شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (207)

المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أيها الإخوة والأخوات، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلًا بكم إلى حلقة جديدة في شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح، مع بداية هذه الحلقة يسرنا أن نرحب بصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور: عبد الكريم بن عبد الله الخضير، فأهلًا بكم فضيلة الدكتور.

حياكم الله، وبارك فيكم وفي الإخوة المستمعين.

المقدم: لازلنا في حديث ابن عباس -رضي الله عنه-: «لما اشتد بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وجعه»؛ كنا تحدثنا عن طرفٍ من مقولة عمر -رضي الله عنه-: «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- غلبه الوجع، وعندنا كتاب الله تعالى حسبنا»، واختلافهم عندهم عليه الصلاة والسلام، نستكمل بقية الحديث، إن شاء الله.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم و بارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

في الحديث قال -عليه الصلاة والسلام-: «ائتوني بكتاب أكتب لكم»، ما المراد بهذا الكتاب الذي أراد النبي -عليه الصلاة والسلام- كتابته؟ هو لم يحصل، لكنّ أهل العلم توقعوا، ماذا سيكتب -عليه الصلاة والسلام-.

المقدم: قيل في شأن الخلافة.

قيل فيها أقوال؛ يقول ابن حجر: اختُلفَ في المراد بالكتاب، فقيل: كان أراد أن يكتب كتابًا ينص فيه على الأحكام؛ ليرتفع الاختلاف، لكن ماذا يكون هذا الكتاب؟

المقدم: يكون ضخمًا.

جدًّا! إذا كان فيه تفصيل كل ما أجمل في القرآن وفي السنة وبيان هذا، قيل، كان أراد أن يكتب كتابًا ينص فيه على الأحكام؛ ليرتفع الاختلاف، هذا..

المقدم: بعيد.

بعيد، لكن كأن القائل أخذه من قوله: «لا تضلوا بعده»، لكن هل الاختلاف...؟

المقدم: هل الاختلاف ضلال؟!

ستأتي مسألة هل الاختلاف رحمة أو غير رحمة، لكن هل الاختلاف فيما يسوغ فيه الاجتهاد، وقد وقع من الصحابة فمن دونهم من الأئمة، هل يسمى ضلالًا أم لا يسمى؟ يأتي فيه الكلام، إن شاء الله تعالى. وقيل: بل أراد أن ينص على أسامي الخلفاء بعده حتى لا يقع بينهم الاختلاف، ولا شك أن الاختلاف على ولي الأمر الذي يقود الأمة على ضوء الكتاب والسنة ضلال.

المقدم: مفسدة عظيمة.

مفسدته عظيمةُ جدًّا، وقيل: بل أراد أن ينص على أسامي الخلفاء بعده؛ حتى لا يقع بينهم الاختلاف، قاله سفيان بن عيينة، ويؤيده أنه -صلى الله عليه وسلم- قال في أوائل مرضه وهو عند عائشة -رضي الله تعالى عنها-: «ادعِ لي أباك وأخاك حتى أكتب كتابًا، فإني أخاف أن يتمنى متمنٍ ويقول قائل، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر» أخرجه مسلم، وللمصنف معناه ومع ذلك فلم يكتب؛ والأول يقول ابن حجر: والأول أظهر؛ لقول عمر: كتاب الله حسبنا أي كافينا، أي كون الكتاب {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}[الأنعام:38]، {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل:89]، هل يؤيد قول من يقول: إنه أراد أن يكتب كتابًا ينص فيه على الأحكام؛ ليرتفع الخلاف، والأول أظهر؛ لقول عمر: كتاب الله حسبنا، أي كافينا، مع أنه يشمل الوجه الثاني الذي هو فيه التنصيص على أسامي الخلفاء.

المقدم: الكتاب؟ القرآن يعني؟ ما فيه ما يشمل.

القول الأول الذي هو قول من قال: أراد أن يكتب كتابًا ينص فيه على الأحكام؛ ليرتفع الخلاف.

المقدم: بهذا اللفظ هو أظهر يا شيخ.

أين؟

المقدم: القول الأول، رد عمر بقوله: عندنا كتاب الله يؤيد القول الأول أنه أراد أن يكتب تفصيل المسائل.

ويدخل فيه القول الثاني؛ لأنه من تفصيل الأحكام التنصيص على الأئمة.

المقدم: في القرآن؟

ما هو في القرآن، في الكتاب الذي أراده النبي -عليه الصلاة والسلام-.

