شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (236)

المقدم:

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

مستمعينا الكرام في كل مكان، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، طابت أوقاتكم بكل خير، وأهلًا بكم إلى حلقة جديدة في شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح، ولازلنا في كتاب العلم، في باب ما يستحب للعالم إذا سئل أي الناس أعلم؟ فيكل العلم إلى الله.

ونرحب في بداية حلقتنا بصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور: عبد الكريم بن عبد الله الخضير، فأهلًا ومرحبًا بكم فضيلة الشيخ.

بارك الله فيكم، وفي الإخوة المستمعين.

المقدم: لعلنا نستكمل ما تبقى في حديث أبي بن كعب -رضي الله عنه-.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،

أما بعد، فسبق الحديث عن زيادة: «لك» في الموضع الثاني من قوله: «ألم أقل لك» سبق الحديث في الموضع الأول ما فيه لك، ونقلنا عن الزمخشري قوله: فإن قلتَ: ما معنى زيادة لك؟ «ألم أقل لك» في الموضع الأول فيه أم ما فيه؟

المقدم: الأول ما فيه، الثاني فيه.

لماذا زيدت لك؟ ذكرت في الحلقة الماضية أن السيوطي في مقدمة التفسير التي هي جزء من النقاية، "النقاية" هذا كتاب للسيوطي مختصر جدًّا فيه مبادئ العلوم، في أربعة عشر علمًا، ما يتعلق بعلوم القرآن يصلح أن يكون متنًا يبنى عليه، يعني على طريقة المتون، ومثّل بهذه الآية لمجاز الزيادة، ثم بعد ذلك ذكرنا كلام الزمخشري. وفيه النقل عنه من كلام العيني قال: قال العلامة جار الله.

المقدم: يقصد به الزمخشري.

نعم، هو الزمخشري: فإن قلتَ: ما معنى زيادة لك؟ قلت: زيادة المكافحة بالعتاب على رفض الوصية، والوسم بقلة الصبر عند الكرة الثانية، هذا تقدم في آخر الحلقة السابقة، بعد هذا: {فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا} [الكهف:77].

يقول الكرماني: بدون لفظ إذا في بعض النسخ، ولكن ما عليه تلاوة القرآن: {حَتَّى إِذَا أَتَيَا} [الكهف:77].

والرواية المشار إليها التي أشار إليها الكرماني هي رواية أبي ذر كما في إرشاد الساري بدون إذا.

المقدم: حتى أتيا أهل قرية.

نعم، {أهل قرية} قال الكرماني: القرية أنطاكية، وقيل: أيلة، وقيل: أبولة، وهي كما قالوا أبعد أرض الله من السماء، كذا قال الكرماني، ومثله في الكشاف للزمخشري، وفي إرشاد الساري: أو ناصرة أو برقة أو غيرهما.

أو غير هؤلاء الأماكن، «فلما وافياها» وافيا هذه القرية بعد غروب الشمس وفي فتح القدير زيادة: قال: وقيل قرية من قرى أذربيجان، وقيل: قرية من قرى الروم.

{اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا} [الكهف:77] يقول الشوكاني: هذه الجملة في محل الجر على أنها صفة لقرية، ووضع الظاهر موضع المضمر؛ لزيادة التوكيد، وإلا فالأصل أن يؤتى بالمضمر؛ لأنه إذا أمكن أن نأتي بالمضمر فلا يؤتى بالظاهر إلا لنكتة؛ لأنه قال: أهل القرية، ثم قال: استطعما أهلها ما قال: استطعماهم، يعني أهل القرية الضمير يعود للقرية، أهل القرية الماضية، لكنه وضع الظاهر موضع المضمر؛ لزيادة التأكيد أو لكراهة اجتماع الضميرين في هذه الكلمة؛ لما فيه من الكلفة، أو لزيادة التشنيع على أهل القرية بإظهارهم.

فاستضافوهم أي استضافوهم فأبوا أن يضيفوهما.

قال القسطلاني: ولم يجدوا في تلك القرية قرى ولا مأوى، وكانت ليلة باردة.

في فتح القدير: أي أبوا أن يعطوهما ما هو حق واجب عليهم، من ضيافتهما، فمن استدل بهذه الآية على جواز السؤال، وحل الكدية التي هي..

المقدم: الجُعل العطاء.

لا، المسألة، مسألة...

