التعليق على تفسير القرطبي - سورة الإسراء (12)

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

قال الإمام القرطبي -رحمه الله تعالى-:

"قوله تعالى: {وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلًا (*) إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا} [سورة الإسراء: 86-87]

قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ} يَعْنِي الْقُرْآنَ. أَيْ: كَمَا قَدَرْنَا عَلَى إِنْزَالِهِ نَقْدِرُ عَلَى إِذْهَابِهِ حَتَّى يَنْسَاهُ الْخَلْقُ. وَيَتَّصِلُ هَذَا بِقَوْلِهِ: {وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [سورة الإسراء:85]، أَيْ: وَلَوْ شِئْتُ أَنْ أَذْهَبَ بِذَلِكَ الْقَلِيلِ لَقَدَرْتُ عَلَيْهِ.

{ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلًا} أَيْ: نَاصِرًا يَرُدُّهُ عَلَيْكَ.

{إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} يَعْنِي لكن لا نشاء ذَلِكَ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ، فَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ لَيْسَ مِنَ الْأَوَّلِ. وَقِيلَ: إِلَّا أَنْ يَرْحَمَكَ رَبُّكَ فَلَا يَذْهَبَ بِهِ".

في قوله تعالى: {وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ} لا شك أن الواقع يشهد بذلك، وأن بعض الناس بعد أن يكون عنده شيءٌ من العلم، يُسلب بعض هذا العلم؛ لمخالفته إياه. وإن كان الأصل أن العلم لا يُقبض بقبض العلماء، لا يُنتزع من صدور الرجال، وإنما يُقبض بقبض العلماء. لكن قد يكون هناك عقوبات لمخالفات، يُنسى بسببها شيءٌ من العلم، فهذا فيه ما يشهد لهذه الآية، إن الإنسان قد يُصبح أو يُمسي وعنده شيءٌ من العلم، مسألة بحثها وحرّرها، ثمَّ يُصبح وقد نُسيها؛ لما ارتكبه من مخالفات. وذكر بعضهم من المُتقدمين أنه أُنسي حفظ القرآن؛ بسبب نظرةٍ نظرها، نظرة مُحرمة، أُنسي حفظ القرآن.

فليكن طالب العلم على وجل، وعلى خوف من أن يُسلب هذا العلم، الذي بسببه شُرِّف وتعِب على تحصيله، قد يُنسى هذا العلم بلحظة؛ بسبب معصيةٍ ارتكبها، فالعلم هو العمل. فإذا خالف مُقتضى هذا العلم، فإن هذا العلم وجوده وعدمه سواء، ومن العقوبة المُعجلة أن يُنسَّى هذا العلم، نسأل الله العافية. وإن كان الأصل أن العلم بالجملة لا يُرفع من صدور الرجال، وإنما بقبض العلماء.

"{إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا} إِذْ جَعَلَكَ سَيِّدَ وَلَدِ آدَمَ، وَأَعْطَاكَ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ وَهَذَا الْكِتَابَ الْعَزِيزَ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: أَوَّلُ مَا تَفْقِدُونَ مِنْ دِينِكُمُ الْأَمَانَةَ، وَآخِرُ مَا تَفْقِدُونَ الصَّلَاةَ، وَأَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ كَأَنَّهُ قَدْ نُزِعَ مِنْكُمْ، تُصْبِحُونَ يومًا وما معكم منه شيء. فَقَالَ رَجُلٌ: كَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟! وَقَدْ ثَبَّتْنَاهُ فِي قُلُوبِنَا وَأَثْبَتْنَاهُ فِي مَصَاحِفِنَا، نُعَلِّمُهُ أَبْنَاءَنَا وَيُعَلِّمُهُ أَبْنَاؤُنَا أَبْنَاءَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ! قَالَ: يُسْرَى بِهِ فِي لَيْلَةٍ، فَيَذْهَبُ بِمَا فِي الْمَصَاحِفِ وَمَا فِي الْقُلُوبِ، فَتُصْبِحُ النَّاسُ كَالْبَهَائِمِ. ثُمَّ قَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: {وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ} الْآيَةَ. أَخْرَجَهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِمَعْنَاهُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ العزيز ابن رفيع، عن شَدَّادِ بْنِ مَعْقِلٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ- يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ-: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الَّذِي بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ يُوشِكُ أَنْ يُنْزَعَ مِنْكُمْ. قَالَ: قُلْتُ: كَيْفَ يُنْزَعُ مِنَّا وَقَدْ أَثْبَتَهُ اللَّهُ فِي قُلُوبِنَا وَثَبَّتْنَاهُ فِي مَصَاحِفِنَا؟! قَالَ: يُسْرَى عَلَيْهِ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ فَيُنْزَعُ مَا فِي الْقُلُوبِ، وَيَذْهَبُ مَا فِي الْمَصَاحِفِ، وَيُصْبِحُ النَّاسُ مِنْهُ فُقَرَاءَ. ثُمَّ قَرَأَ: {لَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ}، وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ.

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَرْجِع الْقُرْآنُ مِنْ حَيْثُ نَزَلَ، لَهُ دَوِيٌّ كَدَوِيِّ النَّحْلِ، فَيَقُولُ اللَّهُ: مَا بَالُكَ؟ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، مِنْكَ خَرَجْتُ، وَإِلَيْكَ أَعُودُ، أُتْلَى فَلَا يُعْمَلُ بِي، أُتْلَى وَلَا يُعْمَلُ بِي!".

هذا في آخر الزمان، يُرفع القرآن من الصدور ومن المصاحف، وعقيدة أهل السُّنَّة على هذا. يقولون في عقيدتهم عن القرآن أنه كلام الله، غير مخلوق، منه بدأ، وإليه يعود. وإليه يعود، يعني في آخر الزمان، يُرفع من المصاحف، ومن الصدور، نسأل الله العافية.

"قُلْتُ: قَدْ جَاءَ مَعْنَى هَذَا مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَحُذَيْفَةَ. قَالَ حُذَيْفَةَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: «يَدْرُسُ الْإِسْلَامُ كَمَا يَدْرُسُ وَشْيُ الثَّوْبِ، حَتَّى لَا يُدْرَى مَا صِيَامٌ وَلَا صَلَاةٌ وَلَا نُسُكٌ وَلَا صَدَقَةٌ، فَيُسْرَى عَلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فِي لَيْلَةٍ، فَلَا يَبْقَى مِنْهُ فِي الْأَرْضِ آيَةٌ، وَتَبْقَى طَوَائِفُ مِنَ النَّاسِ، الشَّيْخُ الْكَبِيرُ وَالْعَجُوزُ، يَقُولُونَ: أَدْرَكْنَا آبَاءَنَا عَلَى هَذِهِ الْكَلِمَةِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَهُمْ لَا يَدْرُونَ مَا صَلَاةٌ وَلَا صِيَامٌ وَلَا نُسُكٌ وَلَا صَدَقَةٌ». قَالَ لَهُ صِلَةُ: مَا تُغْنِي عَنْهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ! وَهُمْ لَا يَدْرُونَ مَا صَلَاةٌ وَلَا صِيَامٌ وَلَا نُسُكٌ وَلَا صَدَقَةٌ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ حُذَيْفَةُ، ثُمَّ رَدَّدَهَا ثَلَاثًا، كُلُّ ذَلِكَ يُعْرِضُ عَنْهُ حُذَيْفَةُ. ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِ حُذَيْفَةُ فَقَالَ: يَا صِلَةُ! تُنْجِيهِمْ مِنَ النَّارِ، ثَلَاثًا. خَرَّجَهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي السُّنَنِ.

وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: خَرَجَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ مَعْصُوبُ الرَّأْسِ مِنْ وَجَعٍ فَضَحِكَ، فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، مَا هَذِهِ الْكُتُبُ الَّتِي تَكْتُبُونَ أَكِتَابٌ غَيْرَ كِتَابِ اللَّهِ؟ يُوشِكُ أَنْ يَغْضَبَ اللَّهُ لِكِتَابِهِ، فَلَا يَدَعُ وَرَقًا وَلَا قَلْبًا إِلَّا أُخِذَ مِنْهُ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَكَيْفَ بِالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَوْمئِذٍ؟ قَالَ: «مَنْ أَرَادَ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا أَبْقَى فِي قَلْبِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيُّ وَالْغَزْنَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا في التفسير".

أما كون كلمة التوحيد تُنجي صاحبها من النار، فلا شك في ذلك، ووردت بذلك النصوص الصحيحة الصريحة، وهي لمن عرف معناها، وعمل بمقتضاها، ولم يأتِ بمضادها، «أخرجوا من النار من قال: لا إله إلا الله». فهي تُنجي صاحبها من النار، وهي أصل التوحيد.

طالب: كأن العمل هو الذي يُرفع ...

نعم، هذا السبب، سبب الرفع,

طالب: تُرفع حتى ...؟

نعم، تُرفع الحروف. سبب ذلك: كونه لا يعمل به.

طالب: ...

إلا بحقها، إلا بحقها، نعم. إلا بحقها، فمن حقها: الصلاة. المُكفر عند كل من يقول بأن هذا مُكفر، هو من حق لا إله إلا الله، فيكون من لوازمها.

طالب: ..

هي تُنجي، لو من تلبس بالشرك الأكبر وهو يقول: لا إله إلا الله، هل تُنجيه؟ لا تُنجيه، قولًا واحدًا. من ارتكب مُكفِّرًا، معلوم التكفير به من الدين بالضرورة، تُنجيه لا إله إلا الله؟ لا بد من العمل بمقتضاها، وعدم الإتيان بما يُضادها. إنما مجرد قولها من غير علمٍ ولا عملٍ، ما ينفع.

"قوله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [سورة الإسراء:88]

أي: عوينًا ونصيرًا، مثل ما يَتَعَاوَنُ الشُّعَرَاءُ عَلَى بَيْتِ شِعْرٍ فَيُقِيمُونَهُ. نَزَلَتْ حِينَ قَالَ الْكُفَّارُ: لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا، فَأَكْذَبَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِي إِعْجَازِ الْقُرْآنِ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ، وَالْحَمْدُ لله. ولا يَأْتُونَ جَوَابُ الْقَسَمِ فِي {لَئِنِ} وَقَدْ يُجْزَمُ عَلَى إِرَادَةِ الشَّرْطِ. قَالَ الشَّاعِرُ:

لَئِنْ كَانَ مَا حُدِّثْتُهُ الْيَوْمَ صَادِقًا ... أُقِمْ فِي نَهَارِ القيظ للشمس باديًا"

إذا اجتمع شرطٌ وقسم، فالجواب لأيهما؟

{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ}، الجواب: {لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} هذا جواب القسم، وفيه شرط إن. وتقدَّم القسم، فاستحق الجواب. هذا هو الأصل: أن الجواب للسابق منهما. في البيت، الجواب للشرط او للقسم؟

طالب: ........

 للشرط، بدليل: الجزم.

في رواية الخزانة، في الشاهد الرابع والثلاثين بعد التسمية: أصُم في نهار القيظ. أقم، صوابها: أصُم في نهار القيظ للشمس باديًا، يعني: ضاحيًا للشمس، ولا يستتر عنها، والمناسب هنا: الصيام.

طالب: ...

أين؟

طالب: ........

إن.