المقدم: لكن رد عمر لما قال: عندنا كتاب الله حسبنا.

الآن هم اختلفوا على ما هو المراد بالكتاب.

المقدم: قيل: المراد بالأحكام.

ماذا سيكتب النبي -عليه الصلاة والسلام-، يعني القطع بما أراد أن يكتب، لا يمكن.

المقدم: نعم.

لأنه ما حصل، إنما كل هذا توقع وتلمس من نصوص أخرى، يعنى مثل ما التمس أهل العلم الأسماء الحسنى؛ لأن الخبر الوارد في تفصيلها ضعيف، والتمسوا شُعب الإيمان؛ لأنه لم ينص عليها، التمسوها من النصوص، والتمسوا الأسماء الحسنى مما جاء في الكتاب والسنة، وبعضهم صنف في الفِرَق بناءً على الثنتين والسبعين، ورصد أصول الفرق وفروعها إلى اثنتين وسبعين، التمسها هؤلاء من الواقع.

المقدم: نعم.

وما جاء في الفِرَق، يعني كون ما جاء في الأسماء الحسنى يُلتمس من النصوص له وجه، ما جاء في شُعب الإيمان يُلتمس من النصوص، وفعله أهل العلم، وصنفوا في شُعب الإيمان له وجه؛ لأن النصوص تفسر النص المجمل، لكن الفِرَق افترض أننا جمعنا كتابًا في الفرق، وقسمناه إلى ستة أقسام رئيسية كما فعل أهل العلم، الفرق الكبرى، ويندرج تحت كل فرقة مجموعة، اثنا عشر فرقة، فيكون المجموع اثنين وسبعين، فعلى هذا نقول خلاص ما فيه مبتدعة إلا هذه الفرق؟

لو طلع علينا بدعٌ جديدة؟ وقد حصل.

المقدم: صحيح.

حصل. حصل فرق جديدة فيمن ينتسب إلى الإسلام، ماذا نقول عنها؟ ليست من الاثنتين والسبعين؟ وقد يكون وضعها بين فرقتين، دعنا من كونها أسهل من الفرق كلها لتدخل في الناجية مثلًا، أو أشد من الفرق كلها فلا تدخل في أمته -عليه الصلاة والسلام-، تصور أن بدعتها بين فرقتين مما ذكر، ماذا يكون وضعها؟ ولذلك التنصيص وتحديد الفرق من خلال سبر الواقع..

المقدم: غير مستقيم.

غير مستقيم أبدًا، وفنّده أهل العلم وردوه، وإن كان صُنّف في الفِرَق، لكن رصد الفِرق وبيان مذاهب هذه الفرق وبيان مبادئها أمرٌ مطلوبٌ، لكن لا تُحصر بالاثنتين والسبعين، لا يقال: إن هذا هو المراد من الحديث، لا يقال: إن هذا العدد هو المراد من الحديث. يقول: والأول أظهر الذي هو كتاب ينص فيه على الأحكام؛ ليرتفع الاختلاف؛ لقول عمر: كتاب الله حسبنا. ما وجه ظهوره أي كافينا؟ وجه ظهور القول الأول كأنه أراد أن يكتب كتابًا ينص فيه على الأحكام؛ ليرتفع الاختلاف؟

المقدم: أن يكون عمر قال: كتاب الله حسبنا وكافينا يدل على أننا لسنا بحاجة إلى تفصيل آخر في الأحكام والعبادات وغيرها.

لكن عمر أليس أشكل عليه أشياء، بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- ودّ لو أنه بينها؟ نعم، ما أشكل عليه شيء؟

المقدم: بلى.

أشكل عليه، وودّ أنه بيّن الكلالة مثلاً، ودّ أنه بيَّن القول الفصل في الكلالة، لكن هل يعني هذا أن الدين فيه خفاء وغموض؟ ألا يوجد قول راجح صائب موافق لما عند الله -جل وعلا- أصابه بعض أهل الاجتهاد، وأخذوا عليه الأجرين؟

المقدم: بلى.