المقدم: الأكل؟

المسألة عمومًا مسألة المال، مسألة الأكل، نعم.

المقدم: كيف استدلوا بها يا شيخ؟

يقول الشوكاني: أي أبوا أن يعطوهما ما هو حق واجب.

المقدم: حق الضيافة.

حق الضيافة، «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه» هذا واجب.

فمن استدل بهذه الآية على جواز السؤال وحل الكدية فقد أخطأ خطأً بينًا، ومن ذلك قول بعض الأدباء: الذين يسألون الناس، نعم يسألون الناس قال: 

فإن رددتُ فما في الرد منقصة

علي قد رد موسى قبل والخضر

تصور أن موسى والخضر مثله، شحات.

المقدم: يسألون.

نعم يسألون الناس، يتكففون الناس، لكن هل في الآية ما يدل على هذا؟

المقدم: أبدًا.

أبدًا، قال: وقد ثبت في السنة تحريم السؤال بما لا يمكن دفعه من الأحاديث الصحيحة الكثيرة، وقال القرطبي: في هذه الآية دليل على أن سؤال القوت، وأن من جاع وجب عليه أن يطلب ما يرد جوعه، خلافًا لجهال المتصوفة، والاستطعام: سؤال الطعام؛ لأن السين والتاء للطلب، الاستطعام يعني طلب الطعام، والمراد به هنا سؤال الضيافة؛ بدليل قوله: {فأبوا أن يضيفوهما}، فاستحق أهل القرية بذلك أن يذموا.

ويظهر من ذلك أن الضيافة كانت عليهم واجبة، وأن الخضر وموسى-عليهما السلام- إنما سألا ما وجب لهما من الضيافة، وهذا هو الأليق مع حال الأنبياء ومنصب الفضلاء والأولياء، ويعفو الله عن الحريري، حيث استخف في هذه الآية، وتمجن وأتى بخطل من القول، وزل فاستدل بها على الكِدية والإلحاح فيها.

يعني الإلحاح في السؤال، وأن ذلك ليس بمعيب على فاعله ولا منقصة عليه فقال:

وإن رددتُ فما في الرد منقصة

عليك ..

 هناك علي في كلام الشوكاني. وفي كلام..

المقدم: الحريري قال عليك.

هو كلام الحريري في موضعين، لكن في نقل الشوكاني (علي).

 المقدم: نقل عنه الشوكاني.

المقدم: علي.

وفي نقل القرطبي: وإن رددتُ.

المقدم: وإن رددتَ.

           وإن رددتَ نعم فما في الرد منقصة      عليك قد رد موسى قبل والخضر

 

قلتُ -يقول القرطبي-: وهذا لعب بالدين، وانسلال عن احترام النبيين، وهي شنشنة أدبية، وهفوة سخافية، ويرحم الله السلف الصالح، فلقد بالغوا في وصية كل ذي عقل راجح فقالوا: مهما كنت لاعبًا بشيء فإياك أن تلعب بدينك.

انتهى كلام القرطبي.

البيت المذكور في المقامة السابعة والثلاثين من مقامات الحريري المسماة: الصعدية.

وهو من أبيات قال فيها:

لا تقعدن على ضر ومسغبة

لكي يقال عزيز النفس مصطبر

وانظر بعينك هل أرض معطلة

من النبات كأرض حفها الشجر

فعد عما تشير الأغبياء به

فأي فضل لعودٍ ماله ثمر

وارحل ركابك عن ربع ظمئت به

إلى الجناب الذي يهمي به المطر

واستنزل الري من در السحاب فإن

بلتَ يداك به فليهنك الظفر

وإن رددتَ ..

يعني جرب واسأل الناس، وتكفف الناس، وإن رددت فما في الرد منقصة، وفي تفسير القرطبي رحمه الله: كان موسى -عليه السلام- حين سقى لبنتي شعيب أحوج منه حين أتى القرية مع الخضر.

المقدم: ولم يسأل هناك..

ما سأل، يقول: كان موسى-عليه السلام- حين سقى لبنتي شعيب أحوج منه حين أتى القرية مع الخضر، ولم يسأل قوتًا؛ بل سقى ابتداءً، وفي القرية سألا القوت، وفي ذلك للعلماء انفصالات كثيرة، يعني أجوبة عن هذا الإشكال، انفصالات كثيرة منها أن موسى كان في حديث مدين منفردًا، يعني في قصة مدين منفردًا.

المقدم: منفردًا.