طالب: ........

إن اجتمعت، الجواب: {لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ}.

طالب: ...

القسم، اللام، اللام دليل على قسم محذوف، واقع في جواب قسم مُقدَّر.

"قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا} [سورة الإسراء:89]

قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} أَيْ: وَجَّهْنَا الْقَوْلَ فِيهِ بِكُلِّ مَثَلٍ يَجِبُ بِهِ الِاعْتِبَارُ، مِنَ الْآيَاتِ وَالْعِبَرِ وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، وَالْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي وَأَقَاصِيصِ الْأَوَّلِينَ، وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالْقِيَامَةِ.

{فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا} يُرِيدُ أَهْلَ مَكَّةَ، بَيَّنَ لَهُمُ الْحَقَّ، وَفَتَحَ لَهُمْ، وَأَمْهَلَهُمْ حَتَّى تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ، فَأَبَوْا إِلَّا الْكُفْرَ وَقْتَ تَبَيُّنِ الْحَقِّ. قَالَ الْمَهْدَوِيُّ: وَلَا حُجَّةَ لِلْقَدَرِيِّ فِي قَوْلِهِمْ: لَا يُقَالُ أَبَى إِلَّا لِمَنْ أَبَى فِعْلَ مَا هُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ".

نعم، هذا قول المُعتزلة، وأن العبد يخلق فعله، وأن الله -جلَّ وعلا- لا يُجبِر المخلوق على أن يفعل ما لا يريد، ومشيئة العبد وإرادته مُستقلة عن إرادة الله -جلَّ وعلا-؛ ولذا سموا: مجوس هذه الأمة؛ لأنهم يزعمون أن هناك خالقًا مع الله -جلَّ وعلا-. فالعبد يخلق فعله، وهنا: العبد يأبى، الله -جلَّ وعلا- يأمره بأن يمتثل، فيأبى.

والجبرية يقولون: لا، أبدًا، على العكس من ذلك، نقيض قول القدرية. يقولون: إن العبد مجبور، ما له أي دور في الفعل، مجبور، حركته كحركة ورق الشجر، لا إرادة له ألبتة، إنما حركته مثل حركة الشجر. نعم، لو لم يكن مجبورًا، لاستقل بالإرادة، وكأن قولهم ردة فعل من قول القدرية. القدرية لما زعموا أن العبد يخلق فعله، وأنه يستقل بمشيئته وإرادته، وأن إرادته غير خاضعة لإرادة الله ولا مشيئته، قالوا أولئك: العبد مجبور، حركته، لا يستطيع أن يتحرك إلا بإرادة الله- -جل وعلا--، وألغوا إرادة العبد ومشيئته، {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى} [سورة الأنفال:17]. فجعلوا حركة الإنسان كحركة الشجر، إذا حرَّكه الهواء.

وأهل السُّنَّة وسط بين المذهبين؛ لأنه لو كان مجبورًا، لما ساغ تعذيبه. لو كان مجبورًا، على قول الجبرية، لما ساغ تعذيبه؛ لأن تعذيبه حينئذٍ يكون ظلمًا من الله -جلَّ وعلا-، {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ} [سورة فصلت:46].

وعلى قول المعتزلة القدرية، لو كان العبد يستقل بخلق فعله، وأنه لا مدخل لإرادة الله- -جل وعلا-- ولا مشيئته في فعل العبد، لأثبتوا خالقًا مع الله -جلَّ وعلا-. وكذلك، فقولهم على طرفي نقيض، وتوسط أهل السُّنَّة والجماعة، وفقهم الله -جلَّ وعلا- إلى التوسط في هذه المسألة وفي غيرها من المسائل، فقالوا: العبد له مشيئة وهو مختار، والله -جلَّ وعلا- بيَّن له الطريق وخيَّره، واختار. لكنه لا يستقل بهذه المشية ولا بهذا الاختيار عن إرادة الله -جلَّ وعلا- ومشيئته، {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ} [سورة التكوير:29]. فله نوع اختيار، وهذا يجده كل إنسان في نفسه، وأنه لا أحد يُجبره على ترك الصلاة، ولا أحد يُجبره على فعل المُحرمات، إنما هو مُختار، طائع مُختار. لكنه لن يفعل غير ما كُتِبَ له وقُدِر له، فإذا أقيمت الصلاة وجلس في بيته، فهو مُختار، من الذي يمنعه من الخروج من بيته إلى المسجد؟ لا أحد، يحرك يده متى شاء، يحرك رجله متى أراد، لكنه إذا أراد الله -جلَّ وعلا- ألا يُحرك، لم يستطع التحريك. فهناك إرادة ومشيئة، لكنها تابعة لإرادة الله- -جل وعلا-- ومشيئته.

فلا حجة للقدرية في هذه الآية، كما أنه لا حجة للجبرية في مثل قوله -جلَّ وعلا-: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى} [سورة الأنفال:17]، هو أثبت له الرمي: {إِذْ رَمَيْتَ}، لكنه نفى عنه الرمي المُطلق، الذي لم يُقيد برمي الله -جلَّ وعلا-.

فالمقصود بالرمي المُثبَت: قذف الحجارة، {وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى} يعني أصاب، الإصابة من الله- -جل وعلا--، والرمي من المخلوق. فأثبت له فعلًا، ونفى عنه آخر، فدلَّ على أن له فعلًا يستقل به، مُخيرٌ فيه، طائعٌ، مُختار، لكنه إذا أراد الله -جلَّ وعلا- الإصابة أصاب، وإلا فلا.

"وَلَا حُجَّةَ لِلْقَدَرِيِّ فِي قَوْلِهِمْ: لَا يُقَالُ أَبَى إِلَّا لِمَنْ أَبَى فِعْلَ مَا هُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْكَافِرَ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ قَادِرٍ عَلَى الْإِيمَانِ بِحُكْمِ اللَّهِ عَلَيْهِ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُ وَطَبْعِهِ عَلَى قَلْبِهِ، فَقَدْ كَانَ قَادِرًا وَقْتَ الْفُسْحَةِ وَالْمُهْلَةِ عَلَى طلب الحق وتمييزه من الباطل.

قوله تعالى: {وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا} [سورة الإسراء:90]

الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي رُؤَسَاءِ قُرَيْشٍ، مِثْلِ: عُتْبَةَ وَشَيْبَةَ ابْنَيْ رَبِيعَةَ، وَأَبِي سُفْيَانَ وَالنَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ، وَأَبِي جَهْلٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ، وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ وَأَبِي البُختري".

البَختري.

"وأبي الْبَخْتَرِيِّ، وَالْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَغَيْرِهِمْ. وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمَّا عَجَزُوا عَنْ مُعَارَضَةِ الْقُرْآنِ وَلَمْ يَرْضَوْا بِهِ مُعْجِزَةً، اجْتَمَعُوا -فِيمَا ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ- بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ عِنْدَ ظَهْرِ الْكَعْبَةِ، ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: ابْعَثُوا إِلَى مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم- فَكَلِّمُوهُ وَخَاصِمُوهُ حَتَّى تُعْذَرُوا فِيهِ، فَبَعَثُوا إِلَيْهِ: أَنَّ أَشْرَافَ قَوْمِكَ قَدِ اجْتَمَعُوا إِلَيْكَ لِيُكَلِّمُوكَ فَأْتِهِمْ، فَجَاءَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ يَظُنُّ أَنْ قَدْ بَدَا لَهُمْ فِيمَا كَلَّمَهُمْ فِيهِ بَدْوٌ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حَرِيصًا يُحِبُّ رُشْدَهُمْ وَيَعِزُّ عَلَيْهِ عَنَتْهُمْ، حَتَّى جَلَسَ إِلَيْهِمْ، فَقَالُوا لَهُ: يَا مُحَمَّدُ! إِنَّا قَدْ بَعَثْنَا إِلَيْكَ لِنُكَلِّمَكَ، وَإِنَّا وَاللَّهِ مَا نَعْلَمُ رَجُلًا مِنَ الْعَرَبِ أَدْخَلَ عَلَى قَوْمِهِ مَا أَدْخَلْتَ عَلَى قَوْمِكَ، لَقَدْ شَتَمْتَ الْآبَاءَ وَعِبْتَ الدِّينَ، وَشَتَمْتَ الْآلِهَةَ، وَسَفَّهْتَ الْأَحْلَامَ، وَفَرَّقْتَ الْجَمَاعَةَ، فَمَا بَقِيَ أَمْرٌ قَبِيحٌ إِلَّا قَدْ جِئْتَهُ فِيمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ، أَوْ كَمَا قَالُوا لَهُ. فَإِنْ كُنْتَ إِنَّمَا جِئْتَ بِهَذَا الْحَدِيثِ تَطْلُبُ بِهِ مَالًا جَمَعْنَا لَكَ مِنْ أَمْوَالِنَا حَتَّى تَكُونَ أَكْثَرَنَا مَالًا، وَإِنْ كُنْتَ إِنَّمَا تَطْلُبُ بِهِ الشَّرَفَ فِينَا فَنَحْنُ نُسَوِّدُكَ عَلَيْنَا، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ بِهِ مُلْكًا مَلَّكْنَاكَ عَلَيْنَا، وَإِنْ كَانَ هَذَا الَّذِي يَأْتِيكَ رَئِيًّا تَرَاهُ قَدْ غَلَبَ عَلَيْكَ -وَكَانُوا يُسَمُّونَ التَّابِعَ مِنَ الْجِنِّ رَئِيًّا- فَرُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ بَذَلْنَا أَمْوَالَنَا فِي طَلَبِ الطِّبِّ لَكَ حَتَّى نُبْرِئَكَ مِنْهُ أَوْ نُعْذَرَ فِيكَ.

 فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: «مَا بِي مَا تَقُولُونَ، مَا جِئْتُ بِمَا جِئْتُكُمْ بِهِ أَطْلُبُ أَمْوَالَكُمْ وَلَا الشَّرَفَ فِيكُمْ وَلَا الْمُلْكَ عَلَيْكُمْ، وَلَكِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ رَسُولًا، وَأَنْزَلَ عَلَيَّ كِتَابًا، وَأَمَرَنِي أَنْ أَكُونَ لَكُمْ بَشِيرًا وَنَذِيرًا، فَبَلَّغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي، وَنَصَحْتُ لَكُمْ، فَإِنْ تَقْبَلُوا مِنِّي مَا جِئْتُكُمْ بِهِ فَهُوَ حَظُّكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنْ تَرُدُّوهُ عَلَيَّ أَصْبِر لِأَمْرِ اللَّهِ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ»، أَوْ كَمَا قَالَ -صلى الله عليه وسلم-.

قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، فَإِنْ كُنْتَ غَيْرَ قَابِلٍ مِنَّا شَيْئًا مِمَّا عَرَضْنَاهُ عَلَيْكَ، فَإِنَّكَ قَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ أَضْيَقَ بَلَدًا وَلَا أَقَلَّ مَاءً وَلَا أَشَدَّ عَيْشًا مِنَّا، فَسَلْ لَنَا رَبَّكَ الَّذِي بَعَثَكَ بِمَا بَعَثَكَ بِهِ، فَلْيُسَيِّرْ عَنَّا هَذِهِ الْجِبَالَ الَّتِي قَدْ ضُيِّقَتْ عَلَيْنَا، وَلْيَبْسُطْ لَنَا بِلَادَنَا، وَلْيَخْرِقْ لَنَا فِيهَا أَنْهَارًا كَأَنْهَارِ الشَّامِ، وَلْيَبْعَثْ لَنَا مَنْ مَضَى مِنْ آبَائِنَا، وَلْيَكُنْ فِيمَنْ يَبْعَثُ لَنَا قُصَيُّ بْنُ كِلَابٍ، فَإِنَّهُ كَانَ شَيْخَ صِدْقٍ، فَنَسْأَلْهُمْ عَمَّا تَقُولُ، أَحَقٌّ هُوَ أَمْ بَاطِلٌ، فَإِنْ صَدَّقُوكَ وَصَنَعْتَ مَا سَأَلْنَاكَ صَدَّقْنَاكَ، وَعَرَفْنَا بِهِ مَنْزِلَتَكَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّهُ بَعَثَكَ رَسُولًا كَمَا تَقُولُ. فَقَالَ لَهُمْ -صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ-: «مَا بِهَذَا بُعِثْتُ إِلَيْكُمْ، إِنَّمَا جِئْتُكُمْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا بَعَثَنِي بِهِ، وَقَدْ بَلَّغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ، فَإِنْ تَقْبَلُوهُ فَهُوَ حَظُّكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ»".

يقبلون شهادة هؤلاء الأموات؛ لأنهم عاينوا ما بعد الموت، مما يُنكرونه من البعث، فإن كانوا سُئلوا في قبورهم، صدَّقوهم، هذا على حد زعمهم. فقال لهم النبي -عليه الصلاة والسلام-: «ما بهذا بُعثت إليكم»، من مات فات، لن يُبعث، لن يُبعث من مات قبل يوم القيامة، قبل أن تقوم الساعة، ثمَّ يُبعث الناس بعد ذلك. أسئلة تعنُّت، والنبي -عليه الصلاة والسلام- معروفٌ صدقه عندهم، معروف بالصدق، يسمونه: الصادق الأمين، لكن هذا من باب التعنت.

"فَقَالَ لَهُمْ -صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ-: «مَا بِهَذَا بُعِثْتُ إِلَيْكُمْ، إِنَّمَا جِئْتُكُمْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا بَعَثَنِي بِهِ، وَقَدْ بَلَّغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ، فَإِنْ تَقْبَلُوهُ فَهُوَ حَظُّكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنْ تَرُدُّوهُ عَلَيَّ أَصْبِر لِأَمْرِ اللَّهِ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ».

 قَالُوا: فَإِذَا لَمْ تَفْعَلْ هَذَا لَنَا، فَخُذْ لِنَفْسِكَ! سَلْ رَبَّكَ أَنْ يَبْعَثَ مَعَكَ مَلَكًا يُصَدِّقُكَ بِمَا تَقُولُ وَيُرَاجِعَنَا عَنْكَ، وَاسْأَلْهُ فَلْيَجْعَلْ لَكَ جِنَانًا وَقُصُورًا وَكُنُوزًا مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ يُغْنِيَكَ بِهَا عَمَّا نَرَاكَ تَبْتَغِي، فَإِنَّكَ تَقُومُ بِالْأَسْوَاقِ، وَتَلْتَمِسُ الْمَعَاشَ كَمَا نَلْتَمِسُ؛ حَتَّى نَعْرِفَ فَضْلَكَ وَمَنْزِلَتَكَ مِنْ رَبِّكَ، إِنْ كُنْتَ رَسُولًا كَمَا تَزْعُمُ.

فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: «مَا أَنَا بِفَاعِلٍ، وَمَا أَنَا بِالَّذِي يَسْأَلُ رَبَّهُ هَذَا، وَمَا بُعِثْتُ بِهَذَا إِلَيْكُمْ، وَلَكِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي بَشِيرًا وَنَذِيرًا- أَوْ كَمَا قَالَ-، فَإِنْ تَقْبَلُوا مِنِّي مَا جِئْتُكُمْ بِهِ فَهُوَ حَظُّكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنْ تَرُدُّوهُ عَلَيَّ أَصْبِر لِأَمْرِ اللَّهِ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ»، قَالُوا: فَأَسْقِطِ السَّمَاءَ عَلَيْنَا كِسَفًا كَمَا زَعَمْتَ أَنَّ رَبَّكَ إِنْ شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلَ.

قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: «ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، إِنْ شَاءَ أَنْ يَفْعَلَهُ بِكُمْ فَعَلَ»، قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، فَمَا عَلِمَ رَبُّكَ أَنَّا سَنَجْلِسُ مَعَكَ وَنَسْأَلُكَ عما سألنا عَنْهُ وَنَطْلُبُ مِنْكَ مَا نَطْلُبُ، فَيَتَقَدَّمَ إِلَيْكَ فَيُعْلِمَكَ بِمَا تُرَاجِعَنَا بِهِ، وَيُخْبِرَكَ مَا هُوَ صَانِعٌ فِي ذَلِكَ بِنَا إِذْ لَمْ نَقْبَلْ مِنْكَ مَا جِئْتِنَا بِهِ. إِنَّهُ قَدْ بَلَغَنَا أنك إِنَّمَا يُعْلِّمُكَ هَذَا رَجُلٌ مِنَ الْيَمَامَةِ يُقَالُ لَهُ: الرَّحْمَنُ، وَإِنَّا وَاللَّهِ لَا نُؤْمِنُ بِالرَّحْمَنِ أَبَدًا، فَقَدْ أَعْذَرْنَا إِلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ، وَإِنَّا وَاللَّهِ لَا نَتْرُكُكَ وَمَا بَلَغْتَ مِنَّا حَتَّى نُهْلِكَكَ أَوْ تُهْلِكَنَا.

وَقَالَ قَائِلُهُمْ: نَحْنُ نَعْبُدُ الْمَلَائِكَةَ، وَهِيَ بَنَاتُ اللَّهِ. وَقَالَ قَائِلُهُمْ: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا.

فَلَمَّا قَالُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، قَامَ عَنْهُمْ وَقَامَ مَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ، وَهُوَ ابْنُ عَمَّتِهِ، هُوَ لِعَاتِكَةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فقال له: يا محمد، عَرض عليك قَوْمُكَ مَا عَرَضُوا فَلَمْ تَقْبَلْهُ مِنْهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوكَ لِأَنْفُسِهِمْ أُمُورًا لِيَعْرِفُوا بِهَا مَنْزِلَتَكَ مِنَ اللَّهِ كَمَا تَقُولُ، وَيُصَدِّقُوكَ وَيَتَّبِعُوكَ فَلَمْ تَفْعَلْ، ثُمَّ سَأَلُوكَ أَنْ تَأْخُذَ لِنَفْسِكَ مَا يَعْرِفُونَ بِهِ فَضْلَكَ عَلَيْهِمْ وَمَنْزِلَتَكَ مِنَ اللَّهِ فَلَمْ تَفْعَلْ، ثُمَّ سَأَلُوكَ أَنْ تُعَجِّلَ لَهُمْ بَعْضَ مَا تُخَوِّفُهُمْ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ فَلَمْ تَفْعَلْ- أو كما قال له-، فوالله لا أؤمن بِكَ أَبَدًا حَتَّى تَتَّخِذَ إِلَى السَّمَاءِ سُلَّمًا، ثُمَّ تَرْقَى فِيهِ وَأَنَا أَنْظُرُ حَتَّى تَأْتِيَهَا، ثُمَّ تَأْتِي مَعَكَ بِصَكٍّ مَعَهُ أَرْبَعَةٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَشْهَدُونَ لَكَ أَنَّكَ كَمَا تَقُولُ. وَايْمُ اللَّهِ لَوْ فَعَلْتَ ذَلِكَ، مَا ظَنَنْتُ أَنِّي أُصَدِّقُكَ".

وهذا لن يصدقه، هذا تعنُّت، هذا كله من باب التعنُّت والتعجيز للنبي -عليه الصلاة والسلام-؛ لأن هؤلاء السادة، سادة الكفار وصناديد العرب، مرتزقة، هذه السيادة لن يتنازلوا عنها بكل بساطة، إلا من أراد الله -جلَّ وعلا- له الهداية.

ولذا من أصعب الأمور أن يهتدي رأس من رؤوس المنافقين أو رؤوس الكفار أو رؤوس المُبتدعة؛ لأنه مُستفيد من رئاسته، ويظن ويسوِّل ويُخيل له الشيطان أنه إذا اهتدى واستجاب إلى دعوة الحق، أنه تضيع عنه هذه الأمور. وسبب نفاق رأس المنافقين، عبد الله بن أبي، أنه قبل مجيء النبي -عليه الصلاة والسلام- كانوا اجتمعوا على أن يسوِّدوه، فلما قدِمَ النبي -عليه الصلاة والسلام- ما حصل له شيء، فشرق بالدعوة، وهكذا شأن الكبراء والروؤساء والملأ من القوم، بينما ضعاف الناس وفقراؤهم، يتبعون الأنبياء بسرعة، ولا يأسفون على شيءٍ تركوه، وإن كانت هذه القاعدة أغلبية؛ لأن من أشراف القوم وسادتهم أبا بكر وعُمر. قد جاء في حديث هرقل لما سأل أبا سفيان: أشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ قال: ضعفاؤهم، وهذه هي العلة؛ لأن السادة والكبراء مرتزقة، وإذا أسلموا، فالإسلام يقضي على كثيرٍ من هذه الجبايات التي يرتزقون بسببها. فضعفاء الناس، الذين ليس لهم مصلحة من كفرهم، هؤلاء سهلٌ دخولهم في دعوة الحق، إن سلموا من حيلولة هؤلاء الكبراء، وتضليلهم، فهم يستجيبون للدعوة. وإن كان قول أبي سفيان: يتبعه الضعفاء لا الأشراف، قولٌ أغلبي، وليس بكلي، ليس بكلي؛ لأن أبا بكر وعُمَر من أشراف القوم وسادتهم.

"ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، وَانْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى أَهْلِهِ حَزِينًا آسِفًا لِمَا فَاتَهُ مِمَّا كَانَ يَطْمَعُ بِهِ مِنْ قَوْمِهِ حِينَ دَعَوْهُ، وَلِمَا رَأَى مِنْ مُبَاعَدَتِهِمْ إِيَّاهُ، كُلُّهُ لَفْظُ ابْنِ إِسْحَاقَ.

وَذَكَرَ الْوَاحِدِيُّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا} الآية. {يَنْبُوعًا} يَعْنِي الْعُيُونَ، عَنْ مُجَاهِدٍ. وَهِيَ يَفْعُولٌ، مِنْ نَبَعَ يَنْبَعُ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ "تَفْجُرَ لَنَا" مُخَفَّفَةً، وَاخْتَارَهُ أَبُو حَاتِمٍ؛ لِأَنَّ الْيَنْبُوعَ وَاحِدٌ".

نعم، لو كانت تُفجِّر تفجيرًا، بالتشديد؛ للتكثير، لصارت تُفجر ينابيع، أما الينبوع الواحد، فهو يحتاج إلى فجرٍ واحد.

"وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي تَفَجُّرِ الْأَنْهَارَ أَنَّهُ مُشَدَّدٌ".