هذا مقطوع به؛ لأن الحق لا يمكن أن يخفى على الأمة بكاملها، ووجود مثل هذه الأشياء التي لم تبن لعمر، بل وأحيانًا تخفى على أبي بكر، ويفهمها ابن مسعود؛ لأنه قد يكون عند المفضول من العلم في بعض المسائل ما لا يوجد من الفاضل. وكل هذا فيه حث على تعلم العلم وتعليم العلم والتعب من أجله، ولذلك العلماء مرفوعون في الدنيا والآخرة؛ {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11] يعني هل يمكن أن تأتي هذه الدرجات بمجرد الأماني؟

أو بتحصيل أمور واضحة؟ هل يدرك هذه الدرجات من قال: إن الصلاة واجبة؟ لا، ما يدركها إلا في خفايا الأمور التي تحتاج إلى تعب واجتهاد وكد، مع أن الوجه الأول يشمل الوجه الثاني؛ لأن التنصيص على جميع الأحكام التي ترفع الخلاف، يشمل التنصيص على الخلفاء؛ لأنه لو لم يقع التنصيص على أسامي الخلفاء ما ارتفع الخلاف، فيدخل الثاني في الأول، مع أنه يشمل الوجه الثاني؛ لأنه بعض أفراده، والله أعلم.   

قل ما دام النبي ما كتب، فكوننا نتلمس ماهية هذا الكتاب وحقيقة هذا الكتاب لا شك أنه ظن؛ لأنه لم يقع؛ لأنه لم يقع، ولم يبينه -عليه الصلاة والسلام-.

وقال الخطابي: ووجه ما ذهب إليه عمر -رضي الله عنه- أنه لو زال الاختلاف بأن ينص على كل شيء باسمه تحليلاً وتحريمًا لارتفع الامتحان وعدم الاجتهاد في طلب الحق، ولاستوى الناس في رتبة واحدة، ولبَطلت فضيلة العلماء على غيرهم، وقد رُوي عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه قال: «اختلاف أمتي رحمة»؛ فاستصوب عمر -رضي الله عنه- هذا الرأي وقدمه على رأي من ذهب من الصحابة إلى خلافه، هذا كلام الخطابي، يقول: وجه ما ذهب إليه عمر -رضي الله عنه- أنه لو زال الاختلاف يعني جاءنا عنه -عليه الصلاة والسلام- كتب لنا شيئًا لا يقع بيننا اختلاف بسببه أقفلنا باب الاجتهاد، وباب الاجتهاد من أعظم ما تُجنى به الأجور بالنسبة لأهل العلم، وقد يكون فيه أيضًا توسعة على غيرهم لا سيما من يطلب الحق وأُفتِي، أفتاه من يعتقد أن ذمته تبرأ بإفتائه بأمر يناسب وضعه من تخفيف ونحوه، وأما كَون الإنسان يتتبع الرخص، وينظر إلى أسهل الأقوال هذا لا يجيزه أهل العلم، وسيأتي ما في الخلاف، وبكونه رحمة أم غير رحمة.

 على كل حال يقول: وجه ما ذهب إليه عمر -رضي الله عنه- أنه لو زال الاختلاف بأن ينص على كل شيء باسمه تحليلًا وتحريمًا لارتفع الامتحان وعدم الاجتهاد في طلب الحق، ولاستوى الناس في رتبة واحدة، ولبطلت فضيلة العلماء على غيرهم، وقد رُوي عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «اختلاف أمتي رحمة»، فاستصوب عمر -رضي الله عنه- هذا الرأي، وقدمه على رأي من ذهب من الصحابة إلى خلافه. يعني من المجتهدين عمر، لو نص على المسائل ورفع فيها الاجتهاد كان عمر أولى الناس ممن يُحرم أجر الاجتهاد.

 والثاني أنه لو نص، يقول: وقدمه على رأي من ذهب من الصحابة إلى خلافه. يقول ابن الجوزي في كشف المشكل: هذا غلط من وجهين -يعني كلام الخطابي- أحدهما أن مضمونه أن رأي عمر -رضي الله عنه- أجود من رأي رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، يعني كأنه قال: لا تبين لنا يا رسول الله، نحن نفهم ولا نحتاج إلى بيان.

المقدم: هذا مستحيل.

هذا ما يمكن، ولا يعني أن عمر -رضي الله عنه- لما يريد أن يستمر هذا الأجر العظيم للمجتهدين من علماء الأمة، لا يعني هذا أنه يرى أن اجتهادهم أصوب من اجتهاده -عليه السلام-، كلا، المصيب منهم،

من الطرفين يوافق اجتهاد الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وأجورهم، هذا أجران وهذا أجر، كلهم مأجور.

المقدم: وتصب في ميزان حسناته.