يعني يحكم نفسه، وفي قصة الخضر تبعًا لغيره، فهو محكوم حينئذٍ.

أقول: ومن هذا الباب حديث أبي سعيد -رضي الله عنه-: «أن ناسًا من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- أتوا على حي من أحياء العرب فلم يقروهم، فبينما هم كذلك إذ لدغ سيد أولئك فقالوا: هل معكم من دواء أو راقٍ؟».

قصة أبي سعيد في الرقية.

المقدم: معروفة نعم.

هؤلاء أتوا على حي من أحياء العرب فلم يقروهم، لم يضيفوهم، يعني مثل قصة موسى والخضر.

المقدم: موسى والخضر.

«فبينما هم كذلك إذ لدغ سيد أولئك القوم فقالوا: هل معكم من دواء أو راقٍ؟ فقالوا: إنكم لم تقرونا، ولا نفعل حتى تجعلوا لنا جُعلًا، فجعلوا لهم قطيعًا من الشاء فجعل يقرأ بأم القرآن ويجمع بزاقه ويتفل، فبرأ فأتوا بالشاء فقالوا: لا نأخذه حتى نسأل النبي -صلى الله عليه وسلم-، فضحك النبي-عليه الصلاة والسلام-وقال: ما أدراك أنها رقية؟ خذوها واضربوا لي بسهم» خرجه البخاري وغيره، وبعض الروايات: «إن أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله».

فعندنا الآن ثلاث قصص.

المقدم: قصة موسى مع الخضر.

قصة موسى مع الخضر التي هي الأصل، استطعموهم فأبوا أن يضيفوهم، ففعلوا الإحسان الذي هو ماذا؟

المقدم: بناء الجدار.

بناء الجدار ورد الجدار بدون أجر.

المقدم: أن يضيفوهم بدون عطاء ولا مقابل.

بدون عوض، في قصة موسى مع مدين أيضًا.

المقدم: كان أشد حاجة.

أشد حاجة وابتداءً.

المقدم: عمل دون أن يطلب.

ولم يطلب شيئًا، في حديث أبي سعيد أبوا أن يضيفوهم، فاحتاجوا إليهم فأخذوا مقابل هذه الحاجة، فأيها أكمل؟

المقدم: الذي يظهر لي أكمل: موسى والخضر.

موسى والخضر يعني مع الحاجة وفعلوا الإحسان دون مقابل.

المقدم: نعم.

موسى بمفرده في قصة مدين حينما سقى للمرأتين قد تكون حاجته إلى الطعام أقل أو لم يحتج للطعام في ذلك الوقت أو لم يسأل، فهذا بذل معروف ابتداءً، وهذا أقل مما كان في قصته مع الخضر، في قصة أبي سعيد مع هؤلاء القوم من أصحاب النبي-عليه الصلاة والسلام- والراقي كما في رواية أخرى هو أبو سعيد، نعم استضافوهم فلم يقروهم، ومع ذلك ما رقوا  سيدهم إلا بمقابل.

وهذا من حقهم، وأقرهم النبي-عليه الصلاة والسلام- على ذلك، أقول: هذه القصة تُلحق بهذه القصص وتكون مراتب، في قصة أبي سعيد التي هي الإحسان بمقابل، وهذا أمر مشروع؛ لأنه أقره النبي -عليه الصلاة والسلام-، وضربوا له بسهم من هذا الجُعل، ولو كان فيه أدنى شبهة ما قبله النبي -عليه الصلاة والسلام-، بل أكد ذلك بقوله: «إن أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله».

المقدم: كتاب الله.

هذه معاوضة، ما فيه أدنى إشكال.

لكن ما حصل من الخضر في قصته مع موسى-عليهما السلام- لا شك أنها إحسان في مقابل إساءة.

وفي قصة موسى-عليه السلام- بمفرده إحسان دون إساءة، فهي مراحل ومراتب، فوجدا يعني موسى والخضر-عليهما السلام- فيها -أي في القرية-أي في القرية جدارًا، وفي إرشاد الساري: على شاطئ الطريق، ثم بعد ذلك فصّلوا في الجدار: طول الجدار وعرضه وسمكه في كلام قد يكون مقبولًا وبعضه قد يكون غير معقول.

يقول: كان سمكه مئتي ذراع بذراع تلك القرية، وطوله على وجه الأرض خمسمائة ذراع، وعرضه خمسون ذراعًا.