نعم؛ لأن التفجير تكثير، والأنهار كثيرة.

"قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَالْأُولَى مِثْلُهَا. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَيْسَتْ مِثْلَهَا؛ لِأَنَّ الْأُولَى بَعْدَهَا يَنْبُوعٌ وَهُوَ وَاحِدٌ، وَالثَّانِيَةُ بَعْدَهَا الْأَنْهَارُ وَهِيَ جَمْعٌ، وَالتَّشْدِيدُ يَدُلُّ عَلَى التَّكْثِيرِ. وأُجِيبَ بِأَنَّ {يَنْبُوعًا} وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا فَالْمُرَادُ بِهِ الْجَمْعُ، كَمَا قَالَ مُجَاهِدٌ. الْيَنْبُوعُ عَيْنُ الْمَاءِ، وَالْجَمْعُ الْيَنَابِيعُ. وَقَرَأَ قتادة "أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ".

{خِلالَها} أَيْ وَسَطَهَا. {أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ} قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ "أَوْ يَسْقُطَ السَّمَاءُ" عَلَى إِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَى السَّمَاءِ.

{كِسَفًا} قِطَعًا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ. وَالْكِسَفُ (بِفَتْحِ السِّينِ) جَمْعُ كِسْفَةٍ، وَهِيَ قِرَاءَةُ نَافِعٍ وَابْنِ عَامِرٍ وَعَاصِمٍ. وَالْبَاقُونَ "كِسَفًا" بِإِسْكَانِ السِّينِ. قَالَ الْأَخْفَشُ: مَنْ قَرَأَ كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ جَعَلَهُ وَاحِدًا، وَمَنْ قَرَأَ كِسَفًا جَعَلَهُ جَمْعًا. قَالَ الْمَهْدَوِيُّ: وَمَنْ أَسْكَنَ السِّينَ جَازَ أَنْ يَكُونَ جَمْع كِسْفَةٍ، وَجَازَ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا، مِنْ كَسَفْتُ الشَّيْءَ إِذَا غَطَّيْتُهُ. فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: أَسْقِطْهَا طَبَقًا عَلَيْنَا. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ. الْكِسْفَةُ الْقِطْعَةُ مِنَ الشَّيْءِ، يُقَالُ: أَعْطِنِي كِسْفَةً مِنْ ثَوْبِكَ، وَالْجَمْعُ كِسَفٌ وَكِسْفٌ. وَيُقَالُ: الْكِسْفَةُ وَاحِدٌ.

{أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا} أَيْ مُعَايَنَةً".

مقابلة، مقابلة، معاينة، نعم.

"عَنْ قَتَادَةَ وَابْنِ جُرَيْجٍ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَابْنُ عَبَّاسٍ: كَفِيلًا. وقَالَ مُقَاتِلٌ: شَهِيدًا. وقال مُجَاهِدٌ: هُوَ جَمْعُ الْقَبِيلَةِ، أَيْ بِأَصْنَافِ الْمَلَائِكَةِ قَبِيلَةً قَبِيلَةً. وَقِيلَ: ضُمَنَاءَ يَضْمَنُونَ لَنَا إِتْيَانَكَ بِهِ.

{أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ} أَيْ: مِنْ ذَهَبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ. وَأَصْلُهُ الزِّينَةُ. وَالْمُزَخْرَفُ الْمُزَيَّنُ. وَزَخَارِفُ الْمَاءِ طَرَائِقُهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كُنْتُ لَا أَدْرِي مَا الزُّخْرُفُ حَتَّى رَأَيْتُهُ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: "بَيْتٌ مِنْ ذَهَبٍ" أَيْ: نَحْنُ لَا نَنْقَادُ لَكَ مَعَ هَذَا الْفَقْرِ الَّذِي نَرَى.

{أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ} أَيْ: تَصْعَدُ، يُقَالُ: رَقِيتُ فِي السُّلَّمِ أَرْقَى رُقِيًّا وَرَقْيًا إِذَا صَعِدْتُ. وَارْتَقَيْتُ مِثْلُهُ.

{وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ} أَيْ: مِنْ أَجْلِ رُقِيِّكَ، وَهُوَ مَصْدَرٌ، نَحْوُ مَضَى يَمْضِي مُضِيًّا، وَهَوَى يَهْوِي هُوِيًّا، كَذَلِكَ رَقِيَ يَرْقَى رُقِيًّا.

{حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتابًا نَقْرَؤُهُ} أَيْ: كِتَابًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى كُلِّ رَجُلٍ مِنَّا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفًا مُنَشَّرَةً} [سورة المدثر:52].

{قُلْ سُبْحانَ رَبِّي} وَقَرَأَ أَهْلُ مَكَّةَ وَالشَّامِ: " قَالَ سُبْحَانَ رَبِّي" يَعْنِي النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-، أَيْ: قَالَ ذَلِكَ تَنْزِيهًا لِلَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- عَنْ أَنْ يعجز عن شيء، وَعَنْ أَنْ يُعْتَرَضَ عَلَيْهِ فِي فِعْلٍ. وَقِيلَ: هَذَا كُلُّهُ تَعَجُّبٌ عَنْ فَرْطِ كُفْرِهِمْ وَاقْتِرَاحَاتِهِمْ. الْبَاقُونَ: " قُلْ" عَلَى الْأَمْرِ، أَيْ: قُلْ لَهُمْ يا محمد {هلْ كُنْتُ} أَيْ: مَا أَنَا {إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا}".

كفار قريش، هذه اقتراحات اقترحوها على النبي -عليه الصلاة والسلام- وأمور كثيرة، بل تجاوزوا واقترحوا على الله -جلَّ وعلا-، قالوا: {لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [سورة الزخرف:31] من القريتين عظيم غير محمد، هم اقترحوا رجلين منهم: عروة بن مسعود الثقفي من الطائف، وأبو جهل من مكة، هم في ظنهم ونظرهم أعظم من النبي -عليه الصلاة والسلام- هذا الرجل اليتيم، لو بُحِث عن غيره، يقترحون على الله- -جل وعلا--، وهذا من شدة كفرهم وعنادهم- نسأل الله السلامة والعافية-. ليس بغريب أن يقترحوا على النبي -عليه الصلاة والسلام-.

طالب: إذا كانت الرواية ضعيفة، لكن فيها آيات قرآن ...

تكون من باب التفسير، أو من باب سبب النزول، إن كانت سبب نزول، ذُكرت القصة، فأنزل الله- -جل وعلا-- كذا. فسبب النزول، إنما يُطلب له الصحيح من الأخبار؛ لأن له حكم الرفع. وأما إذا كان مجرد توضيح، توضيح لمعنى الآيات، هو مُتجه، يعني معني صحيح، ونُسِب إلى غير النبي -عليه الصلاة والسلام-، وهو صحيح المعنى، كثيرٌ من أهل العلم يقبلونه؛ لأن التفسير لا يُشترط له مثل ما يُشترط للأحكام من صحة الأسانيد وثبوتها، الثبوت الذي يقطع العذر.

طالب: قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ "بَيْتٌ مِنْ ذَهَبٍ" ...

نعم؟

طالب: ........

ماذا فيه؟

طالب: ........

من زخرف، لا تفسيرية، أو تكون من باب القراءة بأحد الأحرف السبعة. إذا كان معنى الأحرف السبعة، عند بعض أهل العلم، يقول: هلم وتعال واقبل، فالزخرف هو الذهب، سواءٌ قيل من ذهب أو من زخرف، فالمعنى لا يختلف.

"{إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا} أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي، وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَيْسَتْ فِي قُدْرَةِ الْبَشَرِ، فَهَلْ سَمِعْتُمْ أَحَدًا مِنَ الْبَشَرِ أَتَى بِهَذِهِ الْآيَاتِ؟ وَقَالَ بَعْضُ الْمُلْحِدِينَ: لَيْسَ هَذَا جَوَابًا مُقْنِعًا، وَغَلِطُوا؛ لِأَنَّهُ أَجَابَهُمْ فَقَالَ: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ لَا أَقْدِرُ عَلَى شي مِمَّا سَأَلْتُمُونِي، وَلَيْسَ لِي أَنْ أَتَخَيَّرَ عَلَى رَبِّي، وَلَمْ تَكُنِ الرُّسُلُ قَبْلِي يَأْتُونَ أُمَمَهُمْ بِكُلِّ مَا يُرِيدُونَهُ وَيَبْغُونَهُ، وَسَبِيلِي سَبِيلُهُمْ"

في جوابه -عليه الصلاة والسلام-: {هلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا} لا أقدر على ما ذكرتم، {رَسُولًا} مُبلِّغ عمن أرسلني، ليس من حقي أن أعترض أو أقترح، هذا فيه الجواب، كافٍ.

"وَكَانُوا يَقْتَصِرُونَ عَلَى مَا أَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ آيَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّتِهِمْ، فَإِذَا أَقَامُوا عَلَيْهِمُ الْحُجَّةَ لَمْ يَجِبْ لِقَوْمِهِمْ أَنْ يَقْتَرِحُوا غَيْرَهَا، وَلَوْ وَجَبَ عَلَى اللَّهِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بِكُلِّ مَا يَقْتَرِحُونَهُ مِنَ الْآيَاتِ لَوَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بِمَنْ يَخْتَارُونَهُ مِنَ الرُّسُلِ، وَلَوَجَبَ لِكُلِّ إنسانٍ أن يقول: لا أومن حَتَّى أُوتَى بِآيَةٍ خِلَافَ مَا طَلَبَ غَيْرِي. وَهَذَا يَؤُولُ إِلَى أَنْ يَكُونَ التَّدْبِيرُ إِلَى الناس، وإنما التدبير إلى الله تعالى".

نعم، لو كان كل إنسان لا يؤمن حتى يقترح آية، ثمَّ يُحقق هذا الاقتراح، الله -جل وعلا- في قدرته تلبية هذه الاقتراحات، وأن يُعطي كل إنسان ما سأل. لكن يؤول إلى أن يكون الأمر بيد البشر، لا بيد الله -جل وعلا-. يقترحون هذا الاقتراح، وبعضهم يقترح هذا الاقتراح، وبعضهم، كما اقترح بعض الزنادقة والملحدين، يسألون يقولون: هل يستطيع الرب -جل وعلا- أن يخلق صخرةً لا يستطيع تفتيتها؟ هذا اقتراح، طلب للمتناقضات، هذا طلب للجمع بين النقيضين، يستطيع، لا يستطيع. إثباتٌ للاستطاعة، ونفيٌ لها في آنٍ واحد، جمعٌ بين النقيضين، والجمع بين النقيضين مُحال، وهو في عُرف أهل العلم ليس بشيء، ليدخل تحت ما يتصور القدرة عليه. الله سبحانه وتعالى على كل شيءٍ قدير، لكن هذان متناقضان، هذه أمور متناقضة، يعني وجود وعدم في آنٍ واحد، والجمع بين النقيضين، لا يدخل في مسمى الشيء.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى} [سورة الإسراء:94] يَعْنِي الرُّسُلَ وَالْكُتُبَ من عند الله بالدعاء إليه. {إِلَّا أَنْ قالُوا} جهلًا منهم. {أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا} أي: الله أجل من أن يكون رسوله من البشر، فبيَّن الله تعالى فرط عنادهم؛ لأنهم قالوا: أنت مثلنا فلا يلزمنا الانقياد، وغفلوا عن المعجزة. "فَأَنْ" الْأُولَى فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بِإِسْقَاطِ حَرْفِ الْخَفْضِ. وَ"أَنْ" الثَّانِيَةُ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ بـ" مَنَعَ" أَيْ: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ مِنْ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا قَوْلُهُمْ: أَبَعَثَ اللَّهُ بشر رسولًا".