بلا شك؛ لأنه هو الدال على الخير، والثاني أنه لو نص على شيء أو أشياء لم يبطل الاجتهاد؛ لأن الحوادث أكثر من أن تُحصر، يعني كلام ابن الجوزي يقول: مادام أن الخطابي يقول: أنه لو نص على كل شيء لارتفع الامتحان وعدم الاجتهاد، يقول ابن الجوزي: لو نص على شيء معين أو أشياء وبيّنها ووضحها وجلاها وقطع الاجتهاد فيها، لا يعني أنه قطع الاجتهاد في جميع أبواب الدين، لكن هذا الكلام لا يمشي مع الاحتمال الأول في المراد بالكتاب، قيل: كان أراد أن يكتب كتابًا ينص فيه على الأحكام ليرتفع الاختلاف، ولا يرتفع الاختلاف إلا إذا نص على كل شيء.

 يقول: والثاني يقول: أنه لو نص على شيء أو أشياء لم يبطل الاجتهاد؛ لأن الحوادث أكثر من أن تُحصر، وإنما خاف عمر أن يكون ما يكتبه في حال غلبه المرض الذي لا يعقل معها القول ولو تيقنوا أنه قال ومع الإفاقة لبادروا إليه، وهو معنى قولهم، يقول: وإنما خاف عمر أن يكون ما يكتبه في حال غلبه المرض التي لا يعقل معه القول، الآن هل يظن بعمر -رضي الله عنه-؟

المقدم: هذا الظن؟

ما يظن به هذا الظن، لكن أحيانًا قد يقول الإنسان كلامًا ويدعوه إليه شدة الحرص، وهو لا يعتقده، لكن شدة الحرص تجعله يقول مثله، يعني شدة حرصه عمر -رضي الله عنه- لا يعتقد هذا الكلام، لكن يخشى أن يأتي من يظن بالنبي -عليه الصلاة والسلام- هذا الكلام من شدة حرص عمر -رضي الله عنه- على الدين وأهله.

المقدم: مثل {لا تحرك به لسانك لتعجل به} مع علم النبي -صلى الله عليه وسلم- اليقين أن الله حافظ هذا القرآن، لكن من شدة الحرص.

بلا شك، المقصود أن الإنسان من شدة الحرص أحيانًا قد يكون الشيء بيده، يكون الشيء بيده حقيقة، جاء لأمر من الأمور، وحصل عليه وأمسكه بيده، ألا يخشى من فواته؟ أو قد من شدة حرصه أنه يظن أنه لم يحصل له من شدة حرصه على هذا الشيء يظن أنه لم يحصل له؟ هذا موجود في البشر لا سيما مع شدة الحرص، وعمر -رضي الله عنه- عُرف عنه شدة الحرص على الدين وأهله، ويخشى عمر أن يُظن هذا الظن مِن قِبل مَن في قلبه شيء من المرض.

والحديث الذي ذكره الخطابي «اختلاف أمتي رحمة» ضعيف جدًّا، بل حكم بعضهم بوضعه، بل حكم بعضهم بأنه موضوع. قال الخطابي: فإن قيل كيف يجوز أن يكون الاختلاف خيرًا من الاتفاق، ولو كان الاختلاف رحمة لكان الاتفاق...

المقدم: لأنه معاكس للرحمة.

عذابًا، ولو كان الاختلاف رحمة، لكان الاتفاق عذابًا، وليس إسناد الحديث الذي رويتموه بذاك. هذا الكلام أورده الخطابي على لسان معارض له. يقول: فإن قيل: كيف يجوز أن يكون الخطابي يقرر أن الاختلاف رحمة.

المقدم: لأنه يروي الحديث.

ذكر الحديث، دعم به كلامه، فإن قيل: كيف يكون الاختلاف خيرًا من الاتفاق، ولو كان الاختلاف رحمة لكان الاتفاق عذابًا، وليس إسناد الحديث الذي رويتموه بذاك، يعني مر بنا في حديث «من يرد الله به خيرًا يفقه في الدين» هل معنى هذا أن الذي لا يتفقه في الدين أراد الله به شرًّا؟ يعني هل كل متضادين يحصل من الحكم لكل واحد منهما ضد الآخر؟

المقدم: لا.

