل بعضهم إلى عشرين، كم عندك من قول لأهل العلم في حديث واحد، في رواة هذا الحديث، قد تتداخل بعض الطرق مع بعض، لكن افرض أن عندك كم؟ كمٍ هائل، ألف قول لرجال طرق هذا الحديث، تحتاج إلى عمر، فأنت إن اتجهت إلى هذا وعنيت بالرواية لا شك أنه على حساب الدراية، وهذا ظاهر في صنيع من؟ الألباني -رحمه الله تعالى-.

وإن اتجهت إلى الدراية مع العناية بالاعتماد على الكتاب والسنة لا شك أنه على حساب الرواية، وهذا ما يصنعه الشيخ عبد العزيز -رحمه الله-، يكفيه أن يثبت الخبر، أو يثبته أحد الأئمة، وهما –أعني الشيخ عبد العزيز والشيخ الألباني -رحمة الله على الجميع- يعتمدان اعتماداً أغلبياً على التقريب، وهذا تقليد ما خرجنا من التقليد؛ لأن التقريب يحكي وجهة نظر ابن حجر -رحمه الله-، تجد هناك التقريب التقريب، وهو عمدة كثير من أهل العلم، لكن نضرب مثال بهذين الإمامين لأنهما بلغا الغاية في نظرنا، وأفنيا العمر الطويل في خدمة هذا العلم، فإذا أردنا أن نقلد ابن حجر في الحكم على الرجال -ولا مفر من التقليد- رأينا أن ابن حجر أيضاً وقعت له أوهام في التقريب، له أوهام في التقريب، ليس بمعصوم.

على كل حال على الإنسان أن يسلك الجادة ويتمرن والعلم يجتمع شيئاً فشيئاً، وإذا علم الله -سبحانه وتعالى- صدق النية أعان، وإذا كان الإنسان ممن أوتي الحافظة مع الفهم وأخلص وصدق النية مع الله -سبحانه وتعالى-، وسلك الطريق المتبع عند أهل العلم فإنه يرجى له أن يحتاج إليه في يوم من الأيام، أما إذا كان يتخبط يوم كذا ويوم كذا ويوم كذا، فهذا في الغالب وإن أوتي ذكاءً أو أوتي حفظاً فإنه في الغالب يضيع وقته متردد متحير، ولا نسيء الظن بالإخوة الذين يدعون إلى تقليد الأئمة، نقول: الأئمة هم الأصل، لكن الطالب المبتدئ كيف يخاطب بأن يبدأ شرح علل الترمذي؟ والعلل أغمض أنواع علوم الحديث، كيف يشرح لطلاب مبتدئين الإلزامات والتتبع للدارقطني؟ لا يا أخي، مرن الطلاب على صغار العلم قبل كباره لتكون ربانياً، والرباني كما قال ابن عباس: "من يعلم الناس صغار العلم قبل كباره"، يعني لو أن شخص سمع كلام الحافظ ابن كثير بعلل الدارقطني، وقال: "ما دام هذا الكتاب العظيم بهذه المثابة لماذا لا أعتني بهذا الكتاب؟" وهو مبتدئ، نقول: لا تلبث أن تنقطع، أولاً: لن تفهم، الأمر الثاني: تبي تنقطع ولا بد، لو سمع آخر ثناء ابن القيم على درء تعارض العقل والنقل لشيخ الإسلام.

واقرأ كتاب العقل والنقل الذي

 

ما في الوجود له نظير ثانِ

يقول: هذا الكتاب ما دام ما في الوجود له نظير ثان لماذا لا أعتني به؟ والله لن يستمر في قراءة هذا الكتاب، وإذا كان من شهد له بالتقدم في هذا العلم، وبخبرة تامة بكلام شيخ الإسلام يطوي عشرات الصفحات لا يفهمها من هذا الكتاب فيكف بالطالب المبتدئ؟ وهذا مثال نضربه في كل العلوم يمشي الطالب متدرج الأصغر ثم الأكبر وهكذا، نعم بهذه الطريقة يستطيع الطالب التحصيل.

كتاب: (المنهج المقترح لفهم المصطلح) للعوني:

من هذه الكتب التي ظهرت في الأخير تنادي بالتقليل من شأن كتب علوم الحديث كتاب ألفه الشريف حاتم بن عارف العوني سماه: (المنهج المقترح لفهم المصطلح - دراسة تاريخية تأصيلية لمصطلح الحديث) والكتاب حقيقة يدل على حرص من الرجل، وهو معروف بذلك ومن خيار طلاب العلم فيما نحسبه، وعلى دقة فهم وسبر واستقراء، لكن هو مثل ما ذكرت لكم مثل هذه الدعوة لا توجه إلى مبتدئين.

انتقد المؤلف فيه بعض المصطلحات التي شاع استعمالها عند المتأخرين كالمتواتر والآحاد، وغيرهما وشدد في هذه المسألة، وهي مجرد اصطلاح، والخلاف فيها لفظي، ولا مشاحة في الاصطلاح، إذ لا نزاع بين أحد من أهل العلم بل ومن العامة أن الأخبار متفاوتة، الخبر الذي يأتيك من قبل ثلاثة ما هو مثل الخبر الذي يأتيك من قبل واحد، الخبر الذي تسمعه من مائة ما هو مثل الخبر الذي تسمعه من عشرة، الأخبار متفاوتة.

كون أهل العلم اصطلحوا على أن الخبر الذي يأتي بطرق كثيرة جداً يسمونه متواتر، والتي أقل منها آحاد هذا مجرد اصطلاح، وهم يقررون ألا مشاحة في الاصطلاح، يعني التسميات وجدت في العلوم كلها.

نأتي إلى النحو، هل يوجد من العرب من قال: إن هذا فاعل وهذا مفعول؟ نعم، ما في من قال: هذا حال وهذا تمييز؟ ما في أحد قال هذا، لكنهم..، لكن العلماء الذين صنفوا في النحو فهموا من هذا اللفظ أنه يبين هيئة الفاعل فسموه حال، وأنه وقع منه الفعل فسموه فاعل، الأول سموه حال والثاني سموه فاعل، الثاني وقع عليه الفعل فسموه مفعول وهكذا، فهذه اصطلاحات، وأهل العلم يقررون ألا مشاحة في الاصطلاح، لا مشاحة في الاصطلاح، اللهم إلا إذا تضمن الاصطلاح مخالفة لما تقرر في أي علم من العلوم بحيث يحصل فيه الإيهام والتلبيس مثل هذا يمنع ويشاحح صاحبه، لو قال: أنا باصطلح لنفسي أن أسمي الشمال جنوب والجنوب شمال، نقول: لا، لا يا أخي ما يصلح، يُشاحح في اصطلاحه، نسمي المشرق مغرب والمغرب مشرق، نقول: لا، كيف تصنع بحديث: ((بين المشرق والمغرب قبلة))؟ لو قال: أنا باصطلح لنفسي أألف في الجغرافيا وأقول: السماء تحت والأرض فوق، نقول: لا، لكن لو قال: أنا لا أغير من الواقع شيء الشمال شمال والجنوب جنوب، الشرق شرق والغرب غرب، لكن إذا رسمت الخارطة بدل الناس ما يحطون الشمال فوق بالخارطة أنا با قلبها، هذا ما يغير من الواقع شيء، نقول: اقلبها خلي الجنوب فوق ما يضر، لو قال: أنا أسمي جد الأولاد أبو الزوجة عم، نقول: سمه عم ما يخالف؛ لأنه ما يترتب عليه شيء، لو قال: أسميه خال، قلنا له: كذلك سميه ما شئت؛ لأنه ما يترتب عليه تغيير حكم، لكن لو قال: أنا با ألف في الفرائض وبا أسمي أخ الأب خال وأخ الأم عم، قلنا: لا، قف، يُشاحح في اصطلاحه؛ لأن هذا يغير الأحكام.