ما منعهم إلا قولهم، ما منعهم عن الإيمان، ما منع هؤلاء الناس عن أن يؤمنوا إلا قولهم: {أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا}.

"قوله تعالى: {قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكًا رَسُولًا} [سورة الإسراء:95]

أعلم اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْمَلَكَ إِنَّمَا يُرْسَلُ إِلَى الْمَلَائِكَةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَرْسَلَ مَلَكًا إِلَى الْآدَمِيِّينَ لَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يَرَوْهُ عَلَى الْهَيْئَةِ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا أَقْدَرَ الْأَنْبِيَاءَ عَلَى ذَلِكَ، وَخَلَقَ فِيهِمْ مَا يَقْدِرُونَ بِهِ؛ لِيَكُونَ ذَلِكَ آيَةً لَهُمْ وَمُعْجِزَةً. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي "الْأَنْعَامِ" نظير هذه الآية، وهو قوله: {وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (*) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكًا لَجَعَلْناهُ رَجُلًا} [سورة الأنعام:8-9]، وقد تقدَّم الكلام فيه".

لأنه لو جاءهم ملك على خِلْقته، ما استطاعوا التعامل معه. لكن لو قُدِّر أنه جاءهم ملك، لجاءهم على صورة رجل يمكن أن يتعاملوا معه من خلال هذه الصورة وهذه الكيفية. لكن إذا جاءهم ملك على صورة رجل، فما الفرق بينه وبين الرجل الذي من البشر، من الإنسان؟ يعني لو جاءهم ملك على صورة رجل، لقالوا: نريد ملكًا، هذا رجل؛ ولذا لو جاءهم على خلقته وعلى هيئته، ما استطاعوا أن يتعاملوا؛ لأن التجانس في التعامل أمرٌ لا بد منه. التجانس لا بد منه في التعامل. لكن لو جاءهم ملك، ما استطاعوا، ولو جُعِل الملك على صورة رجل، ما حُقِّق طلبهم، من وجهة نظرهم. يريدون ملكًا.

"قوله تعالى: {قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} [سورة الإسراء:96]

يُرْوَى أَنَّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ قَالُوا حِينَ سَمِعُوا قَوْلَهُ: {هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا}: فَمَنْ يَشْهَدُ لَكَ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، فَنَزَلَ {قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا}.

قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ} [سورة الإسراء:97] أَيْ: لَوْ هَدَاهُمُ اللَّهُ لَاهْتَدَوْا. {وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ} أَيْ: لَا يَهْدِيهِمْ أَحَدٌ.

{وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ} فِيهِ وَجْهَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ ذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِسْرَاعِ بِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ، مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: قَدِمَ الْقَوْمُ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِذَا أَسْرَعُوا.

الثَّانِي: أَنَّهُمْ يُسْحَبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ، كَمَا يُفْعَلُ فِي الدُّنْيَا بِمَنْ يُبَالَغُ فِي هَوَانِهِ وَتَعْذِيبِهِ. وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ؛ لِحَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ، أَيُحْشَرُ الْكَافِرُ عَلَى وَجْهِهِ؟".

استغراب، يستغربون. كيف يُحشر الإنسان على وجهه؟ هل معناه أنه يمشي على وجهه بفعله هو؟ أم يُسحب على وجهه؟ فكان الجواب الشافي: مَن أمشاه على رجليه، يحشره على وجهه. قدرة صالحة للإلهية، لا غرابة في ذلك.

"قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: «أَلَيْسَ الَّذِي أَمَشَاهُ عَلَى الرِّجْلَيْنِ قَادِرًا عَلَى أَنْ يُمْشِيَهُ عَلَى وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، قَالَ قَتَادَةُ حِينَ بَلَغَهُ: بَلَى وَعِزَّةِ رَبِّنَا، أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَحَسْبُكَ.

{عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ: أَيْ: عُمْيٌ عَمَّا يَسُرُّهُمْ، بُكْمٌ عَنِ التَّكَلُّمِ بِحُجَّةٍ، صُمٌّ عَمَّا يَنْفَعُهُمْ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ حَوَاسُّهُمْ بَاقِيَةٌ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: إِنَّهُمْ يُحْشَرُونَ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي وَصَفَهُمُ اللَّهُ بِهَا؛ لِيَكُونَ ذَلِكَ زِيَادَةً فِي عَذَابِهِمْ".

تكون هذه الأوصاف حقيقية، وعلى القول الأول: الأوصاف باقية، حقيقتها موجودة، لكن لما لم يُنتفع بها، ولن يُنتفع بها، صار وجودها مثل عدمها، ونفيها مُتجه. كما وصف بذلك من وصف في الدنيا، وإذا نظرت إلى السمع الحقيقي، إذا هو يسمع، وإذا نظرت للبصر، إذا هو يرى ويُبصر، وله عقل يميز به بين الأمور، لكن لما لم ينتفع بهذه الأمور، صار وجودها مثل عدمها، وساغ نفيها.

"وَقِيلَ: إِنَّهُمْ يُحْشَرُونَ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي وَصَفَهُمُ اللَّهُ بِهَا؛ لِيَكُونَ ذَلِكَ زِيَادَةٌ فِي عَذَابِهِمْ".

{وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (*) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا} [سورة طه:124-125]، دلَّ على أنه يُحشر أعمى بالفعل، فاقد البصر. كما أنه يُحشر آكل الربا في قول جمعٍ من أهل العلم، يُحشر مجنونًا، كـ{الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [سورة البقرة:275]، نسأل الله العافية.

"ثُمَّ يُخْلَقُ ذَلِكَ لَهُمْ فِي النَّارِ، فَأَبْصَرُوا؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَيْ: {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها} [سورة الكهف:53]، وَتَكَلَّمُوا؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُورًا} [سورة الفرقان:13]، وَسَمِعُوا؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {سَمِعُوا لَها تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} [سورة الفرقان:12]. وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ سليمان: إذا قيل لهم: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} [سورة المؤمنون:108] صَارُوا عُمْيًا لَا يُبْصِرُونَ، صُمًّا لَا يَسْمَعُونَ، بُكْمًا لَا يَفْقَهُونَ. وَقِيلَ: عَمُوا حِينَ دَخَلُوا النَّارَ؛ لِشِدَّةِ سَوَادِهَا، وَانْقَطَعَ كَلَامُهُمْ حِينَ قِيلَ لَهُمْ: اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ. وَذَهَبَ الزَّفِيرُ وَالشَّهِيقُ بِسَمْعِهِمْ فَلَمْ يَسْمَعُوا شَيْئًا.

{مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ} أَيْ: مُسْتَقَرُّهُمْ وَمُقَامُهُمْ. {كُلَّما خَبَتْ} أي: سكنت، عن الضحاك وَغَيْرِهِ. وعن مُجَاهِدٌ: طَفِئَتْ. يُقَالُ: خَبَتِ النَّارُ تَخْبُو خَبْوًا أَيْ طَفِئَتْ، وَأَخْبَيْتُهَا أَنَا.

{زِدْناهُمْ سَعِيرًا} أي: نار تَتَلَهَّبُ. وَسُكُونُ الْتِهَابِهَا مِنْ غَيْرِ نُقْصَانٍ فِي آلَامِهِمْ وَلَا تَخْفِيفٍ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهِمْ. وَقِيلَ: إِذَا أَرَادَتْ أَنْ تَخْبُوَ، كَقَوْلِهِ: {وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ} [سورة الإسراء:45] .

قَوْلُهُ تَعَالَى: {ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا} أي: ذلك العذاب جزاء كفرهم. {وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظامًا وَرُفاتًا} أي: ترابًا. {أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا} فَأَنْكَرُوا الْبَعْثَ، فَأَجَابَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فَقَالَ: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ} قيل: في الكلام تقديم وتأخير، أي: أو لم يروا أن الله الذي خلق السموات وَالْأَرْضَ، وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ. وَالْأَجَلُ: مُدَّةُ قِيَامِهِمْ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ مَوْتُهُمْ، وَذَلِكَ مَا لَا شَكَّ فِيهِ إِذْ هُوَ مُشَاهَدٌ".

ما فيه أحد من البشر يُنكر الموت، {وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ} الذي هو الموت. الموت لا يُنكره أحد، لكن الشأن في غير المُشاهد، أما المُشاهد فلا يُنكره أحد، الكلام على البعث.

طالب: ...

بلا شك هذا من الأدلة، بل من أوضح الأدلة.

"وَقِيلَ: هُوَ جَوَابُ قَوْلِهِمْ: {أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفًا}. وَقِيلَ: وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ.

{فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا} أَيِ: الْمُشْرِكُونَ إِلَّا جُحُودًا بِذَلِكَ الْأَجَلِ وَبِآيَاتِ اللَّهِ. وَقِيلَ: ذَلِكَ الْأَجَلُ هُوَ وَقْتُ الْبَعْثِ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يشك فيه".

نعم، لا ينبغي أن يُشك فيه، وإن شك فيه من شك، إلا إنه لا ينبغي أن يُشك فيه، {وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ} لا شك فيه. كما أن القرآن لا شك فيه، لا ريب فيه، وإن شك فيه من لا عبرة بشكه، وتردد فيه وحصل له الريب، من لا عبرة به، كما هنا.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي} أَيْ: خَزَائِنَ الْأَرْزَاقِ. وَقِيلَ: خَزَائِنَ النِّعَمِ، وَهَذَا أَعَمُّ. {إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ} مِنَ الْبُخْلِ، وَهُوَ جَوَابُ قَوْلِهِمْ: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا} حَتَّى نَتَوَسَّعَ فِي الْمَعِيشَةِ. أَيْ: لَوْ تَوَسَّعْتُمْ لَبَخِلْتُمْ أَيْضًا. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَوْ مَلَكَ أَحَدُ الْمَخْلُوقِينَ خَزَائِنَ اللَّهِ لَمَا جَادَ بِهَا كَجُودِ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَمْرَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يُمْسِكَ مِنْهَا لِنَفَقَتِهِ وَمَا يَعُودُ بِمَنْفَعَتِهِ.

الثَّانِي: أَنَّهُ يَخَافُ الْفَقْرَ وَيَخْشَى الْعَدَمَ. وَاللَّهُ تَعَالَى يَتَعَالَى فِي جُودِهِ عَنْ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ".

الظاهر: {لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ} يقول هنا: وقيل: المعنى لو ملك أحد المخلوقين خزائن الله، لما جاد بها كجود الله، يدلُّ على أنه يجود، لكن لا كجود الله -جل وعلا-. والظاهر: أنه لا يجود بشيء، بل يُمسك خشية الإنفاق، بل يُمسك كل شيء ولا يُنفق شيئًا، وهذا مُشاهد فيمن تكثر عنده الأموال، ويخشى عليها من النقص والزوال، فكيف إذا كان له جميع ما عند الله من الخزائن؟

فلا شك أن مثل هذا سيبخل البخل التام؛ لأن البخل والشُح والحرص، هو عند الأغنياء أكثر منه عند الفقراء. وكلما زادت الأموال عند شخص، تجد الإنفاق عليه أشق، فكيف إذا ملك جميع خزائن الرب -جل وعلا-؟ الله المُستعان.

"وَالْإِنْفَاقُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِمَعْنَى الْفَقْرِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ. وَحَكَى أَهْلُ اللُّغَةِ: أَنْفَقَ وَأَصْرَمَ وَأَعْدَمَ وَأَقْتَرَ إِذَا قَلَّ مَالُهُ.

{وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُورًا} أَيْ: بَخِيلًا مُضَيِّقًا. يُقَالُ: قَتَرَ عَلَى عِيَالِهِ يَقْتُرُ وَيُقْتِرُ قَتْرًا وَقُتُورًا، إِذَا ضَيَّقَ عَلَيْهِمْ فِي النَّفَقَةِ، وَكَذَلِكَ التَّقْتِيرُ وَالْإِقْتَارُ، ثَلَاثُ لُغَاتٍ. وَاخْتُلِفَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْمُشْرِكِينَ خَاصَّةً، قَالَهُ الْحَسَنُ.

وَالثَّانِي: أَنَّهَا عَامَّةٌ، وَهُوَ قَوْلُ الجمهور، وذكره الماوردي".

أحدهِما بالكسر جائز؛ لأنه بدل من قولين، بدل بعض، وإن كان الأفصح: أحدهُما، كما في قوله- جل وعلا-: {وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلًا رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا} [سورة النحل:76].

"قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ} اخْتُلِفَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ، فَقِيلَ: هِيَ بِمَعْنَى آيَاتُ الْكِتَابِ، كَمَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ الْمُرَادِيِّ: أَنَّ يَهُودِيَّيْنِ قَالَ أَحَدَهُمَا لِصَاحِبِهِ: اذْهَبْ بِنَا إِلَى هَذَا النَّبِيِّ نَسْأَلْهُ، فَقَالَ: لَا تَقُلْ لَهُ نَبِيٌّ فَإِنَّهُ إِنْ سَمِعَنَا كَانَ لَهُ أَرْبَعَةُ أَعْيُنٍ، فَأَتَيَا النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَسَأَلَاهُ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ}، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: «لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلَا تَزْنُوا، وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَلَا تَسْرِقُوا، وَلَا تسحروا، ولا تمشوا ببريء إلى السلطان فَيَقْتُلَهُ، وَلَا تَأْكُلُوا الرِّبَا، وَلَا تَقْذِفُوا مُحْصَنَةً، وَلَا تَفِرُّوا مِنَ الزَّحْفِ- شَكَّ شُعْبَةُ- وَعَلَيْكُمْ يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ خَاصَّةً أَلَّا تَعْدُوَا فِي السَّبْتِ» فَقَبَّلَا يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ، وَقَالَا: نَشْهَدُ أَنَّكَ نبى. قال: «فَمَا يَمْنَعُكُمَا أَنْ تُسْلِمَا؟»، قَالَا: إِنَّ دَاوُدَ دَعَا اللَّهَ أَلَّا يَزَالَ فِي ذُرِّيَّتِهِ نَبِيٌّ، وَإِنَّا نَخَافُ إِنْ أَسْلَمْنَا أَنْ تَقْتُلَنَا الْيَهُودُ. قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ".

أما تقبيل اليد فثابت من وجوه في ثلاثة أحاديث، وأما تقبيل الرجل فضعيف.

طالب: قول اليهودي: "إِنْ سَمِعَنَا كَانَ لَهُ أَرْبَعَةُ أَعْيُنٍ" ...

نعم، كان يتقوى، يعني اعترفنا له بأنه نبي، فيتقوى علينا إذا اعترفنا أنه نبي، لا تعترف بنبوته من أجل أن لا يقوى أمره علينا.

طالب: ...

ما فهي شيء، كل هذا ما فيه شيء.

طالب: فيه شيء في تقبيل اليد؟

اليد، ما فيه شيء، ثابت في ثلاثة أحاديث. لكن أهل العلم يكرهون مثل هذا ويستثقلونه، لكن إذا ثبت عن النبي -عليه الصلاة والسلام- فما فيه كلام إن شاء الله.

طالب: ...

لا، الذي عليهم خاصة: ألا يعدوا في السبت، أما التسع آيات فمطلوبة من كل أمة، حتى بالنسبة لنا. الذي يخص اليهود من هذه التسع، مما جاء به موسى -عليه السلام- ألا يعدوا في السبت.

طالب: تقبيل الرجل ...

لا، ما يصلح، ما يصلح هذا، هذا خضوع، خضوع زائد، لا ينبغي. ولم يثبت فيه خبر، إذًا لا ينبغي.

طالب: ولا الوالدين؟

ولا الوالدين ولا شيخ، تقبيل الرجل لم يثبت فيه خبر.

طالب: قوله: "ِإنَّ دَاوُدَ دَعَا اللَّهَ أَلَّا يَزَالَ فِي ذُرِّيَّتِهِ نَبِيٌّ" ما وجه تعليله؟

نعم، ولست من ذرية داود، إنما نتبع نبيًّا من ذرية داود، وأنه لا يزال في ذريته نبي إلى قيام الساعة، وأنت لست من ذرية داود، وهذا من كذبهم، ما يثبت.

"وَقَدْ مَضَى فِي الْبَقَرَةِ. وَقِيلَ: الْآيَاتُ بِمَعْنَى الْمُعْجِزَاتِ وَالدَّلَالَاتِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ: الْآيَاتُ التِّسْعُ: الْعَصَا وَالْيَدُ وَاللِّسَانُ وَالْبَحْرُ وَالطُّوفَانُ وَالْجَرَادُ وَالْقُمَّلُ وَالضَّفَادِعُ وَالدَّمُ، آيَاتٌ مُفَصَّلَاتٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ والشعبي: الخمس المذكورة في "الأعراف"، يَعْنِيَانِ: الطُّوفَانَ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ، وَالْيَدَ وَالْعَصَا وَالسِّنِينَ وَالنَّقْصَ مِنَ الثَّمَرَاتِ. وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنِ الْحَسَنِ، إِلَّا أَنَّهُ يَجْعَلُ السِّنِينَ وَالنَّقْصَ مِنَ الثَّمَرَاتِ وَاحِدَةً، وَجَعَلَ التَّاسِعَةَ: تَلْقُّفُ الْعَصَا مَا يَأْفِكُونَ. وَعَنْ مَالِكٍ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ جَعَلَ مَكَانَ السِّنِينَ وَالنَّقْصِ مِنَ الثَّمَرَاتِ، الْبَحْرَ وَالْجَبَلَ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: هِيَ الْخَمْسُ الَّتِي فِي [الْأَعْرَافِ] وَالْبَحْرُ وَالْعَصَا وَالْحَجَرُ وَالطَّمْسُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ هَذِهِ الْآيَاتِ مُسْتَوْفًى والحمد لله.

{فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ} أَيْ: سَلْهُمْ يَا مُحَمَّدُ إِذْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِهَذِهِ الْآيَاتِ"

لا يمنع أن يكون من الآيات ما هو حسي، كما ذُكر، ومنها ما هو معنوي، من الأوامر والنواهي، على كل حال الحسيات أظهر، القول الثاني في التسع: العصا واليد والبحر والطوفان والجراد والقمل والضفادع، هذه أظهر. وإلا فالأوامر والنواهي، كل الأنبياء يأتون بالأوامر والنواهي، فيصير لموسى -عليه السلام- خصيصة بهذا.

"أَيْ: سَلْهُمْ يَا مُحَمَّدُ إِذْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِهَذِهِ الْآيَاتِ، حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي يُونُسَ. وَهَذَا سُؤَالُ اسْتِفْهَامٍ؛ لِيَعْرِفَ الْيَهُودُ صِحَّةَ مَا يَقُولُ مُحَمَّدٌ -صلى الله عليه وسلم-.

{فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُورًا} أَيْ: سَاحِرًا بِغَرَائِبِ أَفْعَالِكَ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ. فَوَضَعَ الْمَفْعُولَ مَوْضِعَ الْفَاعِلِ، كَمَا تَقُولُ: هَذَا مَشْئُومٌ وَمَيْمُونٌ، أَيْ: شَائِمٌ وَيَامِنٌ. وَقِيلَ: مَخْدُوعًا. وَقِيلَ: مَغْلُوبًا، قَالَهُ مُقَاتِلٌ".

يأتي اسم المفعول ويُراد به اسم الفاعل. {حِجَابًا مَّسْتُورًا} [سورة الإسراء:45] يعني ساترًا، والعكس أيضًا.

"وَقِيلَ: مَغْلُوبًا، قَالَهُ مُقَاتِلٌ. وَقِيلَ غَيْرُ هَذَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وأبى نهيك أنهما قرآ "فسأل بَنِي إِسْرَائِيلَ" أي: عَلَى الْخَبَرِ، أَيْ: سَأَلَ مُوسَى فِرْعَوْنَ أَنْ يُخَلِّيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَيُطْلِقَ سَبِيلَهُمْ ويرسلهم معه".

طالب: ...

نعم، مما جاء به موسى.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: {قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هؤُلاءِ}  يعنى الآيات التسع. و{أَنْزَلَ} بِمَعْنَى أَوْجَدَ.

{إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ} أَيْ: دَلَالَاتٍ يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى قُدْرَتِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ. وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ: "عَلِمْتَ" بِفَتْحِ التَّاءِ خِطَابًا لِفِرْعَوْنَ. وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ بِضَمِّ التَّاءِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ عَلِيٍّ –رضي الله عنه-، وَقَالَ: وَاللَّهِ مَا عَلِمَ عَدُوُّ اللَّهِ وَلَكِنَّ مُوسَى هُوَ الَّذِي يَعْلَمُ، فَبَلَغَتِ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: إِنَّهَا" لَقَدْ عَلِمْتَ"، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [سورة النمل:14]".

هم علموا الحق، لكن جحدوه. فتستقيم قراءة فتح التاء: عَلِمتَ، خطابًا لفرعون.

"وَنَسَبَ فِرْعَوْنَ إِلَى الْعِنَادِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَالْمَأْخُوذُ بِهِ عِنْدَنَا فَتْحُ التَّاءِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ لِلْمَعْنَى الَّذِي احْتَجَّ بِهِ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَلِأَنَّ مُوسَى لَا يُحْتَجُّ بِقَوْلِهِ: عَلِمْتُ أَنَا، وَهُوَ الرَّسُولُ الدَّاعِي".

لأن علم موسى ليس بحجة على فرعون، علم موسى ليس بحجة على فرعون ليحتج به عليه. وليس لإنسان أن يُطالب غيره بما علمه هو، إنما بما يعلمه غيره. ومن أوضح الأدلة على أن المراد أن التاء تاء الخطاب: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [سورة النمل:14] يعني علموا بها.

"وَلَوْ كَانَ مَعَ هَذَا كُلِّهِ تَصِحُّ بِهِ الْقِرَاءَةُ عَنْ عَلِيٍّ لَكَانَتْ حُجَّةً".