من يرد الله به خير يفقه في الدين، هل معنى هذا أن عوام المسلمين أراد الله بهم شرًّا؟ قد يكون الله- جل وعلا- أراد بهم خيرًا من وجوه أخرى، وأيضًا بعض من تفقه في الدين، وإن كان ينازع في تسمية ما يحمله بعض الناس فقهًا قد أراد الله به شرًّا، فتنه بهذا العلم واستدرجه، أو اشترى به ثمنًا قليلًا، أو استعمله في أغراض وأهداف لا توافق الشرع. فمن أراد الله به خيرًا فقهه في الدين بجميع أبوابه، لكن يعني أن عوام المسلمين أراد الله بهم شرًّا، نعم لم يرد الله بهم خيرًا من هذا الباب، لكن أراد بهم خيرًا من أبواب أخرى، أراد الله بفلان خيرًا في باب الإنفاق في سبيل الله، أراد الله بفلان خيرًا في باب العبادة، الصيام والقيام، أراد الله بفلان خيرًا من عوام الناس في الجهاد ونحوه. لكن في هذا الباب ما أراد بهم خيرًا.

قال الخطابي: فإن قيل: كيف يجوز أن يكون الاختلاف خيرًا من الاتفاق، فإن كان الاختلاف رحمة لكان الاتفاق عذابًا، وليس إسناد الحديث الذي رويتموه بذاك. قيل: أما وجه ما ذكرناه من أن الله تعالى لو نص على كل حادثة من الحوادث وكفى الناس مؤنة الاجتهاد والاستنباط لماتت الخواطر، وتبلدت الأفهام،

وسقطت فضيلة العلماء، فهذا أمر بيّن غير خافٍ.

قيل: فأما وجه ما ذكرناه بأن الله تعالى لو نص على كل حادثة من الحوادث وكفى الناس مؤنة الاجتهاد والاستنباط لماتت الخواطر، يعنى ما صار هناك فرق بين الناس كلهم، وتبلدت الأفهام، وسقطت فضيلة العلماء، فهذا أمر بيّن غير خافٍ.

وأيضًا فلو جاء التوقيف في كل حادثة تحدث إلى آخر الدهر لاشتد حفظه، ولامتنع عن الناس ضبطه، يعني لو فصِّل كل ما يحتاجه الناس من البعثة إلى قيام الساعة ماذا يكون من الأسفار، تنقضي الأعمال في قراءة عشر معشاره فضلًا عن حفظها، فتنقطع الأجور من جهة، ويصعب حفظها على الناس، وإن سهل فهمها، وأيضًا فلو جاء توقيف في كل حادثة تحدث إلى آخر الدهر لاشتد حفظه، ولامتنع على الناس ضبطه، ولأدي ذلك إلى الضيق والحرج، ولكان غايته العجز عما أُمروا به؛ لتعذر حصره والعجز عن حفظه وضبطه.

فأما قول القائل: لو كان الاختلاف رحمة لكان الاتفاق عذابًا؛ لأنه ضده، فهذا قولٌ لم يصدر عن نظرٍ وروية. وقد وجدت هذا الكلام لرجلين، اعترضا به على الحديث.

يعني حديث الاختلاف رحمة هو يبني كل كلامه على حديث الاختلاف رحمة، وقد وجدت هذا الكلام لرجلين اعترضا به على الحديث أحدهما مغموس عليه في دينه، وهو عمرو بن بحر الذي يُعرف بالجاحظ، يعني هل مثل هذا الرجل له أن يتكلم في النصوص؟

والآخر معروف بالسخف والخلاعة في مذهبه، وهو إسحاق بن إبراهيم الموصلي مغنٍ معروف، وليس فيه من علم الشريعة في قبيل ولا دبير، لا ناقة له في الموضوع ولا جمل. يعني إقحام مثل هؤلاء أنفسهم في فهم النصوص ومعرفة النصوص مثل ما يحصل الآن ممن يكتب عن مسائل العلم والدين وهو لا يعرف كيف يتوضأ، والآخر معروف بالسخف والخلاعة في مذهبه، وهو إسحاق بن إبراهيم الموصلي؛ فإنه لما وضع كتابه في الأغاني، وأمعن في تلك الأباطيل لم يرض بما تزوده من إثمها، حتى صدّر كتابه بذم أصحاب الحديث. ولما يقول الاختلاف رحمة، ماذا يريد أن يقول؟ ماذا يريد أن يقول؟ ليقول إن الغناء مختلف فيه، والاختلاف رحمة، فهمنا الهدف؟ نعم.

فإنه لما وضع كتابه في الأغاني، وأمعن في تلك هذه الأباطيل لم يرض بما تزوده من إثمها، حتى صدر كتابه بذم أصحاب الحديث والحطْبِ عليهم، وزعم أنهم يروون ما لا يدرون، وذكر بأنهم رووا هذا الحديث، ثم قال: ولو كان الاختلاف رحمة فالاتفاق عذابًا، ثم تكايس وتعاقل فأدخل نفسه في جمله العلماء وشاركهم في تفسيره وتأويله، فقال: وإنما كان الاختلاف رحمة مادام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيًّا بين ظهرانيهم، فإنهم إذا اختلفوا سألوه فأجابهم، وبيّن لهم ما اختلفوا فيه، ليس فيما يختلفون بعده. وزعم أنهم لا يعرفون وجوه الأحاديث ومعانيها فيتأولونها على غير جهاتها، فيختلفون، وحينئذٍ يفزعون إليه -عليه الصلاة والسلام- فيبين لهم، فهذا رحمة بالنسبة لهم، وأما بعد وفاته -عليه الصلاة والسلام- حينما لا يجدون من يحتكمون إليه صار عذابًا على حد قوله، ونكمل كلامه في حلقة لاحقة، إن شاء الله.

أظن فهمنا كلامه الآن؟

المقدم: نعم.

أولاً المعارض الذي عارض كلام الخطابي وإن كان وجودهما قبله اثنان الجاحظ وإسحاق بن إبراهيم الموصلي المغنى.

الجاحظ هدفه حينما يقول: إن الحديث مردود، والاختلاف عذاب؛ لأنه مخالف في أصول الدين، الجاحظ مخالف في أصول الدين، وليطرد مخالفته ويبين أن مخالفته لأصول الدين...

المقدم: المفترض أن يصحح الحديث؛ لأنه..

يصحح الحديث.

المقدم: المفترض.

نعم.

المقدم: على أساس أن يكون خلافه من باب الرحمة.

يعني يكون مخالفته لأصول الدين رحمة؟

المقدم: نعم.

والموصلي؟

المقدم: والموصلي المفترض أن يصححه؛ لأن الخلاف في الغناء من باب الرحمة أيضًا.

لكن ماذا رد؟ وجه رد الخطابي عليهم ونبذهم بأن هذا معروف بالسخف والخلاعة، وذاك معروف بمخالفته في أصول الدين؟

هو موجود لرجلين مغموس عليه في دينه، أولًا أحدهما مغموس عليه في دينه، وهو الجاحظ، والثاني معروف بالسخف والخلاعة.

الخطابي يريد أن يبين أن مثل هؤلاء الذين لا علاقة لهم بالعلم الشرعي لماذا يقحمون أنفسهم في مثل هذا في تصحيح وتضعيف وانتقاد وتوجيه وحط من أقدار العلماء، كما فعل الموصلي حينما صدر كتابه بذم أصحاب الحديث والحطب عليهم وزعم أنهم يروون ما يدرون، وذكر بأنهم رووا هذا الحديث ثم قال: ولو كان الاختلاف رحمة لكان الاتفاق عذابًا، يقول: ثم تكايس وتعاقل فأدخل نفسه في جملة العلماء، وشاركهم في تفسيره وتأويله فقال: وإنما كان الاختلاف رحمة مادام رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حيًّا بين ظهرانيهم، فإنهم إذا اختلفوا سألوه، فأجابهم وبين لهم ما اختلفوا فيه، ليس فيما يختلفون بعده. وزعم أنهم لا يعرفون وجوه الأحاديث ومعانيها فيتأولونها على غير جهاتها.

يظهر -والله أعلم- أن مراد هذين الرجلين أن يبينوا أن مخالفهم مخطئ، يبينوا أن الحق معهم ومخالفهم مخطئ، ومخالفهم لا تشمله الرحمة الواردة في هذه الحديث، يعني كأن الخطابي يلمح إلى هذه الحيثية، كأنهم إنما تكلموا عن هذا الحديث من هذا الباب، شددوا على مخالفيهم، وشددوا النكرة عليهم، لذا الموصلي ذم أصحاب الحديث الذين يرون تحريم الغناء، فلا يريد أن يدخلوا في هذه الرحمة المشار إليها بهذا الحديث لو صح، مع أن الحديث ضعيف، شديد الضعف، بل حكم بعضهم بوضعه.

ويأتي أيضًا تتمة الكلام، إن شاء الله تعالى.

المقدم: بارك الله فيكم، ونفع بكم، وجزاكم الله خيرًا.

 أيها الإخوة والأخوات، بهذا نصل وإياكم إلى ختام هذه الحلقة من شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح، نستكمل بإذن الله في حلقه قادمة، وأنتم على خير، شكرًا لطيب المتابعة، والسلام عليكم ورحمه الله وبركاته.