ولذا لما البغوي -رحمه الله- اصطلح في كتابه: (المصابيح)، وقسم أحاديثه إلى قسمين: الصحاح والحسان.

والبغوي إذ قسم المصابحا
أن الحسان ما رووه في السنن

 

إلى الصحاح والحسان جانحا
رد عليه إذا بها غير الحسن

 يرد عليه، يشاحح؛ لأن السنن ما هي بكل أحاديث حسان فيها صحاح وفيها ضعاف، فيرد مثل هذا الاصطلاح.

تقسيم الأخبار إلى متواتر وآحاد إيش المحظور منه؟ المحظور شيء واحد وهو أن خبر الواحد عند المبتدعة لا يثبت به عقائد، فنفي كثير من مسائل الاعتقاد بهذه الحجة أنه خبر واحد وخبر الواحد..، نقول: لا، خبر الواحد تثبت به الحجة، ويقبل في العقائد والأحكام وغيرها، وهو خبر آحاد، نسميه آحاد ولا نلتزم باللازم الباطل.

شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- وهو من أئمة أهل السنة، ومن أشد الناس على البدع والمبتدعة، يقسم الأخبار إلى متواتر وآحاد، ويمثل بالأمثلة نفسها التي يمثل بها أهل العلم، مثل للمتواتر بحديث: ((من كذب)) ويمثل به أهل العلم متواتر لفظي.

ومثل للمتواتر المعنوي بفضائل أبي بكر وعمر، قال: متواترة تواتر معنوي، بدل من أن يمثل بأحاديث الحوض والشفاعة والمسح على الخفين مثل بمثال يناسب الكتاب الذي يتحدث فيه، مثل بفضائل أبي بكر وعمر، قال: متواترة تواتر معنوي، إذاً شيخ الإسلام يقسم الأخبار إلى متواتر وآحاد، ويمثل بأمثلة يمثل بها أهل العلم، لا نختلف مع شيخ الإسلام أن فضائل أبي بكر وعمر متواترة تواتر معنوي، يعني مفرداتها آحاد، لكن بمجموعها متواترة تواتر معنوي.

فلا محظور من أن نقسم الأخبار إلى متواتر وآحاد، وسيأتي مزيد بسط لذلك عند الكلام على المتواتر والآحاد -إن شاء الله تعالى-.

أقول: أكثر ما يخاف من استعمال بعض المصطلحات الالتزام بلوازمها الباطلة عند المخالفين من المتكلمين كقولهم: إن الآحاد لا يفيد إلا الظن، والعقائد لا تثبت بالآحاد تعباً لذلك، وسيأتي ما يفيده خبر الواحد -إن شاء الله تعالى-، وأنه إذا تجرد عن القرائن لا يفيد إلا الظن، ومع كونه لا يفيد إلا الظن يجب العمل به، وتثبت به العقائد، وتثبت به الأحكام والفضائل وغيرها من فروع الشرع.

يقول الشيخ أحمد شاكر بعد أن اعتمد التقسيم: "ودع عنك تفريق المتكلمين في اصطلاحاتهم بين العلم والظن فإنما يريدون بهما معنى آخر غير ما نريد"، ونقرر في إفادة هذا العلم -إفادة هذا الظن- أن المعلومات الناتجة عن هذه الأدلة متفاوتة وهم يريدون أن يفرقوا بين ما يثبت به العقيدة وما لا تثبت به العقيدة، يقول: "دع عنك تفريق المتكلمين في اصطلاحاتهم بين العلم والظن، فإنما يريدون بهما معنى آخر غير ما نريد"، لكن إذا تنصلنا عن اللازم فلا شيء في إثبات التقسيم، وقد اعتمده أهل العلم.

الظن جاء في النصوص الشرعية لمعان كثيرة، فقد جاء بمعنى اليقين، كما في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ} [(46) سورة البقرة] {وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ} [(28) سورة القيامة] {أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ} [(4) سورة المطففين] هنا ما يكفي الظن الذي هو الاحتمال الراجح، بل لا بد من اليقين.

ولذا قال الراغب الأصبهاني في المفردات: "الظن اسم لما يحصل عن أمارة، ومتى قويت -يعني الأمارة- أدت إلى العلم، ومتى ضعفت جداً لم تتجاوز حد التوهم"، لا شك أن الأخبار تتفاوت، فإذا جاءك شخص وقال: جاء زيد فمدى ثقتك بهذا المخبر يقوى صحة الخبر عندك، إيش نسبة صحة الخبر عندك؟ حسب ثقتك بهذا الرجل، فإذا انضم إليه آخر قوي الاحتمال، إذا انضم إليه ثالث وهكذا.

وفي البصائر -بصائر ذوي التمييز للفيروز آبادي-: "قد ورد الظن في القرآن مجملاً على أربعة أوجه: بمعنى اليقين، وبمعنى الشك، وبمعنى التهمة، وبمعنى الحسبان، فالذي بمعنى اليقين في عشرة مواضع" فذكر ما تقدم وزاد عليه، وأما الذي بمعنى الشك والتهمة فعلى وجوه مختلفة، {فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ} [(87) سورة الأنبياء] {مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ} [(15) سورة الحـج] {إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} [(78) سورة البقرة].

فإذا قلنا: بأن ما دون المتواتر يفيد الظن، وقلنا: بأن الآحاد تثبت به العقائد والأحكام والفضائل وجميع ما ينسب إلى الشرع، فما المانع من ذلك؟

الكتاب المذكور -المنهج المقترح- تناول بعض كتب المصطلح، فذكر المحدث الفاصل وأشاد به، ثم قال: "غير أنه فقير في باب أقسام الحديث وشرح مصطلحاته"، إذاً نحن بحاجة إلى تقسيم الحديث، ونحن بحاجة أيضاً إلى شرح مصطلحات هذا التقسيم، وهذا ما تولاه المتأخرون الذين انتقد كتبهم، "حيث لم يكن ذلك من أغراض مصنفه".

ثم ذكر كتاب الحاكم (معرفة علوم الحديث) وذكر أنه مختص بما كان أهمله الرامهرمزي من الاعتناء بمصطلح الحديث، وشرح معناه، وضرب الأمثلة له، وقد صار في ذلك كله على فهم أهل الحديث أنفسهم؛ لأن الحاكم يعلم أن غير أهل هذا العلم وغير أهل السنة، وغير المتبحر في صنعة الحديث وغير الفرسان نقاد الحديث لا يفقه هذا العلم كما كان يعبر الحاكم بذلك كثيراً، وعلى هذا المنهج نفسه في الأغلب صنف الحافظ أبو نعيم الأصبهاني مستخرجه على معرفة علوم الحديث للحاكم؛ لأن طبيعة المستخرجات تلزم بذلك.

ثم تحدث –أعني صاحب المنهج المقترح- عن الخطيب ومؤلفاته، ثم قال: "فهل سار الخطيب على المنهج السليم في شرح مصطلح الحديث؟" يجيب عن ذلك الخطيب نفسه في مقدمة الكفاية في حين ذكر السبب في تصنيف الكتاب، قال: "وقد استفرغت طائفة من أهل زماننا وسعها في كتب الحديث والمثابرة على جمعه من غير أن يسلكوا مسلك المتقدمين، وينظروا نظر السلف الماضين في حال الراوي والمروي، وتمييز المرذول والمرضي..." هذا هو المنهج النظري الذي قرره الخطيب في مقدمة كتابه.

يقول صاحب الكتاب: "إلا أنه لم ينجُ تماماً من أثر العلوم العقلية على علوم الحديث الذي توسع نطاقه في عصره فهو ابن عصره".

ثم تحدث عن أثر أصول الفقه في كتابه، ثم قال: "وهذا التأثر من الخطيب بأصول الفقه مع وضوحه" يقول: إن الخطيب تأثر بأصول الفقه، يعني ويريد أن يقرر أن كتب أصول الفقه تأثرت بكتب الكلام، علم الكلام، يقول: "وهذا التأثر من الخطيب بأصول الفقه مع وضوحه إلا أن إمامته في علم الحديث وعدم تعمق أثر أصول الفقه عليه جعل ذلك الأثر الأصولي على كتابه غير مخوف؛ لأنه أثر مفضوح لا يشتبه بعلوم الحديث ومسائله عند أهل الاصطلاح التي ملأ الخطيب غالب كتابه بها" كذا قال.

ولا أدري كيف صار تأثر بعض العلوم الشرعية ببعض عيباً وشيناً يعاب به من مزج بين هذه العلوم التي هي في الأصل علوم مترابطة لا غنى لبعضها عن بعض؟ كيف وعلماء الأصول -لا سيما الأوائل منهم- هم المفسرون وهم المحدثون كالشافعي وغيره؟! وهل الأصول إلا قواعد استنبطها أتباع الأئمة من أقوالهم وتصرفاتهم؟ وهؤلاء الأئمة أرباب المذاهب هم أصحاب الحديث كمالك والشافعي وأحمد، وهم حملة رايته وهم المفسرون كالبخاري وابن أبي حاتم والطبري وغيرهم، ثم إن كثيراً من مباحث الأصول المدونة في كتب الأصول تشارك ما يبحثه المحدثون في علوم الحديث لا سيما ما يتعلق بالسنة منها، يعني وتشارك علوم القرآن فيما يتعلق بالأصل الأول الذي هو الكتاب.

نعم كثير من كبت الأصول تأثر بعلم الكلام والجدل، ولكنه لا يعدو أن يكون تأثراً في كيفية العرض والوسيلة دون المقصد، ثم إن علم الأصول كغيره من علوم الوسائل التي يسميها بعضهم علوم الآلة هي وسائل لغيرها كالعربية وعلوم القرآن وأصول الحديث، لا ينبغي لطالب العلم أن يفرغ نفسه لها دون مقاصدها، يعني الأصل حينما تدرس علوم القرآن، تدرسه لماذا؟ لكي يخدم الأصل، الذي هو القرآن، تدرس علوم الحديث لكي تفهم وتستطيع أن توازن بين الأحاديث، تعرف المقبول من المردود، إذاً هذا وسيلة وليس بغاية، فأنت إذا فهمت الوسيلة وألقيت بثقلك –بكليتك- على الغاية ما ضرتك هذه الوسيلة -إن شاء الله تعالى-.

"فإنها إنما دونها العلماء لتكون وسائل لفهم المقاصد التي هي نصوص الكتاب والسنة، وما يستنبط منهما، وما يستند إليهما".

ثم ذكر صاحب الكتاب الإرشاد للخليلي وذكر مقدمته وأنها من معين المحدثين، ثم تحدث عن البيهقي في المدخل ومقدمة دلائل النبوة، ومقدمة معرفة السنن والآثار، وانتقد ما ينتقد فيها من تأثير النزعة الأصولية بل والأشعرية.

ثم ذكر مقدمة ابن عبد البر لكتابه التمهيد وذمه أهل الكلام والأشعرية، ثم قال: "وعلى هذا فلن يكون للمذاهب الكلامية أثر على ابن عبد البر من جهة العقيدة، لكن ابن عبد البر ممن استبق جيلهم التأثر بأصول الفقه، وهو ابن جيله، فلا بد أن يكون لأصول الفقه أثر عليه.

يعني كون الشخص لأصول الفقه أثر عليه يذم؟ يا أخي علم الكلام وهو علم الكلام المذموم الذي ذمه السلف اطلع عليه أهل العلم، بل من أهل العلم من عرفه أكثر من أهله، وأتقنه وضبطه أكثر من أهله، ونفع الله به نفعاً عظيماً.

شيخ الإسلام ابن تيمية كيف يتسنى له أن يرد على المتكلمين؟ يعني كون العلوم تعرض بعرض مناسب لفهم أهل العصر وكل عصر له طريقته ومنهجه، يعني إذا قارنت بين التأليف عند المتقدمين وعند المتوسطين وعند المتأخرين، تجد فرق كبير جداً جداً، من سيؤلف على طريقة الشافعي في الرسالة؟ أو على طريقته في الأم؟ المتأخرون لما تحيروا في فهم طريقة التأليف عند المتقدمين اضطربوا، شخص يؤلف كتاب اسمه: (إصلاح أشنع خطأ في تاريخ التشريع الإسلامي الأم ليست للإمام الشافعي) إصلاح أشنع خطأ في تاريخ التشريع الإسلام الأم يعني ليس من تصنيف الإمام الشافعي، إيش الكلام هذا؟ لماذا؟ لأنه ما يعرف كيف يؤلف المتقدمون، يعني إذا جئت إلى المسند هل يتردد أحد في الحلف على أن المسند للإمام أحمد؟ نعم، ما في أحد بيتردد، إذا قيل: المسند لمن؟ قال: للإمام أحمد وأقسم على ذلك، الرسالة للإمام الشافعي مثل الأم، والعلة التي في الأم موجودة قي الرسالة، وموجودة في المسند، وموجودة في الموطأ، وموجودة في كتب المتقدمين كلهم، يعني كون الأم فيها قال الربيع: قال الشافعي يعني الأم ليس للشافعي؟

المسند على كبره كله قال عبد الله: حدثني أبي، جهل بطريقة المتقدمين في التأليف، لو ألف شخص من المعاصرين على طريقة المتقدمين، اتجهت ألسنة الناس إليه بالذم والقدح، الطريقة تختلف تماماً أن الإنسان يكتب كتابه بنفسه أو يمليه على غيره ولا يثبت اسم الطالب عنه، المتقدمون يثبتون اسم الطالب؛ لأنها أنساب الكتب هذه.

أقول: كون الإنسان يقرأ العلوم لا سيما ما يحتاج إليه للذب عن الكتاب والسنة كعلم الكلام مثل هذا الأمور بمقاصدها، قرأ علم الكلام لأي شيء؟ لكي يرد على المتكلمين يؤجر، شريطة ألا يتأثر بهذا العلم، أما إذا خشي على نفسه فلا يجوز له أن ينظر في هذا العلم، أما إذا كان ممن لديه من الفهم ما يؤهله لفهم هذا العلم وعنده من العلم الشرعي ما يكون سبباً في تحصينه من التأثر بهذا العلم المحدث فإنه حينئذ لا مانع من أن يقرأ في هذا العلم وينقد هذا العلم، وشيخ الإسلام صنع ذلك، وإن كان عموم طلاب العلم ليسو بحاجة إليه، قد يحتاج إليه بعض الناس دون بعض، يعني كما تحتاج الأمة إلى مترجمين بلغات، لكن الأمة ليست بحاجة إلى أن يكونوا كلهم يتقنون اللغات لنطلع على ما عند الأعداء من خطط، ونرد عليهم شبههم، لا بد أن نعرف لغاتهم، لكن يتصدى لذلك أفراد من الناس تقوم بهم الحاجة، ومثله ما نحن بصدده من معرفة علم الكلام.

وأشد الناس انتقاد ومنع وتحريم لعلم الكلام من ينتقدهم ابن الصلاح ومن جاء بعده.

فابن الصلاح والنووي حرما

 

...................................

يعني حرما النظر في علم الكلام.

...................................

 

وقال قوم: ينبغي أن يعلما
ج

 المقصود أن مثل هذا نقول: الأمور بمقاصدها، شخص يقرأ الإنجيل ليرد على النصارى من خلاله، شخص يقرأ كتب المبتدعة، يقرأ كتب الرافضة ليرد عليهم، نقول: أنت تنظر في كتب المبتدعة؟ الأمور بمقاصدها، كون بعض هذه الأمور الشكلية التي أثرت في كيفية عرض العلم دخلت إلينا وافدة لا شك أن الذي ينفع استفاد، لكن الكلام في جوهر العلم هل تأثر وإلا ما تأثر؟ ما تأثر.

يقول: "أما التأثر بالمنطق وصناعة المعرفات فلم يظهر لها أثر على ابن عبد البر في شرحه للمصطلحات وتعريفها".

لو نظرنا في كتب المتقدمين هل نجد الإمام أحمد حينما يدون عنه الفقه هل نجده في كل باب تعريفه لغة واصطلاحاً؟ ما يعرف شيء إطلاقاً إنما يقتصر على الأحكام، الشافعي كذلك، مالك كذلك، كل الأئمة المتقدمين على هذا، بينما في كتب المتأخرين أول ما يبدءون بالتعريف لغة واصطلاحاً، والرابط بين التعريف اللغوي والاصطلاحي، نقول: تجرد الكتب من التعريفات لأنها وافدة؟ نقول: هذا وإلا ما نقول؟ ما نقول هذا، احتجنا إلى مثل هذا، كانت هذه المصطلحات عندهم بدهية، ما يحتاجون إلى تدوينها، لما احتاجها المتأخرون دونوها، نقول: هذه طريقة محدثة عند المتأخرين لا بد أن نحاكي المتقدمين فيها؟ لا، ما يلزم يا أخي.

ويعلم الله -سبحانه وتعالى- أنني لا أقصد القدح بهذا الرجل، بل هو من خير من عرفت من طلاب العلم في هذا الشأن هو وأمثاله ممن يقول بهذا الكلام، إنما أريد أن أوضح الحقيقة، وقد طلب مني ردود مستقلة على كتبه فرفضت؛ لأنه ليس من منهجي أن أتصدى وأقصد الرد على شخص بعينه، لا سيما من أعرف منه حسن المقصد، لكن كون الكلام يأتي عرضاً، هم تكلموا في النخبة كلاماً طويلاً، حتى قال بعضهم: "هي زبالة كتب المصطلح" فاحتجنا إلى أن نقول مثل هذا الكلام، نعم احتجنا إلى أن نقول مثل هذا الكلام عرضاً لا نذكره استقلالاً؛ لأنه ليس من المنهج المستقيم عند أهل العلم أن يتصدى للكتب النافعة التي عظم نفعها فتبرز مساويها، لا، من الذي يسلم من الأخطاء؟ لا أحد يسلم من الأخطاء، يعني لو أظهرنا أخطاء ابن حجر في فتح الباري في مجلد، أنا عندي استعداد أبرزه في مجلد كبير، سواءً كان في العقائد أو في أحكامه على الأحاديث، أو في أحكامه في الاستنباط وغيرها، لكن إذا رأى الطالب المبتدئ هذا المجلد وقال: هذا مجلد كبير في أخطاء هذا الكتاب، قال: ليش أقرأ كتاب كل هذه الأخطاء فيه؟ فنزهد طالب العلم بهذا الكتاب مع أنه عظم نفعه، لو أردنا أن نجرد أخطاء النووي في شرح مسلم كذلك، أخطاء القرطبي في تفسيره كذلك، لكن لا مانع أن يعلق على هذه الكتب على فخامتها بتنبيهات يسيرة يعني كما فعل الشيخ ابن باز -رحمة الله عليه-، لا مانع أن نعلق على النووي، لا مانع أن علق على القرطبي وهكذا، يبين الحق لا بد من بيان الحق، لكن إبراز المساوئ بهذه الطريقة بحيث نزهد طلاب العلم بهذه الكتب هذا ليس بمنهج، نعم إذا عظم الضرر بالكتاب، وصار ضرره أعظم من نفعه لا مانع أن يصرف عنه طلاب العلم، لا مانع أن تبرز أخطاء الزمخشري في الكشاف، لا مانع أن تبرز أخطاء الرازي في تفسيره؛ لأن الضرر من هذين الكتابين على طلاب العلم أكبر من نفعهما، فكون طالب العلم يزهد في تفسير الكشاف أو تفسير الرازي لن يخسر شيء، لكن كونه يزهد في فتح الباري هذه مشكلة.

ثم انتقل المؤلف إلى الطور الثاني لكتب علوم الحديث كتاب ابن الصلاح فما بعده فقال: "إن معرفة أنواع علوم الحديث لابن الصلاح من الكتب النادرة في العلوم الإسلامية التي ما إن صنفت حتى أصبحت إماماً لأهل فنها، وهماً لطلاب ذلك العلم ولعلمائه، وأصلاً أصيلاً يرجعون إليه، ومورداً لا يصدرون إلا عنه، ولا يحومون إلا عليه".

ثم ذكر تأثره بالخطيب، لا شك أن ابن الصلاح متأثر بالخطيب، ليش؟ لأن الخطيب ما ترك نوع من أنواع علوم الحديث إلا وكتب فيه مصنف، يعني هل يلام ابن الصلاح أو غير ابن الصلاح أن يتأثر بالخطيب إذا جاء إلى باب كامل من علوم الحديث ما وجد إلا كتاب الخطيب؟ ذكر تأثره بالخطيب البغدادي، وأنه تبعاً له تأثر بالعلوم العقلية، لكنه زاد على الخطيب نتيجة لتأخره عنه بما يقارب القرنين من الزمان، ثم ذكر أمثلة تأثر ابن الصلاح بالأصول، ثم قال: "ومع هذا التأثر الكبير بالأصول عند ابن الصلاح إلى درجة ترجيح رأي الأصوليين على رأي أهل الفن من المحدثين إلا أنه زاد في بيان عمق هذا الأثر، وأنه تعمد مخالفة المحدثين إلى رأي الأصوليين" لكن هل قصد ابن الصلاح ترجيح أقوال الأصوليين على أقوال المحدثين؟ هو نظر إلى هذه الأقوال ورجح ما يدين الله به، كون الراجح وافقه عليه الأصوليون أو خالفه، أولاً: ابن الصلاح قسم الفريقين قال: الحديث كذا وقال: الفقه كذا، نعم ينقل أقوال أهل الحديث والأثر وأقوال الفقه والنظر، لكن كثير من أهل الفقه وأهل النظر هم أهل حديث في الجملة.