لكانت حجة، أي: القراءة.

"وَلَكِنْ لَا تَثْبُتُ عَنْهُ، إِنَّمَا هِيَ عَنْ كُلْثُومٍ الْمُرَادِيِّ، وَهُوَ مَجْهُولٌ لَا يُعْرَفُ، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَرَأَ بِهَا غَيْرَ الْكِسَائِيِّ.

 وَقِيلَ: إِنَّمَا أَضَافَ مُوسَى إِلَى فِرْعَوْنَ الْعِلْمَ بِهَذِهِ الْمُعْجِزَاتِ؛ لِأَنَّ فِرْعَوْنَ قَدْ عَلِمَ مِقْدَارَ مَا يَتَهَيَّأُ لِلسَّحَرَةِ فِعْلُهُ، وَأَنَّ مِثْلَ مَا فَعَلَ مُوسَى لَا يَتَهَيَّأُ لِسَاحِرٍ، وَأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى فِعْلِهِ إِلَّا مَنْ يَفْعَلُ الأجسام ويملك السموات وَالْأَرْضَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: دَخَلَ مُوسَى عَلَى فِرْعَوْنَ فِي يَوْمٍ شَاتٍ وَعَلَيْهِ قَطِيفَةٌ لَهُ، فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ، فَرَأَى فِرْعَوْنُ جَانِبَيِ الْبَيْتِ بَيْنَ فُقْمَيْهَا، فَفَزِعَ وَأَحْدَثَ فِي قطيفته".

تفسير الفقم، الفُقم بالضم؟

طالب: ........

ماذا عندك؟

 طالب: ........ ففزع.

طالب: ........

لحيين نعم.

في بعض النسخ: الفقم بالضم: اللحيُّ، وفى الحديث «من حفظ ما بين فقميه» أي: ما بين لحييه.

نعم.

طالب: ........

عندك: وأحدث في قطيفته؟

طالب: "فَفَزِعَ وَأَحْدَثَ فِي قطيفته".

فَفَزِعَ وَأَحْدَثَ فِي قطيفته، والفقم .. إلى آخره.

نعم.

"{وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} الظَّنُّ هُنَا بِمَعْنَى التَّحْقِيقِ. وَالثُّبُورُ: الْهَلَاكُ وَالْخُسْرَانُ أَيْضًا. قَالَ الْكُمَيْتُ:

وَرَأَتْ قُضَاعَةُ فِي الْأَيَا ... مِنِ رَأْيَ مَثْبُورٍ وَثَابِرْ

أَيْ: مَخْسُورٍ وَخَاسِرٍ، يَعْنِي فِي انْتِسَابِهَا إِلَى الْيَمَنِ. وَقِيلَ: مَلْعُونًا. رَوَاهُ الْمِنْهَالِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وقال أَبَانُ بْنُ تَغْلِبَ، وَأَنْشَدَ:

يَا قَوْمَنَا لَا تروموا حربنا سفهًا ... إِنَّ السَّفَاهَ وَإِنَّ الْبَغْيَ مَثْبُورُ

أَيْ: مَلْعُونٌ. وَقَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "مَثْبُورًا" نَاقِصَ الْعَقْلِ. وَنَظَرَ الْمَأْمُونُ رَجُلًا فَقَالَ لَهُ: يَا مَثْبُورُ، فَسَأَلَ عَنْهُ قَالَ: قَالَ الرَّشِيدُ: قَالَ الْمَنْصُورُ لِرَجُلٍ: مَثْبُورٌ، فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ: حَدَّثَنِي مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ ... فَذَكَرَهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هالكًا. وعنه أيضًا والحسن وَمُجَاهِدٌ: مهلِكًا".

مهلَكًا.

" وعنه أيضًا والحسن وَمُجَاهِدٌ: مُهْلَكًا. وَالثُّبُورُ: الْهَلَاكُ، يُقَالُ: ثَبَرَ اللَّهُ الْعَدُوَّ ثُبُورًا أَهْلَكَهُ. وَقِيلَ: مَمْنُوعًا مِنَ الْخَيْرِ. حَكَى أَهْلُ اللُّغَةِ: مَا ثَبَرَكَ عَنْ كَذَا؟ أي: ما منعك منه. وثبره الله يثبره ويثبره لغتان".

عندك...؟

طالب: لا

وثبره الله يثبره ويثبره لغتان. يعني بالتخفيف والتشديد لغتان.

"قَالَ ابْنُ الزِّبَعْرَى:

إِذْ أُجَارِي الشَّيْطَانَ فِي سَنَنِ الْغَ ... يِّ وَمَنْ مَالَ مَيْلَهُ مَثْبُورُ

وقال الضَّحَّاكُ:" مَثْبُورًا" مَسْحُورًا. رَدَّ عَلَيْهِ مِثْلَ مَا قَالَ لَهُ بِاخْتِلَافِ اللَّفْظِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: "مَثْبُورًا" مخبولًا لا عقل له".

وهذا لما لم يُجدِ القول اللين؛ لأن موسى أُمر مع هارون في أول الأمر بالقول اللين: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا} [سورة طه:44]. لكن لما لم يُجدِ اللين، قال له موسى: {وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَونُ مَثْبُورًا} [سورة الإسراء:102]. فالمسألة تحتاج إلى حكمة في مخاطبة المدعو، فإذا كان اللين أنفع له من الشدة، فالأصل اللين، واللين ما دخل شيء إلا زانه، وما فُقِد من شيء إلا شانه. لكن بعض الناس لئيم وعنيد ومُلبِّس، مثل هذا، كما أمرنا بمجادلة أهل الكتاب: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [سورة العنكبوت:46]، فإذا تعدوا وجاروا ولم يفدهم اللين، انتقلنا إلى الأسلوب الآخر، كما فعل موسى -عليه السلام-.

"قوله تعالى: {فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (*) وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفًا} [سورة الإسراء:103-104]

قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ} أَيْ: أَرَادَ فِرْعَوْنُ أَنْ يَخْرُجَ موسى وبنى إسرائيل من أرض مصر إما بِالْقَتْلِ أَوِ الْإِبْعَادِ، فَأَهْلَكَهُ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-. {وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ} أَيْ: مِنْ بَعْدِ إِغْرَاقِهِ. {لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ} أَيْ: أَرْضَ الشَّامِ وَمِصْرَ.

{فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ} أَيِ: الْقِيَامَةِ. {جِئْنا بِكُمْ لَفِيفًا} أَيْ: مِنْ قُبُورِكُمْ مُخْتَلَطِينَ مِنْ كُلِّ مَوْضِعٍ، قَدِ اخْتَلَطَ الْمُؤْمِنُ بِالْكَافِرِ لَا يَتَعَارَفُونَ وَلَا يَنْحَازُ أَحَدٌ مِنْكُمْ إِلَى قَبِيلَتِهِ وَحَيِّهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: جِئْنَا بِكُمْ جَمِيعًا مِنْ جِهَاتٍ شَتَّى. وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَاللَّفِيفُ مَا اجْتَمَعَ مِنَ النَّاسِ مِنْ قَبَائِلَ شَتَّى، يُقَالُ: جَاءَ الْقَوْمُ بِلَفِّهِمْ وَلَفِيفِهِمْ، أَيْ: وَأَخْلَاطِهِمْ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {جِئْنا بِكُمْ لَفِيفًا} أَيْ: مُجْتَمَعِينَ مُخْتَلَطِينَ. وَطَعَامٌ لَفِيفٌ إِذَا كَانَ مَخْلُوطًا مِنْ جِنْسَيْنِ فَصَاعِدًا. وَفُلَانٌ لَفِيفُ فُلَانٍ، أَيْ: صَدِيقُهُ. قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: اللَّفِيفُ جَمْعٌ وَلَيْسَ لَهُ وَاحِدٌ، وَهُوَ مِثْلُ الْجَمِيعِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يَخْرُجُونَ وَقْتَ الْحَشْرِ مِنَ الْقُبُورِ كَالْجَرَادِ المنتشر، مختلطين لا يتعارفون. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: {فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ} يَعْنِي مجيء عيسى -عليه السلام- من السماء".

يعني للمرة الآخرة، الأخيرة بعد بعثه الأول ورفع إلى السماء، ينزل مرة أخرى من السماء إلى الأرض، هذا قول.

"قوله تعالى: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [سورة الإسراء:105]

قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} هَذَا مُتَّصِلٌ بِمَا سَبَقَ مِنْ ذِكْرِ الْمُعْجِزَاتِ وَالْقُرْآنِ، وَالْكِنَايَةُ تَرْجِعُ إِلَى الْقُرْآنِ. وَوَجْهُ التَّكْرِيرِ فِي قَوْلِهِ {وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْأَوَّلِ: أَوْجَبْنَا إِنْزَالَهُ بِالْحَقِّ. وَمَعْنَى الثَّانِي: وَنَزَلَ وَفِيهِ الْحَقُّ، كَقَوْلِهِ: خَرَجَ بِثِيَابِهِ، أَيْ وَعَلَيْهِ ثِيَابُهُ. وَقِيلَ الْبَاءُ فِي {وَبِالْحَقِّ} الْأَوَّلُ بِمَعْنَى مَعَ، أَيْ مَعَ الْحَقِّ، كَقَوْلِكَ: رَكِبَ الْأَمِيرُ بِسَيْفِهِ، أَيْ: مَعَ سَيْفِهِ. {وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} أَيْ: بِمُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم-، أَيْ: نَزَلَ عَلَيْهِ، كَمَا تَقُولُ: نَزَلْتُ بِزَيْدٍ. وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَبِالْحَقِّ قَدَّرْنَا أن ينزل، وكذلك نزل".

طالب: قوله تعالى: {فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ}، ما وجه ذكر عيسى في سياق موسى؟

نعم، في سياق موسى، وموسى نبي لبني إسرائيل كلهم، وعيسى كذلك، شرائعهم متداخلة. كما قيل في قوله -عليه الصلاة والسلام-: «لعن الله اليهود والنصارى»، «قاتل الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» يقول القائل: النصارى ليس لهم إلا نبيٌّ واحد، وهو عيسى ولم يُقبر، ما له قبر. فكان الجواب من أهل العلم: أن أنبياء اليهود أنبياء للنصارى، فكونها اتخذت قبور أنبياء اليهود، هي اتخاذٌ لقبور أنبياء النصارى والعكس، فبينهم تداخل، والقول بالخلاف ضعيف.

طالب: ... نحن الآن في سياق قصة موسى؟ فلماذا أتى عيسى؟

نعم اسكنوا الأرض.

طالب: ........

معروف.

طالب: ........

{فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ} يعني المرة الآخرة من المجيء، من نزول عيسى -عليه السلام- قول، قاله الكلبي، معروف. لكنه ما يلزم أن يكون هو الراجح.

طالب: ........

كمل.

اقرأ الآية.

"قوله تعالى: {وَقُرْآنًا فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا} [سورة الإسراء:106]

قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقُرْآنًا فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ} مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ أَنَّ {قُرْآنًا} مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ يُفَسِّرُهُ الظَّاهِرُ".