المقدم: هذا سور، هذا أضخم من السور.

هذا يمكن مقدار القرية إذا صح تسميتها قرية، سمكه يعني كيف يكون سمكه مائتي ذراع، مائتي ذراع يقول في إرشاد الساري: بذراع تلك القرية، وطوله على وجه الأرض خمسمائة ذراع، طوله على وجه الأرض، وعرضه خمسون ذراعًا.

وكان أهل القرية يمرون تحته على خوف؛ لأنه مائل آيل للسقوط، وفي تفسير القرطبي قال: وفي بعض الأخبار أن سمك ذلك الحائط كان ثلاثين ذراعًا، يعني أسهل من مائتي ذراع، من ذراع تلك القرية وطوله على وجه الأرض خمسمائة ذراع وعرضه خمسون ذراعًا، يعني يتفقان في الطول والعرض، أما السمك..

المقدم: ثلاثين بدل مائتين.

وكل هذا لم يثبت به خبر ملزم، المقصود أنه جدار آيل للسقوط، يريد أن ينقض، فأقامه الخضر-عليه السلام-.

{يريد أن ينقض}: أي يسرع سقوطه، من انقضاض الطائر: وهو انفعل، انقض انفعل، مطاوع قضضته يعني فانقض.

وقيل: افعلّ ما هو انفعل، افعلَّ من النقض كاحمر من الحمرة، يعني فعل المطاوع معروف أم غير معروف؟ جررته...

المقدم: فانجر.

فانجر، وفي تفسير الزمخشري: استعيرت الإرادة للمداناة والمشارفة، كما استعير الهم والعزم لذلك.

قال الراعي -يعني النميري-:

في مهمه قلقت به هاماتها

قلق الفؤوس إذا أردن نصولا

وقال:

يريد الرّمحُ صدر َأبى براء

ويعدل عن دماء بنى عقيل

وقال حسان:

إنّ دهرًا يلفّ شملى بجمل

لزمان يهمّ بالإحسان

فنسب الهم إلى الزمان، ونسب الإرادة إلى الرمح، والإرادة في الآية وفي الحديث منسوبة إلى الجدار، ومعلوم أن الإرادة من خصائص العاقل.

المقدم: العاقل الحي.

العاقل الذي يميل إلى الشيء، هذا الأصل فيها، يقول الزمخشري: وسمعت من يقول: عزم السراج أن يطفأ، وطلب أن يطفأ. وإذا كان القول والنطق والشكاية والصدق والكذب والسكوت والتمرد والإباء والعزة والطواعية وغير ذلك مستعارة للجماد ولما لا يعقل، فما بال الإرادة؟ يعني كلها استعارات عند الزمخشري، إلى أن قال:

ولقد بلغني عن بعض المحرفين لكلام الله تعالى مما لا يعلم كان يجعل الضمير للخضر، يعني يريد الخضر أن ينقض الجدار، من أجل ماذا؟ أن يسلم من ادعاء المجاز في القرآن، ويرى أن هذه الآية ملزمة للقول بالمجاز، يعني إذا لم يخرِّج الإرادة أن تكون للعاقل الذي هو الخضر فلا محيص من القول بالمجاز، يقول الزمخشري: ولقد بلغني أن بعض المحرفين لكلام الله تعالى مما لا يعلم كان يجعل الضمير للخضر؛ لأنّ ما كان فيه من آفة الجهل -يعني هذا المحرف- وسقم الفهم، أراه أعلى الكلام طبقة أدناه منزلة، يعني بعد أن يكون مثل هذا الأسلوب وهذا التعبير في أعلى درجات الفصاحة والبلاغة يكون في أدناها، كله هروب من أن يثبت المجاز، هذا كلام الزمخشري، قال: لأنّ ما كان فيه من آفة الجهل وسقم الفهم، أراه أعلى الكلام طبقة أدناه منزلة، فتمحل ليردّه إلى ما هو عنده أصح وأفصح، وعنده أن ما كان أبعد من المجاز كان أدخل في الإعجاز؛ لأن الكلام إذا كان حقيقة يراد به حقيقته واستعماله فيما وضع له فهو أدخل في الإعجاز، هذا كلامه.

في شرح الكرماني: وإسناد الإرادة إلى الجدار مجاز، إذ لا إرادة له حقيقة والمراد هنا المشارفة، وهذا مما استدل به على أن المجاز واقع في القرآن.

والخلاف في المجاز إثباتًا ونفيًا معروف، المسألة كبيرة وطويلة الذيول عند أهل العلم، فأثبته الكثير، ونفاه جمع من أهل التحقيق، واستيعاب بحث المسألة يطول، وممن نفاه شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم والشنقيطي وغيرهم.

قال في أضواء البيان: هذه الآية من أكبر الأدلة التي يستدل بها القائلون بأن المجاز في القرآن، زاعمين أن إرادة الجدار كالانقضاض لا يمكن أن تكون حقيقة وإنما هي مجاز. وإنما هي مجاز، وقد دلت آيات من كتاب الله على أنه لا مانع من كون إرادة الجدار حقيقة؛ لأن الله تعالى يعلم للجمادات إرادات، وأفعالًا وأقوالًا لا يدركها الخلق، كما صرح تعالى بأنه يعلم من ذلك ما لا يعلمه خلقه في قوله جل وعلا: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } [الإسراء:44]  فصرح بأننا لا نفقه تسبيحهم، وتسبيحهم واقع عند إرادة عند إرادةٍ لهم، يعني هل يمكن أن يسبحوا بدون إرادة؟ وتسبيحهم واقع عن إرادة لهم يعلمها هو -جل وعلا-، ونحن لا نعلمها، وأمثال ذلك كثير في القرآن والسنة.

فمن الآيات الدالة على ذلك قوله تعال: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة:74]. الآية.

فتصريحه تعالى بأن بعض الحجارة يهبط من خشية الله دليل واضح في ذلك؛ لأن تلك الخشية بإدراك يعمله الله ونحن لا نعلمه، وقوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ} [الأحزاب:72].

فتصريحه -جل وعلا- بأن السماء والأرض والجبال أبت وأشفقت أي خافت دليل على أن ذلك واقع بإرادة وإدراك يعلمه هو -جل وعلا- ونحن لا نعلمه.

ومن الأحاديث الدالة على ذلك: ما ثبت في صحيح مسلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إني لأعرف حجرًا كان يسلم عليَّ بمكة»، وما ثبت في صحيح البخاري من حنين الجذع الذي كان يخطب عليه -صلى الله عليه وسلم- جزعًا لفراقه، فتسليم ذلك الحجر، وحنين ذلك الجذع كلاهما بإرادة وإدراك يعلمه الله ونحن لا نعلمه كما صرح بمثله في قوله: {وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } [الإسراء:44]

وزعم من لا علم عنده أن هذه الأمور لا حقيقة لها وإنما هي ضرب أمثال زعمٌ باطلٌ؛ لأن نصوص الكتاب والسنة لا يجوز صرفها عن معناها الواضح المتبادر إلا بدليلٍ يجب الرجوع إليه.

وأمثال هذا كثيرة جدًّا، وبهذا تعلم أنه لا مانع من إبقاء إرادة الجدار على حقيقتها لإمكان أن يكون الله علم منه إرادة الانقضاض وإن لم يعلم خلقه تلك الإرادة، وهذا واضح كما ترى، مع أنه من الأساليب العربية إطلاق الإرادة على المقاربة والميل إلى الشيء كما في قول الشاعر:

يريد الرمح صدر أبي براء

ويعدل عن دماء بني عقيل

أي يميل إلى صدر أبي براء، وكقول الراعي نمير:

في مهمه قلقت به هاماتها

قلق الفؤوس إذا أردن نصولا

فقوله إذا أردنا نصولًا أي قاربنه.

وقول الآخر:

إنّ دهرا يلفّ شملى بجُملٍ

لزمان يهمّ بالإحسان

فقوله: لزمان يهم بالإحسان أي يقع الإحسان فيه، وقد بينا في رسالتنا المسماة -هذا كلام الشنقيطي رحمه الله-

المقدم: الشنقيطي.

(منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز): أن جميع الآيات التي يزعمون أنها مجاز أن ذلك لا يتعين في شيء منها، وبينا أدلة ذلك والعلم عند الله تعالى.

المقدم: جزاكم الله خير وأحسن إليكم، لعلنا نستكمل ما تبقى في حلقة قادمة. أيها الإخوة والأخوات بهذا نصل وإياكم إلى ختام هذه الحلقة من شرح كتاب التجريد الصريح لشرح أحاديث الجامع الصحيح. لنا بكم لقاء بإذن الله في حلقة قادمة، وأنتم على خير، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.