الأمر الثاني: أنه ما من قول من أقوال أهل الفقه إلا وقد قال به بعض أهل الحديث فكونه يرجح أقوال أهل الفقه والنظر، لا يعني أنه حيدة عن أقوال أهل الحديث والأثر، ولو افترضنا أنه أخطأ في ترجيح أو ترجحين أو ثلاثة أو عشرة، ويكفيه أنه عرض المادة ولك أن تنظر، ولا ننكر ولا نخالف في أن من أهل الأصول من ليسوا من أهل الحديث، بل إن منهم من بضاعته في الحديث مزجاة، لكن ما المانع أنه إذا قال كلمة تدرس هذه الكلمة؟ في ما يمنع؟ وتعرض على أقوال أهل الحديث فهم أهل الشأن، أما المطالبة بتجريد كتب الحديث أو علوم الحديث من أقوال الأصوليين أتصور أنها مطالبة لا قيمة لها.

إيش المانع أن يكون طبيب، طبيب من الأطباء وقد وجد من الأطباء ابن النفيس طبيب، تذكر أقواله في علوم الحديث، وأحياناً تكون جانب الإصابة معه، إيش المانع؟ عندنا من الأطباء المعاصرين الآن من يصدر بعض الأحكام على بعض المسائل المتعلقة بالطب فهمها من خلال مهنته وصنعته مما خفي على بعض الفقهاء، إيش المانع؟ ليس هناك ما يمنع، هم مسلمون اطلعوا على نصوص الكتاب والسنة، وهم يفهمون وإيش المانع؟ يعني يوجد عند بعض الناس ما لا يوجد عند غيرهم، العلم ليس بمحصور كله على فلان أو علان أو على هذه الجهة أو تلك الجهة.

الرسول -عليه الصلاة والسلام- قال لأبي هريرة: ((صدقك –يعني الشيطان- وهو كذوب)) صدقك، يقول: ((صدقك)) وكم من طالب صغير نبه شيخاً كبيراً على خطأ وقع فيه، وكم استفدنا، وكم، وكم، وكم استفدنا من طلابنا، نبهونا على أشياء كثيرة، هذا شيء موجود ننكر للناس كلهم تبعاً لهذا التقعيد وهذا التقرير ما هو بصحيح.

ثم تحدث عن ابن دقيق العيد وكتابه الاقتراح وانتقده ولم يطل في ذلك، ومثله في الكلام على الذهبي وكتابه الموقضة، ثم خصص بقية الكلام على كتب المصطلح للحافظ ابن حجر وكتابه النخبة وشرحها نزهة النظر وأطال في ذلك معللاً ذلك بما لنزهة النظر من قدسية، من قدسية لا تنال عند أهل عصره –أعني الآن عصرنا إحنا- وكأنها كتاب ناطق أو سنة ماضية" ومن قال هذا الكلام؟ النخبة كغيرها من تصانيف البشر فيها الراجح وهو كثير، وفيها المرجوح، والإنسان إذا تأهل ما الذي يمنعه أن يرجح الراجح ويترك المرجوح؟ لا حجر على أحد، يقول: "وكأنها كتاب ناطق أو سنة ماضية".

انتقد ترتيب النزهة لماذا؟ يقول: "لأنه مغاير لكل الكتب في علوم الحديث، فالكتاب مبني في ترتيبه على أساس التقسيم العقلي عند المناطقة"، نعم الترتيب الذي سلكه الحافظ ابن حجر في النخبة ترتيب بديع، ترتيب بديع بناه على اللف والنشر المرتب عند أهل العلم، وهو طريقة مسلوكة جاءت بها النصوص الشرعية، اللف والنشر: أن يذكر أكثر من شيء على سبيل الإجمال، ثم تفصل هذه الأشياء، والكتاب كله مبني على هذا.

اللف والنشر عند أهل العلم يقرب من السبر والتقسيم عند أهل الأصول، فإذا ذكرنا أكثر من شيء على سبيل الإجمال، ثم فصلنا هذه الأشياء على نفس الترتيب صار اللف والنشر مرتباً، وإن تحدثنا عنها مع الإخلال بالترتيب صار الترتيب غير مرتب، ويسميه أهل العلم المشوش، وجاء القرآن بهذا وهذا، جاء القرآن بالمرتب وغير المرتب، يقول الله -جل وعلا- {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} هذا إجمال، التفصيل {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم} إلى آخره، {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ} [(106 - 107) سورة آل عمران] جاء التفصيل بعد الإجمال، لكن هل ترتيب التفصيل مطابق لترتيب الإجمال؟ نعم، غير مطابق، إذاً لف ونشر غير مرتب، وقد جاء في أفصح الكلام، اللف والنشر المرتب كما في قوله -جل وعلا-: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [(105) سورة هود] {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّار..ِ.} [(106) سورة هود] {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ...} [(108) سورة هود] إلى آخره، هذا نشر بعد لف لكنه على الترتيب، جاء النشر على ترتيب اللف.

هذا الترتيب البديع الذي سلكه الحافظ ابن حجر به ينحصر الذهن ويسهل الفهم فكيف يلام أن ابتكر هذه الطريقة لتيسير التحصيل وتقريب العلم؟! قال: "لأنه مغاير -يعني في ترتيبه- لكل الكتب في علوم الحديث فالكتاب مبني في ترتيبه على أساس التقسيم العقلي عند المناطقة"، وعرفنا أن هذا اللف وهذا النشر له أصل في القرآن الذي هو أفصح الكلام، لكنه قال بعد ذلك: "وليس في هذا الترتيب مؤاخذة على الحافظ، لكن ذلك يدل على تغلغل أثر علم المنطق وتعمقه في فكر الحافظ"، نقول: لا، هذا الأسلوب موجود في النصوص وفي كلام العرب، "يدل على تغلغل أثر علم المنطق وتعمقه في فكر الحافظ ومنهجيته إلى درجة بناء الكتاب في ترتيبه على أساسها".

ثم انتقد فيه تقسيم الأخبار، وانتقد رأي الحافظ في معنى المنقطع والمرسل، والفرق بينهما، والعلة والشاذ والمنكر والمحفوظ والمعروف، ومختلف الحديث، والمرسل الخفي، والتدليس، والمصحف والمحرف وغيرها من الأنواع، انتقد هذه الأنواع، وستأتي في مواطنها -إن شاء الله تعالى-.

بعد هذا تحدث صاحب المنهج المقترح عن مناهج كتب علوم الحديث بعد الحافظ ابن حجر فقال: "إن أشهر الكتب في علوم الحديث بعد الحافظ ابن حجر هي: (فتح المغيث) للسخاوي"، هذه أشهر كتب الحديث، شرح لألفية الحديث وهو يعد بحق موسوعة علم المصطلح.

"والثاني: (تدريب الراوي) للسيوطي، والثالث: (توضيح الأفكار) للأمير الصنعاني".

يقول: "قد اتخذت هذه الكتب وغيرها مما وضع في عصرها وبعده من (نزهة النظر) أصلاً أصيلاً، ومصدراً أساسياً في فهم المصطلح وتقرير قواعده، فتناقلت الكتب ما جاء في (النزهة) ونصرته غالباً، ولقد كان السخاوي مثالاً للتلميذ المتعصب لشيخه الحافظ ابن حجر" مع هذا الانتقاد اسمعوا ماذا يقول: "وحق له –والله- ذلك" كلنا نقول هذا الكلام، الحافظ أمير المؤمنين في الحديث، لا أحد يشك في إمامته في هذا الباب، فننتقد كتبه وأقواله بالكلام القوي السابق، ثم يقول: "وحق له –والله- ذلك"، لكن ماذا يقول؟ يقول: "الحافظ عندي إمام، وابن الصلاح إمام، والخطيب إمام، والحاكم إمام، وغيرهم من نقاد الحديث أئمة أيضاً، فلا معنى للتعصب عندي لأحدهم دون الآخر، بذلك رأيت الحق أولى ما ابتغي، وسعي إليه، وأحق ما نصر وتعصب له" هذا مطلب الجميع، هذا مطلب الجميع، أما أن نقول: إن اجتهاد السخاوي أداه إلى ما أدى اجتهاد الحافظ ابن حجر إليه توافقا في الترجيح نقول: هذا تصب لأنه شيخه، الحافظ ابن حجر وهو من أئمة الشافعية، إذا كان في الفقه مقلد فالسخاوي مقلد في الفقه، لكن من أراد أن يستدل على إنصاف الحافظ ابن حجر فليقرأ مقدمة: القول المسدد في الذب عن المسند.

يقول: "لا معنى لتقليد الحافظ وحده، لأنه وإن كان إمام فابن الصلاح إمام والخطيب إمام والحاكم إمام وغيرهم من نقاد الحديث أئمة"، "فلا معنى للتعصب عندي لأحدهم دون الآخر"، يقول: "لذلك رأيت الحق أولى ما ابتغي وسعي إليه، وأحق ما نصر وتعصب له"، هذا الكلام يشترك فيه الجميع، كل ينشد الحق، وليسوا بالمعصومين، وكلهم ينشدون الحق -إن شاء الله تعالى-، لكنهم مع ذلك ليسوا بالمعصومين.

والسيوطي يقول في التدريب أخف من غيره في التعصب للحافظ ابن حجر، لماذا؟ يقول: "لعل سبب ذلك أنه يشرح كتاباً للنووي، ثم هو لم يتتلمذ على الحافظ ابن حجر".

"وأما الأمير الصنعاني فأبعدهم عن التعصب، لكنه لا يجري مجرى هؤلاء في ممارسة علم الحديث تطبيقاً وعملاً، ثم يؤخذ عليه تعويله على كتب الأصول وترجيح آراء أصحابها على أصحاب الفن من المحدثين".

أما تعويله على كتب الأصول فهو مما يمدح به، الكتاب الذي يجمع بين العلوم لا شك أنه مزية لهذا الكتاب، والعالم الذي يتقن جميع العلوم ويتعرض لها من خلال ما يلقيه، من خلال ما يعلمه طلابه مزية لهذا العالم، فالذي يفسر القرآن وهو ملم بعلوم الشرع، وما تطلبه العلوم الشرعية، وما تحتاج إليه هذا هو المفسر، وإلا فما معنى مفسر لا يعرف لغة العرب؟ هذا ليس بمفسر، ما معنى مفسر لا يحفظ قدراً كافياً من السنة؟ والسنة هي أولى ما يعول عليه في تفسير القرآن، ما معنى مفسر لا يعرف الناسخ من المنسوخ، ولا المطلق ولا المقيد، ولا الخاص ولا العام، وبقية مباحث علم الأصول؟ العالم المفسر الذي يحيط بالعلوم كلها.

مما اشترطه أهل العلم لمن يتصدى لتفسير القرآن: أن يكون عارفاً لجميع ما يحتاج إليه القرآن، والله المستعان.

"ثم يؤخذ عليه تعويله على كتب الأصول وترجيح آراء أصحابها على آراء أصحاب الفن من المحدثين"، إن كان هذا هو الواقع وهو ديدنه وهذه عادته وطريقته المطردة يؤخذ عليه، لكنه ليس كذلك، والله المستعان.

يقول: "غير أنه مما يميز هذه الكتب وأشباهها، أنها كتب موسعة مليئة بالنقول والأمثلة، إضافةً إلى تحريراتٍ وفوائد وفرائد، لا يستغنى عنها إلا من استغنى عن هذا العلم".

يعني رجعنا إلى أهمية كتب المتأخرين، هذه الكتب اشتملت على نقول كثيرة، وأمثلة متنوعة، وتحريرات وفوائد وفرائد لا يستغنى عنها إلا من استغنى عن هذا العلم.

بعد أن نسف الكتب ذكر أنه لا يستغنى عنها إلا من استغنى عن هذا العلم، ونقول: النقد لا بأس به، ولا يوجد شخص معصوم غير المصطفى -عليه الصلاة والسلام-، كل يؤخذ من قوله ويرد، لكن بهذه الطريقة التي تزهد طلاب العلم بهذه الكتب، وعليها المعول في هذا الشأن؟! فلا.

يعني لو تصدى لنشر هذه الكتب ورجح ما يراه راجحاً، ورد أو نقض الأقوال المرجوحة من خلال تعليقه على هذه الكتب كان مسلكاً سليماً؛ لأنه لا يوجد أحد معصوم غير المصطفى -عليه الصلاة والسلام-.

ثم يأتي من يرد عليه هو أيضاً، ولا مانع؛ لأن المسألة مفترضة في شخص مجتهد ينشد الحق، وإذا كان مجتهداً وهو أهل لذلك وأصاب الحق فإنه مأجور، أي له أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد، وهؤلاء نحسبهم -والله حسيبهم- مأجورون ولو بأجر واحد على أقل تقدير.

بهذا الكلام ختم الكلام عن كتب المصطلح وهو كلام جيد يحفظ له، ولا ضير في النقد؛ لأن هؤلاء وإن كانوا أئمة فإنهم غير معصومين يقع منهم كغيرهم الخطأ، والغالب هو الصواب، إلا أن إبرازه واهتمامه بهذه الملحوظات وبهذا الأسلوب، وإظهار الملاحظات بهذه الطريقة كما ذكرنا سابقاً قد تزهد الطالب المبتدئ في هذه الكتب التي هي العدة الحقيقية والزاد الوحيد للطالب في بداية الطلب، لكن المؤلف -وفقه الله- مثلما ذكرنا لو اعتنى بهذه الكتب كل واحد منها على حده ونشره نشراً متقناً وهو أهل للإتقان والضبط، وعلق عليها وبين رأيه في مسائلها لكان عين الحكمة والصواب؛ لأن إبراز الأخطاء يزهد في كتب العلم، ولذا لا يرى كبار علمائنا -وفقهم الله- أن تفرد الملاحظات على الكتب التي عم نفعها.

هل يستطيع شخص أن يقول: إن شيخ الإسلام معصوم؟ لا، هل يستطيع شخص أن يقول: إن ابن القيم معصوم أو الشيخ محمد بن عبد الوهاب معصوم؟ لكن ماذا لو اختلفت وجهة نظر أحد أهل العلم مع ما في الدرر السنية لأئمة الدعوة؟ فيها مسائل علمية راجحة ومرجوحة كثيرة، لكن من وجهة نظر أصحابها، لكن لو طبع مجلد في بيان أوهام الأئمة في هذه الكتب، هذا جيد وإلا غير جيد؟ هذا ليس بمنهج سليم، فأئمة الإسلام الذين شهد لهم الخاص والعام صاروا على المنهج السليم وإن أخطئوا لا تبرز أخطاءهم بهذه الطريقة، ولا مانع من أن ينبه على القول المرجوح.

ابن القيم وقد تخرج على شيخ الإسلام يخالفه في كثير من المسائل، الشيخ ابن باز -رحمة الله على الجميع- خالف شيخ الإسلام في بعض المسائل، ولا يمنع أن يأتي من يخالف هذا وذاك، والثالث والرابع، لكن بالأسلوب المناسب الذي يربى عليه طالب العلم، لا بد أن يربى طالب العلم على احترام العلم والعلماء، وإلا لو كل واحد ينسخ المتقدم ما بقي لنا أحد، والله أعلم.

وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

يقول: تعتبر تراجم الرجال هي البنية الأساسية لتصحيح الحديث، كيف لنا أن نتأكد من صحة تراجم الرجال؟

لا شك أن ثبوت الحديث يتبع ثقة الرواة واتصال الإسناد وخلو المتن من الشذوذ والعلة والمخالفة على ما سيأتي، والرجال وأقوال أهل العلم فيهم موجودة ومدونة في كتب الرجال، وهناك الرجال المتفق على توثيقهم، وهناك من اتفق على تضعيفهم، وهؤلاء لا يحتاجون إلى مزيد من التعب، بل يكتفى أن يبين الضعف في التوثيق.

أما من اختلف فيه أهل العلم ووجد لأهل العلم أقوال متفاوتة متعارضة من موثق إلى مضعف، من متوسط إلى متشدد فينظر بين هذه الأقوال بالطرق المتبعة عند أهل العلم في قواعد الجرح والتعديل، ولنفرض أن رجلاً ضعفه عشرة ووثقه ثلاثة من الأئمة كابن لهيعة مثلاً فجمهور أهل العلم على ضعفه، ومنهم من يفصل فيقوي رواية العبادلة ويضعف ما عداها، ولا شك أن الرجل من حيث الحفظ في حفظه سوء، وأتي من قبل حفظه، وذكروا في سبب ذلك أن كتبه احترقت، احترقت فحدث من حفظه فساء حفظه ولم يضبط، قد يقول قائل: الآن الكتب الحمد لله نشوف المكتبات تحترق ويأمن غيره ولا يضر، نقول: الكتب إذا كان ممن يعتمد عليها، ولا تتصورون أن الناس أول كانوا يجمعون الكتب يرصونها في الدواليب لها نظائر في الأسواق وعند الإخوان والزملاء، لا، هذا كتاب فلان يعني لا يوجد عند غيره، هذه رواية فلان لهذا الكتاب، ولا يستطيع أن يحدث إلا من روايته، أو من طريق الرواية عن صاحب كتاب آخر، فهذا الكتاب الذي يرويه هو ولا يوجد عند غيره، وقد يوافق على بعضه في كتب أخرى وما أشبه ذلك احترق ماذا يصنع؟ فإذا كان الشخص ممن يعتمد على كتاب واحترق كتابه خلاص انتهى، مثل المسافر الذي ما عنده كتب، وهذا يبين لنا أهمية الحفظ بالنسبة لطالب العلم الشرعي، فالحفظ الحفظ، ولا بديل عن الحفظ، أما من فتن بالنظريات الوافدة وأخذ يقلل من شأن الحفظ ويذم الحفظ، وهذا جاءنا مع من وفد من البلدان والأقطار إلى هذه البلاد في أوائل التعليم النظامي جاءوا وصاروا يقللون من شأن الحفظ ويقولون: إن الحفظ يبلد الذهن، والعبرة بالفهم، هذا إذا كان الكلام مقبولاً في علومهم التي تعتمد على العمل باليد فهم لا يحتاجون إلى حفظ، أنت إذا أردت أن توضب سيارة ما تحتاج إلى أن تراجع محفوظاتك، تأخذ المفاتيح والعدة وتشتغل هذه علومهم، هذه بضاعتهم، ليست عندهم علوم متعبد بلفظها كالقرآن، القرآن إذا لم يحفظه طالب العلم ماذا تكون بضاعته؟ {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [(49) سورة العنكبوت] لا بد من الحفظ.

السنة إذا لم يحفظ الطالب القدر الكافي من السنة كيف يستدل على المسائل العملية؟ فالدعوة إلى التقليل من شأن الحفظ وذم الحفظ لا شك أنها صد عن العلم الشرعي، وإذا وجد من يقول: أننا لم نجني من التلقين الببغائي إلا الحنظل أو الشوك، فإن مثل هذا لا عبرة له، لا عبرة بكلامه ولا يأبه له ولا يلتفت إليه، هذا مفتون بكلام الشرق والغرب، مرة يعجب بنظريات اليابان، ومرة بنظريات الألمان، هذا لا عبرة به ولا يؤخذ منه مثل هذا الكلام، فلا بد من التلقين في العلوم الشرعية، لا بد من الحفظ الحرفي، ثم ماذا إذا كان الشخص يفهم؟ عبقري في الفهم لكن ما عنده رصيد محفوظ، كم من شخص في أسواق المسلمين من عوام المسلمين منهم عباقرة وأذكياء لماذا لم يصيروا علماء؟ ما عندهم رصيد محفوظ، يعني الشريط قد يكون من أجود الأشرطة ومن أغلاها وأنفسها لكن ما سجلت فيه شيء، إيش تستفيد؟ الشريط إذا ما سجل فيه شيء يمكن تسمع منه شيء ولو كان من أجود نوعيات الأشرطة؟ فالشخص إذا لم يكن لديه مخزون في حفظه فإنه في الغالب إذا أبعد عن كتبه فإنه الفائدة تكون منه قليلة.

فإن تحرق القرطاس لا تحرق الذي

 

تضمنه القرطاس فهو في صدري

وكان أهل العلم يعتمدون على الحفظ، ثم اعتمدوا على الكتب وصاروا ينسخون الكتب، ثم ظهرت الطباعة فصاروا يعتمدون على الكتب المطبوعة وضعف الحفظ، وانتهت مسألة الكتابة التي تعين على الطلب، ثم جاءت الآلات التي بمجرد ضغطة زر يخرج له الحديث من عشرين طريق، يتكلم على الراوي بجميع ما قيل فيه، هذه لا شك أنها نعمة، لكن هل يتعلم عليها طالب العلم؟ لو يطفأ الكهرب رجع عامي لا يحسن شيء، لا يحسن التعامل مع الكتب، لا في ذهنه شيء ولا يحسن التعامل مع الكتب إيش يساوي؟ يساوي لا شيء، لكن ما يمنع أن يستفاد من هذه الآلات، الإنسان يصل يحفظ أولاً ويعاني كتب أهل العلم، ويعيد النظر في أقوال أهل العلم، ثم إذا جمع ما استطاعه من طرق هذه الحديث ومن كلام على هذا الراوي ضغط الآلة ليختبر ما عنده، إذا كان فيها شيء زائد على ما عنده يستفيده، أما أن يرجع إلى الآلة مباشرة ويعتمد عليها مثل هذا في الغالب أنه لا يتخرج طالب علم، ولا يثبت العلم الذي يأتي بمثل هذه الطريقة، العلم متين، ورتب عليه ثواب عظيم، ومنزلة العلم وأهل العلم في الدين معروفة، ولا يمكن أن يحصل العلم بهذه السهولة، وهذه الآلات يستفاد منها في اختبار العمل ومع ضيق الوقت..، خطيب بقي عليه خمس دقائق مثلاً وبحاجة إلى معرفة حديث في خطبته هل هو ثابت أو غير ثابت؟ يضغط الآلة لا بأس، مع أن من أهل العلم من قصد توعير الوصول إلى المسألة، ابن حبان لما ألف صحيحه على الأنواع والتقاسيم، طريقة فذة مبتكرة من أجل ألا تصل إلى الفائدة بسهولة، إذا أردت حديث تقرأ الكتاب كله، كم من حديث بيمر عليك وأنت تريد حديث واحد، تستفيد فوائد عظيمة، كم من مسألة وأنت تبحث عن مسألة في كتاب فقه، بينما لو ضغطت هذه الآلة طلعت لك المسألة مجردة عما يحتف بها قبل وعما يبينها بعد، لكن لو أنت بحثت بنفسك وقفت على مسائل كثيرة واستفدت، وأقل الأحوال أن تعرف ترتيب هذا الكتاب، المقصود أن الاعتماد على الكتب والاعتماد على هذه الآلات لا يخرج طالب علم، الكتب تحتاج إلى معانات، نعم من العلماء قسموا الفقه إلى فقه بالقوة وفقه بالفعل وفقه بالقوة القريبة من الفعل، يعني الذي يحفظ المسائل بأدلتها هذا فقيه بالفعل، لكن الذي لا يحفظ المسائل بأدلتها لكن مجرد ما تقع له نازلة أو يسأل عن مسألة يذهب إلى الكتب مباشرة يستخرج المسألة بدليلها ويستطيع أن يوازن بين الأقوال ويخرج بالقول الصائب الراجح هذا فقيه بالقوة، وإن لم يكن فقيهاً بالفعل، لكن يحتاج إلى أنه في كل مسألة يحتاج إلى رجوع هذه مشكلة، لكن كون العلم حاضر في صدره متى ما سئل أجاب هذا هو العلم الحقيقي، هذا هو علم السلف، والله المستعان.

فلا شك أن تراجم الرجال هي البنية الأساسية، وأقوال أهل العلم في هؤلاء الرجال مبسوطة وموجودة في كتب أهل العلم.

 

وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

يقول: ما هي ضوابط الجمع بين المتشابه من القرآن والحديث؟

إيش المتشابه؟ إذا كان المقصود به الجمع بين مختلف الحديث، يعني النصوص المتعارضة فهناك أوجه للجمع، وهناك طرق للتوفيق بين الأحاديث، الحازمي ذكر منها أكثر من خمسين في مقدمة الاعتبار، الحافظ العراقي في نكته على ابن الصلاح ذكر ما يقرب من المائة تحتاج أن تُراجع؛ لأن الجمع إذا أمكن بين النصوص المتعارضة تعين، ولا يجوز العدول عنه إلى غيره كالنسخ مثلاً أو الترجيح إلا بعد أن تستغلق الأنظار في التوفيق بين...

يقول: هل من حكمة معلومة في وجود المتشابه من القرآن؟

لو لم يكن من الحكم إلا اختبار المكلفين في إذعانهم لما جاء عن الله وعن رسوله، المكلف إذا كان يفهم كل شيء مما أنزل الله عليه، ويعرف الحكمة من كل حكم صار انقياده تبعاً لهذه الحكم وهذه المعرفة، لكن لما يستغلق عليه أمر لا يستطيع يقر بعجزه وضعفه، ويعرف أنه مهما أوتي من العلم لن يخرج عن قوله تعالى: {وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} [(85) سورة الإسراء] فيعرف قدر نفسه ويعرف أنه بحاجة مستمرة إلى المزيد في البحث والاستقصاء والاستقراء في النصوص وكلام أهل العلم، أيضاً أن يختبر المكلف؛ لأنه إذا وقف على شيء لا يفهمه فهو بين أمرين: إما أن يقول: هذا لا يقره عقل، فيقع في حيز المفتونين الذين أنكروا بعض النصوص لكون عقولهم تأباها ولا تحتملها، أو يقول: سمعنا وأطعنا، وهذا هو المطلوب في المسلم، هذا هو المطلوب من المسلم، لا بد من أن ينقاد فهم أو لم يفهم، عرف الحكمة أو لم يعرف، لا بد من الانصياع والانقياد لأوامر الله سواءً وافقت الهواء أو خالفت، فلا يؤمن المسلم حتى يكون هواه تبعاً لما جاء به النبي -عليه الصلاة والسلام-.

يقول: إذا كنا نجري علم الحديث على حديث منسوب لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلماذا لا نجري ذلك العلم على تراجم الرجال؟

يعني إذا كنا لا نقبل الحديث إلا إذا كان سنده صحيح بمعنى أن رواته ثقات ومتصل وسلم من المعارضة، لماذا لا نجري العلم أو ذلك العلم الذي هو الميزان المعتبر عند أهل الحديث لماذا لا نجريه على بقية العلوم؟ كعلم الرجال مثلاً، أثرنا عن الإمام أحمد قول لماذا لا ندرس إسناد هذا القول إلى الإمام أحمد؟ وجدنا قول للإمام يحيى بن معين لماذا لا ننظر في إسناد هذا القول إلى الإمام يحيى بن معين؟ هذا ما تولاه أهل العلم الذين اعتنوا في كتب تراجم الرواة، من طالع مقدمة تهذيب الكمال وغيره من كتب الرجال عرف أنهم عنوا بذلك، وأنهم إنما نسبوا إلى الأئمة ما ثبت عنهم.

هل يجوز أن ألقب نفسي؟

كون الشخص يلقب نفسه بمثل هذا لا شك أنه ينبغي أن يعدل عنه؛ لأن اللقب: ما يشعر بمدح أو ذم كما هو مقرر عند أهل العلم، فيلقب نفسه بما يشعر بالمدح من غير تزكية، وإن لقب نفسه بذم يفهم منه تواضعه فلا بأس، لكن إذا عُرف جرى على لسانه كلمة ولزمها فلقبه الناس بهذه الكلمة التي لزمها، كان يكثر من: "الله المستعان"، قالوا: "جاء الله المستعان"، وقصدهم بذلك الذي يكثر من هذه الكلمة، كما أنه نسب بعض العلماء إلى كتاب من الكتب وليس الكتاب من مؤلفاته، نسب إلى شخص وليس من آبائه؛ لأنه معجب به، شخص يديم النظر في البخاري يقول: جاء البخاري، راح البخاري، وهو لا علاقة له بالبخاري، لكنه مهتم بصحيح البخاري يديم النظر في صحيح البخاري، لو شخص ديدنه القرآن ينظر فيه ليل نهار ولا يعدل عنه إلى غيره، جاء القرآني، راح القرآني، إيش اللي يمنع؟ محيي الدين الكافيجي أفنى عمره في إقراء كافية ابن الحاجب في النحو فصار كافيجي، تركيب من الكافية ونسب إليها، وهكذا، المقصود أن اللقب ما يشعر بمدح أو ذم، فإن كان هذا المدح لا يشعر بتزكية من الشخص نفسه فلا مانع من أن يلقب نفسه به.
إذا عني الشخص بالحديث وغلب عليه بحيث صار ممن يشار إليه في هذا الشأن وعد من أهله، إيش المانع أن يقال: هذا محدث وهذا أثري وهذا..؟ انتسب إلى الأثر جمع من أهل العلم، فلان ابن فلان الأثري، والمقصود به الانتساب إلى علم الأثر، وهو الحديث، والله أعلم.