في الآية السابقة: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} لو قيل في الآية: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ} يعني أردنا إنزاله، {وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} فعلًا؛ لأن الفعل الماضي يأتي ويُراد به الإرادة، إرادة الفعل، لا الفعل الحقيقي، كما في قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ} [سورة النحل:98]، {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [سورة المائدة:6]، يعني إذا أردت القراءة، وإذا أردتم القيام إلى الصلاة، وهنا: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ} يعني أردنا إنزاله، فنزل بالفعل.

"وَقَرَأَ جُمْهُورُ النَّاسِ: "فَرَقْناهُ" بِتَخْفِيفِ الرَّاءِ، وَمَعْنَاهُ: بَيَّنَّاهُ وَأَوْضَحْنَاهُ، وَفَرَّقْنَا فِيهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، قَالَهُ الْحَسَنُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَصَّلْنَاهُ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَقَتَادَةُ وَأَبُو رَجَاءٍ وَالشَّعْبِيُّ: "فرَّقناه" بالتشديد، أي: أنزلناه شيئًا بعد شيء لَا جُمْلَةً وَاحِدَةً".

لأنه نزل مُنجمًا، مُفرقًا، بحسب الحوادث والدواعي.

"إِلَّا أَنَّ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأُبَيٍّ: "فَرَقْنَاهُ عَلَيْكَ". وَاخْتُلِفَ فِي كَمْ نَزَلَ الْقُرْآنُ مِنَ الْمُدَّةِ، فَقِيلَ: فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً. وقال ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ. وقال أَنَسٌ: فِي عِشْرِينَ".

الأصل أنه من البعثة إلى وفاته -عليه الصلاة والسلام- ثلاث وعشرون سنة، لكن فتر الوحي مدة، كما في حديث قصة بدء الوحي، إنه فتر، بعضهم قال: إنه فتر ثلاث سنوات، فقول أنس: إنه عشرين سنة، بحذف مدة هذه الفترة، والذي يقول: ثلاث وعشرين، فهو مُفرّق بين هذه الثلاث وعشرين من بداية الوحي إلى وفاته -عليه الصلاة والسلام-.

"وَهَذَا بِحَسَبِ الْخِلَافِ فِي سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-".

منهم من قال: مات وله ستون سنة، وهذا من حديث أنس. وقال بعضهم: خمسٌ وستون، وقال بعضهم: ثلاثٌ وستون، وهو الأكثر. فمن قال: ستون، حذف الكسر، ما زاد على الستين، ما زاد على العقود حذفه. ومن قال: ثلاث وستين، نظر إلى السن الحقيقي له -عليه الصلاة والسلام-، سنه منذ ولادته إلى وفاته: ثلاث وستون سنة، ومن قال: خمس وستون، جبر السنة الأولى، اعتبرها كاملة، سنة الولادة وسنة الوفاء، عدَّهما سنتين زائدتين.

"وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ نَزَلَ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا جُمْلَةً وَاحِدَةً، وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي الْبَقَرَةِ".

في هذا حديث عن ابن عباس: أن القرآن نزل جملة واحدة، ثمَّ صار ينزل به جبريل بحسب الوقائع والحوادث، وإن كان بعضهم ينازع في كونه نزل جملة واحدة، لكن هو ثابت عن ابن عباس على كل حال.

"{عَلى مُكْثٍ} أَيْ تَطَاوُلٍ فِي الْمُدَّةِ شيئًا بعد شيء. وَيَتَنَاسَقُ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَيْ: أَنْزَلْنَاهُ آيَةً آيَةً وَسُورَةً سُورَةً. وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَيَكُونُ {عَلى مُكْثٍ} أَيْ: عَلَى تَرَسُّلٍ فِي التِّلَاوَةِ وَتَرْتِيلٍ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ جُرَيْجٍ. فَيُعْطِي الْقَارِئُ الْقِرَاءَةَ حقها من تَرْتِيلِهَا وَتَحْسِينِهَا وَتَطْيِيبِهَا بِالصَّوْتِ الْحَسَنِ، مَا أَمْكَنَ مِنْ غَيْرِ تَلْحِينٍ وَلَا تَطْرِيبٍ مُؤَدٍّ إِلَى تَغْيِيرِ لَفْظِ الْقُرْآنِ بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ أَوَّلَ الْكِتَابِ".

لا بد أن يُقرأ القرآن على الوجه المأمور به في كتاب الله، وفي سُنة نبيه - عليه الصلاة والسلام-.

"وَأَجْمَعَ الْقُرَّاءُ عَلَى ضَمِّ الْمِيمِ مِنْ {مُكْثٍ} إِلَّا ابْنَ مُحَيْصِنٍ، فَإِنَّهُ قَرَأَ: "مَكْثٍ" بِفَتْحِ الميم. ويقال: مكث ومكث وَمِكْثٌ، ثَلَاثُ لُغَاتٍ. قَالَ مَالِكٌ: "عَلى مُكْثٍ" عَلَى تَثَبُّتٍ وَتَرَسُّلٍ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا} مُبَالَغَةٌ وَتَأْكِيدٌ بِالْمَصْدَرِ لِلْمَعْنَى الْمُتَقَدِّمِ، أَيْ: أَنْزَلْنَاهُ نَجْمًا بَعْدَ نَجْمٍ، وَلَوْ أَخَذُوا بِجَمِيعِ الْفَرَائِضِ في وقت واحد لنفروا".

اللهمَّ صلِّ على محمد.

في قوله: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ} والقول: بأن أنزلناه الأولى إرادة للإنزال، {وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} هو النزول الحقيقي، نزل بالحق. هذا سؤال مناسب جدًّا يقول: هل هناك معاني في الكتاب أو السُّنَّة جهلها السلف وفُتحَت على أهل هذا الزمان؟

نقول: لا، إنما الفهوم، قد يأتي في المتأخرين من يفهم من النص شيئًا لم يفهمه المُتقدم، لكن الأصل أن المتأخرين عالة على المُتقدمين، لاسيما في الأمور النقلية، هم عالة على المُتقدمين. وفهوم المُتقدمين أدق من أفهام المتأخرين؛ لأنها صافية عن مُخالطة ما يشوبها من علومٍ أخرى دخيلة. فالمتأخرون، قد يوجد في المتأخرين من يُفتَح عليه بفهمٍ لنصٍّ من النصوص خفي على كثير من المتقدمين، لا أقول: على جميع المُتقدمين، خفي على كثير، ويشهد لهذا قوله -عليه الصلاة والسلام-: «رُبَّ مُبلغٍ أوعى من سامع».

أما يقول: هل هناك معانٍ في الكتاب والسُّنَّة جهلها السلف؟

فلا نقول: جهلها السلف، بل الخلف عالة على السلف، ولا ينبغي لطالب العلم أن يند بفهمه عن السلف أو يستقل به. لكن إذا لاح له معنىً لآيةٍ أو لحديث، فليتحرى في ذلك، وليسلُك الجادة، ما يأتي بقولٍ لم يُسبق إليه.

أما {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ} وأن الفعل يكون بمعنى الإرادة، هذا قيل به في كثيرٍ من النصوص، لا نقول: إن هذا شيءٌ ما جاء به السلف، نقول: جاؤوا به، جاؤوا بكون الفعل الماضي يُطلق ويُراد به الإرادة، ويُطلق ويُراد به الفراغ من الشيء، كما هو الأصل. ويُطلق ويُراد به الشروع في الشيء. فإذا كان التأويل للنص داخل في حيز هذه الأمور الثلاثة الثابتة عن السلف، فما يُقال: إن هذا جهله السلف، لا، فنفهم هذا جيدًا.

وإذا سُئِل الإنسان عن نصٍّ ليس فيه، ليس عنده فيه نقل، ولم يتمكن من مراجعة كلام المتقدِّمين، ولاح له شيءٌ ليس عنده ما يعتمد عليه فيه، فإذا أتى بحرف الترجي، برئ من العهدة. إذا قال: لعل المراد كذا، لعل المراد كذا، فالأمر سهل.

طالب: ...

نقول: فرق بين من يتصدّى لتفسير القرآن وهو خلوٌ تام عن قول من تقدَّم، لا يأوي إلى علم، يأتي رجل لا علاقة له بكتاب الله -جل وعلا- ثمَّ يُفسِّر ما يشاء ويُنزِّل ما شاء على الحوادث، من غير أن يكون له سابق معرفة بأقوال من سلف، والاطلاع على أقوال المفسِّرين، هذا ليس له ذلك. فإذا فعل شيئًا من ذلك، فقد فسَّر القرآن برأيه. لكن إذا كان له يد في التفسير، ومراجعة كتب السلف، صار ديدنه الرجوع إلى كتب السلف، ثمَّ لاح له معنىً من المعاني، وقال: لعل المراد كذا، يُحتمل منه هذا، والناس يتفاوتون.

يقول: ما حكم أخذ الشعر الموجود ما بين الحاجبين؟

هذا لا يجوز أخذه؛ لأن له حكم الحاجب، إلا إذا كان مؤذيًا. إذا كان مؤذيًا، فلا مانع من أخذه.

يقول: هل تجهر المرأة في الصلاة الجهرية؟ وهل تصلي بمفردها أو تؤم بعض النساء أم لا؟

إذا صلت بمفردها، فقد أدت ما عليها. وإن أمَّت بعض النساء، جاز لها ذلك. وإذا كانت في مأمن من سماع الرجال، فلها أن تجهر في الصلاة الجهرية.

امرأة ترى بتحريم الذهب المُحلَّق - يعني على رأي الشيخ الألباني وبعض من يقول به - ولكن تود معرفة هل يدخل الذهب الأبيض ضمن هذا الحكم؟

أولًا: القول بتحريم الذهب المُحلَّق، قولٌ مرجوح عند أهل العلم، وعامة أهل العلم على أن الحكم واحد، سواءً كان مُعلقًا أو مُحلقًا.

والذهب الأبيض عند أهل الصنعة، يرون أنه ذهب. متى ما أرادوا حوَّلوه إلى الأصفر، ولا يفرق. وليس هذا مجرد اسم، نعم، لو وجِد معدن يُقال له: ذهب وهو في الحقيقة ليس بذهب، فلا يأخذ الحكم، كما يُقال في "البترول": الذهب الأسود مثلًا، ليس له حكم الذهب. لكن الذهب الأبيض الموجود في الأسواق، هو ذهبٌ حقيقي، معدنه معدن الذهب الأصفر، إلا أن لونه يُغيَّر متى أراد.

تقول: لدي بعض الذهب الذي ورثته من أمي، ولكن أريد أن أبيعه؛ لأنني بحاجة إلى المال. هل يجب عليَّ أن استأذن من زوجي أم لا؟ علمًا أنه سيرفض ذلك.

أولًا: الزوج ليس له سلطة على مال زوجته أبدًا، المرأة تستقل بمالها، كغيرها، كالرجال. المرأة تملك، ليس حكمها حكم العبد الذي لا يملك، المرأة تملك ملكًا تامًّا، لها أن تتصرف بمالها. لكن من باب العشرة والألفة بين الزوجين، إذا استشارته، يكون أفضل. وإذا علمت أنه يمنعها وهي مضطرة إلى بيعه، تبيعه من غير استشارة؛ لأنها تبيعه من غير استشارة أولى من أن تستشير فيرفض ثمَّ تبيع، والله أعلم.

وصلى الله وسلَّم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد.